مقالات

انتكاس الفطرة ومتطلبات العصر

خلق الله هذا الكون وجعل له قوانين وسنن تحكمه، وكذلك خلق الإنسان واستخلفه في الأرض، وفطرَ فيه ضروريات عقلية وأصول أخلاقية ينطلق منها، ويتمحور حولها، ويتعامل على ضوئها، فتكون مُميِّزة له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) [ رواه البخاري ومسلم]، فالمآل الطبيعي لهذه الفطرة -طالما لم تشُبْها ملوثات- هو التسليم والتوجه لله رب العالمين، قال الله عزّ وجل {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] أي فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الذي شرعه اللّه لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك اللّه لها، وكملها لك غاية الكمال، ولازم فطرتك السليمة التي فطر اللّه الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره. وقوله تعالى: {لا تبديل لخلق اللّه} قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق اللّه، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم التي فطرهم اللّه عليها، فيكون خبراً بمعنى الطلب، كقوله تعالى: { ومن دخله كان آمناً} [آل عمران: 97] وهو معنى حسن صحيح، وقال آخرون هو خبر على بابه، ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة، ولا تفاوت بين الناس في ذلك، ولهذا قال ابن عباس { لا تبديل لخلق اللّه} أي لدين اللّه.[ تفسير ابن كثير]، قال قتادة قوله “صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغة ” إنّ اليهود تصبغ أبناءها يهودَ، والنصارى تَصبغ أبناءَها نصارَى، وأن صبغة الله الإسلامُ، فلا صبغة أحسنُ من الإسلام، ولا أطهر، وهو دين الله بعث به نُوحًا والأنبياء بعده.

الولادة على الفطرة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وإذا قيل: إنه وُلد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفًا ونحو ذلك. فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده. فإن الله تعالى يقول: {وَاللهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمهاتِكم لا تَعلَمُون شيئًا} [النحل: 78]. ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته. فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئًا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض”.

وهذا المُعارِض هو ما يطرأ على الفطرة ويشوهها ويجعلها تنحرف عن سويتها وتنتكس، فعن عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ذات يوم في خطبته {ألَا إن ربي أمرني أن أُعَلِّمَكم ما جَهِلتم، ممَّا علَّمني يومي هذا، كلُّ مالٍ نَحَلتُه عبدًا حلال، وإني خلقتُ عبادي حُنَفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانا… }[ رواه مسلم].

تباين الانتكاس الفطري عبر الأزمنة

وصور هذا الانتكاس الفطري تتباين بتباين العصر والظروف البيئية المحيطة بالإنسان، فانتكاس الإنسان في عصر الجاهلية مثلًا كان انتكاسًا غير متشابك أو معقد، فبساطة البيئة والمدخلات التي تأثر بها أدت إلى انتكاس فطري مركزي مباشر، مثل الانتكاس في توحيد الله عز وجل، فالتوحيد ضرورة فطرية أصيلة في الإنسان، والشرك انتكاس مباشر لهذه الضرورة.

أما في عصرنا فالمدخلات كثيرة ومتشعبة، والمجتمعات مفتوحة على ثقافات وأفكار مختلفة، والإنسان واقع تحت تأثير حضارة العمران والتمدين، فتجد مردود ذلك على الفطرة متطابقًا له في تشابكه وتشعبه، ففي المجتمعات الغربية تجد تشوهًا صارخًا في الفطرة، أمّا في المجتمعات الإسلامية تجد مظاهر كثيرة تنم عن انتكاس وتشوه فطري لم تصل غالبها بشكل مباشر إلى الأصل، لكنها مركبة، وبرز حولها الكثير من السجالات، لذا نقول: إن انتكاس الفطرة -بالصورة الموجودة في هذا العصر- أدى إلى نشوء متطلبات جديدة لسد الفجوة الظاهرة بسبب هذا الانتكاس والموازنة أو بمعنى أدق محاولة الموازنة لسد هذه الفجوة والتظاهر بالسوية، وتتزايد هذه المطالبات يوميًا ويُبتدع ويُتفنن في تطويرها، وبسبب السياسات الرأسمالية لا تُقام محاولات جادة لإصلاح أصل المشكلة، وضرب د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي -في سلسلة الحياة على كوكب الوهم- مثالًا يصف تلك الحالة، فذكر أن هناك مدينة بها مصنع للوجبات السريعة، وهذا النوع من الطعام مليء بالدهون الضارة التي تؤدي إلى الكثير من أمراض القلب والأوعية الدموية، فبدلًا من إغلاق هذا المصنع وتخليص الناس من آثاره، تم بناء مصنع دواء ينتج أدوية لتوسيع الأوعية الدموية وتقليل نسبة الدهون في الجسم، ثم وجدوا أن لهذه الأدوية آثار جانبية، فأقاموا الأبحاث و دشنوا المزيد من المصانع لتصنيع أدوية جديدة تعالج الآثار الجانبية للأدوية الأولى، وهكذا دواليك، فالإنسان المقيم في هذه المدينة يدفع مرة أمواله لشراء وجبة سريعة، ومرات لأجل الدواء الذي يعالج نتيجتها، وعجلة الرأسمالية تدور بشكل جيد، والمصانع تفتح، والأبحاث تتجدد.

وعند النظر لكثير من قضايا المجتمع الراهنة تجدها تصب في ذات المسار، أي عند تفكيك هذه القضايا ستجدها في الأصل رد فعل نتج عن تشويه جزئي لجانب من جوانب الفطرة الإنسانية، سأذكر بعض صور هذا الانتكاس الفطري الراهن في المجتمعات الإسلامية.

العلاقة بين الرجل والمرأة

خلق الله الرجل والمرأة وجعل في كلٍ منهما اختلافات على المستوى النفسي والحيوي والوظيفي، وسنة الكون في انجذاب المختلفَين وتنافر المتشابهَين انطبقت أيضًا على الجنس البشري، فينجذب كلًا منهما للآخر حتى تكتمل دائرة الحياة، ولتحقيق غايات عظمى فيها متمخضة من رحم الغايات العظمى التي خُلِق الإنسان لأجلها.

هذا الرباط المقدس السامي تعرَّض لتشوهات على أصعدة كثيرة بسبب إرهاصات ما بعد الحداثة التي غزت مجتمعاتنا الإسلامية ووجدت بيئة خصبة من أمراض اجتماعية كانت فيه، فدعوات التيار النسوي بدأت تنخر في هذا الرباط، وتحاول جاهدة مسخ الأنثى وطمس الهوية بينها وبين الذكر، وتشويه فطرتها الأنثوية التي تنتعش في نسيج هذا الرباط المقدس، فبدأت المتأثرات بالنسوية يتمردن على حياتهن، ومن دورهن الأسمى في تنشئة أجيال صالحة وسوية، وبدأت تتعامل مع منظومة الزواج على أنها تقليل وتنقيص منها، يقول بيجوفيتش “سيظل غير واضح كيف استطاع أولئك الذين دعوا إلى تحرير المرأة بأي ثمن الحفاظ على تلك الأكذوبة الكبرى بأن عمل المرأة في المصانع أكثر إبداعًا وأقل مللًا من عملها في البيت، لذلك كان يصدق بعضهم بأن تربية أطفال أناس آخرين مجال إبداع المرأة مثل عمل المدرسات والمربيات، بينما تربيتها لأطفالها هي عمل دنيء وهامشي ضمن أعمال البيت المملة وغير المناسبة”[عوائق النهضة الإسلامية].

وعلى الجانب الآخر كردّ فعلٍ للنسوية بدأت تعلو دعوات الذكورية، وامتهان الأنثى، ونزع حقوقها الشرعية والإنسانية، مما أدى إلى نشوء صراع وتصادم حقيقي بين الجنسين في المجتمع على تفاوته، وأصبح هناك حالة عامة من التشاحن والتوجس بين الذكر والأنثى، ومع الانحدار الأخلاقي والديني في المجتمع، ازداد الوضع سوءًا بسبب الممارسات الندية اللاأخلاقية التي يمارسها الطرفان، والتي يسلط الإعلام الضوء عليها كثيرًا ليروج لفكرة عدم “التقيد” بإطار الزواج، ويمكن أن يعيش الذكر والأنثى معًا حياة غير مسؤولة وسط شعارات معسولة، مشددًا على خوفه من وقوع مآلات الزواج!

يقول بيجوفيتش: “المرأة ليست أعلى ولا أدنى، لأنها -بكل بساطة مختلفة عن الرجل، لذلك تسقط المقارنة، ومن ثم يسقط تحديد الأعلى أو الأدنى. لا معنى لسؤال: أيهما أهم: القلب أم الرئة؟ لأن كلا من العضوين لا يمكن أن يقوم بوظيفة الآخر، بل إن الاختلاف بينهما يعطي قيمة خاصة لأحدهما بالنسبة للآخر”[عوائق النهضة الإسلامية]، والحق أن هذا تشبيه بديع حتى في مآلاته، فالأنثى كالقلب، لو حاولت التشبه بالذكر (الرئة)، وتضخمت في حجمها لتتساوى معه وتأخذ حيز كحيزه، لحصل مرض فشل القلب الاحتشائي، وضعف نبض القلب وضخ الدم، وفقد وظيفته شيئًا فشيئًا مما يؤدي إلى الوفاة، ولو أرادت الرئة أخذ دور القلب، فصغرت ونبضت كنبضه، لأصيبت بضمور وانعدمت وظيفة حويصلاتها الهوائية، مما يؤدي إلى فقدان الوظيفة والوفاة أيضًا.

لذا كلًا من الذكر والأنثى مكملين ومؤنسين لبعضهما البعض، ويجب أن يؤدي كلٌ منهما وظيفته تامة لا من باب الحقوق والواجبات المجردة وحدّ العدل، وإنما بالمودة والرحمة والفضل، والتطلع لتحقيق الغاية العظمى من خلق الحياة وخلقهما وهي تحقيق العبودية لله عزّ وجل، فيعملان جاهدَين لإنجاح هذا البيت المسلم لتتحقق هذه الغاية، ويخرج أجيال قادرة على تحقيق العبودية لرب العالمين.

دورات تأهيل الزواج

بسبب المؤثرات المُفسدة التي طرأت على المجتمع الإسلامي _كما ذكرنا آنفًا_ اتجه الكثير من المصلحين لتدشين دورات تعيد التوازن الصحيح في منظومة الزواج، وهذا أمرٌ حسن بل مهم جدًا لو حُمِل على محمله دون إفراط أو تفريط، ولكن بعض هذه الدورات أخذت مسار ذا مرجعية علمانية، بعيدة عن المظلة الشرعية ورؤيتها للزواج، فبعضها تناول الموضوع كأن الذكر والأنثى كائنان فضائيان من كوكبين مختلفين، ولغتهما مختلفة، وبالغوا في سبر أغوار هذه الفكرة، فنتيجته كانت عكسية، فهذه الدورات تُقام في الأصل للترغيب في الزواج مع تحصيل الوعي الكافي لإنجاحه، أما نتيجة هذا الخطاب هو شعور بالمزيد من القلق والتوجس لدى الطرفين، حيث أنه يشعر أنه مُقدِم على أمر شديد الغموض والتعامل معه يكون على شفا جرف هار، وشبح الانهيار قائم، والحق أن بالفعل هناك اختلافات بينهما كما ذُكِر من قبل، ولكن اختلافات يمكن فهمها واحتوائها بل والإحسان فيها، والتعامل بين الذكر والأنثى ليس منعدمًا قبل الزواج، فكلٌ منهما كان يعيش في مجتمع احتك فيه بالطرف الآخر حتى لو في محيط أسرته، فالأخ يتعامل مع أخته وكذلك الأخت مع أخيها، والأم مع ابنها، والبنت مع أبيها، نعم هناك اختلاف في نسق الحياة والمسؤوليات في منظومة الزواج، ولكن الطبيعة البشرية هي صِبغة الطرفين مع اختلافات مُستَدرَكة ببعض المعرفة عنه، فلا داعي لكل هذه التنظيرات التي تُفسد من حيث أرادت الإصلاح.

الموضة

كانت غالب النساء تكتفي بما عندها من ثياب لأنها بحالة جيدة، والمعروض في الأسواق لا يختلف عما تمتلك، فالشراء لن يُحدِث فرقًا في خزانة ملابسها إلا من تحب التباهي بالكثرة وهذا ليس الأصل، وبعد ظهور الرأسمالية اتجهت مصانع الملابس إلى تطوير الأزياء والألوان بشكل مستمر، لإشعار السيدات أن ما عندهن لا يصلح أكثر من ذلك، وبدأوا بصناعة ملابس لا تحتوي على جيوب لتضطر المرأة إلى شراء حقيبة، ثم تُقحَم الحقيبة في عجلة الرأسمالية المُغلفة بغلاف الموضة والتحضر، ومع ورود هذه الأفكار من ثقافة غالبة تتسارع الكثيرات لتلبيتها، مما يجعلهن في حالة مستمرة من الطلب والشراء، ثم من جهة أخرى يعمل الإعلام على تشويه صورة المرأة المحجبة بحجاب شرعي ولا تضع مستحضرات التجميل خارج بيتها، فيشحذ النساء تجاه المزيد من الشراء لئلا يوصمن بهذا الوصم، ثم يتفننوا في عرض هذا السفور في كل مكان ليفسدوا الرجال، ويقنعوا نساءهم أنهن في صراع مع كل هؤلاء النسوة _ اللواتي دُفِع عليهن الآلاف ليظهرن بهذا المظهر الذي لا يوجد في الواقع أصلًا_ فتهرول المسكينة لصرف المزيد والمزيد، حتى لا يزيغ زوجها، وربما تضر بصحتها وتقوم بعمل عمليات تجميل في محاولة لتحقيق هذا “النموذج المثالي الأنثوي” وهي لا تعلم أنها تحقق “النموذج المثالي الرأسمالي”.

 فرفقًا بأنفسكن، يكفيكِ للخروج الثياب التي ترضي ربك، يكفي أن تكون نظيفة ومهندمة، نعم ضروري أن تعرفي كيف تتزينين في بيتك، ولكن هذا لا يعني صرف مبالغ طائلة على هذا الأمر، اخرجن من هذه الدوامة حتى تذقن لذة الحياة.

طوفان “الأنا” وسفينة الـ “نحن”!

انفلتت الألواح عن الدسر! .. لن نحتاج لكثير تدقيق وإمعان قبل أن نلحظ كيف أن العلاقات والأواصر بين بني آدم في طريقها  إلى الضمور والانكماش، تقف على أعتاب التآكل بعد تاريخ من الشموخ حيث كانت تشبه في قوتها  لين الحرير ومتانته على حد سواء، فالخيوط إذا ما تعاضدت وتكاثفت إلى جانب بعضها البعض اشتد بريق ألوانها وبرز، وكذا الأفراد إذا ما تراصت أقدامهم في الصف الواحد كان ذاك حالهم، لكن إذا انسل الواحد منهم تلو الآخر كثرت الثغرات، وضعف بأسهم كما تفقد الخيوط بهجة ألوانها وتبهت إذا تفرقت وتُركت لأشعة الشمس تحرقها على مهل رويدا رويدا! وشمس الأفراد، أو قل طوفان هلاكهم هو جنوحهم إلى قارب “الأنا” بعيدا عن سفينة الـ “نحن”!

وهل يخفى على كل ذي عقل ولب انصهار معانٍ شتى في رحاب الدعوة إلى: “أنا ومن بعدي الطوفان”,  فكانت هذه “الأنا” كعصا شقت حاضرنا وماضينا القريب إلى فلقين،  ولك أن تتأمل مثالًا بسيطًا دارجًا في واقع حيواتنا جميعًا، وما أصبحت عليه الأحياء والجيرة فيها، إذ غدا كل فرد لا يرقب غير حاله ومصالحه، على خلاف ما كان عليه جيل آبائنا والأمهات، فتجد أن طفل الحي ليس مسؤولية والديه فقط، وتربيته لا تتوقف حالما يجاوز عتبة البيت، بل الكل يسهم ويوجه ويقوم- بحسب مبلغه من العلم- فيبقى حس الرقابة والحياء حاضرًا في نفس هذا الطفل وإن غاب ذويه.

نعم كانت جسور الألفة ممدودة، والمسؤولية حاضرة، ومقتسمة بين الجميع، قبل أن تنقض عليها نزعة الفردانية وتزحزح على إثرها الألواح والدسر التي كانت تشكل مجموع القيم من تآزر وتراحم وتآخي وسعي لمصلحة الآخر كما النفس!

كما يثقب القطر الصخر

في المبتدأ لا ضير أن نقف عند حقيقة جلية وهي أن: “الماء لا  يثقب الصخر بالعنف-دفعة واحدة- وإنما بتوالي السقوط؛ قطرة، قطرة”، وعلى شاكلة الصخور  هي النفوس البشرية، إذ ما أصبحت عليه ليس بأمر طارئ الحدوث، بل هو نتاج تراكمي لعوامل شتى توافدت، وغيرت خطوة خطوة من معالم البناء الفردي للأشخاص، فالذي كان بالأمس لـه رعية، يًسأل عنها، نراه اليوم تحلل منها وراح يقص آثار شغفه، ويجري وراء طموحه، وما يحقق من خلاله استقلالية ذاته وإن على حساب “رعيته”، وتضخمت في النفوس “الأنـا” حتى ما عادت تقبل التوجيه والنصح إذا ما خالطه شيء من الزجر والتوبيخ، وإن جربت يأتيك الرد على عجل: “معذرة، فـأناي لا تقبل غير الطبطبة”، وغيرها كثير من المظاهر و المواقف من عقر البيت إلى رأس الشارع تشهد بتبعات هذه النزعة الفردانية المتطرفة وما أودت به.

لكن كيف وصلنا إلى هنا؟

يذهب الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله إلى القول إنه “كلما ازداد الشعور بالقوة عند الكائن الحي، نراه يميل إلى الفردية والاستقلال”

ولعل هذا ما أتاحته التكنولوجيا والعالم الرقمي وأذكته في النفس، إذ توجه الفرد إلى الاكتفاء بأن تكون له رؤيته المستقلة للحياة، واستقلاله في اتخاذ قراراته ومواقفه القائمة على المتعة والمنفعة، بمعزل عما أصبح في نظره مجرد “وصاية” من الآخرين، فتجد أن الأسرة الواحدة لم يعد يجمعها غير سقف البيت، أما الأفراد فكل منهم قد أنِس بآلة أو جهاز بين يديه، واتخذه بديلا عن الآخر! إذ أصبح كل منهم يستقي قوته مما يطرحه من أفكار على مواقع التواصل وتوافد التعليقات والإعجابات إطراءً عليه، فاستأثر بصنع مجتمع رقمي، يكون فيه هو الحاضر القوي!

إضافة إلى ارتباط النزعات القومية، والتحركات الجماعية في الأذهان والنفوس بالفشل، بدءا من الحربين العالميتين الأولى والثانية وما حصدته من أرواح، إلى واقع الثورات العربية وما أزهق فيها هي الأخرى من أنفس دون الظفر بشيء مما رمت إليه من أهداف سامية! وبذا فقدت الغايات الكبرى التي تؤطرها الجماعة قدرتها على تخليص الشخص في نظره من مآسيه ومعاناته، ومن ثم غابت وتلاشت نون الجماعة، وربَا محلها ضمير “أنا”!

وبالموازاة مع هذا فإن تنامي النزعة الاستهلاكية، وفقدان البوصلة والمعيار في ظل التضخم المادي، أودى إلى تردي قيمة الآخر بوصفه “إنسـانًا” بما يحمله من قيم ومعتقدات ومبادئ، وارتهنت مكانته بجانبه النفعي فقط كرقم من بين الأرقام! حيث ارتدى كل فرد نظارة “التشييء” للآخر في إطار البحث عن الذات، فـ”تعددت الذوات، وتفرق المجموع” إذ لا هدف موحد يربطهم. أما الإعلام من جانبه فلا يسعنا إلا القول عنه بأنه هو المحرك الضامن لاستمرار هذه النزعة الفردية، بتكريس هذا النمط من العيش-في أوساط الشباب خاصة- الذي يظلله طابع الأنانية، والسبق إلى معالي الدرجات في تحقيق الطموح! وتصويره على أنه هو الأصل السائد في المجتمع؛ فكل فرد هو سيد نفسه، والبطل الخارق الذي تنتظره البشرية جمعاء لإنقاذها “وحده، منفردا”.

هل بعد الطوفان إلا الغرق؟!

لعلك أيها القارئ سمعت بما رواه النعمـان بن البشير -رضي الله عنهما- عن الرسول عليه الصلاة والسلام في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ قال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذي أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)[صحيح البخاري].

إن النجاة ههنا لم تكن لتتحقق لو أن كل فرد من أفراد السفينة غيَّب مصلحة الجماعة، بل إن مآل الغرق الحتمي إذا تُرِكت لمن هم في الأسفل يحدثون فيها الخرق المنجي كما تصوروه! فكان حضور الحس بالمسؤولية من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو طوق الخلاص.

هذا السـَّمت والهدي القويم الذي حكمت عليه “الأنـا” -أو كادت- بالاندثار، فمثل سفينة هذا القوم كمثل المجتمع أجمع، حيث الربان هي “الشريعة”، والركاب هم العباد يتلقون تعليماتها ليشد بعضهم بعضا، وفي اللحظة التي يتخلف فيها أفرادها عن التطبيق، ويستأثر كل منهم بمصلحته، ينحرف المسير وتغرق بهم جميعا.

هذه السفينة قد تكون هي “الأسرة”، حيث أخذ ذاك الميثاق الغليظ، وانعقدت النيات والقلوب على بناء بيت إقامته هي مسؤولية الجميع، حتى إذا ما اشتدت حبائل الأزمات، ووقف ساكنيه على قارعة الفراق جيئ بحكم من أهل الزوجة وآخر من أهل الزوج يسعيان إلى ترميم العلاقية بين الزوجين وإعادة المياه إلى مجاريها؛ تبعا لمسطرة الصلح التي جاءت بها شريعة رب العالمين، حيث قال تعالى{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}[النساء، 35]، لكن لهذا الطرف الثالث بالتدخل في ظل هذا السعي الحثيث لكسر الجسور مع الآخرين، وتكثيف الجهود لرسم مضمار “واحدي” لكل فرد، فالطوفان وهلاك هذه الأسرة سيكون هو ثمرة “الأنا”. ومن ورائها هلاك الأمَّة وازدياد جراحاتها!

 اركب معنـا

في صلاتك تقف وحيدا على سجادة الصلاة، بكل ما تحمله من آمال وجراحات، ومساع وطموحات، تردد فاتحة الكتاب، حتى إذا بلغت قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}، ذابت أناك وانصهرت في نون الـ”نحن”؛ (اهدنا) لتنفي عنك صفة الواحدية، مذكرة إياك أن الهَمّ همّ “أمة”، وأن المطلب سلعة غالية هي الجنة، والله سبحانه جعل منا خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر!  فالأرض فارت  بالفتن، وماج بعضها ببعض كطوفان   لا يرحم كل من آوى إلى  جبل “أناه”، وأعرض عن دعوة: “اركب معنا”.

عصر الحداثة وما بعدها والإنسان ذو البعد الواحد

في رواية جورج أوريل المشهورة 1984 والتي تتكلم عن ميل الدولة لتنظيم تفكير الناس وفق ما تريده من مصالح، فتكذب وتغير الحقائق، وهكذا ما يكون اليوم صحيحًا يغدو غدا باطلا، وما يكون اليوم أبيض سيغدو بعد يوم أسود، وكل هذا يجري وفق مسميات مثيرة للضحك والبكاء في نفس الوقت فوزارة الحقيقة هي من تتولى هذه الأعمال، أما وزارة الحب فهي مسؤولة عن قتل الناس وتسميم حياتهم.

ضمن هذه الرواية وأحداثها ثمة حدث مثير للاهتمام، وهي أن لجنة من الحزب اجتهدت لوضع لغة جديدة للاستعمال بين الناس وهدفت هذه اللغة إلى إخراج كثير من كلمات اللغة المستعملة بحجة أنها مترادفات ولا حاجة لنا إليها فما الضرورة في استخدام كلمات كالعشق والوله والهيام إذا كان الحب يعبر عن مضمونها؟  وعندما تختزل اللغة ستختزل تفكير الناس وعند ذلك يتم تسطيح آمالهم ومشاعرهم وطموحاتهم!

لكن ما الضير في ذلك؟ فلتبقَ اللغة لغة رياضية رشيقة بقلة مفرداتها.

جريمة الاختزال

إن اختزال اللغة يعني اختزال الإنسان إلى مستوى يبقى فيه الإنسان عائما في السطح، حاله كحال لوحة استخدمت فيها درجة واحدة من لون الأحمر مثلا، فكما هو معلوم فإن لكل لون درجات متعددة، وكل درجة تعطي معنى وجمالا، وتكامل هذه الدرجات مع بقية الألوان يبث في النفس جمالا فريدا. وكذلك اللغة فإنها ليست مجرد أداة لتوصيل للأفكار فقط، بل هي أعمق من ذلك، فهي وعاء فكري للإنسان به يفكر ويعبر ويشرح ما يشعر به، وكلما كانت الكلمات المستخدمة أكثر دقة في التعبير عن الحالة كلما كان المعنى الذي يصل إلى الشخص أعمق، لكن ما الذي سيحدث إن قلمنا أظافر اللغة وقللنا من المفردات المستخدمة وجعلنا هذه اللغة أكثر علمية كقواعد الرياضيات؟

سيكون التواصل سطحيا مقتصرا على كلمات يتآكل المعنى فيه من كثرة الاستخدام اليومي إلى أن نبقى عائمين في سطح لغوي هش، وتبقى اللغة عاجزة عن وصف عمق الفكرة أو عمق المشاعر، وإذا اختزلت اللغة وبقيت عائمة في سطح لغوي فإن الإنسان وتفكيره نفسه سيبقى سطحيا عائمًا مختزلًا.

وهكذا فإن الأمر سيتجاوز الحال من اختزال اللغة إلى اختزال الفكر واختزال الإنسان، ومن تسطيح المعرفة إلى تسطيح الوجود برمته، وتحويل الإنسان إلى كائن سائل وسطحي.

ومن هنا فإن جملة ما نعانيه في هذه الأيام وخاصة في فترة ما بعد الحداثة هو اختزال القضايا الكبرى في جملة من الكلمات أو في تفسير سطحي لا يعدو تقييمها وفق نظرة خارجية.

لقد أثّر هذا في تعامل الناس مع القضايا الاجتماعية الحياتية، ففي كتبه التي تناول فيها مفهوم السيولة، تكلم أستاذ الاجتماع زيجمونت باومان عن تحول المفاهيم الكبرى وانزياحها لتصبح في تعاملاتنا اليومية مجردة عن معانيها وقد وصفها بانها أصبحت كالماء السائل لا تقف في مكانها لأنها خاوية من المعنى، فما كان سابقًا قيمة كبرى كالحب أصبح اليوم مجرد علاقة سطحية لا تعدو كونها إشباعًا لشهوة مؤقتة، وما كان رابطة بين شخصين كالصداقة أصبح اليوم محكومًا بتقلبات السوق؛ إلا أن أكبر ما يؤرق هنا هو أن تُختزَل القضايا الكبرى وتُسطَّح لتصبح ذات بعد واحد وأفق ضيق، فالإنسان بما فيه من عمق وبما تعتريه من أحوال وما يحكم سلوكه من مؤثرات أخلاقية وعقدية واجتماعية قد تم اختزال قصته إلى تطور، وهذا التطور ليس فقط مقاربة بيولوجية بل غدا نموذجا يفسر ماهية الإنسان وسلوكه وأخلاقه، وكذا الحال في مكانة الدين لدى البشر في أحوالنا المعاصرة فقد تم اختزاله إلى كونه مجرد محتوى طقوسي ثقافي أو قاموسًا للدلالات الأنثروبولوجية.

هذه السطحية أحدثت تغيرات كبيرة على مستويات التفكير والتعامل مع القضايا الاجتماعية ذات التعقيد البالع ومن ثم فقد اختزِل الإنسان إلى مجرد حيوان يتطور كغيره من الحيوانات، ومن هنا صار ينظَر لحالات المثلية الجنسية على أنها أمر طبيعي لا يحتوي على إشكاليات سلوكية أخلاقية بل على أنها نتيجة طبيعية لتأثيرات جينية، أي يتم التعامل معها على المستوى البيولوجي. وعلى هذا فلا إشكالية البتة فيها، وعلى هذا المستوى البيولوجي يتم التعامل مع كل شيء يخص الإنسان، وإذا تم النظر إلى الإنسان من هذا المستوى فلن تبقى هناك قيمة مرجعية أو معيارية وسيغدو كل شيء مشروعًا بالنسبة لحيوان بيولوجي.

حتى الفلسفة!

انسحب هذا الأمر على كثير من مستويات التفكير والمفاهيم الفلسفية، بل إن الفلسفة ماتت كما أعلن الفيزيائي ستيفن هوكينج –رغم أنه كان ذا فكر سطحي في الفلسفة- وهذا طبيعي جدا، لأن الفلسفة تنطلق من مبدأ أن الإنسان كائن مفكّر، وتتعامل معه وفق مستوياته المتدرجة والعميقة، وإن كانت الفلسفة قد ماتت، فهذا يعني أن التفكر والتأمل وغيرها من مصطلحات تعنى بوعي الإنسان لم يبق لها مكان من الإعراب في عالم بيولوجي سطحي..

إن الحرية التي كانت في وقت سابق أساس عصر التنوير والحداثة أصبحت اليوم مفرغة من معناها عندما تم النظر إلى الإنسان على أنه مخلوق لا يستطيع تجاوز قوانينه البيولوجية التطورية.

إنسان المتاهة .. مؤثرو العالم الافتراضي!

في عالمنا المدفوع بالجشع نحو المال والكسب، وفي العالم الافتراضي السطحي المفتوح تصدر الشاشات والمنشورات أشخاص يتكلمون عن كل شيء بشكل سطحي لا اختصاص لهم سوى أنهم من جملة ما أصبح معروفا بـ” المؤثرين” أو ” صناع المحتوى”، ومع كمية الغش الموجود في هاتين التسميتين فإن لهؤلاء الأشخاص سلطة معرفية وعلمية في كافة المجالات تقريبًا، ونظرة على بعض قنوات اليوتيوب نرى مصداق هذا فهؤلاء المتصدرون يتحدثون عن مسائل علمية شائكة أو مواضيع فلسفية معقدة في دقائق معدودة مصدرين الحكم في هذه الأمور دون أن يكون لهم خلفية علمية أو اجتماعية معينة. ومع ضيق وقت الناس أصبحت هذه المقاطع أو المنشورات بمثابة مراجع يستقي الناس منها توجهاتهم

خاتمة لعلها تكون عميقة!

عبر تاريخنا الإسلامي ثمة مدح للصمت، ومدح الصمت ليس باعتباره صمتا بل لأنه وسيلة للتفكير العميق والتأمل الذي يفضي إلى قول ما هو أقرب للصواب وذلك كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) [أخرجه البخاري]، وهذا الأمر أصبح غريبًا في عالم مليء بالضجيج…

التفكر والتدبر والتعقل والتذكر كلها مصطلحات أساسية في تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة على حد سواء وهي تشير إلى مستويات متعددة من التفكير التي تجعل الإنسان إنسانًا، لكن الأمر اليوم مختلف جدا…  لكن اليوم ثمة اختزال للإنسان وهذا الاختزال يتم لصالح تسطيحه وتسطيح الإنسان يعني قطعه عن السماء وحبسه في عوالم سُمِّيَت زورًا وبهتانا وزارة الحب والحقيقة وليس لها من عمل إلا نشر الكره والخديعة الكبرى.

نظرات في التعدّد والطلاق

يعاني الكثير من الناس في قضية اختيار الزوج المناسب، هذا في الحالة الطبيعية، أما مع تصاعد الضخ الإعلامي الموجّه صار معيار الزواج لدى الكثيرين مقيّدًا بما يسمّى “الشريك المثالي” أو هو الرومانسي والعاشق المثالي، وقد أصبح البحث عن الحب -كما يروّج له- ليس من أدوات بناء أفراد المجتمع، خاصة إذا كان فيه من الإطناب ما يضرب باقي الأدوات بعرض الحائط.

أشرت في المقال السابق إلى أن الإنسان قد يقع تحت ضغوط متعددة فيكون مضطرًّا إلى التعدد أو إلى الطلاق، إلا أن ازدراء المجتمع للطلاق والتعدد جعل اعتبارهما أدوات قهر وظلم أمرًا بديهيًّا، وحينئذ لا يجد الفرد بدًّا من التضحية بضوابط الدين، في سبيل التأكيد على أهلية الشريك “الوردي” الذي سوف يحقق الحياة الزوجية السعيدة في الزواج الأول. وبالتالي، يخرج علينا منظرون يقولون عن الزواج: “مثله كمثل البطيخة” في سبيل تثبيت ضوابط الدين في العلاقة بين الجنسين، وهنا يصبح الملتزمون بدينهم بين نارين، نار الخوف من الطلاق لانعدام الحب قبل الزواج وهو الأساس الذي حقنت به الأجيال الناشئة، ونار مخالفة أوامر الدين ونواهيه.

إن أهون الأمرين هو المعتقد الفردي؛ لأن محاسبة الناس عند الأغلبية أقصى من محاسبة النفس في غياب الإيمان. فكم من فتاة سمعت طعن الناس للمطلقات بسكاكين ألسنتهم، فزادوا جراحهن آلامًا وتقطيعًا، ووُصِمن بالعار لمجرد أنهن ابتغين الحلال ووافقن ذويهم في اختيارهم. فتكون النتيجة، رضوخ بعض الفتيات لتقديم تنازلات قبل الزواج قد تكون بسيطة في بدايتها، ولكنها مؤسفة في نهايتها ويا ليتها انتهت بالزواج. وإن لم تنل من الشرف، نالت من القلب الموهوم بخلود الحب وسيطرته على الأفراد لتزويجهم، وبقيت حسرة في القلوب المكسورة.

آخر الدواء الكيّ

لا خلاف أن الطلاق قد يهدم البيوت، ويشتت الأفراد ويوقع حسرة في النفس، فهو الحل النهائي غير المرغوب للعائلة، لكنه –كالدواء المرّ العلقم- يبقى حلالًا إن ابتغي به الإصلاح لكلا الفردين، وبالأخص إن كانا حديثي عهد بالزواج من دون ثمرة.

وبالرغم من مشروعيته، يصر ذووا الفتيات إلى المغالاة في المهور وطلبات الحفل وشهر العسل والمؤخر لفرض قضيّة التأبيد في الزواج -حتى وإن كان دون توافق-، ولو ركزوا على بناء فتياتهم لزواج صالح، وبحثوا في بناء المتقدمين الصالح لهن لكان خيرًا للجميع، وما كان لأحد حاجة في الطلاق. ولكنها نظرة المجتمع السيئة وتجاوزه عن المطلقات في الزواج كأنهن من القواعد. سبحان الله!

تلجأ البكر لحكم أبيها في اختياره الزوج المناسب، والثيب قد علمت ما تريد بفضل زواجها الأول فأهديت النطق بالرضا تنفيذًا لحكمها على المتقدم وليس حكم غيرها، فمن لديها فرصة أفضل للاختيار الصحيح وقدرة على التعامل مع زوج جديد؟ هذه مشيئة الله تعالى بالتوفيق يهبها لمن يشاء، فلم نحاول تغليب رغباتنا على مشيئة الله بتعارف الأزواج فيما أحله ونرتضي ما حرمه تجنبا لهمز المجتمع ولمزاته؟

وإن قال أحدهم، إنما التعارف من خلال المساكنة والانفصال دون عقد، كالتعارف من خلال عقد النكاح والطلاق، فهذا القول مثل قول أهل الجاهلية في الربا حين قالوا: {إنما البيع مثل الربا} ورد الله تعالى عليهم {أحل الله البيع وحرّم الربا} [البقرة: 275]، فإنك لو أحكمت قِيَم الزواج ومسؤولياته في كلا الزوجين، فإنه الطلاق لن يتكرّر كما يتضاعف الربا وكما تتكرر العلاقات المحرمة التي ما إن رست على شريك العمر، تاقت النفس بعدها للتغيير كما اعتادت بين حين وآخر، فلا هي أبقت العهد الجديد بالالتزام، ولا استطاعت طرد ما عهدت من قلوبها.

إلا أنه في حال الطلاق -بعد اختبار مسؤوليات الزواج بنية صادقة- فإن الأزواج المنفصلين سيجدون مرادهم سريعًا بإذن الله، كما أوحت بذلك الآية: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعًا حكيمًا} [النساء: 130]، وقد يعود بعض الأزواج لبعضهم البعض، فـ {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]، إن كان هذا الأمر للزوج، فأين هو المجتمع من هذا الإحسان للمطلقات؟

فطرة الحياة بين الرجل والمرأة

أما التعدد، فلا بد هنا من مقدمة مختصرة في الحكمة من ورائه ودوافعه، قبل استعراض التشويه الممارس ضده، فقد اقتضت مشيئة الله –سبحانه- خَلقَ الذكر وجعله واهب النطف بينما كانت الأنثى المستقبِل الذي يحتضن هذا اللقاح في سبيل حفظ النسل البشري، فقد كانت أعداد البشر وبالأخص المواليد معرّضة على مرّ العصور للأمراض والأوبئة والحروب والكوارث الطبيعية وغيرها، فكان من الطبيعي أن يقترن الرجل بأكثر من امرأة تجنّبًا لتعطيل قدرته على الإخصاب خلال فترات الحمل والرضاعة الطويلة.

وبما أن الرجل عقلاني بالدرجة الأولى ليقدر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه حال اقترانه بامرأة جديدة، فقد كانت غريزته المرتبطة بالتناسل هي الدافع الأقوى لاتخاذ هذه الخطوة دائمًا، فقد جبل الله تعالى فطرة الرجل على خلاف فطرة المرأة في أمور كثيرة حتى يتحقق التجاذب بين الطرفين، وبالوقت نفسه تعينه خصائصه وتكوينه على تحمل مسؤولياته بفاعلية أكبر من الطرف الآخر. ومن هذه الأمور، اختلاف علاقة الحب بالجنس عند الزوجين واحتياجات كل منهما.

فالمرأة -كإنسان يقدم القلب على العقل- تنظر للمعاشرة الزوجية كنتيجة طبيعية لحبها للرجل، واحتياجاتها من الجنس عاطفية أكثر منها غريزية. لذلك تعتبر معاشرة الزوج كمؤشر على حبه لها، حيث تشبع به عاطفاتها الباحثة عن الاهتمام والأمان وتعكس هذه العاطفة على أطفالها ومنزلها، وهو ما يتماشى مع دورها كحاضنة. بينما كان الرجل -كإنسان يقدم العقل على القلب- يمارس الجنس إشباعًا لغريزته وحفظًا لنسله، أما تعبيره عن حبه فيأتي عمليا وبشكل أساسي في تحمل أعباء ومسؤوليات الزواج، فيضحي بجل وقته وجهده وماله لأجل عائلته بعيدًا عن فتن الحياة ومغرياتها، وهو ما يتماشى مع دور رب الأسرة؛ لذلك، لا تتفهم المرأة رغبة الرجل في الزواج مرة أخرى، وتعتبره نوعًا ما تراجعًا في حب الرجل لها، بالرغم من أنه قائم على مسؤولياته بما يحفظ حقوقها ويصون كرامتها.

لنفترض جدلًا أن فطرة الرجل كانت كالمرأة (كلاهما يقدم القلب على العقل) ستكون النتيجة حتمية بفناء الجنس البشري بعد حين من الدهر في ظل الظروف السابق ذكرها وذلك لعدة أسباب.

أولًا: سيكون كلا الطرفين مترددا في اختيار الآخر ومعاشرته، أما ثانيًا: ففي حال كانت المرأة عقيمة، لن يرتضي الرجل ذرية من زوجة أخرى. ثالثًا: إن كانت المرأة تشكو من علة تحول دون المعاشرة، امتنع الرجل عن الزواج من الأخريات. رابعًا: تقل فاعلية الرجل في تلبية احتياجات الأسرة، لأن العواطف الجياشة لا تندمج مع خصائصه من حيث التكوين والبناء العضلي، فلا يستطيع توظيف قدراته الفكرية والجسدية على الوجه المطلوب. خامسا وهو الأهم، تنشأ الأفراد الجديدة في جو مشحون عاطفيًّا بالكامل، محدثًا خللًا في توازن التربية، فينتج نسل جديدٌ غير مستقر عاطفيا ومضطرب عقليًّا.

تشويهُ شرعِ الله

إذًا هذا هو التكوين الأسري الفعال في المجتمع، الصامد أمام العقبات بضمه أفراد جدد، ليستمر في إنتاج أفراد صالحة، مع حفظ مصالح وحقوق كل القائمين على مؤسسة الزواج. فكما هو الحال مع أي مدير ناجح لمؤسسة، قد يأخذ على عاتقه تكوين مؤسسة جديدة، وربما يدمجهما في مؤسسة واحدة، أو يكون قائمًا على مجموعة شركات. مقياس النجاح هنا الإدارة المتوازنة، لذلك فإنه ليس بمقدور الجميع أن يكون على هذا القدر من الكفاءة لتحمل هذه المسؤولية.

لكن صعوبة التطبيق في هذه الأيام، لها أسباب أخرى متعلقة بما ذكرناه في المقال السابق من أفلام ومسلسلات وغير ذلك من أساليب الفن المغشوش، الذي يعمم أفكار شاذة على المجتمع من خلال سرد قصص وأحداث فردية متعللين برسالة الفن. فأي عبرة أخذناها من درس (اكسر رأس زوجتك بزوجة أخرى!) أو (خلفي منه عيّل قبل ما يجبلك ضرة تاخذ نص اللي عنده ويمكن تكوش على كل حاجة)!

لقد بات من الطبيعي أن ينظر المجتمع إلى المعدّد وكأنه أشبه بزير نساء، بينما إن كان الأعزب صاحب علاقات واسعة فإنه سيسوّغ له بأنه يبحث عن زوجة مناسبة. كما يشفق هذا المجتمع المريض على الزوجة الأولى ويعتبرها مسكينة، إن لم يعتبرها ناقصة ومقصرة في مسؤولياتها. حتى أن المصطلحات المستخدمة للتعبير عن هذا الفعل مشينة في معناها “يتزوج عليك!” أو “تنزل على ضرة!” وكأنه ضرر وشر. وفي ظل هذا الانحراف عن غاية الزواج، تعتبر كثير من النساء أن نية الرجل بالتزوج مرة أخرى أشبه بالكفر البواح الذي يهدر بسببه الدم، بل حتى قد يصل الأمر بالبعض، أن يرتضين علاقات أزواجهن السرية طالما أن لا امرأة جديدة ستشاركها في اسم زوجها وماله ولن تتعرض لكلام المجتمع القادح، فليس ثمة مجال للزواج الثاني، فيجد بعض الرجال أنفسهم بين نارين، نار الخوف على النفس من الخيانة الزوجية والمعصية، ونار الغريزة التي لا تكاد تنطفئ حتى تتأجج بكثرة الفتن من حولها.

إنني لا أشجع على استغلال الطلاق ولا أدعو إلى تعدد الزوجات لغير ضرورة، لكني أردت توضيح أن ضوابط الدين الإسلامي وتشريعاته لم تنزل لتضغط على العباد، بل جاءت لتحقق مآربهم بما يتوافق مع مصالح المجتمع ككل، وأن أهواء الأفراد المخالفة للدين تشكل خطرًا على المجتمع. وهذه الأهواء لم نستحدثها، بل فرضت علينا تِباعًا دون أن نشعر، بدءاً من كوميديا الحموات وانتهاءً بكوميديا الخيانات.

إن التغيير للأفضل لن يبدأ بالمجتمع، بل بالأفراد الذين بكثرتهم يميل المجتمع للاستقامة، ولذا يجب أن يأخذ هؤلاء الأفراد خطوة في الاتجاه الصحيح، في وجه الرفض الصريح لما أحكم هذا الدين في أمره.

إن التعدد الآن عرف شبه مندثر بسبب الضغط الذي أوجب ذلك، وهنا ينبغي إعادة النظر في النتائج التي صدرت عن هذا الضغط، وقبل هذا وذاك، ينبغي تربية الأفراد الناشئة على ثقافة جديدة للزواج مستمدة من أحكام الدين، والتعريف بأهدافه ومسؤولياته بعيدًا عمّا يصوره الإعلام.

إن طبقنا هذه الثقافة من الأساس وأحيينا هذا العرف في المجتمع، أصبح من السهل الالتزام بضوابط الدين، وعادت المروءة للمجتمع الإسلامي وأصبح كالحصن المنيع أمام فتن الحياة ومؤامرات الغرب، تتربى داخله أفراد مصلحة لشؤون حياتها الاجتماعية كافة دون تدخل سافر، تعتز بإسلامها ويعتز الإسلام بها.

المجتمع الغربي والتغيرات اللاهثة

أنهيت منذ فترة مطالعة رواية “فوضى الأحاسيس” للروائي النمساوي الشهير “ستيفان زيفايج”، وقد أعجبتني وأعجبني بناؤها الفني والأدبي البسيط والعميق، لكنني لن أتعرض لها هنا من الناحية الفنية؛ لأن ما لفت نظري فيها هو جانب فكري يتعلق بطبيعة عمليات التغيير المجتمعي بشكل عام وفي الغرب بصورة خاصة.

نشرت الرواية في ثلاثينات القرن العشرين، أي من حوالي 90 عامًا، وهي تتعرض ضمن أحداثها لقصة أستاذ أكاديمي في الأدب الإنجليزي يعاني من الشذوذ الجنسي، وما تفرع عن ذلك من طبيعة رفض المجتمع الأوروبي له في ذلك الوقت، وكيف أن ذلك البروفيسور المرموق الذي له وجاهة كبيرة في المجتمع آنذاك كان يضطر إلى الاندساس داخل مناطق نائية مطيَّنة تفوح منها رائحة النتن والعفونة في مدينة “برلين” الألمانية ليمارس شذوذه مع أفراد قذرين مخنثين غير متقبّلين في المجتمع.

واللافت للنظر هنا أن تجد أوصافًا لفعل الشذوذ داخل الرواية من قبيل: “رغبات شاذة، احتقار، اشمئزاز، نفور، شخص منبوذ، رذيلة مخزية، ضرب من الجنون، ملطخة بالقرف، مسممة بالخوف، الرفاق المشبوهون، عالم الرذيلة، المغامرات المخزية، ميوله المنحرفة، شعور خانق بالخزي والعار والخوف من الذات، العادات المشبوهة، فتيان فاسقين، التلوث بالرجس والقذارة، مخلوقات شبحية ودنيوية نتنة”… كل هذه وغيرها كانت الأوصاف الحرفية للرواية عن الشذوذ الجنسي وممارسيه والحالة التي تتلبسهم حال ممارسته.

تعرض الرواية كيف أن حياة البروفيسور تحولت في الرواية إلى جحيم نفسي حقيقي بسبب ممارساته المنحرفة وعدم تقبل من حوله لها، كان يتعرض لعمليات ابتزاز وتهديد تخلف وراءها أحيانًا هلعًا ورعبًا بلا حدود، فضلاً عن سخرية الآخرين منه ومن ممارساته المشبوهة. لم يكن ينام في الليل إلا قليلاً بفعل سوء حالته النفسية التي سببتها حالة التناقض التي يعيشها، بل ربما ناداه داعيه الداخلي مساءً فتسلل من المنزل تاركًا زوجته الحسناء ومغادرًا بالأيام ليخوض مغامرة دنسة جديدة، ليعود بعدها وقد علت جسده وملابسه جميع مظاهر الانحراف والقذارة.

لم يلفت نظري تدوين “زيفايج” هذه الممارسة القبيحة التي كان غارقًا فيها هذا البروفيسور، فهذا مما قد يوجد في كل مجتمع بنسبة ما، وربما يكون الكاتب أراد تسليط الضوء على هذا الشخص من باب الاستثناء الذي يلتفت إليه الأديب في كتاباته، فالفن بالأصالة تدوين لحالة من الاستثناء، والحياة العادية لا تلفت نظر المبدع لتدوينها، وإنما اللافت لنظره هو الغريب، الغريب في حاله أو طبعه أو شخصه، أو حتى الغريب في موقفه الطارئ الذي لا يسير وفق العادة اليومية المطردة. ومن هنا قد تكتسب بعض الأعمال الأدبية والفنية صفة الملالة والسأم حينما تلتفت فقط إلى ما يلتفت إليه الناس يوميًا، وتشير بأصابعها إلى ما يعتاد الناس الإشارة إليه. أما الإبداع فيهتم بما لا يهتم به الآخرون، ويركز على جوانب مظلمة من الحقائق لا يلتفت إليها الناس، أو على الأقل يعبر عما يعتاده الناس لكن بأسلوب لم يعهدوه أو يعتادوا رؤيته أو سماعه. ومن هنا يكتسب صفة الجدة والابتكار، “فالفن تدوين للاستثناء” كما قلنا.

كيف عرض زيفايج للشذوذ وحياة المجتمع الأوروبي؟

إلا أن الفاصل بين أديب وآخر يكمن في كيفية تدوين هذا الاستثناء وعرضه؛ فـ”زيفايج” استعرض القبح الكامن في هذا الاستثناء، ونجح في خلق صورة مستبشعة ومنفرة عنه. لكن الأعمال الأدبية المعاصرة تروج لهذا السلوك وتجعله اختيارًا مقبولاً ومتاحًا، بل ومحببًا في أحيان كثيرة. وإني لأتوقع لو كتب هذه الرواية الروائي العربي “فلان” لاستبدل جميع الألفاظ الآنفة الذكر، وحالة الفصام التي أتعبت ذلك البروفيسور المريض والتي كان يعيشها بين حالته وسط طلبته صباحًا في الجامعة ومساءً بين الأراذل في المواخير والمشارب ليجعل منها حالة تحفزه لمزيد من الإبداع والتميز المهني والحياتي والأكاديمي!!

ما لفت نظري في هذه الرواية هو تصور المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت لهذه الرذيلة واستنكاره لها ووصفها على لسان هذا الكاتب الكبير بأقذع الأوصاف وأقساها، ولن تخطئ عينك حالة الإدانة التامة التي سببتها هذه الأوصاف لهذا الفعل الشنيع في الجزء الأخير من الرواية.

أوروبا في هذه الفترة كانت تدين الشذوذ، وتراه فعلا مستقبحا مخالفا للفطرة السوية، ولا يمارس هذا الفعل منهم سوى الحقراء والمنبوذين، الذين خصصوا لأنفسهم أقذر الأماكن وأبعدها عن العمران ليمارسوا أفعالهم بعيدا عن أعين الناس الذين يرونهم مرضى أو كائنات متدنية. ومن كانت تراوده نفسه من أهل المدينة ليلطخ سمعته بهذا الفعل الشائن كان عليه أن يتكبد عناء الانتقال إلى هذا المكان القذر ليدنس حياته برجسه خُفية ودون أن يعلم به أحد. والويل له إن انكشف سره وافتضحت حقيقته! هذا ما كان عليه هذا الوضع في أوروبا وقتها.

التطبيع مع الانحراف

حين طالعت هذه الأوصاف السابقة في الرواية قفز في ذهني فورًا الصورة الحالية لهذه الممارسة المنحرفة في الآداب والفنون الغربية المعاصرة، كيف حدث هذا التحول الرهيب في المجتمع الغربي -ويجري على قدم وساق في المجتمع العربي بالمناسبة- تجاه تقبّل الشذوذ بدءًا من تغيير التسمية الصادمة للأذن “الشذوذ الجنسي” بوصف آخر مهذب ومستساغ “المِثلية الجنسية”، ومرورًا بعرضه علانية وبفخر في الإعلام والأعمال الفنية والأدبية، وانتهاءً بإعلانه رسميًا في كثير من دول العالم الغربي والأوربي بديلاً أو طريقًا موازيًا للزواج الطبيعي، واستخدامه ورقة سياسية أحيانًا من قبل الساسة والحكام.

فبات من الطبيعي جدا أن تطالع يوميا في صفحات الجرائد والمجلات زواج امرأتين أو رجلين داخل كنيسة، زواجًا رسميا معلنا وموثقا من قبل الدولة، بل ومع التطور اليومي تطالع إعلان بعض رجال الدين والقساوسة لشذوذهم الجنسي وفخرهم بذلك! وبات طبيعيا أيضا أن يقتحم عليك منزلك مشهد أو عدة مشاهد في عمل درامي يقبِّل فيه رجلان ذوا لحية كثيفة ومكتملا الرجولة بعضهما البعض، ليستبدل الصورة النمطية القديمة عن الشاذ جنسيًا في الدراما بأنه شخص مخنث يتمايل بضحكات رقيعة، في إدانة واضحة لفعله. فالآن يمكنك أن تكون رجلا شهما ومسؤولا وعلى أعلى درجات الاحترام وقوة الشكيمة في العمل، وشاذًّا في نفس الوقت بلا غرابة أو تأنيب ضمير!!

الفاصل بين هذه الأوصاف المستقبحة لهذا الفعل الشائن في الرواية وبين الواقع الحالي المبيح والمروج هو 90 عامًا فقط (وقت نشر الرواية)! 90 عامًا تحولت فيها البشاعة والانتكاس الفطري إلى واقع طبيعي يحظى بالقبول المجتمعي!! وهذا أمر مرعب في حد ذاته. منذ مهد التاريخ البشري لم يحدث هذا الغزو البشع للكرة الأرضية والإغراق الرهيب بالمحتويات الشاذة والمنحرفة على هذا النحو الذي يقع الآن.

إلا أن رقم 90 هذا يعد رقمًا كبيرًا نسبيًا، فطوال هذه الأعوام التي تقترب من قرن من الزمان لم يشهد العالم هذا التسابق المحموم على النشر اللاهث للشذوذ إلا في آخر 15 أو 20 عامًا على الأكثر، ولنا أن نتخيل أن آلافًا أو عشرات أو مئات الآلاف من السنوات من عمر البشرية لم تتغير خلالها هذه الصورة الفطرية السوية في نفوس البشر حتى وإن مارس بعضهم الشذوذ، لكن عقدا أو عقدين من الزمان كانا كافيين في تشويه وإتلاف هذه الفطرة وإحداث تدهور حاد في التصورات المستقرة سلفًا. فماذا يحدث؟!

الطفرة الكونية التي يعيشها العالم الآن في مجالات السياسة والإعلام أحدثت حالة من اللهاث المتعجل نحو التطبيع مع الانحراف. والعلمانية والإلحاد اللذان سيطرا على المجتمع الغربي وبدأتا تغزوان المجتمع العربي والإسلامي صارتا المتحكم الرئيس فيما يعرض على الشعوب في الإعلام والدراما، بل نصَّبتا نفسيهما مهندس الأخلاق الكوني للعالم، فتقرران ما يناسب البشر وما لا يناسبهم من الأخلاق والمعتقدات بناءً على المتطلبات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والفكرية للإلحاد والعلمنة.

حتى الرسوم المتحركة الخاصة بالأطفال لم تسلم من ذلك، فالمحتوى الغربي المرسِّخ لقبول الشذوذ وزرع فكرته في عقول الناشئة، سواء بالإشارة أو بالمباشرة، صار أكثر وأكبر كثافة من أن يحصى. وهذا يتطلب حالة من التحفز والانتباه المضاعف لأخذ الأهبة والتدرّع بمختلف وسائل المقاومة.

الفنّ وسيلة لإفساد الفطرة

لم تعد الدراما والفنون الروائية والقصصية الغربية مجرد أداة ترفيهية بريئة كما كانت أول نشأتها، بل صارت سلاحا حربيا كئيبا ربما يفوق في تأثيره مفعول القنابل والمجنزرات والآليات المعقدة، سلاح فكري انتكاسي ضد الفطرة والقيم والأخلاق، وبكل أسف تمكن الطرف المناوئ من حيازة أسباب التفوق فيه، ولم نتمكن نحن حتى هذه اللحظة من الهجوم واستخدام أساليبه بذات البراعة التي يقاتلنا بها، وكان جل ما نفعل هو الصراخ من الألم والاستكانة بزاوية رد الفعل. ولا ننكر أن هناك جهدًا فكريا نخبويًا يصاغ على صفحات الكتب وقنوات الأثير، إلا أنه غير كاف في مواجهة هذا السيل الجارف من الدراما القبيحة، فطبيعة الشعوب البعيدة عن حالة النخبوية الثقافية لا تتأثر بالأطروحات الفكرية المصبوبة في المؤلفات العلمية بقدر ما تتأثر بالدراما البسيطة التي تنفذ إلى العقل اللا واعي، وربما يتجاوز تأثير فيلم أو مسلسل واحد العديد من الكتب والمحاضرات التي يتلقاها الإنسان البسيط في عمر مديد؛ لأن الأول يحفر في قلبه وعقله الباطن، والثاني يخاطب عقله وتفكيره.

ما العمل؟

إننا مطالبون -وبسرعة لا تحتمل التأجيل أو التقاعس- بإعداد مشروع درامي أخلاقي وقيمي يواجه المشروع الإعلامي الغربي المتضحة معالمه التخريبية المنحرفة، ولم يعد ذلك من رفاهية الأعمال أو الأفكار والمشروعات، بل بات أمرًا ملحًا كعلاج “الغرغرينا” التي ما لم يتخذ الطبيب قرارا صارما وسريعا فسوف تنتشر في الجسد المنهك كله، ولن يغني حينها العلاج ولا البتر. مشروع إعلامي قادر -ولو نسبيًا- على المنافسة، فكثير من التجارب السابقة في الدراما والرسوم المتحركة القيمية والأخلاقية كانت ساذجة وعلى مستوى فقير مهنيًا وتفتقد لعناصر الإبهار والقصة والجودة، فكانت تكرارًا لما سبقها في الأسلوب والمعالجة المباشرة المفتقدة للحبكة، وطغا عليها الخطاب الوعظي النصائحي، لذا كانت مثار سخرية واستهزاء لا محط اهتمام وشغف.

العفاف الاجتماعي.. عقبات وتحدّيات

إذا أردت تدمير مُجتمع ما والسيطرة على أفراده، فعليك أوّلًا نشر الانحراف والانحلال الأخلاقي داخله، ومن ثمّ سيُصبح كلّ فرد مُتّبعًا لشهواته وساعيًا لإشباع غرائزه بنهمٍ، وسيُصبح ذلك محور حياته.

وقد تسرّب لنا نحن المسلمين اليوم هذا النوع من الانحراف وأصبح هنالك فساد في العلاقة بين الجنسين، وتسابقٌ من أجل إشباع الغرائز، وفقدنا بوصلة الإيمان التّي تُوجّهنا إلى الطّريق المُستقيم في الحياة، وانعكس ذلك كلّه على الفرد وعلى المُجتمع الذّي غشاه الوهن والضعف.

صورة تعبر عن الوقوع تحت أسر الغرائز والشهوات والتي تناقض العفاف الاجتماعي

هذا الحال الذي وصلنا إليه لم يكن موافقًا لما روّجه بعض بني جلدتنا المُنتمين للنّخب المُثقّفة بأنّ الانفتاح على الفكر الغربيّ بكلّيّته سيوصلنا للتقدّم العلميّ والحضاري، إلا أن هذا الأعمى لم يزدنا –في الحقيقة- إلاّ تخلّفًا وعُبوديّة وتقديسًا للغرب، إلى جانب تأخرنا في العمل المُثمر ومن دون تحقيق أيّ تغيير واقعي يُذكر.

إنّ الفرد منّا اليوم يجد نفسه حائرًا لا يدري أين الحقّ من الباطل في ظلّ هذه الفوضى الفكريّة التّي نعيشها، خاصّة في باب العلاقات بين المرأة والرّجل، فنجد أصواتًا مُتعاليةً من هنا وهُناك، كلٌّ يُناقض الآخرـ بين من يدع ولانفتاح غير محدود، وبين انغلاق تامّ على الذات مُؤدٍّ –ولا ريب- للكبت والانهيار.

فساد العلاقة بين الجنسين في الغرب

كانت بداية الانحراف قد ظهرت في العصور الوسطى في أوروبا أي مع بداية انحراف المسيحيّة وتسلّط الكنيسة على النّاس واستعبادهم باسم الدّين، حيث كانت الفكرة الشائعة في ذلك الزّمان أنّ الجنس شيء دنِس في ذاته، وأنّ المرأة مخلوق شيطانيٌّ يجب الابتعاد عنها، وأنّ الزّواج غريزة حيوانيّة ينشغل بها عامة النّاس، وأن من أراد السّعادة والتّقوى فعليه مُجاهدة نفسه والتخلّي عن فكرة الزّواج، وفي المُقابل كان هنالك الفجور والفواحش المُنتشرة فرارًا من هذا الكبت والقيود الواهمة.

 واستمرّ هذا الانحراف حتّى انفضحت الكنيسة بفسادها الجنسي بين الرّهبان والرّاهبات، ومع الانقلاب الصّناعي في أوروبا، والمُطالبة بالتحرّر المُطلق من كلّ شيء، ظهر فساد آخر سرعان ما انتشر وتصاعد مُتمثّلاً في التوجه نحو الإباحيّة الكاملة والتبذّل الأخلاقي والحريّة الجنسيّة.

ومما أسهم في ذلك ظهور السينما والتلفزيون والتحرّر من الأخلاق الضابطة، والاختلاط الماجن، ودور الأزياء والصّحافة، وأصبح البغاء والعلاقات المشبوهة والزّنا أمرًا عاديًّا في أوروبا، كونه داخلاً في الحريّات الشخصيّة التي لا ترتبط بالدّين والأخلاق والتّقاليد.

 وصل الأمر اليوم في أوروبا من شدّة هذا الانحراف إلى إعلان وزيرة المواطنة الفرنسيّة مؤخّرًا على أنّ قانون منع تعدّد الزّوجات في فرنسا لن يُؤثّر على حريّة ممارسة الجنس الجماعي، وتعدّد العشيقات، بل وصل بهم الانحراف والضّلال بأن يُعلن مجلس الشّيوخ الفرنسي السّماح بمُمارسة الجنس مع الفتيات في سنّ13 سنة إن كان ذلك بالتّراضي!

فأيّ انتكاس للفطرة وانحراف عن العفاف والحياة الطاهرة بعد هذا؟!

على الرغم من هذا الانفلات من الأخلاق والضّوابط والتّقاليد إزاء العلاقات الجنسيّة التّي أصبحت تُقام في يُسر وتحت حماية القانون من دون قيود، فإنّ شهوة الفرد داخل هذه المُجتمعات الحديثة لم تشبع بعد ولم تهدأ، وإنما واصل الإنسان الانحراف في تنفيسها إلى حدّ الملل الجنسي، حيث أبيحَ الشذوذ، وأصبحنا نرى -دونما تحرّج- حفلات زفاف تُقام لشخصين من نفس الجنس!

زواج المثليين من نتائج غياب العفاف الاجتماعي

فقد أثبتت نتائج بعض الدّراسات في استقصاء لمواطني الدّول الأوروبيّة قابليّتهم لهذا الأمر سنة 2015 حيث كانت النّسب كالآتي: 66% لكلّ من ألمانيا وفنلندا والنّمسا و55% في إيطاليا(2)، وفي تقرير فرنسي حديث صادم كُشِف عن أنّ أكثر من 10 آلاف طفل تعرّضوا للتحرّش الجنسي في الكنائس الفرنسيّة منذ 1950 وأنّ القساوس المُصابون بشذوذ اشتهاء الأطفال يتجاوز عددهم 1500(3)!

ولا ينتهي الأمر ههنا، إذ صدر أخيرًا كتاب “العائلة الكبيرة” الذّي هزّ المُجتمع الفرنسي للخبيرة الدّستورية “كاميل كوشنير” كشفت فيه أنّ رئيس مجلس إدارة معهد الدراسات السياسية المرموق بباريس، قد اعتدى جنسيًّا على شقيقها التوأم، وأسفر ذلك عن خروج الكثير من الأشخاص عن صمتهم وظهرت كثير من الفضائح الجنسيّة وزنا المحارم للعديد من المشاهير في الفنّ والسّياسة والإعلام.

وفي النّهاية أدّي هذا الانفتاح الجنسي، المُتجرّد من كلّ القيم الإنسانيّة، إلى هَوَسٍ ونَهَمٍ غير محدود وإلى غياب الأمن النّفسي والاستقرار الاجتماعيّ، وبالتّالي أصبح يُعاني البعض في هذه المجتمعات من ضغط عصبي وقلق وجنون قادهم إلى الاغتصاب والجريمة، حيث نشرت مجلّة “مادموزيل” الفرنسية سنة 2019 أنّه يتمّ اغتصاب امرأة كلّ سبع دقائق في فرنسا(4).

 واقعنا والعلاقات بين الجنسين

عندما قلدّنا الغرب بطريقة عمياء، انحرفت مُجتمعاتنا عن قيم العفّة والحياء رويدًا رويدًا، فأصبح الإعلام عندنا يستخدم فكرة التسوّل الجنسي، حيث يتمّ تشجيع المرأة والرّجل على الاقتداء بالنّموذج الغربي تحت عنوان مواكبة العصر والحداثة، فعلى المرأة أن تكون أكثر جاذبية وإثارة فور خروجها من بيتها سوى في العمل أو في الدراسة أو عند ذهابها للتسوّق، وعلى الرّجل أن ينساق وراءها ويُغازلها، ويبني صداقة معها من باب المُتعة واللّهو.

كما يتمّ في الأفلام والبرامج والمُسلسلات التّركيز على عرض العلاقات المُحرّمة وكأنّها التعبير الوحيدُ عن الحبّ والرّومانسيّة، ويتمّ إظهار مُرتكبيها على أنّهم ضحايا يجب التّعاطف معهم، أو الترويج لأنّ ما قاموا به من حرّيتهم الشّخصيّة، ولا يخفى أن الترويج للتعرّي وكشف مفاتن الجسد بات أمرًا لازمًا لهذه الأفلام، وذلك بدعوى شعور المرأة بأنوثتها، ومع تكرار الإعلام هذه الصّور والمشاهد والبرامج، صار المُتلقّي مهيّأ لقبول هذه المُمارسات داخل مُجتمعه ولا يُنكرها عند حدوثها.

الإعلام يحارب العفاف الاجتماعي

ولا ننسى أيضًا دور النّخب المُثقّفة عندنا التّي تسعى ليلاً نهارًا لتقويض مبادئ الإسلام داخل المُجتمع، وإعطاء كلّ وافد غربي إلينا طابعًا فلسفيًا وعلميًّا؛ لتبريره وإقناع العامّة بقبوله، أو لاستخفاف عُقولهم وأفكارهم، وها قد بتنا اليوم نسمع مُصطلحات غريبة عنّا كالأمّهات العازبات أو النّوع الاجتماعي وصار مرتكبو فعل قوم لوط يُطالبون بتشريع حقوق خاصة لهم علنًا في مُجتمع دينه الإسلام!

وانعكس ذلك سلبًا على الأسرة التّي لم تعد راحة وسكنًا حيث ارتفعت نسب الطّلاق، وأصبح كِلا الزّوجين يبحث عن صديق أو شريك يلجأ إليه باسم الصداقة، وأصبح البيت والأطفال عبئًا على كليهما، فانهار نظام الأسرة، وانجرّ عن ذلك ضياع الأبناء وشتاتهم النّفسي، ومع بلوغهم سنّ المُراهقة يجدون أنفسهم في مُجتمع مُنفتح على الإباحيّة فيبدؤون باتّخاذ الخليلات وقد يصل بهم الأمر للوقوع في الفاحشة مع طول الابتعاد عن منهج الله وترك تعاليم دينه.

ضرورة نشر العفاف الاجتماعي

اهتمّت الشريعة الاسلاميّة بنشر العفاف داخل المجتمع ووضعت له ضوابط مُعيّنة حمايةً له من الانحراف والفساد، وإنّنا لن نجد في العالم تشريع بشري يصل لهذه الدقّة ويهتمّ بهذه التّفاصيل من باب الحفاظ على فطرة الإنسان وضمان حياة سليمة له ولبنيه. فقد ضبط الشّرع لنا البصر وأمرنا بغضّه عن المُحرّمات رجالاً ونساء عملاً بقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30- 31]، وضبط لنا طريقة الكلام ونهى المرأة عن النّعومة المُفتعلة في نبرة صوتها فقال الله لها: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، وضبط طريقة اللّباس للمرأة وللرّجل وجعل لهما عورات وجب سترها، فعن عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: (رَأى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَخِذَ رَجُلٍ خارجةً فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: غَطِّ فَخِذَكَ فإنَّ فَخِذَ الرَّجُلِ عَورتُه) [أخرجه أبو داوود والترمذي في السنن]، وأمر الله في كتابه المرأة فقال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، وضبط طريقة مشية الرّجل والمرأة، فوجّه الله النساء قائلاً: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، وأمّا الرّجل فجاء الأمر على لسان لقمان بأن: {اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19].

 وكما أنّ اليوم لقاء الرّجل والمرأة أمرٌ واقع لا مفرّ منه، سواء في العمل أو الدّراسة أو أي مكان آخر، فلا بدّ أيضًا من مُراعاة أمرين:

أوّلهما: أن يكون للّقاء هدف ومصلحة فيها إصلاح ونفع للأفراد والمُجتمع، وليس لقاءً ماجنًا لا هدف وراءه سوى إرضاء شهوة النفس، وثانيهما: أن يكون هنالك التزام بالضوابط الإسلاميّة التّي ذكرناها آنفًا.

ولنا في قصّة سيدنا موسى عليه السّلام أسوة حسنة، عندما وجد امرأتان لم تستطيعا السقاية بسبب وجود عدد كبير من الرّعاة حول الماء وامتنعتا عن مزاحمة الرّجال والاختلاط معهم والاحتكاك المُباشر بهم حياء منهما فخاطبهما نبي الله موسى عليه السّلام بكلمة واحدة {مَا خَطْبُكُمَا}، ولم يبحث عن افتعال مُحادثة معهما التزامًا بالعفّة وابتعادً عن مسالك الفتنة فذهب للمقصد مُباشرة، وكان جوابهما أيضًا مُختصرًا لا زيغ فيه حيث {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}. فقام موسى {فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}. أي أنه أدى واجبه ثم انصرف ولم يستغلّ ضعفهما لإشباع غريزته ومُماطلتهما، وعندما أخبرا والدهما بذلك عادتا على استحياء يدلّ على عفة كلٍّ منهما {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [الآيات من سورة القصص: 23- 25] وهذا هو الأصل في اجتماع الرّجل والمرأة.

إن مدار العفّة إذًا الامتناع عن كلّ فعل قبيح لا يليق بكرامة الإنسان كما حدّده شرعنا الحنيف، وإذا أردنا حماية مُجتمعاتنا من الانحلال المدمّر والمُهلك لروابط المُجتمع فعلينا العودة لمنهج الله والالتزام بمبادئ ديننا والتخلّق بآدابه وتربية الأجيال عليها، فإن لم نفعل فستلتَهمُنا الإباحية وينخر في جسد مجتمعاتنا الفساد!


الهوامش:

(1): جاهليّة القرن العشرين لمحمد قطب، دار الشروق للنشر بتاريخ 1993، ص 189.

(2): موقع أورونيوز، مقال بعنوان دول الاتحاد الأوروبي وزواج مثليي الجنس بتاريخ 13 جويلية 2017.

  (3): نفس المصدر، مقال بعنوان تقرير يكشف تعرض ما لا يقل عن 10000 طفل لاعتداءات جنسية في كنائس فرنسا منذ عام 1950 بتاريخ 3 مارس 2021.

  (4): موقع فرنسا24، مقال بعنوان العنف ضد النساء: اغتصاب امرأة كل 7 دقائق في فرنسا بتاريخ 25 نوفمبر 2019.

 

 

ما الطريق للتّوازن الاجتماعي؟

أصبحنا اليوم نعيش فوضى اجتماعيّة انعكست سلبًا على نمط حياتنا، ولم نعُد نرى مفهوم الأخوّة والوحدة والتّراحم بين أفراد المُجتمع، بل حلّ مكانه التفكّك والضّعف وطُغيان الأفراد أو الجماعات على بعضهم البعض، كُلٌّ يسعى لفرض فِكره ومبادئِهِ على الطرف الآخر وسحقه من الوُجود. 

إن الأنظمة الاجتماعيّة القائمة اليوم تُمثّل صراعًا بين نقيضَين:

فإمّا الفرد الذّي يقدّس ذاته، وله الحريّة المُطلقة في فعل ما يشاء بدون حدود أو قيود، وله أن يملك كيف ما شاء بدون ضوابط، وله أن يختار طريقة عيشه وميوله وفِكره ومُعتقداته كما يشاء، تحت مُسمّي الحرّية الشّخصيّة المُطلقة، ومع كلّ ذلك فإنه ليس للمُجتمع أن يقول له “هذا خطأ” أو “هذا صواب”، وليس للمُجتمع بأن يُحاول تقويم اعوجاجه أو ردعه، لإيمانه بأن لا وصاية لأحد عليه.

وإمّا النّظم القائمة على المُجتمع، حيث يُصبح لها كيان مُقدّس، ولا قيمة للفرد داخله، وعلى المُنتمين إليه أن يخضعوا لسُلطانه دونما اعتراضٍ أو انتقاد، وليس للفرد –كذلك- أن يقول “هذا خطأ” أو “هذا صواب” إذ بات لسلطة المُجتمع الوصاية في صياغة أفكار وعقائد وتصوّرات أفراده، وجعلهم جميعًا نسخًا من قوالب جاهزة.

وإنّنا لنجِد هذه الأنظمة في صراع داخل مُجتمعاتنا كلّ يدّعي أنّه يملك الحقّ المُطلق، فنتج عن ذلك وجود انقسامات، وتكوّن أطيافٍ مُتعدّدة ومُختلفة، تستوحي أفكارها ومبادئها في الحياة من الأنظمة الغربيّة الغريبة عن مبادئ ديننا والمُناقضة له، فالإسلام هو المنهج الذي جعله الله لنا صراطًا نُقيم به التّوازن بين الفرد والمُجتمع بلا إفراط أو تفريط.

صورة تعبر عن التعارض بين الفردانية والجماعية، والذي يحاول المقال الوصول إلى التوازن الاجتماعي بينهما

النّظام الاجتماعي الفردي
في ظلّ موجة الحداثة التّي تعيشها مُجتمعاتنا المُسلمة، ظَنّ البعض أنّ نهضة مُجتمعه لا يُمكن أن تحدُث إلاّ باتّباع الغرب، وذلك من خلال القطع مع كلّ موروث اجتماعي وفكري، وجعله من التّقاليد البالية، بدون القيام بعمليّة الفرز اللازمة للحفاظ على كلّ ذي قيمة بما يتناسب مع هدي الله والشخصيّة المطولبة من المُسلم.

لقد كانت النتيجة أن أصبحت حياة الأفراد مُرتبطة أكثر فأكثر بالفكر المادي، وأصبح هنالك جفاف في العلاقات، وتحوّلت الرّوابط الاجتماعيّة القائمة على التّعاون والتّعارف والجوار من جملة التّقاليد البائدة، وأصبح كلّ إنسان في المُدن المُعاصرة لا يشعر إلاّ بفرديّته، ولا يرى إلاّ مصلحته، وطغت عليه الأنانيّة.  

من المؤكد أن هذه النّزعة الفرديّة قد نشأت بعيدًا عن مبادئ الإسلام، ممّا أسفر عن غياب التّوازن بين الحقوق والواجبات، وبين الحرّية والالتزام، فأصبح البعض اليوم مُتحلّلاً من الدّين والأخلاق والتّقالي، ومُنسلخًا من إنسانيّته باسم الحريّات الفرديّة، فبدأوا يُنادون بالترويج لأفعال قوم لوط الجنسيّة ونشر البغاء والزّنا ومُختلف أنواع المحرّمات من خمور ومخدّرات.

وبدأت المرأة المُتمتّعة بفرديّتها المطلقة تسعى إلى تحطيم الدّين والأخلاق والتّقاليد، ظنًّا منها أنّهم استُخدموا لإقصائها والتّضييق على دورها داخل المُجتمع بسبب سوء فهم الرّجل للدّين وسوء تطبيقه، حتّى وصل بها الأمر اليوم إلى المطالبة بالمُساواة المُطلقة مع الرّجل في كلّ شيء حتّى في الانحراف والتحلّل والإباحيّة.

يبدو أن ذلك كله خلّف انحلالاً مُدمّرًا داخل مُجتمعاتنا، وأدّى إلى تقطّع روابط المُجتمع والأسرة التّي كان تماسكها مُستمدًّا من قِيَم الإسلام وشريعته، فملامح العلاقات الاجتماعيّة قد تغيّرت وأصبح هنالك غياب لروح الألفة والاستئناس، وأصبحت الأنانيّة والانتهازيّة والنّفاق الاجتماعي والمصلحة الفرديّة هي القيم الطّاغية عندنا، وذلك بعدما انتشرت الأهواء والشهوات بانسلاخنا عن مبادئ ديننا، ولم تعُد روح الأخوّة والأمّة الواحدة جزءًا من العبادات في تفكيرنا الحداثي.

 وكذلك الأسرة التي أصبحت هشّة في نواتها، فقد تحوّل الرّجل إلى آلة عاملة، مُتحلّلاً من مسؤوليّاته من جهة، ومُتّبعًا لأهوائه ومُشبعًا لغرائزه من جهة أخرى، وكذلك انشغلت المرأة بنفسها وعملها ومُنافستها للرّجل ممّا أفقَد الأطفال روابط الحنان والحبّ والمودّة من الوالدين، ورُبّوا على تنشئة غير مُتوازنة، وبالتّالي نشأ جيل جديد في جوّ من الانحراف والانحلال.

يؤكّد على هذا المعنى الفيلسوف الأمريكي ول ديورانت فيقول:” ولما كان زواجهما [الرجل والمرأة في المجتمع الحديث] ليس زواجًا فقط بالمعنى الصحيح -لأنه صلة جنسية لا رباط أبوة- فإنه يفسد لفقدانه الأساس الذي يقوم عليه، ومقومات الحياة، يموت هذا الزواج لانفصاله عن الحياة وعن النوع، وينكمش الزوجان في نفسيهما وحيدين كأنهما قطعتان منفصلتان، وتنتهي الغيرية الموجودة في الحب إلى فردية يبعثها ضغط المساخر” (1).

النّظام الاجتماعي الجماعي
في المُقابل، نرى النّظام الجماعي الذّي لا يعترف بكيان الفرد أو أي قيمة له، حيث يرى أنه يستمدّ وجوده من المُجتمع الذّي يعيش فيه، ومن ثمّ فإن عليه الخضوع لسُلطانه دونما تردّد أو تفكير.  ويُعتبر أصل هذا النّظام مُستمدًّا من الفكر الغربي، حيث يقول الفيلسوف الفرنسي دوركهايم:” إنّ ضروب السّلوك والتّفكير الاجتماعيّة أشياء حقيقيّة توجد خارج ضمائر الأفراد، الذّين يُجبَرون على الخضوع لها في كلّ لحظة من لحظات حياتهم”(2)، فالفرد وفق هذه الرّؤية ليس له استقلاليّة اجتماعيّة، بل عليه القبول بما يجد من عقائد وسلوكيّات وأفكار وأنماط حياة داخل مُجتمعه حتّى إن كانت باطلة وفاسدة.

إميل دوركايم (مصدر الصورة: ويكيبيديا)

من هذا المُنطلق نجد اليوم حكومات تسعى لتحطيم وجود الفرد الذي يختلف معها، فعلى سبيل المثال ما يحدث اليوم للأقليّة المُسلمة من “الأويغور” حيث أدخلت السّلطات الصّينيّة ملايين منهم لمُعتقلات كبيرة بهدف إعادة تأهيلهم وفقًا للرؤية الصّينيّة، وتجريدهم من كلّ مظهر أو مبدأ أو فكر إسلامي، وذلك بهدف محو هويّتهم وإخضاعهم لرؤية الدولة وفكرها.

يتجسّد هذا الفكر أيضًا داخل المُجتمع الفرنسي اتّجاه الأفراد المُسلمين، في مُحاولة لطمس هويّتهم وإخضاعهم عن طريق دعوة الاتّحادات الإسلاميّة؛ بهدف التّوقيع على ميثاق أصدرته الحكومة الفرنسيّة مؤخّرًا ينصّ على اعتناق قيم الجمهوريّة الفرنسيّة، وجعلها مرجعيّة المُسلمين الأولى، حيث يعتبر هذا الميثاق –على سبيل المثال- أي نقد للأفعال الجنسيّة غير الفطريّة أو انتقاد للسامية جريمة جنائيّة، وهنا يجد المُسلم نفسه في صراع داخل المجتمع الذّي يعيش فيه، فإمّا أن يستسلم له ويخضع لتوجّهاته في الحياة ويترك مبادئ دينه، وإمّا أن يسحق كيانه الفردي وتسلب حرّيته في الحياة باتّباع منهج الإقصاء والتّمييز السّلبي ضدّه.

نُلاحظ أيضًا داخل مُجتمعاتنا المُسلمة انتشار هذه النّزعة الجماعيّة، فعندما انتشر الفساد بيننا واعتدنا عليه، أصبحنا نرى كلّ مستمسك بمبادئ دينه، رافض للباطل والانحراف، مُتمرّدًا يسير عكس التيّار، بل أصبح عقبة بالنّسبة للمُجتمع المُتّبع لهواه، وبالتّالي صار يرى نفسه في صراع مع من حوله، ويتحوّل هذا الاختلاف أحيانًا إلى كُره وتنازُعٍ ينعكِسُ سلبًا على العلاقات الاجتماعيّة، وينجم عن ذلك انتشار القطيعة والحقد والاستهزاء والعزلة والتفكّك الاجتماعي.  

الطريق للتّوازن الاجتماعي
يقول العالم الشهير ابن خلدون: “إن المجتمعَ وعمرانَه لا يمكن أن يظهرا إلى الوجود من خلال تفرّق جهود الأفراد وتبعثرها، فالإنسانُ يدركُ بفطرتِه سبلَ عيشِه، ويدرك كذلك ضرورةَ تعاونِه وتماسكِه مع الجماعة، إذ ليس في مقدور كلّ إنسانٍ أن يوفرَ حاجاته لنفسه، إن ذلك يتطلبُ تماسكًا وتعاونًا بين الناس”(3)، فالمجتمع إذًا هو نتيجة اجتماع  عدد كبير من الضمائر الفرديّة، وللفرد داخله قيمته ووزنه وله تأثير في تكوّن هذه الجماعة، ولنا خير نموذج في سيرة رسول الله عليه أفضل الصّلاة والسّلام حيث قام أوّلاً بتربية وتزكية نفوس أصحابه، الذين آمنوا به واتّبعوه، وجمعهم تحت راية الإسلام وشريعته، رغم اختلاف أجناسهم وأعراقهم، فنجحوا ببناء مُجتمع مُتوازن ومُتماسِك، يجد فيه الفرد مرجعيّته الدّينيّة والفكريّة وكرامته الإنسانيّة، فكلٌّ يعرف حدوده، بما عليه من واجبات وما له من حقوق.

إنّ للمُجتمع تأثيره المُباشر على الفرد ويُمكنه إخضاع الفرد له، فإمّا أن يكون مُجتمعًا صالحًا مُتكوّنًا من ضمائر فرديّة صالحة في أغلبها، وفي حالة وجود أفراد مُنحرفين ومخدوعين باتّباع أهوائهم وشهواتهم ولا يُحدثون إلاّ الضّرر أين ما حلّوا، فإنّ من واجبات المُجتمع أن يكفّ أيديهم وينهاهم عن فسادهم، ويسعى لإيقافهم، حتّى لا يسقط الجميع في مُستنقع الضّلال والظّلم، عملاً بقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وإمّا أن يكون مُجتمعًا فاسدًا يُمثّله عدد كبير من الأفراد الذين أصابهم مرض الوهن والضّعف الأخلاقي، فيسعون إلى نقل فسادهم وانحرافهم لكلّ فرد  طاهر ما زال فيه صلاح، ويأخذون منه موقف العداء، فإمّا أن يشاركهم في فسادهم، وإمّا أن يتمّ سحقه وطمس كيانه الفردي.

صورة للقرآن والذي يمثل الطريق إلى التوازن الاجتماعي

وللفرد أيضًا نصيب من ذلك، فعندما وُجد الأنبياء ومن بعدهم الدّعاة والمُصلحون -الذّين هم أفراد- وجدوا أنفسهم داخل مُجتمعات عليلة توشك على الهلاك بسبب الفاسد الطاغي فيها، وقفوا بكلّ قوّة يدعون إلى الخير والصّلاح والعدل، وكانوا سببًا في تغيير مجرى التّاريخ وقاموا بواجبهم تجاه مُجتمعاتهم، وهذا ما علّمنا إيّاه رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلّم بالحث على بذل النّفس نُصرة للحق وتحدّيًّا للظّلم ولو بالكلمة، فعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ) [أخرجه الحاكم في المستدرَك].

في المُقابل فإنه عندما يصل فرد للسّلطة في مُجتمع صالح، ويغترّ بمنصبه فيستعلي ويتكبّر ويستبدّ، فإنّه سيسعى لفرض فكره وجبروته على المُجتمع، وسيُحدث فيه الفساد، ويُضيّع مصالح العباد؛ لأنّه لا يرى إلاّ نفسه، وسيسعى لتخدير عقول الناس لإبقائهم تحت سيطرته، غافلين عن حقوقهم وحرّيتهم.  

إن المعادلة هنا بسيطة للغاية، فلا وجود للفرد أو للمُجتمع في غياب أحدهما، فهما معًا يُمثّلان الكيان الإنساني، فمرّة يبرز المُجتمع، ومرّة يبرز الفرد بطريقة تفاعليّة مُشتركة نضمن بها وجود توازن بينهما.

إننا بحاجة لهذا المفهوم حتّى نخرج من ضيق الظلم والفساد الذّي أصاب مُجتمعاتنا، فعلى الأفراد أن يكونوا مسؤولين وواعين بدورهم، مُلتزمين بمبادئ دينهم، ساعين للتّغيير والنّهوض والعمل، وكذلك على المُجتمع -ككلّ- أن يعي بواجباته تجاه أفراده، وأن يقطع الطريق في وجه كلّ ظالم مُتكبّر مُستبدّ، وأن يكون أفراده جسدًا واحدًا نصرة للحقّ والعدل.


الهوامش:

(1): جاهليّة القرن العشرين لمحمد قطب، دار الشروق للنشر بتاريخ 1993، ، ص: 156.

(2): نفس المصدر السّابق، ص 160.

(3): جريدة الراية، مقال بعنوان ضوء أخضر.. «نحن» وليس «أنا».. قوّتنا في وَحدتنا للدكتورة لطيفة شاهين النعيمي بتاريخ 25 أكتوبر 2020.

 

دعاوى كبيرة في قوالب جاهزة

ليس ثمة شيء أصعب من أن تعاني عمرك كله في عقدة نقصٍ تذكَر كلما ذُكِرتَ! هذا ما يمكن الإشارة إليه بشكل عابر، إلا أن المراد من ذلك التعريج على العقدة التي تلازم عامة المسلمين حتى أصبحوا يعانون ممّا يسمّى “عقدة الإسلام”، فصار لزامًا عليهم أن يعملوا على تلميع صورتهم في كل محفل ولقاء.

هذا التشكيك الذي نعيش حملاته علينا داخليًّا وخارجيًّا دفع كثيرًا من المسلمين لأن يغفلوا عن كمال الشريعة التي جاء بها الإسلام، واندفعوا يشككون بجدوى الدعوة له أو التديّن به، لقد ابتعدوا عن أن يكون أعزة بدين الله.

الطريق للتخلص من القوالب الجاهزة
لن يكون غريبًا أن نسمع بشكل شبه يومي قواعد تردُ على ألسنة الناس وقنوات الإعلام وصفحات التواصل، تختزل الدين وتعاليمه ضمن مسمّيات منفّرة، فأضحت الشرائع التي تهدف إلى حماية المرأة –مثلاً- ضغطاً وتحكماً، وكذلك صار قول الحق أو حكم الشرع بشيء معين تطرفًا أو عنفًا وشرًّا وقسرًا على شيء ما.

في حقيقة الإمر فإننا بحاجة ماسة إلى النظر في ديننا بعيون مختلفة وربما استخدام عدسات مناسبة تعزز الرؤية وتقلّص التشويش الحاصل، وكما أخبرنا رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ الحلال بيّن والحرام بيّن، وإننا مطالبون أمام الله سبحانه بتحرّي الدقة والصواب عند كل تصرّف ومع رفّة كلّ جفن، فنحاكم الأمور بما يناسب أمر الله، ونسأل أنفسنا: أهذا يرضي الله أم يغضبه؟

هذا يقودنا إلى ضرورة سؤال أهل الذكر وحتمية الحاجة إليهم في كل عصر، والطريق لذلك يكون بأن نتحرى أقوال الفقهاء وإجماعهم في المسائل وألّا نتخَطَّف الشاذ منها لمصلحة أو هدف، وألا نخشى إلا الله ربنا في ذلك، فنرمي حملنا عليهم ونتوكل على الله ونفوض إليه أمورنا كلها، فيكون أي ذنب اقترفوه أو تسبّبوا لنا فيه أوزاراً يحملونها يوم القيامة، لكننا على الأقل نحافظُ على وحدة أمرنا ونتجنب شتات الحال.

فهم الإسلام طريقٌ للدفاع عنه
علينا أن نكون على يقين بأنه لا وجود للتناقض بين واجبات المسلمين وبين التعايش مع بقية الناس فوق أرض واحدة، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب أصيل في كل وقت ومكان مهما اختلفت العصور، إلى أن نلقى الله وأحدنا قابض على دينه كالقابض على جمرة حين يكثر اللغط والخبث والفساد وتصبح معرفة الحق منوطة بصاحب الفراسة والبصيرة.

سنجد دوماً أشخاصاً –بالأمس واليوم وغداً وفي المستقبل- يفكرون بطريقة مختلفة منبثقة من حيث لا ندري، وستتسبّب أفكارهم بتشكيكنا حتى بأنفسنا ومبادئنا وتمسكنا بشريعة ربنا، وسنصل إلى وقت يكون فيه أكثر أهل الأرض متبعين لأهوائهم وأمزجتهم.

بالنسبة لي –على الأقل- فالحل السحري هو في جلسة تصالح مع نفسي، بصحبة ورقة أكتب فيها، ترى لماذا أشعر بالحرج من النقطة الفلانية أو أتجنب الاستماع إلى الشيخ الفلاني.

اتبع ذلك، ستجد بكل بساطة أنك تعاني من سيطرة فكرتين أو ثلاث على عقلك، بحيث يجعلونك في موقف عداء وتوتر مع دينك كلما ذكرت تلك النقاط، والحل في أن تتحرى كل قضية تسبب لك توتُّرًا بصدق، وأن تبحث عن الحق لتعرفه وتقف عنده، وأن تسأل وتستفتي العلماء والفقهاء للوصول إلى الحق، وأن تعاهد نفسك على قبول نتائج بحثك كما هي دون أن تسمح لنفسك بالخلط بين تقصير الدولة مثلاً أو القضاء، وبين تشريعات الله العادلة.

قد نقول مما يشتهر على اللسان بين الأوساط العامة “يضيع حق المرأة إذا طُلِّقَت أو مات زوجها”، والسبب ليس له علاقة بالدين وإنما أشياء أخرى كقصور القوانين القضائية أو تلاعب القضاة والرِّشَى.

لكن تعاليم ديننا توضّح أن المرأة تتربّع على هرم المجتمع والأسرة وهي حجر أساس في كل مشاريع الحياة، فالشريعة الربانية تحوي خلاصة قِيَم العدل؛ إلا أن فكر كثير من الناس –للأسف- قد تلوّث وتأثر بمشوشات خارجية لا حصر لها، فبتنا اذا سألنا أحدهم “ما هو مفهومك عن الحكم بالشريعة؟” ستجده يتصبب عرقاً خائفاً أو ملتهباً من شدة الغضب، وهو يصف الفكرة بأشنع الألفاظ ويصف السائل بالتخلف والرجعية!

أين الخلل والحلّ؟
مردُّ هذا التعصّب هو تبعية الفكر وقصوره، فقد أصبح مصطلح الشريعة في ذهنه مرتبطاً بالعنف واللحى الطويلة والنساء المحجبات بالإكراه فقط، وهو فكر ارتضاه له الإعلام ومكّنه فيه.

إنّ الشرع الرباني على العكس من ذلك تماماً، فهو توظيف للعدل الإلهي والوحي السامي في حياتنا اليومية.

انظروا لأوامر الله في مثل قوله {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] فكم نحتاجها اليوم ونحن نرى أشنع التصرفات التي تعاكس هذا الهدي من فتيات وفتيانٍ يفترَض بهم أنهم مسلمون، ولننظر إلى آية الدَين، إنها أطول آيات القرآن، كونها آية شاملة جامعة تحفظ الحقوق منذ 1400 سنة.

القرآن هو الحل لمشكلة القوالب الجاهزة

أيعقَل أننا ابتلينا بالعمى، فيمتدح أكثرنا جملة من التشريعات الغربية مرفقة بعبارة مهترئة مفادها أنهم رائعون حقا، فهم “مسلمون بدون إسلام” حسنٌ، ما دمنا معجبين “بإسلامهم” فلماذا نخاف وننفر ونشعر بالضيق إذا ما سمعنا أحدهم يقول: لنجرب تطبيق التشريعات العادلة الإسلامية كما كانت يوماً؟

لماذا ينفر كثير الناس بسرعة من مقولة: الشريعة هي الحل؟

هذا المستنكر لتلك العبارات هو نفسه المعجب منذ دقائق فقط بنفس التشريع لكن بنكهة غربية فقط، فلم يشعر بالغثيان؛ إذ لم يطلَق على تلك الممارسات اسم “شريعة” لا أكثر.

يحضرني ههنا مثال ذكره أحد الدعاة يقول فيه: إن ربنا الحكيم خلقنا وخلق “كتالوجنا” معنا، فلو أنك اشتريت جهازاً جديداً فلا بد أنك ستحوطه بعنايتك وتخاف عليه من الهلاك، ومن أجل ذلك ستقرأ كل تفصيلة مذكورة في كتيب الاستخدام، وعليه فما بالك بنفسك، حيث خلقك رب عظيم فأحسن خلقك، وأرسل لك كتيب الاستخدام والصيانة ورسلاً تأخذ بيدك إلى بر الامان بأقل الأضرار، ولكن كان الإنسان أكثر شيء جدلاً.

جور الحكام لا مفر منه في كل زمان مهما اختلف، كما أنه سيكون لعلماء الدين أو حملة همّ الدعوة بعض الأخطاء من شخص لآخر بين الحين والآخر، وسيفتح باب التشكيك المجالَ لكل شيء يمكن أن يلوث نظرتنا للدين الحق ولروائع التشريع.

الحل أمامنا، أن نصبر ونتابع مجاهدة النفس بالتوازي مع الغوص في القرآن العظيم دستور الحياة الذي لطالما كان وسيكون حياة لقلوبنا قبل أجسادنا.

منارات العارفين ومتاهات الغافلين

تختلف سلوكيات الناس عبر الأزمنة والعصور، كما أن معتقدات البشر تتمحور وتتغير وتتشكل من مجتمع لآخر، يعود ذلك لعدة أسباب أهمها تعامل بعض الناس مع من حوله وفق مبادئ واعتقادات معينة كانوا قد نشأوا عليها فتأصّلت في عقولهم وتجذّرت في قرارة أنفسهم، وأفضلهم أولئك الذين امتزجت أعمالهم بالحق من معتقداتهم، أما من خلط السلوك بالكفر فقد حق فيه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103- 104] وعلى سبيل المثال فإن من يجمع ثروته بطرقٍ غير مشروعة ومن يكون مصدر رزقه مشوبًا بالأشواك فإنهم بأساليبهم الملتوية والمبهمة في التعامل اليومي مع الناس يشبهون -إلى حدٍّ كبير- تلك المتاهات أو الدهاليز المتعرجة أو الوديان الوعرة التي يهوي السائر فيها نهاية المطاف واقعًا فيما لا يحمد  عُقباه، وعلى ضفةٍ أخرى نرى أناسًا آخرين يسلكون مسلكًا مستقيمًا، أنارته أضواء التقوى فضمائرهم يقظةٌ لا تغريها الرشوة أو المال الحرام فهؤلاء كالشعلة التي تنير الطريق المظلم.

التمييز بين العارفين والغافلين
لا عجب أن تختلط في وقتنا الحالي الأمور على كثير من الناس، فعوامل التحريف لا تعدُّ ولا تحصى، ولكن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أنه سيأتي زمان يُخوّن فيه الأمين ويؤمّن فيه الخائن ويُكذّب فيه الصادق ويصدّق فيه الكاذب.

في عهدنا هذا نرى موت الضمائر يكاد ينهي مَن تبقى مِن المخلصين، ونلحَظ انتشار عمى الجشع في عيون الحاقدين، وتباين الناس في الأصول والنهايات، وصار القوي يأكل حق الضعيف، الذي بدوره يجنح للسلم والدعة فيتنازل عن حقه للقوي. لا تكاد تنتهي مظاهر الغفلة عند هذا القدر، فالظلم يكاد يغطّي أوجه عصرنا، والظالمون يستحوذون على ما ليس لهم، والمظلوم توقفوا أو كادوا عن المطالبة بحقوقهم

هل ثمة كذبة بيضاء؟
نختلط يومياً في مسيرة حياتنا العلمية والعملية بأجناس وجنسيات مختلفة في فترة الدراسة بدءًا من مراحل الدراسة الأولى ثم المتوسطة فالثانوية فالجامعية ثم في بيئة العمل، قد نطمئن لسلوك بعضهم وبالتأكيد فإننا نتعجب لسلوكيات وتصرفات آخرين غير السوية.

هذا بمجمله داخل في نطاق الأحوال الطبيعية في المجتمع البشري، إلا أن ما يزيد عن ذلك الحدّ أن تنتقل من الاعتراف بالخطأ إلى التسويغ، فتتصاعد في المجتمع دعايات المسوغين، فيكون الخطأ الخارج عن هدي الصراط البيّن ذكاءً وفهلوة، مثل أن يلطَّف الكذب المستمر فيصبحَ كذبة بيضاء، فيصغر شأن الكذب في عيون الناس.

وهنا نرى أن حالة الاستقامة والبعد عن الطريق مدارهما مراقبة الله في الأقوال والأفعال، فمن يتهيب جلال الله واطلاعه يثبت على الحق ويتحرى الصدق ليقينه أنه حبل النجاة في الدنيا والآخرة أو في الآخرة على الأقل، أما من ابتعد عن المراقبة وهان أمر الله في نفسه، فإنه سيغوص في المعاصي والكذب حتى يسلب ثقته من نفسه ومن كل من حوله.

عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) [أخرجه الشيخان].

هناك من يبرر السرقة والاختلاس أو الغش والتدليس بأن جميع الناس يسلكون هذا المسلك في جمع المال، أو لعله هو نفسه قد نشأ في أسرةٍ تعيش هذه السلوكيات المنحرفة، فلم يجد لنفسه رادعًا في الدين إذ لم يعش معانيه ويقترب من أوامره، كما أنه لم يحكّم ضميره لأنّ نفسه سوّلت له الفسوق وزيّنته أمام عينيه للوصول لمبتغاه فتمثل ذلك المبدأ القائل “الغاية تبرر الوسيلة”.

لكن الله تعالى وضع لنا معايير أخرى، فقال لنا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] وقال {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]

ومن هنا كان العارفون أولئك الذين وضعوا نصب أعينهم مراقبة الله والخوف من عقابه والبحث عن قبوله، فكانت كل خطوة يخطونها على خط الحساب بوزن الأقوال والأفعال، فيتقربون إلى الخالق بعمل الخير، فنرى أحدهم يعين المحتاج أو يغيث المسكين، أو يساعد في إيواء يتيم أو أرملة أو يسخّر ماله لبناء مؤسسة خيرية أو مستشفى أو مدرسة أو مسجد وغير ذلك من أبواب الخير التي يعود نفعها على المحسن والمحتاج معاً، ويبقى الأثر الطيب على صاحبه يريح القلب ويدخل عليه السعادة والفرح، على عكس  العاصي والفاجر الذي لا يفتأ يعيش في القلق.

لما كان العارفون بأمور دينهم ودنياهم وما يتعلق بالحلال والحرام كانوا كالمنارات تضيء الطرقات المظلمة، ولما كان الغافلون يجهلون الحلال والحرام ضلوا في متاهات الضلال يتخبطون كالذي يتخبطه الشيطان من المس.

العدل نقيضُ الظلم
تتفق أقوال العلماء في أن استمرارية الدول والمجتمعات تحكمها نواميس الكون التي فرضها الله عز وجل من العدل وتحريم الظلم، فقد حرم الله عز وجل الظلم على نفسه على العباد، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن الحسبة أن الله قد ينصر الدولة الكافرة إن عدلت ويمحق الدولة المسلمة إن ظلمت، ويمكن أن نستدل على ذلك بقول الله تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]

وفي الحديث القدسي عن أبي ذر رضي اللَّه عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فيما يروي عن ربه عز وجلَّ أنّه قال: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا)

في الختام لا بدّ من التأكيد على أن الحياة لا تخلو من الخير والشر، كما أن الأمور والأشياء قد تعرف بضدها، فبعض الناس لا يميز بين الأضداد إلا بالمقارنة فتراه لا يعرف فضل الناس الذين يتمتعون بالخلق الحميد والفضيلة الباذخة، إلا بالمعاناة مع آخرين من ذوي الخلق السيئ، ولا يملك معرفة خير الفضيلة إلا بالانغماس في بؤس الرذيلة.

وهكذا يتنوع البشر في أخلاقهم فتترجم إلى سلوك يظهر في مجمل تصرفاتهم ما بين صدق وكذب، عدل وظلم، أمانة وغش، إخلاص وخيانة، حلم وغضب، لين وقسوة، تواضع وتكبر، كرم وبخل، طيبة ومكر، إيثار وأنانية …إلخ، فتتجلّى القيم والخلق الحميدة لتتوّج مجتمعة في مكارم الأخلاق لنميّز بين الخير والشر والحق والباطل، ولتبقى هذه المعالم الأخلاقية خالدة عبر العصور تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل.

كيف تضيع الأخلاق؟

أن يكون هذا الزمن متطورا في مختلف النواحي المادية والتقنية والصناعية فإن ذلك لا يعني علوّ سويّة الأخلاق والقيم والإنسانية فيه، بل إن هذا التباين الحاصل مؤشر واضح على وجود خلل في تركيبة الإنسان المعاصر، وهو دليل قاطع على حالة الانحدار السريع نحو تلاشي القيم الأخلاقية وضمور الحس الإنساني، لأن أصل الصلاح البشري ليس بلوغ التطور المادي وإنما التوفر على فكر سليم وروح نقية وقيم نبيلة، وفي حال غياب ذلك أمام الاستفحال المادي الواقع في عصرنا فإن الانحدار الأخلاقي حتمي وسيكون مصير البشرية الذي لا مفر منه قاتما.

خطوات في طريق الانحراف
“كانت النصرانيات واليهوديات من أهل الشام يلبسن قبل الحرب الأولى الملاءات[1] الساترات كالمسلمات، وكلّ ما عندهن أنهن يكشفن الوجوه ويمشين سافرات، وجاءت مرة وكيلةُ ثانوية البنات إلى المدرسة سافرةً، فأغلقَت دمشق كلها حوانيتَها وخرج أهلوها محتجّين متظاهرين، حتى روّعوا الحكومة، فأمرَتها بالحجاب وأوقعَت عليها العقاب، مع أنها لم تكشف إلاّ وجهها، ومع أن أباها كان وزيراً وعالِماً جليلاً وكان أستاذاً لنا”[2].

علي الطنطاوي

هكذا يحكي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عن الحال التي كانت عليها بلاد الشام، كانت النساء المسلمات متسترات تمام التستر، حتى أن غير المسلمة كانت تُعرَف بسفور وجهها، وكان الرجال يغارون أشد الغيرة على أعراضهم وعلى أخلاق مجتمعهم، كل ذلك كان قبيل عام 1914م، ولأن طبيعة هذا المجتمع تبعد الشباب عن الانشغال بالمغريات والالتفات للشهوات، لم يكن هنالك ما يلهي ويصرف الشباب عن التعلم والبناء، فكان إزالة تلك الحواجز بين الشباب وما يلهيه هي الخطوة الأولى لهدم كيان المجتمع عن طريق هدم شبابه، وبدأ ذلك في فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا حيث بدأوا بجعل المدارس مختلطة وبإدخال المدرسين من الرجال على البنات بحجة فقد المدرّسات القادرات، ثم احتجوا بالرياضة فكشفوا من أجلها ما كان مستورًا من الأجساد[3].

عقود تلو عقود، وهذه الحوادث وغيرها تتصاعد مع مرور الزمن ويزداد الفساد أكثر فأكثر، فبعد أن كان الناس حريصين على أن تصبح الأخلاق الحسنة هي السمة العامة لمجتمعاتهم وأن يكون من يخالفها شاذا عنها منبوذا منها، أصبح الالتزام بالأخلاق من عدمه أمرا اختياريا مرهونا بإرادة الفرد، وما زلنا نشهد الحملات الممنهجة لنشر الفوضى في الأخلاق وتضييع القيم الاجتماعية بإماتة الحياء والغيرة.

نماذج على طريق الضياع
استوقفتني مقاطع مصوّرة بثتها إحدى الصفحات السورية التي تجاوز متابعوها المليون على منصة يوتيوب، وما هي إلا دقائق حتى ظهر فيها ما يندى له الجبين وتقشعر منه الأبدان، فمحتوى الفيديوهات المصوّرة لا يوحي بأنها صُوّرت في مدينة محتشمة حيث إن كل ما فيها يثير الغرائز ويحرك الشهوات ويظهر تدنى مستوى الحياء وذهاب فكرة الغيرة على الأعراض من عقول الناس بشكل علني جهارا نهارا.

يقف مقدم المحتوى في الشارع يستضيف المارة ثم ينثني إليهم بأسئلة ملؤها الميوعة، ووصل به الأمر أنه تحدى إحدى الفتيات “المحجبات” بأن تلحق أحد الرجال طالبةً منه أن يخطبها، ويا له من مشهد مؤلم أن يكون الاستهتار بالحياء أمرا سائغًا ومضحكًا ما دام في إطار كوميدي جذاب.

لنفترض حسن الظن بالصفحة وأن القائمين عليها ليسوا من رعاع الناس، وأنهم لم يختاروا أحياء معينة دون أخرى ليقوموا بمقابلاتهم فيها، وأن هدفهم هو فقط رسم البسمة على وجوه الناس، وحَـمْلهم على حسن الظن كان لأن وجود أمثالهم ليس هو المصيبة الآن، إنما قبول عامة المجتمع لهذا النوع من الأفكار وكأن ما يقومون به نوع من الترفيه المباح هو المصيبة بعينها.

ماذا يبقى من المجمع إن هدِمَت الأخلاق
من المؤكد أن الأخلاق تشكل ركنًا أساسيًّا في أي مجتمع، فهي الضامن لاحترام الناس بعضهم لبعض، وهي السبيل لتمتين العلاقات وتعزيزها بالمحبة والأدب، وهدم أخلاق المجتمع يتخذ أشكالاً مختلفة وينطلق من نقاط متعددة، كالانحلال الشهواني أو تفشي الفساد المالي، وباجتماع هذه الآفات كلها تكون أركان الأخلاق في المجتمع قد نقضت واحدة تلو الأخرى.

إن كون انتهاء الأمة مقرونا باتباعها لشهواتها وانتشار الفسق فيها هو سنة الله في الكون، فقد قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، حيث يرى المفسرون أن معنى الآية هو تسلّط الأشرار فيها حيث يصعّدون من معاصيهم فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب[4].

يروي لنا التاريخ حادثة لمروان آخر خلفاء بني أمية حيث مرّ براهب وهو هارب من العباسيين، “فاطَّلَع عليه الراهب فسَلَّمَ عليه فقال له: يا راهب هل عندك علم بالزمان؟ قال: نعم! عندي مِن تلَوُّنه ألوان. قال: هل تَبْلُغ الدنيا من الإنسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالِكا؟ قال: نعم! قال: فكيف؟ قال: بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها”[5].

ومن ذلك ما حدث في عصر سقوط الأندلس، حيث “إن الأندلسيين في أواخر أيامهم، ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى والحياة العابثة، والمجون وما يرضي الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، لقد استناموا للشهوات وللسهرات الماجنة والجواري الشاديات، وبحكم البديهة فإن شعبا يهوي إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة والمجون، لا يستطيع أن يصمد رجاله لحرب أو جهاد، أو يتكون منهم جيش قوي كفءٌ للحرب والمصاولة”[6]، وقد أشار المستشرق كوندي إلى سبب انهيار الحضارة الإسلامية في الأندلس ورضوخها آخر المطاف لسلطة ممالك إسبانيا النصرانية بقوله: إن العرب سقطوا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب، يميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال بالشهوات”[7].

الأخلاق وسُنن التاريخ

مالك بن نبي

في إطار دراسة ابن خلدون لتاريخ السقوط والنهوض في الأمم السابقة توصّل إلى ارتباط انهيار الملك في دولة ما بفساد رؤسائها وركونهم إلى فاسد العمل، فقال: “إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، فتُفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم”[8]

ويقول مالك بن نبي في الإطار ذاته: “دورة الحضارة إذن تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة، أو عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين على حد قول (كيسرلنج)، كما أنها تنتهي حينما تَفقد الروحُ نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح”[9].

وهنا يأتي سؤال لا بد منه، وهو: كيف وصل الغرب إلى هذه الحضارة مع قلة انتشار الأخلاق فيه؟
لعل من أهم أسباب بقاء الغرب متحضرا إلى الآن هو تمسكه ببعض القيم القانونية والأخلاقية التي تضمن تماسك بنية الدولة واستمرار تقدّم دورة العلم والمال فيها، لكن هذه الظاهرة لا تنفي مساوئ تحول العلم من معرفة إلى صانع للمادة، فقد أدى ذلك إلى الإسهام في انتشار الإلحاد واندثار كثير من القيم الأخلاقية، وهو أمر مؤذن بقرب نهاية دورة الحضارة فيها[10].

إن للحضارة شقان: شق مادي، وشق ثقافي، فهم الآن في أوج عصور حضارتهم المادية، ولكن على صعيد الثقافة والأخلاق فهم على شفا جرف هار، أما المسلمون فقد تهدّم بنيانهم المادي وضاع شقهم الثقافي، وطريق الخلاص من ذلك يبتدئ بإعادة بناء منظومة الأخلاق بما يرضي الله الذي قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].

                   وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

إن من أهم الواجبات على المؤثرين في الشعوب المسلمة أن يعملوا على تنمية فطرتهم الطيبة قبل أن يأتي من يستعملها لحظوظ نفسه ولأفكار متطرفة لا تمت للإسلام بصلة، وأن يسعى لإصلاح الأخلاق وتقويمها فهي عماد ثبات المجتمع، وهي بداية عودتنا إلى أفضل مما كنا عليه إن شاء الله، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

[1] أي العباءات.

[2] ذكريات، علي الطنطاوي (5/ 291).

[3] ينظر: ذكريات، مرجع سابق، (5/ 271).

[4] التفسير المنير للزحيلي (15/ 37).

[5] البداية والنهاية ط الفكر (10/ 48).

[6] مصرع غرناطة، شوقي أبو خليل ص94 بتصرف.

[7] عوامل النصر والهزيمة، شوقي أبو خليل ص110.

[8] مقدمة ابن خلدون ص130، ط دار الشعب، ت علي عبدالواحد وافي.

[9] شروط النهضة (ص: 70).

[10] للمزيد انظر كتاب الإسلام والغرب للشيخ البوطي ص21، وكتاب نحن والحضارة الغربية لأبي الأعلى المودودي ص30، ومقال “الأخلاق ودورها في سقوط الحضارات” لمحمد عدنان شيط.