نظرات في التعدّد والطلاق

image_print

يعاني الكثير من الناس في قضية اختيار الزوج المناسب، هذا في الحالة الطبيعية، أما مع تصاعد الضخ الإعلامي الموجّه صار معيار الزواج لدى الكثيرين مقيّدًا بما يسمّى “الشريك المثالي” أو هو الرومانسي والعاشق المثالي، وقد أصبح البحث عن الحب -كما يروّج له- ليس من أدوات بناء أفراد المجتمع، خاصة إذا كان فيه من الإطناب ما يضرب باقي الأدوات بعرض الحائط.

أشرت في المقال السابق إلى أن الإنسان قد يقع تحت ضغوط متعددة فيكون مضطرًّا إلى التعدد أو إلى الطلاق، إلا أن ازدراء المجتمع للطلاق والتعدد جعل اعتبارهما أدوات قهر وظلم أمرًا بديهيًّا، وحينئذ لا يجد الفرد بدًّا من التضحية بضوابط الدين، في سبيل التأكيد على أهلية الشريك “الوردي” الذي سوف يحقق الحياة الزوجية السعيدة في الزواج الأول. وبالتالي، يخرج علينا منظرون يقولون عن الزواج: “مثله كمثل البطيخة” في سبيل تثبيت ضوابط الدين في العلاقة بين الجنسين، وهنا يصبح الملتزمون بدينهم بين نارين، نار الخوف من الطلاق لانعدام الحب قبل الزواج وهو الأساس الذي حقنت به الأجيال الناشئة، ونار مخالفة أوامر الدين ونواهيه.

إن أهون الأمرين هو المعتقد الفردي؛ لأن محاسبة الناس عند الأغلبية أقصى من محاسبة النفس في غياب الإيمان. فكم من فتاة سمعت طعن الناس للمطلقات بسكاكين ألسنتهم، فزادوا جراحهن آلامًا وتقطيعًا، ووُصِمن بالعار لمجرد أنهن ابتغين الحلال ووافقن ذويهم في اختيارهم. فتكون النتيجة، رضوخ بعض الفتيات لتقديم تنازلات قبل الزواج قد تكون بسيطة في بدايتها، ولكنها مؤسفة في نهايتها ويا ليتها انتهت بالزواج. وإن لم تنل من الشرف، نالت من القلب الموهوم بخلود الحب وسيطرته على الأفراد لتزويجهم، وبقيت حسرة في القلوب المكسورة.

آخر الدواء الكيّ

لا خلاف أن الطلاق قد يهدم البيوت، ويشتت الأفراد ويوقع حسرة في النفس، فهو الحل النهائي غير المرغوب للعائلة، لكنه –كالدواء المرّ العلقم- يبقى حلالًا إن ابتغي به الإصلاح لكلا الفردين، وبالأخص إن كانا حديثي عهد بالزواج من دون ثمرة.

وبالرغم من مشروعيته، يصر ذووا الفتيات إلى المغالاة في المهور وطلبات الحفل وشهر العسل والمؤخر لفرض قضيّة التأبيد في الزواج -حتى وإن كان دون توافق-، ولو ركزوا على بناء فتياتهم لزواج صالح، وبحثوا في بناء المتقدمين الصالح لهن لكان خيرًا للجميع، وما كان لأحد حاجة في الطلاق. ولكنها نظرة المجتمع السيئة وتجاوزه عن المطلقات في الزواج كأنهن من القواعد. سبحان الله!

تلجأ البكر لحكم أبيها في اختياره الزوج المناسب، والثيب قد علمت ما تريد بفضل زواجها الأول فأهديت النطق بالرضا تنفيذًا لحكمها على المتقدم وليس حكم غيرها، فمن لديها فرصة أفضل للاختيار الصحيح وقدرة على التعامل مع زوج جديد؟ هذه مشيئة الله تعالى بالتوفيق يهبها لمن يشاء، فلم نحاول تغليب رغباتنا على مشيئة الله بتعارف الأزواج فيما أحله ونرتضي ما حرمه تجنبا لهمز المجتمع ولمزاته؟

وإن قال أحدهم، إنما التعارف من خلال المساكنة والانفصال دون عقد، كالتعارف من خلال عقد النكاح والطلاق، فهذا القول مثل قول أهل الجاهلية في الربا حين قالوا: {إنما البيع مثل الربا} ورد الله تعالى عليهم {أحل الله البيع وحرّم الربا} [البقرة: 275]، فإنك لو أحكمت قِيَم الزواج ومسؤولياته في كلا الزوجين، فإنه الطلاق لن يتكرّر كما يتضاعف الربا وكما تتكرر العلاقات المحرمة التي ما إن رست على شريك العمر، تاقت النفس بعدها للتغيير كما اعتادت بين حين وآخر، فلا هي أبقت العهد الجديد بالالتزام، ولا استطاعت طرد ما عهدت من قلوبها.

إلا أنه في حال الطلاق -بعد اختبار مسؤوليات الزواج بنية صادقة- فإن الأزواج المنفصلين سيجدون مرادهم سريعًا بإذن الله، كما أوحت بذلك الآية: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعًا حكيمًا} [النساء: 130]، وقد يعود بعض الأزواج لبعضهم البعض، فـ {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]، إن كان هذا الأمر للزوج، فأين هو المجتمع من هذا الإحسان للمطلقات؟

فطرة الحياة بين الرجل والمرأة

أما التعدد، فلا بد هنا من مقدمة مختصرة في الحكمة من ورائه ودوافعه، قبل استعراض التشويه الممارس ضده، فقد اقتضت مشيئة الله –سبحانه- خَلقَ الذكر وجعله واهب النطف بينما كانت الأنثى المستقبِل الذي يحتضن هذا اللقاح في سبيل حفظ النسل البشري، فقد كانت أعداد البشر وبالأخص المواليد معرّضة على مرّ العصور للأمراض والأوبئة والحروب والكوارث الطبيعية وغيرها، فكان من الطبيعي أن يقترن الرجل بأكثر من امرأة تجنّبًا لتعطيل قدرته على الإخصاب خلال فترات الحمل والرضاعة الطويلة.

وبما أن الرجل عقلاني بالدرجة الأولى ليقدر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه حال اقترانه بامرأة جديدة، فقد كانت غريزته المرتبطة بالتناسل هي الدافع الأقوى لاتخاذ هذه الخطوة دائمًا، فقد جبل الله تعالى فطرة الرجل على خلاف فطرة المرأة في أمور كثيرة حتى يتحقق التجاذب بين الطرفين، وبالوقت نفسه تعينه خصائصه وتكوينه على تحمل مسؤولياته بفاعلية أكبر من الطرف الآخر. ومن هذه الأمور، اختلاف علاقة الحب بالجنس عند الزوجين واحتياجات كل منهما.

فالمرأة -كإنسان يقدم القلب على العقل- تنظر للمعاشرة الزوجية كنتيجة طبيعية لحبها للرجل، واحتياجاتها من الجنس عاطفية أكثر منها غريزية. لذلك تعتبر معاشرة الزوج كمؤشر على حبه لها، حيث تشبع به عاطفاتها الباحثة عن الاهتمام والأمان وتعكس هذه العاطفة على أطفالها ومنزلها، وهو ما يتماشى مع دورها كحاضنة. بينما كان الرجل -كإنسان يقدم العقل على القلب- يمارس الجنس إشباعًا لغريزته وحفظًا لنسله، أما تعبيره عن حبه فيأتي عمليا وبشكل أساسي في تحمل أعباء ومسؤوليات الزواج، فيضحي بجل وقته وجهده وماله لأجل عائلته بعيدًا عن فتن الحياة ومغرياتها، وهو ما يتماشى مع دور رب الأسرة؛ لذلك، لا تتفهم المرأة رغبة الرجل في الزواج مرة أخرى، وتعتبره نوعًا ما تراجعًا في حب الرجل لها، بالرغم من أنه قائم على مسؤولياته بما يحفظ حقوقها ويصون كرامتها.

لنفترض جدلًا أن فطرة الرجل كانت كالمرأة (كلاهما يقدم القلب على العقل) ستكون النتيجة حتمية بفناء الجنس البشري بعد حين من الدهر في ظل الظروف السابق ذكرها وذلك لعدة أسباب.

أولًا: سيكون كلا الطرفين مترددا في اختيار الآخر ومعاشرته، أما ثانيًا: ففي حال كانت المرأة عقيمة، لن يرتضي الرجل ذرية من زوجة أخرى. ثالثًا: إن كانت المرأة تشكو من علة تحول دون المعاشرة، امتنع الرجل عن الزواج من الأخريات. رابعًا: تقل فاعلية الرجل في تلبية احتياجات الأسرة، لأن العواطف الجياشة لا تندمج مع خصائصه من حيث التكوين والبناء العضلي، فلا يستطيع توظيف قدراته الفكرية والجسدية على الوجه المطلوب. خامسا وهو الأهم، تنشأ الأفراد الجديدة في جو مشحون عاطفيًّا بالكامل، محدثًا خللًا في توازن التربية، فينتج نسل جديدٌ غير مستقر عاطفيا ومضطرب عقليًّا.

تشويهُ شرعِ الله

إذًا هذا هو التكوين الأسري الفعال في المجتمع، الصامد أمام العقبات بضمه أفراد جدد، ليستمر في إنتاج أفراد صالحة، مع حفظ مصالح وحقوق كل القائمين على مؤسسة الزواج. فكما هو الحال مع أي مدير ناجح لمؤسسة، قد يأخذ على عاتقه تكوين مؤسسة جديدة، وربما يدمجهما في مؤسسة واحدة، أو يكون قائمًا على مجموعة شركات. مقياس النجاح هنا الإدارة المتوازنة، لذلك فإنه ليس بمقدور الجميع أن يكون على هذا القدر من الكفاءة لتحمل هذه المسؤولية.

لكن صعوبة التطبيق في هذه الأيام، لها أسباب أخرى متعلقة بما ذكرناه في المقال السابق من أفلام ومسلسلات وغير ذلك من أساليب الفن المغشوش، الذي يعمم أفكار شاذة على المجتمع من خلال سرد قصص وأحداث فردية متعللين برسالة الفن. فأي عبرة أخذناها من درس (اكسر رأس زوجتك بزوجة أخرى!) أو (خلفي منه عيّل قبل ما يجبلك ضرة تاخذ نص اللي عنده ويمكن تكوش على كل حاجة)!

لقد بات من الطبيعي أن ينظر المجتمع إلى المعدّد وكأنه أشبه بزير نساء، بينما إن كان الأعزب صاحب علاقات واسعة فإنه سيسوّغ له بأنه يبحث عن زوجة مناسبة. كما يشفق هذا المجتمع المريض على الزوجة الأولى ويعتبرها مسكينة، إن لم يعتبرها ناقصة ومقصرة في مسؤولياتها. حتى أن المصطلحات المستخدمة للتعبير عن هذا الفعل مشينة في معناها “يتزوج عليك!” أو “تنزل على ضرة!” وكأنه ضرر وشر. وفي ظل هذا الانحراف عن غاية الزواج، تعتبر كثير من النساء أن نية الرجل بالتزوج مرة أخرى أشبه بالكفر البواح الذي يهدر بسببه الدم، بل حتى قد يصل الأمر بالبعض، أن يرتضين علاقات أزواجهن السرية طالما أن لا امرأة جديدة ستشاركها في اسم زوجها وماله ولن تتعرض لكلام المجتمع القادح، فليس ثمة مجال للزواج الثاني، فيجد بعض الرجال أنفسهم بين نارين، نار الخوف على النفس من الخيانة الزوجية والمعصية، ونار الغريزة التي لا تكاد تنطفئ حتى تتأجج بكثرة الفتن من حولها.

إنني لا أشجع على استغلال الطلاق ولا أدعو إلى تعدد الزوجات لغير ضرورة، لكني أردت توضيح أن ضوابط الدين الإسلامي وتشريعاته لم تنزل لتضغط على العباد، بل جاءت لتحقق مآربهم بما يتوافق مع مصالح المجتمع ككل، وأن أهواء الأفراد المخالفة للدين تشكل خطرًا على المجتمع. وهذه الأهواء لم نستحدثها، بل فرضت علينا تِباعًا دون أن نشعر، بدءاً من كوميديا الحموات وانتهاءً بكوميديا الخيانات.

إن التغيير للأفضل لن يبدأ بالمجتمع، بل بالأفراد الذين بكثرتهم يميل المجتمع للاستقامة، ولذا يجب أن يأخذ هؤلاء الأفراد خطوة في الاتجاه الصحيح، في وجه الرفض الصريح لما أحكم هذا الدين في أمره.

إن التعدد الآن عرف شبه مندثر بسبب الضغط الذي أوجب ذلك، وهنا ينبغي إعادة النظر في النتائج التي صدرت عن هذا الضغط، وقبل هذا وذاك، ينبغي تربية الأفراد الناشئة على ثقافة جديدة للزواج مستمدة من أحكام الدين، والتعريف بأهدافه ومسؤولياته بعيدًا عمّا يصوره الإعلام.

إن طبقنا هذه الثقافة من الأساس وأحيينا هذا العرف في المجتمع، أصبح من السهل الالتزام بضوابط الدين، وعادت المروءة للمجتمع الإسلامي وأصبح كالحصن المنيع أمام فتن الحياة ومؤامرات الغرب، تتربى داخله أفراد مصلحة لشؤون حياتها الاجتماعية كافة دون تدخل سافر، تعتز بإسلامها ويعتز الإسلام بها.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد