مقالات

مسؤولية الاستحقاق .. قف وارجع للأرض!

أبتدئ هذا المقال بقوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] وأنسلّ من هنا لأشير إلى أن انتشار الفردانية في مجتمعنا أدّى لانتشار مبدأ الاستحقاقية الذي أصبح البشر يتعاملون به مع رب العالمين! فنرى أحدهم يقول: “يا رب أنا لا أستحق هذا!” “يا رب ماذا فعلت لأستحق هذا؟” “يا رب أنا فعلت وسعيت فإنني أستحق هذه النتيجة لمَ لم أحصل عليها!” إلى جانب جُمل أخرى مغلّفة بالزخرف كـ”أنت تستحق الأفضل دائمًا، فكر هكذا وستحصل على حياة سعيدة!”

ويالانعدام مفهوم الحياة الدنيا! وكأن ما فعله الذين كفروا من بني إسرائيل يتكرر اليوم!

المفاهيم انقلبت ونسي العبد أنه عبد، نسي أنه يُسأل ولا يسأل، نسي حقيقة الحياة الدنيا!

من وقع في شباك هذا المبدأ؛ طبيعي أنه سيصل للسخط على رب العالمين، لأن نظرته المشوّهة جعلته يرى الدنيا كفردوس أرضي، وتكون نظرته أنا عملت إذًا -وبشكل طردي- سأحصل على كل ما أتمنى لأني أستحق! متناسيًا أن الحياة هي دار ابتلاء واختبار وليست دار الجزاء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]

لو كانت الدنيا دار الجزاء؛ لكان الأنبياء أحق برغد الحياة، ولكانوا أحق بتحقق جهودهم في الحياة، ولكن الأنبياء يبعثون ومعهم واحد أو إثنين وبعضهم يبعث وليس معه أحد اتبعه!

لو أن الدنيا ستكون رغدًا للمُطيع لكان الأنبياء أولى، ولكنهم أكثر الناس بلاءً!

لو كان الجزاء في الدنيا لكان الصحابة أولى بهذا، ولكن منهم من قضى نحبه قبل الهجرة كسمية وزوجها رضي الله عنهما، ومنهم من قضاه قبل الفتح وقبل أن يرى ثمرة جهاده في الدنيا، ولكنهم علموا أن الجزاء في الآخرة، وأنهم سيجزون على سعيهم لا على النتيجة! {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 39-41]

ولو تأملنا في سورة الصف سنجد أن الله تعالى يخبرنا أن الجزاء هو جنّات عدن، ولكن الأخرى التي تحبونها هي جزاء معجّل لأنه شكور، وليست الجزاء الحقيقي!

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:10-13].

يعبد الله على حرف!

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]

بعض الناس يعامل الله سبحانه وكأنه يمّن عليه بإسلامه، فإن تعرض لمصيبة أو كربٍ أو لم يتحقق له ما كان يطمح له سخط على الله، بل وربّما شكك في وجوده! وهو ما يسمى في العصر الحديث (هشاشة الإيمان) وفي المصطلح القرآني (عبادة الله على حرف) وحرف تعني لغة الطرف والحافة؛ أي كمن يقف على حافة الجبل؛ أي شيء سيوقعه، وهذا من خسِر الدنيا والآخرة.

 من يعامل الله كأنه يستحق لم يفهم معنى العبودية وحقّها، فالله لم يوجب الرحمة على نفسه ولم يشترِ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة لأننا نستحق، بل لأنه هو الرحمن الرحيم الوهّاب الودود اللطيف بعباده، فإن وصلت لمرحلة تفكر فيها ب: أنا لا أستحق كل نعم الله هذه بدلاً من: أنا أستحق أكثر! فاعلم أنك اقتربت من تحقيق العبودية لأن إدراك النعم ورؤية أنك لا تستحقها وإنما هي من فضل الله عليك هو مقام من مقامات العبودية الحقّة.

وهذا الخلل ينشأ من سوء فهم للابتلاءات، فيعتقد الشخص أن الابتلاء هو المصائب فقط والنقص في الأموال والأنفس، رغم أن الله سمّى العطاء ابتلاءً أيضًا {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر:15-17]

فالله سمّى سعة الرزق ابتلاءً، ليرى ماذا يفعل العبد في نعمته، هل سيشكر أم يكفر؟ والله يخبرنّا بأن البسط في الرزق والقدر فيه ليس محددًا لحب الله ورضاه من عدمه، فالله يبسط الرزق لمن يشاء لحكمة، والله يبتلي ويعاقب من يشاء لحكمة.

 ومن الكفران استعمال النعم في معصية الله، ولقد توصّل لهذه الحقيقة النبي سليمان عليه السلام، حينما جيء بعرش سبأ إليه فقال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] لم يقل لأنني نبي وأستحق! بل أدرك أن كل شيء عنده من فضل الله ونعمته وأنه بلاء.

وفي الجهة المُقابلة كان قارون، لمّا فتح الله عليه بالمال قال: {إنما أوتيته على علم عندي} أي أوتيتها لمقدرتي ولعملي ولأني أستحقها! فكفر فخسف الله به وبداره الأرض. وكان هنالك فريقٌ ممن كانت نظرتهم دنيوية مادية بحتة، وفريق ممن منّ الله عليهم بالبصيرة، تأمل بنفسك:

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} [القصص:79-82]

وقد ذكرت بالفعل أننا أصبحنا نفعل كبني إسرائيل، فوجب أن أوضح، فبنو إسرائيل كانوا يقولون إنهم أحباء الله، وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة، وكل هذا وهم لم يقيموا التوراة ولم يتبعوا حكم الله ويعبدوه حق عبادته، بل كان مبدؤهم (الاستحقاق).

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿80﴾ بَلَىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:80-81]

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:18].

ما المخرج إذًا؟

إذا كنت ممّن وقعوا في هذا الشباك فلا تقلق، أول الحلول هو الاعتراف بالمشكلة.

في البداية يجب أن تدرك أن الله مستحق للعبادة والمحبة لذاته ونحن مُلكه، لأنه سبحانه الخالق الذي خلقك ولم تكن شيئًا، يجب أن تدرك أن الله الحكيم، وأنك لن تدرك جل حكمته لأنك مخلوق لست الخالق، ولكنك تؤمن أنه الحكيم والمدبر وإن لم تعلم الحكمة بنظرتك القاصرة، وهذا معنى التسليم {وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُواْ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤۡتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥٓ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَٰغِبُونَ} [التوبة:59]

يجب أن تتأمل بنعم الله حولك وتعمل بالوصية النبوية “انظروا إلى من هو أسفل منكم”

وقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: “عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ.” رواه مسلم.

ويجب أن تدرك مفهوم الحياة الدنيا والنعم والابتلاء، وأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة!

وأن بلاء الله رحمة للمؤمن لكي يطهره من ذنوبه، فعذاب الدنيا لا يساوي مثقال ذرة من عذاب الآخرة.

بل وأيضًا يكون رحمة للكافر حتى يعود إلى الله {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]

وفي الختام وبمّا أنّك عُدت إلى الأرض.. تذكر {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]

فالله قد يختبرك بقدر رزقك، بتأخير في الوظيفة، الزواج، الإنجاب، تعثر في الدراسة، وقد يختبرك ببسط الرزق عليك وتسهيل كل شيء لك، فمعرفتك لهذا تجعلك تحسن التحضير ليوم الجزاء، تجعلك تعرف معنى أن تجاهد نفسك، لأنك {كادحٌ إلى ربك كدحًا فملاقيه} [الإنشقاق:6] يوم تجزى على صبرك وحسن عملك. {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط” حسّنه الترمذي.

الفردوس الأرضي

قد يمتلك الإنسان الكثير من النِعَم؛ الوظيفة الجيّدة، والحياة الغنية المرفهة، فينظر إليه الناس ظانّين بأنّه قد امتلك السعادة كلها، كما جرى على لسان قوم قارون حينما قالوا: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: ٧٩] وهكذا يبدأون في السعي بحثاً عن هذه السعادة المزعومة، وربما حصروها في مالٍ، أو ولد، أو غنىً فاحش، أو أهداف دنيوية يجعلون فيها الدنيا غايةً لا وسيلة أو طريقاً إلى الآخرة.

وحينما يبدأ الإنسان السيرَ في هذه الطريق، يظنُ بأنّ لها نهايةً ما ونقطة تنتهي عندها الحكاية فيحصل على سعادة إلى آخر يومٍ في حياته، وهنا تحديداً وبعد أن يمتلك ما أراد، يدرك بأنّه لا سعادة مطلقة في الدنيا؛ فتلك التي رأت أنَّ أقصى أحلامها ومنتهى سعادتها هو الولد، ستدرك بأنّ هذه اللذة مصحوبةٌ بألم الفقد أو الخوف منه، فتروادها الأفكار المنغصة مراراً، كذا الغِنى والجاه؛ فتجد الحاكم لا يشبع، وصاحب الشهرة لا يتوقف عن طلبها مهما بلغت شُهرته، وكذا من أحبَّ امرأةً فاجتمع بها، علمَ بعد تراخي حبال الشهوة أنّها لم تمنحه جنةّ على الأرض كما كان يظن .

“وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ”
ليتَ الناس يدركون ما تحمله هذه الكلمة، يُدركون حقيقتها ويعملون بها، فيضعون نُصب أعينهم الجنة والنار ويتوقفون عن البحث عن هذا الفردوس المزعوم، فالسعادة قد يمتلكها فاقد البصر إن أدركَ أنّه وفّر على نفسه إثماً كبيراً مما جمعه المبصرون وأنّه موعودٌ بالجنة بفقدهما، وتلك التي تنظر للشاشة متمنيّةً حياة إحدى المشاهير ستُدركُ بأنّهُم متعبون من ركضهم المستمر خلف أزرار اللايك، وبأنّهم يرتدونَ أقنعةً ليستمروا في هذا العالم الوهمي.

وقد يمتلك السعادة الفقير حينما يدرك بأنّه لن يُسأل عن ماله، والمريضُ مهما بلغَ اشتدادُ ألمه إن قرأ “ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ” [صحيح البخاري: ٥٦٤١]،.

(مع عدم نفي تحصيل الأسباب، لكن محاولة تحصيل الرِضا واعتبار حقيقة الدنيا والآخرة)، هنا سيتوقف الناس عن البحث عن النواقص التي في حياتهم، سيبصرون ما بين أيديهم كافّين أعينهم عمّا في أيدي الناس، مطمئنين كعابرِ سبيلٍ يدرك بأنّه سيحين وقت السفر قريباً.

عِش يَومَك
يقولون” البعض يقضي حياته بانتظار أن يبدأها” يتجاوزون مراحل حياتهم واحدةً تلو الأخرى دون أن يشعروا بها، متأملين أنّ ما بعدها أجمل، طامعين في الحصول على لذةٍ وراحةٍ دون توقُّف، لكن من سُنّة الله في خَلقه أنّهُ خلق أجسادنا دنيويةً تحتمل اللذات إلى حدٍّ ما ثمّ تنقلب هذه اللذات إلى أسقام وهموم وربما أمراض قلوب؛ فجمعُ المال دون توقف يؤدي للسرف أو البخل، والركض المستمر خلف الشهرة قد يُصيبه بالكِبَر أو ربما يرى نفسه محورَ الكون، وإدمان المشاهد والعلاقات المُحرّمة قد يوصله لاشتهاء ما ينافي الفطرة السويّة فيميلُ إلى أبناء جِنسه {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف ٨٢] يأتي هنا الدين ليضع حدًّا، ويُذكرّك بأنّك في دار البلاء، لتأخذ من هذه اللذّات بقدر حاجتك، يأمرك بأن تعيش يوماً بيوم، وألّا تكون حريصاً على الدنيا” من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة”. [الصحيح المسند للوادعي ٣٥٨]، وأن تجعلها في يدك لا في قلبك مهما امتلكت منها.

لا تذهَل عن السعادة الصغيرة اليوميّة، عن لذّة الطعام في فمك، عن استشعارِ جلدكَ للهواء، عن أهلِك، وعن جرحٍ صغير أصاب يدك فرممه الله لك خلال أيام دون أن تشعر، عن قلبك الذي يضخ الدم وعن أعضائك التي تعمل بنظامٍ دقيق، عن نملةٍ تحملُ فوقَها ما يفوقُ وزنها بأضعاف ، جرّب دهشة الأطفال بهذه التفاصيل، فالتفكُر إنَّما أُمِرَ به لتأخُذَ شيئاً من نعيم الآخرة، لأنّ النِعمَ تَدُلُ على المُنعِم، ولأننا لا نُدركُ ذاتَ الله وإنّما نُدركُ آياته، فتوقفَ قليلاً من ركضك خلف السعادة المزعومة وعِش سعادةً صغيرةً يوماً بيوم، فـ “ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها”[من شعر طانيوس عبده]، والحلقة الأخيرة لا تكون إلا بعد الحِساب.

يقول الدكتور عبد الكريم بكّار في محاضرة [الحياة الطيبة]: “إنَّكَ لو تأملتَ في حياةِ مُعظمِ الناس لَوجدتَ أنَّ القِسمَ الأوّل من الحياة ينقضي في اشتهاء القسم الثاني، وما يُخبّئُ هذا القسم الثاني من مفاجآتٍ سارّة، أمّا القسم الثاني فَإنّهُ يَنقضي في التَأسُّفِ على القسمِ الأوّل كما يتأسّفُ الشيوخُ على الشباب

ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً       لأُخبرهُ بما فعل المشيبُ

كيفَ السبيلُ إلى السعادةِ والرِضا وأنا لم أبلغ شيئاً إلا تطلّعتُ إلى شيءٍ آخرَ أبعدَ منهُ منالاً، ولم أُحقِق أملاً لنفسي أو للناس إلا اندفعت إلى أملٍ هو أشقُّ منه وأصعبَ تحقيقا، فإذا كان الأمل الذي لا حدَّ له، والعمل الذي لا راحة منه ، إذا كانَ هذا في نظركُم سعادة، فأنا السعيدُ الموفور الحظ ما في ذلك شك، أمّا إذا كانت السعادة هي الرضا الذي لا يشوبه سُخط والراحة التي لا يشوبها تعب والنعيمَ الذي لا يَعرضُ له بؤس، فإنّي لم أذُق هذه السعادةَ بعد، وما أرى أنّي سأذوقُها إلّا أن يأذنَ الله لي في ما بعد هذه الحياة بشيءٍ منها.

{فمن زُحزحَ عن النّارِ وأُدخِلَ الجنّةَ فقد فاز وما الحياةُ الدُنيا إلّا متاعُ الغُرور}[آل عمران: ١٨٥].

فـكُلُّ مافي الدنيا”محنةٌ ومنحة وألمٌ وأمل وصبرٌ وشُكر”.

و أخيراً، يقول صلى الله عليه وسلّم:”لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب”[رواه أحمد والشيخان].