الفردوس الأرضي

image_print

قد يمتلك الإنسان الكثير من النِعَم؛ الوظيفة الجيّدة، والحياة الغنية المرفهة، فينظر إليه الناس ظانّين بأنّه قد امتلك السعادة كلها، كما جرى على لسان قوم قارون حينما قالوا: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: ٧٩] وهكذا يبدأون في السعي بحثاً عن هذه السعادة المزعومة، وربما حصروها في مالٍ، أو ولد، أو غنىً فاحش، أو أهداف دنيوية يجعلون فيها الدنيا غايةً لا وسيلة أو طريقاً إلى الآخرة.

وحينما يبدأ الإنسان السيرَ في هذه الطريق، يظنُ بأنّ لها نهايةً ما ونقطة تنتهي عندها الحكاية فيحصل على سعادة إلى آخر يومٍ في حياته، وهنا تحديداً وبعد أن يمتلك ما أراد، يدرك بأنّه لا سعادة مطلقة في الدنيا؛ فتلك التي رأت أنَّ أقصى أحلامها ومنتهى سعادتها هو الولد، ستدرك بأنّ هذه اللذة مصحوبةٌ بألم الفقد أو الخوف منه، فتروادها الأفكار المنغصة مراراً، كذا الغِنى والجاه؛ فتجد الحاكم لا يشبع، وصاحب الشهرة لا يتوقف عن طلبها مهما بلغت شُهرته، وكذا من أحبَّ امرأةً فاجتمع بها، علمَ بعد تراخي حبال الشهوة أنّها لم تمنحه جنةّ على الأرض كما كان يظن .

“وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ”
ليتَ الناس يدركون ما تحمله هذه الكلمة، يُدركون حقيقتها ويعملون بها، فيضعون نُصب أعينهم الجنة والنار ويتوقفون عن البحث عن هذا الفردوس المزعوم، فالسعادة قد يمتلكها فاقد البصر إن أدركَ أنّه وفّر على نفسه إثماً كبيراً مما جمعه المبصرون وأنّه موعودٌ بالجنة بفقدهما، وتلك التي تنظر للشاشة متمنيّةً حياة إحدى المشاهير ستُدركُ بأنّهُم متعبون من ركضهم المستمر خلف أزرار اللايك، وبأنّهم يرتدونَ أقنعةً ليستمروا في هذا العالم الوهمي.

وقد يمتلك السعادة الفقير حينما يدرك بأنّه لن يُسأل عن ماله، والمريضُ مهما بلغَ اشتدادُ ألمه إن قرأ “ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ” [صحيح البخاري: ٥٦٤١]،.

(مع عدم نفي تحصيل الأسباب، لكن محاولة تحصيل الرِضا واعتبار حقيقة الدنيا والآخرة)، هنا سيتوقف الناس عن البحث عن النواقص التي في حياتهم، سيبصرون ما بين أيديهم كافّين أعينهم عمّا في أيدي الناس، مطمئنين كعابرِ سبيلٍ يدرك بأنّه سيحين وقت السفر قريباً.

عِش يَومَك
يقولون” البعض يقضي حياته بانتظار أن يبدأها” يتجاوزون مراحل حياتهم واحدةً تلو الأخرى دون أن يشعروا بها، متأملين أنّ ما بعدها أجمل، طامعين في الحصول على لذةٍ وراحةٍ دون توقُّف، لكن من سُنّة الله في خَلقه أنّهُ خلق أجسادنا دنيويةً تحتمل اللذات إلى حدٍّ ما ثمّ تنقلب هذه اللذات إلى أسقام وهموم وربما أمراض قلوب؛ فجمعُ المال دون توقف يؤدي للسرف أو البخل، والركض المستمر خلف الشهرة قد يُصيبه بالكِبَر أو ربما يرى نفسه محورَ الكون، وإدمان المشاهد والعلاقات المُحرّمة قد يوصله لاشتهاء ما ينافي الفطرة السويّة فيميلُ إلى أبناء جِنسه {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف ٨٢] يأتي هنا الدين ليضع حدًّا، ويُذكرّك بأنّك في دار البلاء، لتأخذ من هذه اللذّات بقدر حاجتك، يأمرك بأن تعيش يوماً بيوم، وألّا تكون حريصاً على الدنيا” من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة”. [الصحيح المسند للوادعي ٣٥٨]، وأن تجعلها في يدك لا في قلبك مهما امتلكت منها.

لا تذهَل عن السعادة الصغيرة اليوميّة، عن لذّة الطعام في فمك، عن استشعارِ جلدكَ للهواء، عن أهلِك، وعن جرحٍ صغير أصاب يدك فرممه الله لك خلال أيام دون أن تشعر، عن قلبك الذي يضخ الدم وعن أعضائك التي تعمل بنظامٍ دقيق، عن نملةٍ تحملُ فوقَها ما يفوقُ وزنها بأضعاف ، جرّب دهشة الأطفال بهذه التفاصيل، فالتفكُر إنَّما أُمِرَ به لتأخُذَ شيئاً من نعيم الآخرة، لأنّ النِعمَ تَدُلُ على المُنعِم، ولأننا لا نُدركُ ذاتَ الله وإنّما نُدركُ آياته، فتوقفَ قليلاً من ركضك خلف السعادة المزعومة وعِش سعادةً صغيرةً يوماً بيوم، فـ “ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها”[من شعر طانيوس عبده]، والحلقة الأخيرة لا تكون إلا بعد الحِساب.

يقول الدكتور عبد الكريم بكّار في محاضرة [الحياة الطيبة]: “إنَّكَ لو تأملتَ في حياةِ مُعظمِ الناس لَوجدتَ أنَّ القِسمَ الأوّل من الحياة ينقضي في اشتهاء القسم الثاني، وما يُخبّئُ هذا القسم الثاني من مفاجآتٍ سارّة، أمّا القسم الثاني فَإنّهُ يَنقضي في التَأسُّفِ على القسمِ الأوّل كما يتأسّفُ الشيوخُ على الشباب

ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً       لأُخبرهُ بما فعل المشيبُ

كيفَ السبيلُ إلى السعادةِ والرِضا وأنا لم أبلغ شيئاً إلا تطلّعتُ إلى شيءٍ آخرَ أبعدَ منهُ منالاً، ولم أُحقِق أملاً لنفسي أو للناس إلا اندفعت إلى أملٍ هو أشقُّ منه وأصعبَ تحقيقا، فإذا كان الأمل الذي لا حدَّ له، والعمل الذي لا راحة منه ، إذا كانَ هذا في نظركُم سعادة، فأنا السعيدُ الموفور الحظ ما في ذلك شك، أمّا إذا كانت السعادة هي الرضا الذي لا يشوبه سُخط والراحة التي لا يشوبها تعب والنعيمَ الذي لا يَعرضُ له بؤس، فإنّي لم أذُق هذه السعادةَ بعد، وما أرى أنّي سأذوقُها إلّا أن يأذنَ الله لي في ما بعد هذه الحياة بشيءٍ منها.

{فمن زُحزحَ عن النّارِ وأُدخِلَ الجنّةَ فقد فاز وما الحياةُ الدُنيا إلّا متاعُ الغُرور}[آل عمران: ١٨٥].

فـكُلُّ مافي الدنيا”محنةٌ ومنحة وألمٌ وأمل وصبرٌ وشُكر”.

و أخيراً، يقول صلى الله عليه وسلّم:”لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب”[رواه أحمد والشيخان]. 

Author

  • سندس أيمن

    طالبة بكالوريوس في تخصص اللغة العربية، مهتمة بتحصيل العلوم الشرعيّة، ومتابعة لكتب علم النفس من منظورٍ إسلاميّ.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد