مقالات

ظاهرة التعقيد في تصميم المدن الإسلامية القديمة

في كثير من الأحيان نجد ربطًا مباشرًا بين ضياع الإنسان وتشوّش أفكاره وبين الروحانية في بعض الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية الحديثة، ويتجلّى ذلك في اعتماد تصميم مساحات معقّدة ومتداخلة التي يشار إليها بمصطلح المتاهة Maze)) وتوصف في بعض الأحيان بمصطلح ((labyrinth الأكثر توصيفًا في الفلسفة الغربية، مع وجود اختلاف في تطور أنواع المتاهة على اختلاف تأويل فكرة المتاهة والهدف منها.

توضيح لمفهوم الجذمور والفطريات. المصدر: literariness.org

أشير لهذه المصطلحات في الأدب والفلسفة الغربية الحديثة بكثرة، كما نرى عند الفيلسوف جيل دولوز وعالم النفس فيليكس غوتاري، اللذان طوّرا المفهوم الفلسفي للـ “جذمور” (تعدّد الوجوه في إطار الجذر الواحد) في مشروعهما للرأسمالية والفصام (1972-1980)، فوفقًا لدولوز وجوتاري، فإن ثقافة ما بعد الحداثة تشبه “الجذمور” [مصطلح في علم النبات يقصَد به الجذر المتفرّع] أكثر من الشجرة.

إن الجذمور أو الفطريات كائن حي من ألياف حية مترابطة ليس لها نقطة مركزية أو أصل مؤكّد، ولا شكل أو وحدة أو بنية معينة. لا يبدأ الجذمور من أي مكان أو ينتهي في أي مكان؛ بل ينمو من كل مكان، وعلى هذا النحو، فإنه لا يوجد للجذمور مركز، مما يجعل من الصعب اقتلاعه أو تدميره(1)؛ لأن “الجذور” ليس لها بداية أو نهاية؛ إنه دائمًا في الوسط، بين الأشياء، فهو اللحن الفاصل كما أنه نقطة البداية، فالحركة المستمرة من الجذمور تقاوم التسلسل الزمني والتنظيم، وبدلاً من ذلك فإن الجذمور يفضل نظام الترحّل للنمو والانتشار.

الجُذْمورُ وشتات ما بعد الحداثة

قد يكون هذا الشرح مناسبًا لمفهوم الهوية الفردية والجمعية للثقافات المختلفة في عصر ما بعد الحداثة، وقد يكون الجذمور الوجه الأمثل لتشبيه المقاومة الحاصلة لرفض التمركز الحاصل في الحداثة، وأيضاً يمكن التخمين أنه قد يكون رد فعل لمن لا يعرفون تاريخهم أو لا أصل واحد محدد لهم. فيكون جوهر وجود هؤلاء الأشخاص مبنيًّا على ربط الظواهر وتفسيرها اللحظي والتأقلم مع اللحظة الراهنة.

لقد أعطت الحداثة صورة شمولية للواقع بغض النظر عن السياق أو الظروف، إلا أنه تبيّن أن الوصف لا يغطّي جميع تجارب البشر، وهذا ما دعا بعض البشر إلى تطوير التشابُك الخاص بهم، ليكون مبنيًّا حصراً على التجارب الشخصية والتفاعلات مع البيئة، كما هو حال الجذمور، فيكون هذا التشابك مرتبطًا بشكل مباشر مع التكيّف اللحظي بالسياق الدقيق والخاص، وقد يكون من دون اعتبارٍ مباشر للنظرة الشمولية للواقع.

هل بنيت المدن الإسلامية على نظام المتاهة العشوائية؟

من الممتع حقيقة التوسّع في موضوع الجذمور والظواهر الفكرية القريبة منه، ومن الجميل فهم الواقع بناء على هذه النظرة المتشعّبة، إلا أننا قد نحتاج معرفة نتائج هذه الفلسفات قبل ربطها بأنماط محددة، فمثلاً نجد الربط الدائم ما بين مفهوم المتاهة labyrinth وبين تصميم المدن الإسلامية القديمة لدى بعض المستشرقين أو الناقدين(2)، وبالرغم من أن تصميم المدن القديمة كان معقداً ومتداخلاً بالفعل، إلا أن هذا لا يعني أن ذلك التعقيد والتداخل نابع عن العشوائية كما في حال ما بعد الحداثة أو مفهوم الجذمور، بل لأنها مصممة على نمط معيّن من المدن الإسلامية، بل إن المدن الإسلامية بريئة من ربطها بالعشوائية!

وأيضاً قد يكون هذا المنحى عند الربط بين ما هو طبيعي وعفوي وبين ما هو بدائي. فمع أن الإسلام مبني على الفطرة والطبيعة الأصلية للبشر، إلا أنه ينبغي التأكيد أن الإسلام لا يقبل أن نكون بدائيين، وبذلك فإن الواقع الإسلامي لا يكون مبنيًّا فقط على حالة البداوة بمعناها البسيط من حيث الاستجابة المباشرة للواقع دون تخطيط، بل إنه يطلب منا أن نتخذ القرار بشكل تنظيمي وغير عشوائي.

جمعت الحداثة الغربية كل ما هو غير (حديث) –بالمعنى الاصطلاحي- في خانة واحدة تحت مسمى (exotic) أي الغريب والشاذ وغير المألوف، وبهذا فإن تصميم المدن الإسلامية قد يكون متشابها مع المتاهة كما في تصميم المقابر الأوروبية القديمة، أو المتاهات الشيطانية المستوحاة من الأساطير اليونانية.(3)

مسقط رأسي لأحد أحياء المدن الإسلامية القديمة. المصدر: urbanplanningschool.blogspot.com

أين الإنصاف في هذا الادعاء؟

إلا أن التأكيد على أن المقصود بهذا التصميم هو العشوائية فإنه أمرٌ غير دقيق وبعيدٌ عن الإنصاف، وقد أفاض البروفيسور مصطفى بن حموش في الحديث عن ظاهرة عدم إنصاف المستشرقين في ربطهم المدن الإسلامية بالعشوائية وخضوعها للتصرفات الآنية للأفراد، وعدم وجود نظام هندسي تقوم عليه(4) فأكد بطلان الربط بالعشوائية، حيث إن العمران هو وعاء تتشابك فيه حقوق الأفراد والجماعات وتتدافع فيه المصالح(5).

إن الكثير من الأشكال الهندسية المعقدة يمكن تفسيرها عبر التفاعل بين الأحكام الفقهية والمعطيات المتميزة لموقعٍ ما في المدينة، وذلك مثل استقبال القبلة، والتعلّي في البنيان، ومنع التكشّف وغير ذلك مما نجده من مسائل في كتب الفقه الإسلامي والنوازل والفتاوى(6).

ومن الجدير بالاهتمام أن نرى العمران الإسلامي من منظور آخر، فيكون أخذ قرار في البناء أو الهدم أو التعديل أشبه بإصدار فتوى شرعية مناسبة لذلك السياق، حيث إن من فقه العمارة الإسلامية الاعتماد على مبدأ نفي الضرر.

لكن السؤال هو: هل المعماريون المسلمون الآن مؤهّلون لإصدار هذه الفتاوى؟

بالرجوع لمفهوم المتاهة في البناء فإننا نرى أن المتاهة نتيجة وليست منهجًا، ومن هنا فقد يكون الاطلاع على مخططات وخرائط المدن الإسلامية القديمة مرجعًا مهمًّا لحل شيفرات كثيرة، ومعرفة كيف توصلوا لهذه التصاميم المعقدة، وهذا الأمر –كما يرى مالك بن نبي (7)- إن تحقق فإنه سيعيننا في إدراك ميكانيكية الظاهرة وتصوّر المنهج.


المراجع:

  1. المفهوم الفلسفي للجذمور: https://cutt.ly/jvZ5rKF. تاريخ الزيارة 23/04/2021
  2. في كتاب للباحثة سمية فلاحات، والذي هو رسالة بحثية تجمع بين الاستشراق والاستغراب، ولعلنا نخصص لها مقالًا منفصلًا. Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin
  3. مقال عن أساطير يونانية وعلاقتها بمفهوم المتاهة. https://www.worldhistory.org/Daedalus/. تاريخ الزيارة 23/04/2021
  4. د. مصطفى بن حموش، فقه العمران الإسلامي من خلال الأرشيف العثماني الجزائري، دبي، 2000، دار التراث وإحياء التراث، ص 7
  5. المصدر نفسه. ص 29
  6. المصدر نفسه. ص 30
  7. مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر، ص 62

الإنسان بين السوبر واللامبالاة!

يتسارع عصرنا بكل تفاصيله، ولا يبدو أننا سنرى مخرجًا من أفكار هذا العصر إلا بالعودة للأصول، في ظل السعي المرهق للوصول إلى الإنسان “الأعلى” أو السوبر، الذي يستنفد جهده وروحه..

وهنا قد يسأل سائل: هل السعي للكمال خسارة؟!

سنعرّج على جواب هذا السؤال، عندما سنحلل أسباب السباق اللاهث، وطريقة ترتيب الأولويات، إلا أننا الآن سنقف عند جذور هذه الفكرة وتطوراتها، والمقابل لها في دين الإسلام.

نيتشه وفلسفة السوبرمان

الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، هو أحد ثلاثة فلاسفة تأثروا بفلسفة كانط، كان قد طالب بنوع جديد من الناس، وهذا النوع هو الإنسان الأعلى أو الإنسان المتفوق (Superman) أو الأوبامنش.

نيتشه

نيتشه

يذكر نيتشه في كتابه (هكذا تكلّم زرادشت) مقتبسات وشذرات فكرية تجسد دعوة رجل الدين الفارسي زرادشت الذي نزل يدعو الناس إلى الإنسان الأعلى (Superman)، أي الأرقى والأشجع من الإنسان الحالي والذي عايشه نيتشه.

عمومًا فالكتاب عبارة عن رواية أدبية بث فيها نيتشه أفكاره على لسان زرادشت، وقد اشتهر عن نيتشه أنه أعلن إلحاده، وأنه سعى بعد ذلك لإيجاد البديل عن الإيمان بالله، فجاء بفكرة الإيمان بالإنسان الكامل “السوبرمان” وجعلِه إلهاً جديداً للإنسانية.

يقدّم نيتشه في كتابه فكرة أنّ على الإنسان أن يكون شجاعاً وأن يعتاد الاعتماد على نفسه في كل الأمور مستبعدًا بذلك فكرة التوكّل الكلّيّة على الله، إذ ليس ثمة أحد قادر على مساعدة الإنسان لنفسه إلا نفسه، ومن ثمّ يدعوه لقطع الاعتماد على الله.

إن الإنسان بنظر نيتشه يجب أن يكون أشبه بشخص خارق ضدّ الصدمات من الناحية النفسية، إذ بنظره ليس بالضرورة أن يكون الأوبامنش أو السوبرمان قويًا جسديًا ولا ذكيًّا للغاية، ولكن من المفترض أن يكون السوبرمان متفوقًا نفسيًا، بأن يتمتع بنفسية غير قابلة للكسر.

يرى نيتشه أنّ واجب الحضارة هو خلق إنسان جديد، وهو الإنسان الأعلى (Superman)، أي الإنسان الصلب القوي والشجاع الذكي، والمستقل أخلاقياً عن القيم الدينية القديمة.

أين الخلل؟

ليس من المستغرب أن يتبادر إلى الذهن تساؤل عن مكمن الخطأ في هذه النظرية التي قدّمها نيتشه، ولربما نجد أحدًا يوائم بين هذه النظرية وبين السعي للكمال، ألا يتفق مع المفهوم الذي طالبَنا به شرعنا الحنيف بالسعي للكمال والوصول لنسخة أفضل منّا؟ ألا يتفق هذا الأمر مع المقولة المنسوبة للشيخ محمد الغزالي: (لا تقل اللهمّ خفّف حِمْلي، ولكن قل اللهمّ قوّ ظهري)؟!

إلا أن الجواب على ذلك، هو أنّ شرعنا الحنيف يدعونا إلى الرحلة نحو الكمال، حيث تستوجب منا الاعتماد على ركيزتين أساسيتين:

الركيزة الأولى: علاقة الإنسان بخالقه عزّ وجلّ، أما الركيزة الثانية: علاقة الإنسان بنفسه وبما حوله.

وقد كان هناك محاولات على مرّ العصور بالانسلاخ من أحد هاتين الركيزتين إلا أنّ من حاول حظي بمسيرة ونتيجة ناقصة.

ولا بدّ لمن فَقِهَ الركيزة الأولى وامتثَلَ لها على نحو صحيح أن تتولّد عنده الركيزة الثانية وفق منهج قويم.

محمد الغزالي

محمد الغزالي

وبالمقابل فإن في كلمة الشيخ الغزالي آنفة الذكر رسالة لطيفة لصاحب الهدف وهي أنّ الله لا يضع الثمار على غصن ضعيف، وإنما يضع الثمار على شجرة يؤمَل منها الخير، لذلك كان هذا القول دعوة للجدّ والمثابرة لا لجلد الذات ولا للسعي الماديّ المتجرّد من الروح، وهنا تكمن المفارقة بين نظرية نيتشه وهذا القول على سبيل المثال.

فنيتشه يدعو إلى شخص لا يعاني ولا يتألم، فهو يجرّد الإنسان من مشاعره ويجعله حائطاً أصمّ لا يُرى إلا التفوق، رغم أنّ التفوق يكمن في الرحلة ذاتها لا في الوصول، والتفوق يكمن بالحفاظ على التوازن بين الروح والجسد، فلا قيمة لأهداف خالية من الروح، ولا مدد لمركب لم يكن اللهُ وجهته الأساسية.

بين الإنسان السوبر والإنسان المسلم

إن جئنا لأشرف خلق الله سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم فإننا سنجده خلال رحلة الدعوة قد واجه الكثير من المحن والصعوبات، ولكن النقطة الأساسية هنا والتي يجب أن نبني عليها الاتجاه هو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم ينطوِ على ذاته ويكفّ عن المحاولة، كما أنه في الوقت ذاته لم يطالِب من حولَه بأن يتجرّدوا من شعورهم في سبيل الوصول للتفوّق الذي يؤذي الروح، بل جعل الروح والعلاقة مع الله تعالى هي الأساس الذي تُبنى عليه ولادة الإنسان المتحلّي بالقيم والفضائل ومعمر الأرض بالخيرات.

فكان أن ربط النبيّ صلّى الله عليه وسلّم همّة الرعيل الأوّل بعزيمة ربّانية، لأنّ الذين يربطون جهدهم بتحقيق إنجازات محدودة فحسب يصيبهم الخور كثيرًا، وتجدهم كثيرًا ما يحتاجون إلى بداية عزم جديد، وقد تنكسر منهم العزائم، وتسكن إرادتهم بعد حدوث إنجازاتهم المحدودة، أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد تعمَّد أن يربط إرادة أمته وعزائمهم بربهم، فكان اعتمادهم عليه سبحانه هو مصدر قوتهم، وتوكّلهم على قدرته هو المثبِّت لعزائمهم، فيقول في حديثه صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله يحبّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفْسَافَها) [حديث صحيح: الصحيح الجامع]

بينما ألقى نيتشه على الإنسان ثقله الماديّ وجرّده من الجانب الرّوحي، مع العلم أنّ الجانب الرّوحي هو البراق الذي يعرج بالإنسان نحو سماوات الفضيلة والفهم والإدراك.

السوبرمان

ونجد هذا المعنى الأنقى، والتوجيه الأرقى جليّاً في محادثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع الصحابي خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه، عندما جاء خبّاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يشتكي من أذى قريش لهم قبل الهجرة قال خبّاب رضي الله عنه: (شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) [أخرجه البخاري].

إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم لم يطالب خبّاب بأن يكون سوبرمان، ولم يقل له أطلق العملاق الذي في داخلك، ولم يستغرب ضعفه وضعف المسلمين، ولم ينهره لبثّه الشكوى! وإنّما مرّر له مراده بتذكيره بمن لاقى الأشدّ فصبر.

لقد راعى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم جانب الضعف الإنساني وطالبهم بالصبر، ثمّ طمأن قلب خباب بأن ذكّره بالرّابط الأهمّ وهو الله تعالى؛ إذ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر) فربطه بالله ولم يربط إتمام الأمر على عاتق الأفراد، فالمطلوب من الإنسان السعي والتوكّل على الله تعالى.

 

الاستغراب.. أنواعه ومشكلاته والدافع لدراسته

لن يكون صعبًا أن يلاحظ المتابع عمومًا للقضايا الثقافية أن الاستغراب هو نقيضٌ للاستشراق بشكل ما، لكن سائلاً قد يقول: لماذا ندرس الغرب؟ وكيف لنا أن ندرس هذا العالم الذي سبقنا بمراحل عديدة أو بعدة قرون؟

إن الأمر ليس صعباً أو مستحيلاً؛ فإننا إذا رجعنا إلى بداية الدعوة الإسلامية وجدنا أن المسلمين الأوائل حينما خرجوا لنشر الدعوة الإسلامية في العالم كانوا على معرفة بعقائد وعادات وتقاليد الأمم الأخرى، وكانوا يعرفونها سياسياً واقتصادياً وجغرافياً، ولذلك فإنّ المسلمين الأوائل لم يجدوا صعوبة في التعرُّف على الشعوب الأخرى والتفاعل معها وأخذ ما يفيدهم مما لدى تلك الأمم من وسائل المدنيّة، إذ أخذوا الديوان والبريد وبعض الصناعات المهمة مثل صناعة الورق التي طورّها المسلمون حتى أصبحت صناعة إسلامية.

الاستغراب ظاهرةً وعلمًا

قد يعني الاستغراب ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة، يتميز الأفراد الذين يجسّدونها بالميل نحو الغرب والتعلّق به ومحاكاته. وإذا أردنا تعريف الاستغراب بوصفه علمًا: فهو الاختصاص الذي يهتم بدراسة الغرب من جميع النواحي العقدية والتشريعية، والتاريخية والجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

ربّما كانت أهم الأسباب التي جعلت العرب يتجهون بأنظارهم إلى الغرب، ضعف الانتماء الإسلامي، وتردّي الحالة العربية سياسيًّا وتنمويًّا؛ كلّ ذلك كان يدفع بقوة إلى مراجعة الذات ووضع اليد على المشكلات، والبحث عن الحلول؛ في سبيل نهضة الشرق، وتأكيد الهوية.

وقد اتّخذت محاولات استنهاض الشرق أشكالا عدّة، ولعلّ دراسة أحوال الأمم المتقدمة المتطورة كان أحد هذه الأشكال، حيث اتجهت أنظار بعض المفكرين إلى الغرب، بوصفه آخذاً بزمام التقدم التقني والعلمي للحضارة المعاصرة؛ وذلك للإفادة من تجربته في التطّور والتقدم الذي أحرزه في معظم الأصعدة.

ولو رجعنا بالزمن قليلاً إلى الوراء لوجدنا أن الاستشراق الذي مارسه الغرب خلال تاريخ طويل ومسارات مختلفة، قد ضمن له السيطرة والتفوق المادّي والعلمي على الشرق، بحيث كان الغرب هو الدارس، والشرق هو المدروس، والغرب هو الفاعل، والشرق هو المفعول- على حد تعبير بعض المفكرين- حتى أصبح الشرق فيما بعد مجرّد منفّذ لسياسات الغرب ومخطّطاته، ومستهلكٍ لمصنوعاته ومنتجاته.

صورة تعبر عن الاستشراق السابق للاستغراب

كيف ندرس الغرب؟

لا بد من التخطيط الفعّال في هذه القضية إن أردنا أن ننجح حقاً في معرفة الغرب والإفادة من المعطيات الإيجابية للحضارة الغربية. ويحتاج هذا الأمر إلى تضافر الجهود والتأسيس الرسمي المتين لذلك، أو لمراكز عديدة في الجامعات العربية والإسلامية تنسق فيما بينها المشاريع لوضع الخطط اللازمة لهذه الدراسات ونشرها. ولكن حتى يتم ذلك لا بد من التفكير في الطريقة المثلى لهذه الدراسات.

لقد تفاوتت مواقف المسلمين حيال هذه القضية، وربمّا أخذت البعض العزّة بالإثم، فرأى ضرورة رفض الغرب وحضارته رفضاً مطلقاً، والإبقاء على دينه في إطار ضيق، ووجد أنّ العزلة عن الآخرين هي الحلّ الناجع، ودعوة الإسلام مقصورة على حضور الجامع!

وربما استعلى البعض الآخر، فرأى أن الله قد سخّر الغرب لخدمة الشرق، فلا ضير حينها أن نأخذ منه في دنيانا ما نعمّر به آخرتنا، حيث سوّغ تخلفه وضعفه بنظرة دينية تنطوي على سذاجة بالغة، وكأن الله تعالى لم يأمرنا بالأخذ بالأسباب بقوة والسعي في الأرض لبناء الحضارة!

وربّما انساق البعض الآخر نحو الغرب، فانخلع من بيئته، وتجرّد من ثقافته، ورأى في الحضارة الغربية قدوة يحتذى بها في جميع المجالات، حتى أنّه غدا يتفاخر في كتاباته باقتباس مقاطع من كلام الغربيين، ولكأنها نصوص مقدسة، تضفي على كلامه صفة العلم الرفيع والفهم الشديد!

وربّما توجس البعض الآخر خيفة، فرأى في الانفتاح على الغرب آثاراً سيئة على الفرد المسلم؛ بل المجتمع برمّته، حيث إنه يضعف التمسك بالثوابت الاعتقادية، ويذيب الهوية الدينية، وكأن الانفتاح على الغرب يعني بالضرورة تبني أفكاره واعتناق معتقداته.

خير الأمور الوسط

إلى جانب ما تقدم، نجد بعض العلماء يحاولون دراسة الغرب دراسة واعية، فيأخذ منها النواحي الإيجابية التي تفيد الشرق في مسيرته نحو التقدم، فالحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحقّ بها، هذا من جانب، ومن جانب آخر يكشف النواحي السلبية في الغرب التي لا تقبلها بيئتنا ولا ديننا ولا ثقافتنا.

لعل الموقف الأخير الذي يسعى إلى دراسة الغرب قد أصبح اتجاهاً بارزاً يفرض حضوره في الساحة العربية والإسلامية خاصة والشرقية عامّة؛ نتيجة الصدمة الحضارية التي بلغت أوجها إبّان الحملة الفرنسية على مصر(1798-1801م)، حين رأى شيخ الأزهر -آنذاك- حسن العطار(1250ه-1835م) بعد اقترابه من علماء الحملة الفرنسية أنه لا بد من دراسة الغرب، وما وصل إليه من علوم ومعارف، للحاق بركب الحضارة ، فظهرت بوادر تأسيس علم جديد يسمى (علم الاستغراب) في مقابل علم الاستشراق، وما يزال إلى وقتنا الحاضر في طور التأسيس، مع خلاف قائم-إلى الآن- بين من يعدّه علماً، و من يعدّه مجرّد حركة، ومن يعدّه ظاهرة.

لوحة عن نابليون بفترة الحملة الفرنسية على مصر، وهي بداية دراسة الاستغراب

ومن الإنصاف القول: بأن المستغرب حين يدرس الغرب، فليس ضرورياً أن يكون هدفه طمس معالم الحياة الدينية والثقافية، وحمل المجتمع على تقليد الغرب، -وإن كان ذلك قد نتج -عن قصد أو غير قصد- من فعل بعض المستغربين؛ بل إن هدف الاستغراب كعلم -لا كظاهرة- مواجهة ظاهرة التغريب والتبعية للغرب.

مشكلات الاستغراب

على أيّ حال فإن الاستغراب ما يزال يعاني من مشكلات عديدة ويواجه تحديات مختلفة، كمشكلة التخلف، حيث يرفض عدد من المفكرين وصف الاستغراب بالعلم؛ لأنّهم يرون أن التخلّف الذي يعيشه الشرق مانع من قيام هكذا علم، فهو يحتاج إلى كثير من الأدوات المادية والمعرفية لتأسيسه ونشره، إضافة إلى أنه اختلافه عن الاستشراق من حيث الظروف؛ إذ إنّ هذا الأخير قد نشأ في بيئة متقدّمة علمياً ومادياً، مما سهّل من ظهوره كعلم.

ومن التخلّف تبرز مشكلة التبعية حيث إنّ عدداً من المستغربين قد خطّوا لأنفسهم مناهج تماثل أو تقارب مناهج المستشرقين،بل ربما تبنّوا أفكارهم في عدد من القضايا. وهذا ما يدعو إلى التساؤل عن مدى استقلال المستغربين في دراساتهم أو تبعيتهم للمستشرقين. إلى غير ذلك من تحدّيات ومعوّقات تقف في طريق الاستغراب.

  ولئن حاول بعض المفكرين التغلّب على هذه المشكلات، إلا أنّ الحلول المطروحة لم تفلح- إلى حد الآن- في صياغة تطوّر كامل لما يمكن أن يسمّى علم الاستغراب.

مجالات الاستغراب ووسائله

لقد تنوّعت مجالات الاستغراب، فهناك استغراب اجتماعي، يدرس بيئة المجتمع الغربي وعاداته وتقاليده، وعلاقاته الأسرية، والتفرقة العنصرية والجريمة وغيرها من الظواهر الاجتماعية.

وثمّة أيضًا استغراب اقتصادي، يبحث في النظم الاقتصادية للدول الغربية، وناتجها المحلي، وأسواق الأوراق المالية، ومعدّلات التضخم ومستويات المعيشة والعمالة وغيرها من الأحوال الاقتصادية.

وهناك استغراب سياسي، يدرس النظريات السياسية الغربية، ويحلّل الأنظمة السياسية الحاكمة في دول الغرب، وسلوكها السياسي وأثرها في المجتمع، كما يبحث أيضاً في تاريخ الفكر السياسي، والحريات العامة وحقوق الإنسان وغير ذلك من علوم السياسة.

وثمّة استغراب ديني، يتناول الاعتقادات الدينية الشاذة في الغرب، والشعائر والعبادات والطقوس والقيم الأخلاقية المّتصلة بها، والكتب المقدسة، والحركات أو الطوائف الدينية في الغرب.

ولعلّ هذا النوع الأخير من الاستغراب يعدّ من أعظم مجالاته خطرا؛ لأنّ الدين هو الذي يشكل هويّة الأمة ومصدر إلهامها الذي يطبع جميع مظاهر الحياة، وبكل تأكيد فإن هناك أيضًا أنواع عديدة أخرى من الاستغراب.

وهذا التنوع في المجالات يستوجب تعدد الوسائل التي تعين المستغرب في أداء مهمته، ومن هذه الوسائل: إرسال البعثات العلمية إلى بلاد الغرب، لدراسة علومه وثقافته وبيئته ودياناته.. إلخ.

هذه الوسيلة تعد أبرز الوسائل التي اعتمد عليها محمد علي حاكم مصر، إذ ابتعث عدداً من طلاًب الأزهر إلى فرنسا، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي؛ للقيام بمهمة الاستغراب، إلا أن أثر تلك البعثات جرّت على المسلمين نقل عادات الغرب وأفكاره وتطبيع الشعوب بها، ومن الوسائل أيضا الترجمة حيث يمكّن لمراكز الترجمة أن تضطلع بمهمة الاستغراب؛ من خلال نقل التراث الغربي إلى اللغة الأمّ، ثمّ يقوم المختصون بدراسته وتحليله ونقده.

ختاماً: لا بدّ من القول: إنّ البحث في الاستغراب يقي من الصدمة الحضارية، التي قد تظهر عند الاطلاع على حضارة الغرب، فهو عامل من عوامل تحويل ردّ الفعل تجاه الغرب إلى فعل نافع، وذلك حين يدرس الشرق حضارة الغرب دراسة واعية، فيأخذ منه ضالّته من الحكمة، وفي الوقت ذاته ينقد الغرب وثقافته وبيئته.

وكذلك يساهم الاستغراب -إذا كان موضوعيًّا- في ردم الهوة بين الشرق والغرب، الأمر الذي يؤصل للحوار والجدال بالتي هي أحسن بين الشعوب والأمم المختلفة. بما يمكّن من تلافي الصراع بين الحضارات.


المصادر والمراجع:

  • نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب: محمد إلهامي، دار التقوى، القاهرة.
  • أخطاء المنهج الغربي الوافد في العقائد والحضارة واللغة: أنور الجندي.
  • حوار المشرق والمغرب: دكتور حسن حنفي.
  • من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: أحمد الشيخ، القاهرة.
  • حوارات في علم الاستغراب: مجموعة من المفكرين والباحثين، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية.
  • كنه الاستغراب: د. علي إبراهيم النملة.

محاكاة الطبيعة وتسليع الإنسان في العمارة

من النتائج الجيدة للحداثة هي اعتراف الانسان جزئيًّا بأنّه ليس المسيطر على كل شيء، إلا أن هذا الاستنتاج لم يكن كافيًا للإنسان حتى يكون تواضعه لله، وإنما لقوى الطبيعة، ومن ثم قرّر المعماريّ جعل عملية اتخاذ القرارات في التصميم تابعة لما تريده (الأم الطبيعة) –كما يقال-، وبالتالي فإن عليه التواضع الكامل والإنصات للصوت العلوي للطبيعة وعدم إبراز الاستياء، وكل من يحاول الاعتراض سيصنّف بأنه جاهل ولم يدرك الغاية الأسمى من عمارة الأرض.

الخط الزمني لأهم الفلسفات والعبارات الرنانة في العمارة*
بعدما تم نقد مبدأ المينيماليزم وأوضحنا أوجه الخلل فيه في مقال (باوهاوس والنمط العالمي الموحد)، حان الوقت لنقد الأوجه المعاكسة له وردات الفعل الحاصلة، والهدف ليس محض الانتقاد ورفض كل فكر جديد، وإنما تبيين مكامن الخلل في هذه الفلسفات التي تضر بالمبدأ الإسلامي الأهم أي “الوسطية” والسعي للوصول إليها، وذلك حتى لا تنجرف ردات فعلنا من خطأ إلى خطأ آخر، كما يجب التنويه أن مصطلح (ما بعد الحداثة) من الصعب تعريفه وتحديد أفكاره الخاصة وتوجهاته أو حتى الفترة الزمنية الخاصة به، كما أن فترة (ما بعد ما بعد الحداثة) متقاربة معها، وفيها تسربات مختلفة لبعض الأفكار والتوجهات، لكن سنوضح أوجه الاختلاف التي أوجبت تحديدها وتفريقها عن فترة ما بعد الحداثة بسبب سرعة التغيرات الطارئة.(1)

*تنويه: التصنيف خاص بهذا المقال وليس له مرجع محدد

العصر تاريخ قول العبارة القائل العبارة بالعربية العبارة بالإنجليزية الأسس الفلسفية لقب الحركة* توجه الحركة فكريًا واجتماعيًا وتنظيميًا**
الحداثة 1947 ميس فان دير روه الأقل هو الأكثر Less is More الانسانوية

Minimalism

التقليلية
اشتراكية
ما بعد الحداثة 1966 روبيرت فينتوري الأقل هو الأكثر ضَجَراً Less is a bore العبثية + العدمية

Maximalism

التكثيرية
رأسمالية وتمهيد للتعددية
ما بعد ما بعد الحداثة 2009 بيارك إنجلز نعم هو الأكثر Yes is More الانسانوية + نظرية الفوضى

Pluralism

التعددية
التعددية: اشتراكية جديدة تحكمها الطبيعة

* تنويه: قد لا يكون هذا اللقب مطلقًا من قبل نفس قائل العبارة، لكنه يلخص مفهوم هذه الحركة وتوجهاتها
** تنويه: من الممكن مثلا استخدام نمط التقليلية في بناء برج عملاق لشركة رأسمالية، لكنه ليس الهدف والأصل من منبع هذه الفلسفة

الماكسيماليزم (الاستهلاكية المفرطة) والمينيماليزم (البساطة المفرطة): قصة صراع بين الرأسمالية والاشتراكية

توضيح للصراع الحاصل بين اتجاهين معاكسين في العمارة. على اليمين روبيرت فينتوري وعلى اليسار ميس فان دير روه

توضيح للصراع الحاصل بين اتجاهين معاكسين في العمارة. على اليمين روبيرت فينتوري وعلى اليسار ميس فان دير روه

ما بعد الحداثة: الاستهلاكية المفرطة: الأقل هو الأكثر ضَجَراً
هذه العبارة من مقولات المعماري الشهير روبرت فينتوري في كتابه (التعقيد والتناقض في العمارة) وقد صنّفت هذه العبارة كردّة فعل للصرامة الشديدة في التصميم، حيث أراد للتصميم والفن أن ينزل إلى مستوى الشارع فيصبح شعبيًّا في مضمونه وشكله بهدف فهمه من قبل الناس، كما روّج لمفهوم “البشع العادي” والتواضع في الحياة للخروج من المثالية شبه المستحيلة في الفن والعمارة، خاصة في عصر السرعة والتغيرات الدائمة.

ومن المفيد التأكيد إلى أن توجهاته الفنية خالية تمامًا من أي سياق تاريخي، ويتم تحليلها حصريًا من أجل قيمتها التركيبية، كما أنه لا يولي أولوية كبيرة للقيمة الأخلاقية في التصميم، فما دام مؤديًا للغرض فهو مقبول كما في كتابه (التعلم من لاس فيغاس) الصادر عام (1972)، كما نُظِرَ لأفكاره على أنها نص تمهيدي لتيارات ما بعد الحداثة في العمارة، على الرغم من إصرار فنتوري باستمرار على كونه معماريًّا حداثيًا(2).

كان لهذا الاتجاه نتائج موازية في عالم الفن والموضة والتصميم من خلال المقولة: الأكثر هو الأكثر والأقل هو الأكثر ضَجَراً. فبالنسبة لآيريس أبفيل المختصة في الأزياء، فإن مقولة: “لا يوجد قواعد” هي القاعدة الذهبية لها، وتتحدث قائلة: لماذا تهتم؟ نريد كسر الأنماط فقط! (3)

 

قد يخطر ببال كثيرٍ منا اليوم، أننا بحاجة للروح الحرة في التصميم، خاصة عندما تبدو المباني السكنية الجديدة كالصناديق التي لا هوية فيها، وذلك يساعدنا على إنشاء “ممالك خيالية”.(4)

 

إلا أن الاستجابات العاطفية لم تكن إيجابية دائمًا، حيث انتقدت أدا لويز هوستابل -ناقدة الهندسة المعمارية الشهيرة في نيويورك تايمز- تيار ما بعد الحداثة بأنه ثقيل اليد ويفتقد الذكاء، كما وصف الناقد اللغوي والثقافي نعوم تشومسكي ما بعد الحداثيين بـ “الدجّالين المسلّحين”، في حين وصف روبرت ماكسويل، العميد السابق للهندسة المعمارية في جامعة برينستون، نظريات المهندس البريطاني جون أوترام بأنها “عمل من أعمال الإرهاب المعماري المطلق”(5)، ويمكن الإضافة على ذلك بأن ما بعد الحداثيين يعتزون بهويتهم المتغيرة بشكل أخرق وطفولي لا معنى له.

التصميم للأقليات في المجتمع في عصر ما بعد الحداثة
مثال آخر لنمط التكثيرية على مستوى الهوية الثقافية والدينية للأقليات، كما في الساحة الإيطالية في لويزيانا، في الولايات المتحدة الأمريكية. حيث أنشئت الساحة للتواصل مع هوية الأمريكيين الإيطاليين في المدينة وتزويدهم بمكان للاحتفال بعيدهم السنوي (سانت جوزيف).

لقد تحقّق الأمر حين أنشئ البناء وتوزعت المساحات على شكل خريطة ايطاليا، كما استخدمت أنماط من الثقافة الإيطالية تعود لحقبات تاريخية مختلفة لإيطاليا، ووضعت بركتان صغيرتان من الماء لمحاكاة البحر الأدرياتيكي والبحر التيراني. مع أن التصميم قد يعجب البعض ويراه مناسبا، إلا أن مفهوم الهوية ليس مختصًّا بالتزييف السطحي لرموز المكان، إذ إن الزائر أو الناظر لن يشعر أنه في إيطاليا عندما يكون توزيع المساحات على شكل خريطة إيطاليا، ولا عند استخدام كل الأنماط التاريخية بشكل مرصوص وفوق بعضه البعض، فهذا تسطيح لمفهوم الهوية.

تصميم لمحاكاة الطبيعة: اللجوء للكهف في مشروع (Amdavad Ni Gufa)
ما نراه في هذه الصورة ليس مجرد كهف أو مكان طبيعي وإنما بناءٌ من صنع الإنسان، وقد تم بناؤه وتصميمه من قبل بالكريشنا دوشي، وهو كبار المعماريين في الهند، حيث صمم هذا المبنى في أحمد آباد عام (1994)، وبُنيَ تحت الأرض وجعل سقفه مكانًا يمكن للزوار المشي عليه والجلوس والتفاعل مع بعضهم البعض، أما الجزء الداخلي للكهف، فانه يستخدم أعمدة غير منتظمة تشبه الرواسب المعدنية، وتوفّر -مثل الكهوف عادةً- ملاذًا متميّزًا من الحرارة في الهند(6).

مبنى Amdavad Ni Gufa

لقد أتاح نمط التكثيرية والمحاكاة مع الطبيعة ظهور فلسفات جديدة تتوجه إلى ما بعد ما بعد الحداثة، حيث نرى وجود توجه واضح وتغير من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، لكن إلى أين يتجه؟

هذا ما سيحتاج منا مقالاً آخر بإذن الله.


الهوامش

(1) تم الاستفادة من مقال (ما بعد الحداثة) على موسوعة السبيل
(2) https://cutt.ly/1h8liui
(3) https://cutt.ly/Eh8loXQ
(4) https://cutt.ly/Lh8lafJ
(5) المرجع السابق نفسه
(6) https://cutt.ly/jh8lYtK

مصادر الصور:

https://cutt.ly/Mh8ljcN

https://cutt.ly/Fh8llnP

https://cutt.ly/th8lz2s

https://cutt.ly/Th8lxL7

https://cutt.ly/qh8lcVY

https://cutt.ly/Ch8lv5Z

https://cutt.ly/4h8lbTh

https://cutt.ly/0h8lnRE

https://cutt.ly/nh8lmZi

المسلمون والحداثة.. بين الانغلاق والانعتاق

كثيرًا ما نسمع في مُجتمعاتنا المُسلمة تكرار كلمة “الحداثة” وأصبح هنالك تصنيف للأفراد حسب إخلاصهم لمفهوم هذه الكلمة، فنجدُ الإنسان الحداثي المُتّبع للقيم الغربيّة والدّاعي إليها، ونجد في المقابل الإنسان الرّجعي والتّقليديّ المُتمسّك بالموروث الدّيني ومبادئه، ومن هنا تبدأ الجدالات والانقسامات داخل المجتمع، ويَنتج عن ذلك صراعٌ حول الهويّة والمبادئ وطريقة العيش، ممّا يجعلنا جميعًا في شتات وفي حيرة من أمرنا، وتضيع الطّاقات والجُهود والأوقات في تبادل التّهم والتّهكّم، بدلاً من التّركيز على أهمّ القضايا والمشاكل الكبرى التّي من خلالها نَستطيع النّهوض بمُجتمعاتنا، ولهذا فإنا بحاجة اليوم إلى معرفة المفهوم الصحيح للحداثة وما هي أبعادها وانعكاساتها داخل مجتمعنا وماذا قدّمت لنا باعتبارنا مسلمين.

الحداثة بين المنطلقات والغايات

عبد الوهاب المسيري

يقول الدّكتور عبد الوهّاب المسيري: “الحداثة هي تنميط للواقع (الطبيعة والإنسان)، وفرض الأحاديّة الماديّة عليه، والهدف من ذلك إدارة وتوظيف الإنسان على أحسن وجه، باعتباره مادة استعماليّة”(1)، فالحداثة إذًا قائمة على الفكر المادّي المُتحرّر من أيّ قيود أخلاقيّة أو دينيّة والهدف منها حُسن توظيف قدرات الإنسان والتّعامل معه على أنّه مادّة خاوية من الرّوح والعقل مع تكْيِيفه لقبول هذا الواقع الجديد من أجل تحقيق التقدّم المادّي في الحياة مع ضمان أريحيّة ورفاهيّة كلّ فرد عن طريق إشباع غرائزه المادّية.

 ومن خلال هذا المفهوم نستطيع أن نستنتج بديهيًّا أنّ الحداثة جزء لا يتجزّأ من الفكر الغربي، ولا غرابة في ذلك عندما نُلاحظ غياب ضرورة الأخلاق في المنظومة الغربية المعاصرة، والانطلاق المعرفي من مُقاطعة الموروث الديني والسعي لعزله عن الحياة اليوميّة، فكانت النّتيجة إباحة الشذوذ الجنسي والتعرّي بدون حدود، وتفشّي العلاقات المحرّمة خارج إطار الزّواج وغيرها من المُمارسات الذّميمة المُخالفة للفطرة الإنسانيّة.

ولنا هنا أنْ نتساءل: لماذا يسعى الغرب لنشر الفكر الحداثي عندنا ولماذا يدعم التيّارات الحداثيّة المناهضة للدين داخل أوطاننا، وهل غايته الحقيقيّة مُساعدتنا في تحقيق التحديث والتقدّم المادي داخل مُجتمعاتنا المُسلمة؟

ضمن الإجابة عن هذه التّساؤلات نقرأ للمُفكّر الفرنسي “أوليفيه روا” قوله:” إنّ أروبا لم تُوفّر جُهدًا لإعاقة الدّول الإسلاميّة من التّحديث، ابتداءً من الدّولة العُثمانيّة، ومحمّد علي إلى الإطاحة بمحمّد مصدق الإيراني، إلى التّرسيم التّعسّفي للحُدود، وكلّ ذلك كان يُعيق قيام دولة مُستقرّة في المنطقة… باختصار: كان هاجس الغرب من دزرائيلي إلى جورج بوش، مُرورًا بـكلمينص وكيسنجر لم يكن ذات يوم قد لعب دور التّحديث في الشّرق الأوسط”(2).

أوليفيه روا

إنّ غاية الغرب إبقاؤنا في حالة صراع وتمزّق وضياع وتخلّف وجمود من أجل إحكام سيطرته على العالم الإسلامي واستنزاف خيراته، لأنّه على علمٍ تامٍ أنّ الأمّة المُسلمة إذا استيقظت من سُباتها فإنّها ستكسر قيود الكُفر والظّلم والشرّ والفساد المُنتشرة في عالمنا اليوم، وعندما فشل الغزو العسكري في تنفيذ مُخطّطات، تم استبداله بالغزو الثّقافي والفكري عن طريق التّرويج للفكر الحداثي، حيث أصبح من بني جلدتنا المُنتمين للإسلام اليوم يَدعون للقطع مع تعاليم ديننا ومبادئه والسّير وراء خطوات الغرب وتقليده بطريقة عمياء في كلّ شيء ظنًّا بأن التقدّم المادي لن يكون إلاّ عن طريق إلغاء تاريخ الأمّة وإقصاء قوانين الإسلام من مُختلف مجالات الحياة.

انعكاسات فكر الحداثة
إن السّؤال هنا هو: كيف كانت انعكاسات هذا الفكر على مُجتمعاتنا وماذا قدّم لنا هذا الفكر الحداثي الغربي في واقع الحياة؟

نعيش اليوم تصدّعًا بين الهوية الإسلامية وقيمها، وبين نمط عيشنا الذي أصبح متأثّرًا بالفكر الحداثي الغربي المُناقض لديننا والدّاعي للتحرّر من تعاليمه، فكانت النّتيجة الضّياع والشّتات فلم نستطع الاستفادة من الغرب، ومن تجاربه في النّهوض بالمُجتمعات، ولم نأخذ منه ما ينفعُنا في مُختلف المجالات، ولم نستطع في المُقابل العيش وفق منهج الإسلام الذّي نؤمن به ولم نحترم شريعته، بل أصبح انتماؤنا إليه بلا روح أو عمل أو التزام، فانعكس ذلك كلّه سلبًا على حياة الأمّة، وجعلها تغرق في ظُلمات الجهل والتخلّف، وقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال لنا:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”(3)، وهذه القاعدة العامّة التّي لا تتخلّف فعندما نبتعد عن ديننا وشريعته فإنّنا سنضلّ الطّريق وما الفكر الحداثي الغربي إلاّ وسيلة لإحداث قطيعة بيننا وبين ديننا.

واليوم، بعد مرور سنوات من التّقليد الأعمى للغرب والتمسّك بمفاهيم الحداثة الغربيّة فإنّنا لم نستطع تغيير واقعنا للأفضل ولم نستطع تحقيق نهضة ثقافية وفكريّة داخل مُجتمعاتنا بل كانت في أغلبها تجارب سلبيّة، وتأكيدًا على هذا المعنى يقول د. برهان غليون –أحد أهم المنظرين الليبراليين العرب- “إنّ حداثتنا تسدّ علينا الأبواب في السياسة والثقافة والعلم والمعرفة والاجتماع والأخلاق، إنّها تنتج قهرًا وعنفًا واستبدادًا أكثر بكثير ممّا تُنتج من حرّيات فكريّة عمليّة، وهي تراكم الفقر والبطالة والبؤس أكثر ممّا تزيد من قدرة الأفراد على الإختيار في تحسين شروط حياتهم الماديّة والمعنويّة، وتُشجّع عمليّات غسيل الدّماغ وصبّ فكر الأفراد في قوالب جاهزة وجامدة أكثر ممّا تنحي العقل المُفكّر والمتأمّل والمُتسائل.”(4).

حاجتنا للحداثة بين الإطار والمهمّة
إذا كانت مظاهر الحداثة لم تنجح في تقديم الحلول عندنا فما هو البديل إذًا، وكيف يُمكننا النّجاح في تغيير واقعنا والنّهوض به؟!

إنّنا بحاجة اليوم إلى صياغة مفهوم جديد خاصّ بنا للحداثة تكون مرجعيّته الشريعة الإسلاميّة، التّي بها نُنظّم حياتنا وبها يستطيع الإنسان المُسلم تغيير نفسه إذا ما بذل جُهده من أجل ذلك، وما جُعل الإسلام ليبقي في الرّفوف بعيدًا عن الحياة ولن نجد أفضل من قوانين ربّانيّة نُقيم بها حياتنا فقد أثبت واقعنا فشل كلّ مُحاولة تحديث بعيدة عن القيم والمبادئ الإسلاميّة.

إننا مُطالبون أفرادًا ومُجتمعات بأن نُعيد إحياء روح الإسلام بيننا في تعامُلاتنا اليوميّة مع الأهل والأصدقاء والغرباء وأينما كُنّا، فالتّغيير الحقيقي يبدأ منّا نحن، ولا ننسى أيضًا ضرورة تنقية تُراثنا الإسلامي من المفاهيم الخاطئة والدّخيلة عليه التّي أصابته على مرّ العصور والعودة لمنابع الدّين الصّافية والاستقاء منها، ولا يكون ذلك إلاّ عن طريق عُلماء صادقين مُخلصين لربّهم لا يخافون في الله لومة لائم.

لا بدّ في هذا الإطار من إعادة النّظر في علاقتنا بالغرب فلنا أن نأخذ منهم ما ينفعنا من تقدّم علمي وإداري ومن تجارب ناجحة في مُختلف مجالات الحياة دون الذّوبان في ثقافتهم، ولنا في التّجربة اليابانية خير مثال حيث قامت نهضتها عن طريق التعلّم والاقتباس من الغرب بعقل واعٍ وناقد يُحافظ على الهويّة والثقافة اليابانيّة، وقد سبقهم في ذلك المُسلمون الأوائل عندما أخذوا العلوم اللازمة للتقدم، وانفتحوا على الحضارة اليونانيّة مع المُحافظة على الهويّة الإسلاميّة، وترك كلّ وافد يعود بالضّرر عليهم، ومن يظنّ بأنّ سبب تخلّفنا هو التمسّك بالموروث الدّيني فقد أخطأ التّقدير، إذ إنّ سبب فشلنا ليس في الإسلام بل في طريقة تفكيرنا وسوء تفاعُلنا مع ديننا وعدم الالتزام بمبادئه، إلى جانب هروبنا من مسؤوليّة العمل والإنجاز والتّغيير والتّضحية، وفي المُقابل اعتيادنا على الكسل والجمود والخمول والضّعف وديننا الحنيف جاء ليوقظ فينا روح العمل والمُثابرة وبذل أقصي الجهد من أجل البقاء في مُستوى الخلافة التّي كلّفنا الله بها.


الهوامش

(1): حوار حول التّراث والحداثة للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، الطبعة الأولى بتاريخ سبتمبر 2015، ص: 115.

(2): المصدر السّابق، ص: 116.

(3):المستدرك على الصحيحين،كتاب العلم، خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، الجزء الأوّل، الحديث رقم: 324، الصّفحة رقم: 284.

(4): حوار حول التّراث والحداثة للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، الطبعة الأولى بتاريخ سبتمبر 2015، ص: 106.  

مغالطات الحداثيين في تناول موضوعات الوحي كمصدر للمعرفة

كثيرًا ما تؤدي الانتقائيّة إلى الوقوع في فخّ التّشتّت وفوضى الوعي، فالبناء العقليّ السّليم يقتضي الانطلاق من مصادر معرفيّة سليمة هي بمثابة المشترك العقليّ بين البشر، كما يقول كانط: “العقل هو أعدل الأمور قسمة بين النّاس”.

والعقل مقيّد بمدخلاته ومصادر معرفته، ولكنّنا نجد أنفسنا في واقع فكريّ هجين بين محاولات رفض ماضي الذّات ومحاولات استنساخ حاضر الآخر.

هذا الواقع يستدعي طرح تساؤل حول (الهويّة) المعرفيّة، والدّينيّة، والفكريّة، والاجتماعيّة، والسّياسيّة، للإنسان العربيّ، وأسباب ضياعها أو تحوّلها لهويّة هجينة محيّرة تكبل الإنتاج والإبداع والنّهوض.

وعلى الرّغم من أهميّة البحث عن إجابة سؤال الهويّة، إلّا أنّ موضوع هذا المقال هو من متعلّقات هذا التساؤل بشكل مباشر، وغير مباشر. وهو الحداثة الغربيّة وأثرها في الفكر العربيّ الذي لا بدّ أن يكون أثرًا مشوّهًا بسبب اختلاف البيئة، والمنهج، والغايات.

ومن أهمّ مستندات الحداثة فكرة مفادها أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه غير مفتقر ولا محتاج لسواه لتدبير أمور نفسه ومجتمعه.
وهي فكرة يؤدي انتقالها إلى الفكر العربيّ -الإسلاميّ خاصّة- إلى الكفر بخالق الكون، ورفض سيادته وقيوميّته عليه. والقراءة النّصيّة في كتب الحداثيين العرب توصلنا إلى محاولات تفنيد فكرة مركزيّة الله، وحصرها في الإنسان من خلال الطّعن بأمرين هما: ذات الوجود الإلهيّ، ووسيلة تواصل الخالق مع الخلق، وهي المعروفة لدينا بالوحي.

ومغالطات الحداثيين العرب بتقليد المنهج الحداثيّ الغربيّ في رفض فكرة الوحي كمصدر معرفيّ ضروريّ للإنسان، هي مجال حديث هذا المقال. على أنّنا لا نغفل عن ذكر جهودٍ عربيّة فكريّة تناولت المنهج الحداثيّ بالنّقد والتّمحيص، وساهمت في محاولة لتأسيس فكر حداثيّ عربيّ أو إسلاميّ منضبط، مع المحافظة على ذات فكريّة مستقلّة تتصل بالماضي بمقدار ما يحتاجه الحاضر، وتأخذ في طريق استقلالها شروطها التّاريخية والقيميّة بعيدًا عن التّبعيّة والماديّة، كما فعل المفكر طه عبد الرّحمن في كتابه “روح الحداثة: المدخل إلى حداثة إسلاميّة”، فجعل مقوّمات الحداثة ثلاثة أمور هي: الرّشد والنّقد، والشّمول. بحيث تفتعل كلّ أمّة حداثتها الخاصّة دون دعوة إلى القطيعة مع التّراث، وإنّما دعوة إلى مبادئ وأسس خاصّة ينبغي تطبيقها للنّهوض بالحضارة الإنسانيّة.

“إنّ علاقة الفرد بتراثه ليست علاقة نظريّة جامدة، ولا علاقة اختياريّة، بل وجدانيّة اضطراريّة. دون أن يقصد من ذلك قبولًا غير منضبط للمنقول، أو رفضًا تامًّا لمنهجيّات نقد التّراث.” [1]

ظهر مفهوم الحداثة بعد مرحلة تاريخيّة مرّت بها مجتمعات إنسانيّة غربيّة اصيبت بظروف بيئيّة لعبت السّلطة الدّينيّة، والسّلطة السّياسيّة دور البطل فيها، وبعد هذه المرحلة تبلورالمفهوم ليطلق على أيّ حركة تدعو إلى الاستنارة الفكريّة، والخروج من الماضي، والنّظر إلى الحاضر بأدوات عقليّة فرديّة.

يشير المسيري إلى مفهوم الحداثة، فيقول: “ثمة ما يشبه الإجماع على أنّ الحداثة مرتبطة تمامًا بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه لا يحتاج إلّا إلى عقله، سواء في دراسة الواقع، أو إدارة المجتمع أو للتّمييز بين الصّالح والطّالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر، مصدر المعنى والقيمة، والتّكنولوجيا هي الآلية الأساسيّة في محاولة تسخير الطّبيعة وإعادة صياغتها ليحقّق الإنسان سعادته ومنفعته، والعقل هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المعرفة.” [2]

كما نجد في مبحث مفهوم الحداثة دلالات فلسفيّة واجتماعيّة مرتبطة بالفعل، فليست الحداثة مفهوم نظريّ، أو آلة فكريّة مجرّدة، بل تؤثر في الفرد بما يغيّر قناعاته وبالضّرورة تغيّر سلوكه أو تبنّيه من جديد.

أمّا مفهوم الوحي فهو واسع ويتفرّع عنه مسائل عديدة، ما يهمّنا هنا هو المفهوم نفسه، فهو وسيلة اختارها الله خالق الكون ليتواصل بها مع البشر، ويعلّمهم بأمور توقّفت عنها عقولهم كإجابة سؤال النّشأة والغاية والمصير. فالمعرفة القادمة من الذّات الإلهيّة الخارجة عن ماهية الكون هي أعلى درجات المعرفة، فمن أدرى بالمخلوقات من الخالق؟

مع التّنبيه إلى استغناء الإله عن الوسائل والطّرق، فمن لوازم الإيمان بأنّه إله، ومن موجبات إلوهيّته أنّه فعّال لما يريد ولا يُسأل عمّا يفعل.

لم تنعكس الحداثة الغربيّة في الفكر العربيّ على استشكال مفهوم الوحي وحسب، بل تعدّت إلى رفض النّظرة الدّينيّة لأصل الوجود وشكّكت في حقيقة وجود الذّات الإلهيّة، وبعثة الأنبياء، والخوض في طبيعتهم البشريّة وإمكانيّة ادّعاء الوحي وهيئاته، والتّشكيك في حجيّة السّنّة، والمطالبات بإعادة قراءة وتفسير النّص المقدّس بما يتناسب مع الواقع الحاليّ مع ضرورة إهمال كل التّفاسير السّابقة إلى آخره من المسائل الدينيّة في الفكر العربيّ، والتي صادمت فكر الحداثة الغربيّة.

لكن حار دليلنا مع كمّ الأفكار المتناقضة بين مفكري الحداثة العرب، وطريقة تناولهم الذّاتيّة لكلّ مسألة من مسائل الدّين غير المتوافقة مع فكرهم الحداثيّ المُقلّد، فبين محاولات التّوفيق ومحاولات الانسلاخ، تضيع المبادئ ويضيع المعيار النّقديّ، وقد يتحوّل إلى مصالح ذاتيّة فرديّة، منطلقها في النّقد الجهل والهوى والرّغبة الجامحة في هدم الموروث، والخروج عن طبيعة التّفكير السّائدة!

“فترى أحدهم  ينعى تعطيل العقلانيّة والبرهانيّة في تاريخ الفكر العربيّ لصالح عرفانيّة الغزالي التي أفضت إلى غيبوبة العقل برأيه، ثمّ تراه في سياق آخر يستدعي نصًّا صوفيًّا للنّفري مشيدًا بشعريّته العالية ورؤيته الكونيّة، ويراه مثالًا للنّصّ الإبداعيّ العالي الذي تواطأت المؤسّسة الدّينيّة الثّقافيّة على تغييبه.” [3]

جاء تعريف نظريّة المعرفة في المعجم الفلسفيّ على أنّها: البحث في طبيعة المعرفة وأصلها وقيمتها ووسائلها وحدودها. فمكوّنات المعرفة داخلة في التّعريف نفسه، وأهمّها هي الوسائل أو المصادر. وقد اتّفق عقلاء الحضارات على أنّ هذه المصادر لا تخرج عن ثلاث؛ العقل، والخبر، والحس. وأنّها تشكّل في وعي الإنسان تكاملًا معرفيًّا موزونًا لا يشوبه النّقص المعرفيّ الدّنيويّ. ومع ذلك استعلى بعض الحداثيين عن الوحي، واستشكل بعضهم متعلّقاته مع محاولات لنزع قداسة النّصّ والتّشكيك في مصدره، وننطلق الآن في سرد بعض هذه الإشكالات، ثمّ بيان المغالطات التي وقع بها الحداثيون العرب في هذا السّياق.

يحتجّ المشروع الحداثيّ على العقل الإسلاميّ بأنّه محكوم بنظام معرفيّ واحد متمثل باللّاهوت أو الوحي، والجهود الفكريّة في تاريخ الفكر الإسلاميّ ما هي إلّا مجرد “نضالات من أجل الحقيقة”، وهذا ما يقوله محمد أركون، عرّاب الفكر الحداثيّ المعاصر.

يقول أركون: “العقل الدّينيّ ينشط داخل إطار المعرفة الجاهزة، ويقوم باستخراج المعرفة الصّحيحة اعتمادًا على النّصوص الدّينيّة، ولذا فإنّه يبقى عقلًا تابعًا لا مستقلًّا، فليس بمقدوره أن يقدّم مشكلة مشروعيّة المرور أو الانتقال من مرحلة الوحي (النّصّ المقدّس) إلى مرحلة المعارف المنجزة طبقًا للمنهجيّات الأصوليّة.” [أركون، 1989]

ومغالطة هذا القول تكمن في أمرين؛ أولهما أنّه ممتلئ بالألفاظ المشحونة التي توهم القارئ صحّة الكلام، وتتضمّن في دلالتها معنى سلبيّ يستحضره الذّهن تلقائيًّا عند قراءتها، وتعكس الجانب الشّخصيّ للكاتب أو المتحدّث. والأمر الثّاني هو أن كلام أركون منطلق من افتراض مبنيّ على استقراء ذاتيّ لجهود المفكرين والعلماء المسلمين من قبل ومن بعد، وهذا ما يسمّى في علم المنطق بمغالطة التعميم المتسرّع بحيث يفترض الطّرف الأوّل فرضيّة ثمّ يعمّمها على كلّ عيّنات وكلام الطّرف الثّاني دون برهان منطقيّ صائب بل مجرد استقراء ناقص.

فالموروث الإسلاميّ منطلق من تكامل مصادر المعرفة بين العقل والخبر والحسّ، والفِرق الإسلاميّة تتفاضل فيما بينها بمناهج المعرفة التي بنيت عليها مواقفها من المسائل الدّينيّة، فنجد ابن تيمية مثلًا يتحدّث في منع تعارض العقل مع النّقل، ولا حاكم ولا محكوم بين مصادر المعرفة، بل هو تكامل تامّ.

ويغفل الحداثيّون عن أنّ محلّ نقاش الفرق الإسلاميّة بين بعضها، هو كيفيّة التّعامل مع النصّ القرآني بين تأويل وتفويض، وليس التّقديم المطلق للنّصّ على العقل، أو إغفال مصدريّة الثّانية، وتحكيم الأوّل بالمطلق.

ولو شئنا أن نغالط لقلنا إنّ الحداثيين يقعون بمثل هذا -أي الاحتكام لنظام معرفيّ واحد- فالعقل عندهم هو بمثابة الوحي عندنا، وهو نظامهم المعرفيّ الوحيد! ولكنّنا نستعلي عن مثل هذه الأساليب، ولا نوافق قولهم من أساسه.

وللحداثيين اعتراض آخر على الوحي يتمثّل في أنسنة النّصّ، وإقصاء الإله عن توجيه الإنسان، وجعله محور الوجود وسيّده وواضع المبادئ والقيم له، فيرجع الأمر كلّه للإنسان لا للإله.

يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه نقد الخطاب الدّينيّ: “ولعلّنا الآن أصبحنا في موقف يسمح لنا بالقول إنّ النّصوصّ الدّينيّة نصوصًا لغويّة، شأنها شأن أيّة نصوص أخرى في الثّقافة، وأنّ أصلها الإلهيّ لا يعني أَّنّها في درسها وتحليلها تحتاج لمنهجيّات ذات طبيعة خاصّة تتناسب مع طبيعتها الإلهيّة الخاصّة.” [4]

وهذا القول هو محور مشروع الأنسنة التي يتبنّاه بعض الحداثيين، وثمة أمثلة أخرى ومقالات عديدة تدور كلّها حول نفس الفكرة (فصل النّصّ عن مصدره) وإعادة قراءته على صورة واقعيّة مع تهميش لأدوات الفهم الخاصّة وجهود المفسّرين المتوارثة. وهذا القول في رأيي ينطوي على عنصر الاستعلاء النّخبويّ المضمر الذي يلازم المفكر الحداثيّ، والغريب ما نراه اليوم ممّن يتصدّر منصّات الإعلام والثّقافة، فيستعلي عن الدّين وحالة التّديّن ويربأ بنفسه وعقله عنه، كأنّ من شرط النّخبويّة الطّعن في المقدّس!

ومغالطة تبنّي هذا الرّأي تكمن في تهوين الرّأي الذي تتمّ محاورته، بادّعاء بنائه على نحو يصير من اليسير نقده، وإمكانيّة عدم صدقه، بحيث يصير قائله كغيره من النّاس ليس لقوله أيّ حجّة. وهو ما يُعرف بمغالطة رجل القشّ، الغلط هنا يكمن في أمر دقيق غفل عنه الحداثيّون؛ إذ إن تسلسل الأفكار المنطقيّة المختصّة بذات الإله تُلزم الإنسان بالتّسليم والطّاعة لأوامره إذا ثبت صدق حاملها، وهذا متحقّق في النّصّ المقدّس الذي بين أيدينا وهو القرآن، فلِمَ هذا الخوض في تفاصيل الأفكار الدّينيّة وترك أصولها؟ فالأصل في النّقد هو النّظر إلى أصل الفكرة، وليس الخوض فيما يلزم عنها مع عدم تقرير أصلها، أهو خلاف أم نقطة اتّفاق، فإنّ إقرارهم بوجود الله والصّفات اللازمة له كإله واحد للكون، وأنّهم يؤمنون بالقرآن كلامًا له، يبطل قولهم ومطالبتهم بالأنسنة بالضّرورة.

فهو شبيه بالتّناقض كمن يقول أنا أؤمن بإله، لكن أؤمن بمحدوديّة قدرته أيضًا، وهذا باطل بالضّرورة العقليّة، فلازم الإله القدرة والإرادة المطلقة.

وفي النّهاية تقلّب الفكر العربيّ بالحداثة الغربيّة، ومرّ بأطوار كثيرة ظلّ الثّابت في كلّ طور منها؛ هو الدّعوة إلى الأنسنة والعقلنة، والمتّتبع لنصوص الحداثيين، يجدها في معظم الدّعاوي تفتقد للمنطق والبناء العقليّ السّليم في أصول الأفكار وفروعها، وما تقدّم من نماذج قليلة هو على سبيل الذّكر لا الحصر، وليس الغاية من هذا كلّه الإقصاء، وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة دون الآخرين، بل هي دعوة إلى الخروج من النّزعة الاستعلائيّة والاختزاليّة للحداثة، والنّظر إليها كفلسفة قابلة للنّقد، وعدم قراءة النّصوص الحداثيّة قراءة سطحيّة لا تستبطن منظومتها الغربيّة ولا المعرفيّة.


[1] طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ص 16

[2] عبدالوهاب المسيري، دراساتمعرفية في الحداثة الغربية، القاهرة،دار الشروق،٢٠٠٦،ص٣٤

[3]  وليد سيف، الشاهد والمشهود، الأردن، الأهلية للنشر والتوزيع، ٢٠١٦،ص٢١١

[4] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني ،ص٢٠٦

موقف الفكر الحداثي من السنة النبوية

سلك الحداثيون مع السنة النبوية مسلكهم مع القرآن الكريم ونزعوا عنها صفة القدسية، وقد استندوا في موقفهم هذا على الشبه التي تثار حول ظنية السنة النبوية وقلة المتواتر وكثرة الآحاد، واحتمالية الخطأ والرواية بالمعنى، والكذب والاختلاط الذي قد يطرأ على الرواة أثناء روايتهم للحديث الشريف، إضافة إلى الوضاعين والمتزندقين الذين أكثروا من الكذب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، متناسين الجهود الكبيرة التي وضعها أئمة السنة لحماية السنة من التحريف، والعلوم التي ابتكروها لضبط الرواية، كعلم المصطلح والرجال والعلل وغيرها.

يعرّف الحداثيون السنة عدة تعريفات، فمنها على سبيل المثال ما قاله حسن حنفي في كتابه “دراسات إسلامية” إن السنة هي “مجموعة من المواقف التفصيلية التي يتحدد فيها سلوك الإنسان، والذي تظهر فيه القدرة كمحك للسلوك، هي مواقف إنسانية مثالية، وتجارب بشرية نموذجية، يمكن الاحتذاء بها إذا أردنا مزيداً من التعيين والتحديد في الواقع” [ص 408].

محمد شحرور

وعرفها محمد شحرور في كتابه “الكتاب والقرآن” بأنها “منهج في تطبيق أحكام أم الكتاب بسهولة ويسر، دون الخروج عن حدود الله في أمور الحدود، أو وضع حدود عرفية مرحلية في بقية الأمور، مع الأخذ بعين الاعتبار عالم الحقيقة، الزمان والمكان، والشروط الموضوعية التي تطبق بها هذه الأحكام، معتمدين على قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج” [ص 549].

والمتأمل لهذين التعريفين يدرك كيف وُصفت السنة بأنها فعل إنساني محض، وهم يلمحون بذلك على أنها ليست وحياً من الله سبحانه وتعالى، أو ليست نصاً مقدساً لا يحتمل التأويل، وهذا التعريف والفهم مخالف لما فهمه علماء الأمة من السنة النبوية، الذين يرون أنها كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة على وجه التشريع.

فالحداثيون يرون أن السنة مجرد وصف للواقع المعاش لا أكثر، فكل نص فيهما جاز تأويله، إذ أنهما وجدا ليواكبا نشأة المجتمعات وتطوراتها، فلابد من تأويل أي نص يخالف واقع المجتمعات، فالنص عندهم يخدم المجتمع وينقاد له، وليس العكس.

يقول شحرور “ومن هنا يأتي التعريف الخاطئ برأينا للسنة النبوية، بأنها كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو أمر أو نهي أو إقرار”، ثم أوضح فكرته بقوله “هذا التعريف كان سبباً في تحنيط الإسلام” [الكتاب والقرآن، ص 548].

فالحداثيون يرون أن التزام الأمة بظاهر السنة النبوية، وظاهر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أدى إلى تشتت المسلمين، وإلى كارثة في الفقه والتشريع الإسلامي، وأدى إلى تحجير الإسلام وربطه بالبيئة البدوية والصحراوية التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما جعله مجرد تراث موروث لا قيمة له واقعاً في حياة الناس، ولذلك لم يستطع المسلمون تحرير حاضرهم من ماضيهم.

وأما عن موقف الحداثيين من حجية السنة النبوية، فهم يرون أن السنة لا تصلح للمحاججة بأدلتها لكونها ظنية وليست قطعية، حيث قال حسن حنفي في مقال له في مجلة اليسار الإسلامي: “ولم أستعمل الحديث الشريف تأييداً للقرآن حتى لا يعترض أحد الأدعياء برواية الحديث وسنده ودرجة صحته، وتضيع القضية في مماحكات العنعنة، هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد شيء في الحديث لا يوجد أصله في القرآن، والاعتماد على القرآن وحده هو الرجوع إلى الأصل أولاً، وهو أوعى وأشمل وأكمل”.

وهو بهذا النص يشبه إلى حد كبير أقاويل وشبه القرآنيين الذين يسعون وراء تنحية السنة النبوية، ومحاولة الاعتماد على القرآن الكريم لوحده دون غيره، ولا شك أن هذا المنهج بان فساده، وضعفت حجته، إذ لا يستقيم الأخذ بالكتاب لوحده، إذ السنة لطالما كانت وظائفها تتراوح بين تأكيد ما جاء في القرآن أو شرح مجمله أو المجيء بحكم تنفرد به دون القرآن الكريم، وقد بين العلماء ذلك بالتفصيل في كتب أصول الفقه.

مناقشة المغالطات
تدور مغالطات الحداثيين حول عدة أمور، منها:

1ـ مغالطتهم في المعنى اللغوي للسنة، حيث يخلطون بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي للسنة النبوية، ويحاولون سحب المعنى اللغوي على المعنى الشرعي، فهم يرون أن المعنى اللغوي لمادة: سسن، تدور حول الحركة والتغير والجريان، بينما في معناها الشرعي تدل على الثبات والسكون والجمود، وهذا استدلال عجيب، فالسنة لها معان كثيرة جداً في اللغة، وحصرها بهذا المعنى الذي يخدم أفكارهم خيانة علمية، وما زال علماء الأصول واللغة لا يفهمون منها معنى واحدا بل معان متعددة، أخذوا منها ما يناسب السنة النبوية.

2ـ رفضهم التعريف المتفق عليه بين علماء الأمة، وقد بنوا رفضهم هذا على مغالطتهم الأولى، فرأينا كيف رفض محمد شحرور وحنفي تعريف العلماء، واعتبروه أداة لتحنيط الإسلام وجموده، والصحيح أن السنة بخلاف ذلك تماماً، ففيها من المرونة ما يواكب جميع العصور، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ومع مرونتها حافظت على الأصالة الإسلامية.

3ـ انتقاصهم للسنة النبوية، وذلك بذريعة أنها أدت لتدهور الإسلام، وهذا يرد عليه كما قلنا في المغالطة الثانية، وبأن السنة شارحة ومبينة وموضحة لما جاء في القرآن الكريم.

4ـ قولهم بمرحلية السنة النبوية، وأن ما جاء فيها من أحكام خاص بتلك البيئة الصحراوية التي نزل فيها النبي، أما واقعنا فلا بد فيه من أحكام جديدة تناسب تطوره ومتغيراته اليومية، فالسنة حسب رأيهم تتغير وتتبدل ولا يجوز أخذ ظواهر الأحاديث وتطبيقها في كل مكان وزمان.

5ـ عدم اعترافهم بحجية السنة، معتمدين في ذلك على أنها لا تنهي خلافاً لكثرة الخلاف حول الأحاديث، وطرق ثبوتها، وصحتها وضعفها، وقد تبين ضعف هذه الشبهة بجهود العماء الكبيرة في تنقيح السنة، وبيان ضعيفها، والضوابط التي وضعوها للقبول والرفض والاستدلال والترجيح بين الأحاديث.

ولاشك أن كل ما سبق من تلاعباتهم بالألفاظ، فالقرآن لا يكتمل ويتضح إلا بالسنة، فلا مفاضلة بينهما إلا في حالة التعارض وتقديم الأدلة على بعضها، أما أن يتم رفض أحدهما كلياً فهذا غير وارد أبداً في الفكر الإسلامي، وغير مقبول.

وسبب رفضهم وموقفهم السلبي هذا من السنة أن السنة النبوية غالباً ما تكون واضحة، وليست كالقرآن الذي غالباً ما يحتمل وجوهاً عدة، لإجماله، ثم تأتي السنة الكريمة فتشرحه وتوضحه، وتفصل مجمله، ويدل على ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بعث ابن عباس رضي الله عنهما لمحاججة الخوارج قال له: “اذهب إليهم فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين أنا اعلم منهم بكتاب الله، في بيوتنا نزل، قال صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا، فخرج إليهم فخاصمهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة”.

وبذلك بين لنا سيدنا علي رضي الله عنه أن لا سبيل إلى إنكار السنة، أو إغفال شأنها بين مصادر التشريع الإسلامي، خاصة وان الله سبحانه وتعالى في القرآن ـوهو المصدر الذي يعتمد عليه الحداثيونـ أكد على مكانة السنة، فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92].

وبذلك يتضح لنا أن من أراد هدم الإسلام التجأ إلى هدم السنة وإنكارها، وهذا جزء من قراءة أهل الحداثة للتراث الإسلامي، وأن التناقض قد لحق منهجهم هذا ببيان القرآن الكريم بضرورة ولزوم اتباع السنة، ووجوب الأخذ بها.


المصادر والمراجع
التلخيص في أصول الفقه، الجويني، تحقيق: عبد الله جولم النبالي وبشير أحمد العمري، دار البشائر الإسلامية، 1417هـ- 1996م، بيروت.

الاتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة النبوية، غازي الشمري، دار النوادر، بيروت، ط: 1، 1433هـ، 2012م.

الحداثة وموقفها من السنة النبوية، الحارث عبدالله، دار السلام، القاهرة، ط: 1، 2013م.

دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

دراسات إسلامية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

دفاع عن السنة، محمد محمد أبو شهبة، دار الجيل، بيروت، 1411هـ، 1991م.

منهج حسن حنفي، فهد بن محمد السرحاني القرشي، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط: 1.

مجلة اليسار الإسلامي، حسن حنفي، العدد الأول، 1401هـ.

القرآن الكريم في الفكر الحداثي

يمثل الفكر الحداثي أحد الأفكار التي بدأت بالتأثير على الساحة العربية المعاصرة، فهو الفكر الذي أعاد دراسة التراث العربي والإسلامي على أنه مادة قابلة للدراسة الموضوعية بعيداً عن المبادئ والمقدسات الإسلامية، أو الأصول الدينية التي تنظم الحياة الفكرية للمسلمين.

وينظر الحداثيون إلى التراث الإسلامي على أنه تراث مقلوب يمشي على رأسه، ولابد من تعديله لكي يسير على قدميه، وأعلنوا عن نظريتهم المبتدعة في دراسة جديدة للتراث الإسلامي، وهم يحاولون جاهدين نزع الجانب المقدس والإلهي (اللاهوتي) في التراث الإسلامي.

وأن يُنزع التقديس من بعض الأقوال الفقهية للعلماء المسلمين قد يفهم، ومن يفعل ذلك قد يجد له سلفا من علماء الأمة الإسلامية الذين دعوا إلى التحرر من التقليد الأعمى، أما أن يسعى الحداثيون إلى نزع القدسية عن القرآن الكريم فهذا يشكل انقلاباً على المفاهيم الإسلامية، فبناءً على ذلك يكون النص القرآني كأي نص في جريدة أو مادة قانونية وضعت من قبل البشر، فلابد من تسليط الضوء على موقفهم من القرآن الكريم.

تعريف القرآن عند الحداثيين
عرف الحداثيون القرآن الكريم تعريفات متعددة، فعرفه حسن حنفي في كتابه دراسات فلسفية بأنه تجارب الأمم والشعوب على مدى التاريخ، التراكم المعرفي الإنساني الشامل المتحقق مع مراجعة العقل والفطرة وكما تبدو في الحكم والأمثال والمأثورات والآداب الشعبية [ص 103].

وعرفه كذلك في كتابه “دراسات إسلامية” بأنه “مجموعة من المواقف التي طرأت على الواقع الإسلامي الأول والتي استدعت حلولاً وكل موقف يمثل نمطاً مثالياً يمكن أن يتكرر في كل زمان ومكان” [ص 408].

وتناول حنفي القرآن الكريم ضمن مشروعه العلمي الذي وسمه بالتراث والتجديد، فكان لا يتناوله على أنه كتاب منزل من عند الله تعالى، بل على أنه تراث وتاريخ لأمة من الأمم؛ ويقصد بهذا التعريف أن الكتاب وتأويل ما جاء به من أحكام وغيرها ليست ثابتة ومستمرة بل متغيرة حسب الزمان والمكان، وتواكب التطور التشريعي الذي حصل في المجتمعات.

علي حرب

أهمية التأويل المنفلت
القضية الأساسية التي يسعى الحداثيون إلى ترسيخها في أذهان الناس أن كل شيء في النصوص القرآنية يحتمل التأويل، ومن الممكن صرفه عن ظاهره إلى المجاز، وبالتالي نستطيع أن نجعل من الإسلام ديناً مرناً نسقط الكثير من أصوله التي توارثها المسلمون عبر الأجيال، ويستطيع المسلمون من خلال التأويل في كل عصر أن يفصِّلوا إسلاماً يناسب مصالحهم.

يقول علي حرب في كتابه نقد النص: “مع أن مبرر كل مفكر جدير بلقبه أن يمارس التفكير بطريقة مغايرة للذين سبقوه إذا لم يشأ أن يكون مجرد شارح مبسط، أو تابع مقلد، أو حارس مدافع عن العقيدة والحقيقة، والتفكير بصورة مغايرة، يعني: أن نبدل وننسخ، أو نحرف ونحور، أو نزحزح ونقلب، أو ننقب ونكشف، أو نحفر ونفكك، أو نرمم ونطعِّم، أو نفسر ونؤول، فهذه وجوه للتفكير وللقراءة في النصوص لا أزعم أني أقوم بحصرها واستقصائها” [ص 133].

وعلي حرب بهذا النص يهدم كل الضوابط التي وضعها العلماء لاستنباط الأحكام أو تفسير القرآن، وبالتالي لا يوجد نص مقدس منزه عن التأويل، إذ ينظر إلى القرآن على أن التاريخ هو من أسبغ عليه صفة القدسية، لا تنزيله من قبل الله تعالى.

ووضح الحداثيون أنه من خلال التأويل يتم اختراق النص بأفق اجتهادي تجديدي، ومن خلاله نقيم التوازن بين القرآن وبين الواقع المتغير.

وقد استدل نصر حامد أبو زيد على ضرورة التأويل في كتابه “[مفهوم النص، ص 256] وجعله أصلاً، أنه مرادف للتفسير، وأن من السلف من استعملهما بذات المعنى، فالنص القرآني عنده وعند غيره من الحداثيين لا يمكن أن يحتمل معنى واحداً فقط، فهذا النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً لا وجود له في الأرض، وقد يكون موجوداً في السماء، فكل نص قابل للتأويل إلى أكثر من معنى، وفق فهم القارئ له.

محمد أركون

أنسنة القرآن ونزع قدسيته
صرح الحداثيون بأن الحديث عن القرآن الكريم وعن غيره من النصوص متساو، فلا استثناء للقرآن، ولا قدسية للنص القرآني، وقد بنوا على ذلك أنه لا توجد لألفاظ القرآن الكريم معان ثابتة، ولا دلالات ذاتية من الممكن الكشف عنها من خلال اللغة واحتمالاتها، بل التاريخ والواقع الاجتماعي هما من يكشف عن معنى النص، فالنص في نظرهم عبارة عن فضاء دلالي، وإمكان تأويلي، ومأزق القراءة في العقل العربي والإسلامي مرجعه إلى النظرة الأحادية لمعنى ألفاظ القرآن الكريم، فلا حقيقة ثابتة للنص، وبالتالي دراسة القرآن الكريم لابد أن تكون إنسانية تاريخية لا إلهية مقدسة (!)، وما دام النص القرآني إنساني فلا يجوز لإنسان احتكار المعنى الحق أو الصواب، فلكلٍ صوابه وحقه، وهذا ما يعني ضياع المعنى بين المؤولين أياً كانوا!

يقول محمد أركون في كتابه “القرآن من التفسير” إن “التقديس للكتب المقدسة خلع عليها وأسدل بواسطة عدد من الشعائر والطقوس والتلاعبات الفكرية الاستدلالية، ومناهج التفسير المتعلقة بكثير من الظروف المحسوسة المعروفة أو تمكن معرفتها، وأقصد الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية” [ص 26].

وهو لا يستثني القرآن من هذا الكلام، بل يعممه على جميع الكتب المقدسة، إلا أنه يستثنيه في قضية فرعية، وهي أن أسباب تقديس القرآن غطت عليها الظروف السياسية والثقافية والتربوية، بحيث لم تكتشف بعد، ولم يحرف، أو يتلاعب بألفاظه، أو معانيه، على عكس الكتب المقدسة الأخرى، فالنص القرآني قدسيته تاريخية لا إلهية!

نقد النظرة الحداثية
لا شك أن الحداثيين يخالفون جمهور المسلمين وعلماءهم الذين يرون القرآن الكريم كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعجز بنفسه، والمتعبد بتلاوته، المبدوء بالفاتحة والمختوم بسورة الناس، وأنه نص مقدس لا يجوز التعدي عليه بزيادة أو نقصان أبداً.

وما زال علماء الأمة يركزون على قدسية النص القرآني، ويفهمونه ضمن الضوابط التي وضعها علماء التفسير واللغة، فتفسير الحداثيين للقرآن الكريم يؤصل للتفسير الباطني والمنحرف، والذي يؤدي بدوره إلى ضياع الأحكام الشرعية، حيث يتم تفسيرها تفسيرات بعيدة عن حقيقتها المرادة، فمثل هذه التفاسير هي التي جرأت الفرق الباطنية كالإسماعيلية والدرزية والقاديانية لتحريف معاني القرآن وصرفها عن حقيقتها.

قال المفسر أبو حيان في مقدمته لتفسيره (1/104) مبيناً منهجه المتبع: “وتركتُ أقوال الملحدين الباطنية، المخرجين الألفاظ العربية عن مدلولاتها في اللغة، إلى هذيان افتروه على الله، وعلى علىٍّ كرَّم الله تعالى وجهه، وعلى ذُرِّيته، ويسمونه علم التأويل”.

وقد بين محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون (4/49) خطأ هذا المنهج الذي اتبعه الحداثيون اليوم، واتبعه قبله الفرق الباطنية حيث قال: “ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأي المحمود إلى دائرة الرأي المذموم، واستفحل الأمر إلى حد جعل القوم يتسعون في حماية عقائدهم، والترويج لمذاهبهم، بما أخرجوه للناس من تفاسير حملوا فيها كلام الله على وفق أهوائهم، ومقتضى نزعاتهم ونحلهم”.

وفي كلام الحداثيين المنقول مغالطة كبيرة وفهم أعوج، فالتفسير وفي مقابله التأويل لهما ضوابط فصلت في كتب علوم القرآن والتفسير، ولا يجوز لأي قارئ ان يطرح رأيه ويفسر القرآن الكريم على هواه، ولذلك نجد الكثير من العلماء اتبعوا التفسير بالمأثور، ففسروا النص بالنص، ومن عمد إلى التفسير بالرأي فإنه فسره وفق الضوابط والرؤية الإسلامية للنص، ووفق مقاصد الشرع وحدوده، فتأويل الإسلام ينبغي أن يكون تأويلاً منضبطاً لا تأويلاً منفلتاً فوضوياً.


المراجع والمصادر

مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م.

قضايا في نقد العقل الديني، آركون، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط:1، 1998م.

نقد النص، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 1993م.

نقد الحقيقة، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 1993م.

دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

دراسات إسلامية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

منهج حسن حنفي، فهد بن محمد السرحاني القرشي، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط: 1.

التراث والتجديد، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر، ط: 3، 1987م.

تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، 1422 هـ، 2001م، ط: الأولى، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض.

التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، د/ط.

خيارات الإسلاميين لتجاوز أزمة الحداثة

أصدر المفكر الجزائري د. عبد الرزاق بلعقروز في عام 2013 كتابه القيم “أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي”، ووضع في خلاصة نقده للمفكرين العرب الذين حاولوا الخروج من أزمة الخطاب الإسلامي عبر استعارة أدوات ما بعد الحداثة من الغرب، وقدم قراءة واعية لفكر إسماعيل الفاروقي وطه عبد الرحمن باعتبارهما نموذجين ناضجين لتجاوز أزمات الغرب وإحياء الحضارة الإسلامية، مركزا على مسائل الحداثة وأزمة الحقيقة والتعارف والعقلانية والكونية.

يتساءل الكاتب: ما الذى يملكه الخطاب الإسلامى المعاصر من أجل الإسهام فى التحولات المعاصرة؟ وهل يؤسس هذه الخطاب رؤاه الفكرية منفصلا عن خطاب الحداثة وما بعدها؟

ويقول بلعقروز إن مُمكنات الخروج من نفق الطور الحداثي المُظلم، وإصلاح العطب في هذا المشروع لن تكون ممكنة دون إعادة تفعيل التوجيه الديني وقيم الإيمان في بناء الإنسان وملء العالم بالمعنى من جديد، لأنه لا فتوحات ممكنة تلوح سوى بأربعة شروط، وهي:

1- أن يستفتح الإنسان من جديد، من أجل أن يفتح اللّه له، ويعيد ترتيب الصّلة معه، لأن الذات دون إيمان ودون معنويات تنتج أنماط الحياة التي لا تُطاق.

2- أن ينتهي الإنسان عن غيه وظلمه وتخريبه للعالم، أي تدمير المعنى والعالم المحسوس.

3- أن يحذر من السقوط في أزمات المشروع الحداثي الغربي، لأنه لن يثْمر إلا عودة المآزق وفقدان الأمن الوجود ونَسْبنة المعرفة واختزالها في المصلحة، واختلال التوازن القيمي، ومن ثم الوصول إلى العَمى الوجودي والعبث السُّلوكي والتَّخريب للأرض.

4- التَّفكير في الارتقاء إلى مستوى الحدث الحضاري من أجل فهم هذه المشكلة بعمق، أي فهم الحداثة الغربية بعمق والكشف عن الفقر المعنوي والأخلاقي الذي ينخر أساساتها، وإعادة ترتيب سُلّم القيم الضائعة وبلورة نموذج إدراكي جديد للعالم.

ويرى المفكر الجزائري أننا لم نتعامل مع الحداثة في طورها الغربي بشكل ناضج بعد، فنحن فاقدون للرؤية والمنهج والإرادة، كما أننا لم نفهم الحضارة الإسلامية بعمق وشمول حتى نبحث في تراثنا المعنوي والأخلاقي الضخم ونفسّره من جديد.

ويعتبر أن النهضة تبدأ بإعداد قادة في الفكر من أجل إنجاز وظيفة الفهم المزدوج للحضارة الغربية وأسسها بعمق، وفهم الحضارة الإسلامية بعمق أيضا.

ويسعى في كتابه إلى رصد جوانب الاجتهاد في الخطاب الإسلامي المعاصر الساعية إلى بلورة رؤى فاعلة مستقلة عن سياق الحداثة.

ومن مباحث الكتاب المهمة أنه بيّن حدود النظريات التواصلية الغربية التي تأثر بها الفكر العربي المعاصر، وشدد على الحاجة إلى الأخذ بالرؤية التَّعارفية التي اقتبسها من قوله تعالى {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، مستندا في الأساس إلى المبدأ القرآني لرؤية الإنسان للوجود من خلال التوحيد، فوحدانية الله هي أساس كل شيء، ومن ثم انفصال الذات الإلهية عن الإنسان والعالم المخلوق دون حلول ولا اتحاد، وتأتي بعد ذلك الرؤية التعارفية بناء على مفاهيم: التَّكريم الإنساني {ولقد كرمنا بني آدم}.، ووِحدة الإنسانية (دون تمييز عرقي)، والاختلاف التّكاملي (وليس التفاضلي العنصري).

وفي نقده لأزمة الحقيقة والقيمة، يشرح بلعقروز كيف هيمنت الاتجاهات الارتيابية على الفلسفة الغربية فيما بعد الحداثة، ثم استعرض أفكار إسماعيل الفاروقي التي تتجاوز هذه الاتجاهات وتؤسس الرؤية على وحدة الحقيقة والقيمة والحياة، وتستمدها من وحدانية الله.

أما أزمة العقلانية فقد عرضها المؤلف في فكر محمد أركون، ثم استعرض نقد طه عبد الرحمن لأركون الذي فضح افتتانه بمناهج العلوم الإنسانية الغربية ومحاولته تطبيقها على المعرفة الإسلامية، حتى في نصوصه المقدّسة، حيث كشف طه أن ادعاءات أركون لا ترقى إلى تصورات الفقهاء، ويقول إنه لو كانت مذاهب الفقهاء فعلا امتدادا لتناحُرات السّياسيين لما اختصّت بالوفاء لشروط الاستدلال والبناء النّسقي، فالسّلطة لا تخاطب العقل بل تتوسل العاطفة.

وفي الفصل الخامس والأخير، ينقد المؤلف طرح “الفلسفة الكونية” لدى المثقفين الحداثيين العرب، ويطرح البديل المتمثل في “الفلسفة المقارِنة” التي تدرك العالم بالمعنى الاختلافي، معتبرا أن الفلسفة الكونية تؤدي للانغراس في أنماط فكرية أخرى لا تخرج من عمق معاناتنا ولا تستجيب لمشكلاتنا.

الموقف من الحداثة.. بين الاستلاب والاستيعاب

خواطر على هامش كتاب “الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية” للدكتور محمد عادل شريح
إن الموقف من الفكر الغربي والحضارة الغربية يبقى من أهم الأسئلة المطروحة على المستوى النظري بين رافض قطعي لها ولمنتجاتها، ومتبن لها كليا، وبين الموقف المعتدل القائل بأخذ ما يناسبنا وينسجم مع مجتمعنا ومبادئنا. وهذا الأكثر شيوعا والذي ينتمي إليه العدد الأكبر من المفكرين والباحثين لأنه يعتبر موقفا وسطيا يتيح لصاحبه مجالا أكبر للمرواغة والمناورة.

لكن قبل أن يعطي المؤلف رأيه في هذا الفكر ومنتجاته الحضارية، يقدم دراسة معمقة لأهم أسسه ومرتكزاته، وهي: الإنسانوية، العقلانية، الطبيعية، التأليه الطبيعي، التقدمية، الوضعية، والمادية.

وعند البحث عن معاني هذه المصطلحات، يستنتج توافقا نظريا وعمليا بينها، وملخصها التركيز على الإنسان وإعطائه المركزية والسيادة على كل شيء، باعتباره قادرا على وضع معاييره الخاصة، واعتبار العقل المصدر الجديد للحقائق، ونفي كل أشكال الميتافيزيقيا (الدين والغيب)، واعتبار الطبيعة المادية هي الوجود كله، وإعطاء معنى آخر للألوهية، وهي أن الإله موجود مع إنكار تدخله في شؤون الحياة، وأن الحياة تسير تلقائيا نحو الأمام، والإقرار بأولية المادة في الوجود و ثانوية أي شكل آخر للوجود.

يستعرض كتاب “الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية” أهم المبادئ الأساسية المكونة للحداثة الغربية وانعكاسها على الثقافة العربية، حيث يرى المؤلف أن الموقف من الفكر الغربي الحديث يكتسب أهميته من حيث حضوره في فكرنا لا شعوريا. وعلى الرغم مما يثيره هذا الأمر من الجدل، فما زالت هناك الكثير من الجوانب التي تستحق البحث فيه حتى اليوم؛ لأننا لو ألقينا نظرة على الساحة الثقافية العربية وما أنتجته على مدار قرنين حتى يومنا هذا لوجدناها مشبعة بروح الغرب وثقافته إلى درجة كبيرة.

من خلال هذا السرد السريع نستنتج أن الفكر المادي الغربي منظومة متكاملة لا يمكن الأخذ ببعضها دون الولوج فيها، وهي تمتاز بعدم التجانس الحضاري مع غيرها، أي أنها تفرض منطق الهيمنة والإلغاء في تعاملها مع الآخر، وذلك بشكل يخالف السيرورة التاريخية للحضارات.

لذلك، يجب علينا قبل إصدار موقف منها أن نستعيد عافيتنا الفكرية، وأن نخرج من دائرة التبعية المفروضة علينا، ثم نصدر حكمنا انطلاقا من منظومتنا الفكرية الخاصة التي تكرس المبدأ الإلهي أصلا للوجود والمعرفة والاجتماع، والتي نستنتج من خلالها أن الفكر الغربي ومنطلقاته النظرية يقعان على النقيض من حقائقنا الكونية الكبرى، لكنها لا تشكل نقضا لرؤيتنا الأكثر شمولا للحركة والتاريخ.

إن الفكر الغربي بقيمه المادية وبنتائجه المشاهدة حاليا ما هو إلا مؤشر للانحطاط، وهذه حقيقة لا يستطيع إدراكها إلا من تحرر من أسر عبودية الأشياء لأن قيمة حضارة ما تقاس بما توفره من شروط تحقق غاية الوجود الإنساني على مستوى الفرد والجماعة.

لكن الفكر الغربي يمثل واقعا مفروضا سواء قبلناه أو رفضناه، لذلك يجب استيعاب هذا الفكر عبر إدراك مذاهبه وعقائده استنادا إلى منطلقاته الفكرية، ولا يعني ذلك إقراره أو التصديق على مبادئه، بل فهم مبررات وجوده والأسباب التي أدت إليه، على الرغم من كل ما يحمله من تناقض مع أبسط حقائق الوجود والفطرة الإنسانية، فضلا عن مشاركة المثقفين في الغرب الذين باتوا يدركون مخاطر هذه الحضارة، سعيا إلى تقديم حلول للأزمات المعرفية والأخلاقية والروحية التي أنتجتها الحضارة الغربية.

أعتقد أن استيعاب هذه الحضارة بالشكل الموصوف أعلاه هو الذي سيقود إلى إلغاء معادلة الأستاذ والتلميذ، فهذه المعادلة تحولت إلى عقدة نقص وعقبة أمام الإبداع الفكري الحر، ما سيحول الموقف من رفض سلبي عاجز ومكابر إلى رفض بناء ومؤشر لرؤية حضارية لها خصوصية مستمدة من إدراك معنى خاتمية الرسالة المحمدية والعقيدة الإسلامية.