مقالات

كيف تدفع الفردانية لتذويب المجتمع في الفرد؟ .. تعرّف معنا إلى ظاهرة الذوبانية

الذوبانية مصطلحٌ قديمٌ متجدد، إلا أنه يتجدد بشكل متشعب في ميادين مختلفة ومتنوعة، فمن العلم التجريبي حيث الكيمياء والفيزياء، إلى المساحة النفسية بين الأم وطفلها، إلى تمثلّاته التي تظهر في الساحة الاجتماعية لكن دون أن يكشف وجهه تمامًا ويفصح عن نفسه ومسماه بشكلٍ واضح.

ظاهرة الذوبانية.. تاريخ الظهور

في محاولةٍ لتتبع الخط الفكري الذي أفضى إلى بروز تلك الظاهرة، سنلاحظ أنّ بحث أصول الفردانية أمرٌ مهم، إذ إنّ عددًا كبيرًا من المتأثرين بإشكالية الذوبانية يصنفون على أنهم فردانيون، لذا فإن بحث نشوء وتطور الفردانية ومعرفة الإرهاصات المجتمعية التي وُجدت إبان بثها في مجتمعاتنا؛ سيعيننا على إدراك السبب الذي جعل تلك الفردانية -في أغلب حالتها في مجتمعاتنا- فردانية ظاهرية، وتكمن في طياتها الذوبانية.

إنّ التأسيس لفكرة الفردانية كان رد فعل مضاد خرج من مجتمعات ترزح في النظريات الكُليانية، فـ (ريمون بودون) مؤسس الفردانية المنهجية مَقَتَ الماركسية المؤسسَة على منطق الصراع بين الطبقات الاجتماعية؛ مما دفعه إلى التوجه نحو تأصيل رؤيته المناقضة لهذا التيار، حيث أقام منهجه في دراسة الواقع الاجتماعي بناءً على الفرد وليس على الطبقة، مما سمح بإزاحة النظريات الكليانية الهاضمة للفرد من التفسير الاجتماعي.

بدأت الفردانية تتبلور وتتضح معالمها، وبات من الممكن تعريفها بأنها “توجه نظري وفلسفي يقوم على إعطاء الأسبقية للفرد على المجتمع من خلال استناد قرارات الفرد على منفعته ومتعته الشخصية باعتباره مركز كل شيء، وحوله يدور كل شيء، فمصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات الدولة وتأثيرات المجتمع والدين” [الفردانية المنهجية وتقويض أسس التصورات الشمولية – د.الفرفار العياشي]

وقد تمكَّن بودون من تقديم مقولة الفرد كأداة مهمة في فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية مُزيحًا التصورات الشمولية، واستطاع أن يُبرز البُعد الفردي عند رواد الاتجاهات الكليانية مثل كارل ماركس وإميل دوركايم، فبالرغم من تجاهلهم للفرد واعتباره نقطة عبور للأفكار الجماعية وتقديم النظام والطبقة والمجتمع عليه، إلا أنهم وجدوا أنّ التغيرات الاجتماعية لا تقع في مساحة فراغ عدميّة، بل تقع في محيط يحوي أفراد يكون لهم تأثير في تبلور الصورة النهائية للمجتمع، فالوعي الجمعي لا يلغي الوعي الفردي، لكنه يؤثر فيه.

وإذا بحثنا أكثر عن أصول الفردانية، سنجد أنّ هناك شبه “إجماع على أنّ أصول الفردانية تعود أساسًا إلى أعمال كلٍ من ماكس فيبر و فلفريدو باريتو، وهو ما يؤكده بودون في كتاباته” [الفردانية المنهجية – الفرفار العياشي]، وقد دعا إلى الفردانية رواد الليبرالية مثل هوبز، جون لوك و جون ستيوارت ملْ وغيرهم، حيث أنّ الفردانية هي الركيزة الأساسية في الفكر الليبرالي.

ارتبط الاتجاه الفرداني بمبادئ النظام الرأسمالي خصوصًا في ألمانيا وإنجلترا التي تعاملت معها من منطلق اقتصادي، ويعتبر الفيلسوف آدم سميث من المنظرين الأساسيين لهذا التوجه الفرداني، لذا اهتم مؤسسو النظريات الكليانية مثل “ماركس وإنغلز بنقد أفكار الرأسمالية التي ظهرت على يد آدم سميث وديفيد ريكاردو، وحاولا إسقاط هذا النموذج على أساس المنطق الجدلي ليقدما بدلا منه الاقتصاد السياسي الماركسي” [مقال الماركسية والشيوعية– موسوعة السبيل]، حيث إنهم اعتبروا أن منطلقات سميث الفردانية مناقضة لشمولية نظرياتهم.

وقد انتظمت هذه الأفكار في المجتمع الغربي ليصبح مجتمعًا فردانيًا يدعو إليها، وتحاول ترسانته الإعلامية بث وترسيخ هذا المصطلح بما يحمله من قيم في المجتمعات الإسلامية، حيث يقول د.محمد المجذوب “إنّ هناك اتجاها استعماريا لإكساب الإنسان المسلم في العالم العربي للقيم الفردانية الغربية، ومن ثم تغييبه من أي بعد جماعي، وهذا الاتجاه ليس عشوائياً وإنما هو تابع لثقافة الهيمنة الغربية ورغبتها في تمديد نفوذها عبر أنحاء العالم”، وبالفعل بدأت تظهر الفردانية في المجتمعات الإسلامية، ولكن لاحظنا أنّ هذه الفردانية في شرائح واسعة هي فردانية ظاهرية، لأن شريحة الأفراد المتأثرين متمركزين في مجتمعات مبنية على أسس رأسمالية، والتي تعتمد بشكل رئيس على الشكل النووي للأسر، مما يعطي انطباعًا أنّ أفراد هذا المجتمع فردانيون، لكننا إذا تمعّنّا قليلًا سنرى ظاهرة أخرى أشد فتكًا منها، يمكن أن نسميها الذوبانية.

ريمون بودون (على اليمين)، آدم سميث (على اليسار)

تطور الفردانية إلى الذوبانية

 سنجد في خضم توصيف بودون للفردانية ذكره لفكرة “التذويب”، حيث “إنّ المنهجية الفردانية حسب ريمون بودون، تستوجب أن يُنظر إلى الفرد في ظل نسق من التفاعلات، وأنه بمثابة ذرات يتطلب دراستها وفهمها قاعدة منهجية لتحليل سلوكياتها وتصرفاتها بالقطع مع المسلمات الكلاسيكية المغالية في تفسير أنساق التفاعل والتغير الاجتماعي والتي تعمل على تذويب الفرد فيها”[الفردانية المنهجية – الفرفار العياشي].

ويتضح بجلاء من سياق ورود لفظ التذويب عند بودون -في معرض حديثه عن تأثير النظريات الكليانية- أنّ مدلولها هو اعتبار الفرد عنصر ذائب في المجتمع الكلي، يتشكل بحسبه ويعيش تحت سطوته.

لكن الذوبانية المجتمعية الآنية -والتي نقصدها في هذا المقال- تحمل مدلولًا مختلفا، إذ إنها تصف ذوبان الفرد في مجتمع أو كيان جزئي (جماعي أو فردي) بغض النظر عن الشمولية الاجتماعية، وإنما هذا الذوبان يكون بمحض إرادته بدايةً تحت ضغط دوافع عدة.

عندما بحثتُ عن الفكرة الكامنة في الفردانية الظاهرية، لم أجد أنسب من هذا المصطلح -الذوبانية- في وصفها، إذ إنّ التعريف الأعم والأشمل للفردانية هو التمحور حول الذات، بينما نلاحظ سلوك آخر مُتمثِّل في أشكالٍ عدة مآلها ذوبان الذات، وتمحورها حول الغير، فإما أن تجد بعض الأفراد فاقدين ذواتهم تمامًا ذائبين في مجموعهم بشكل سلبي متباين عن الاجتماعية أو الانتماء، أو فاقدين ذواتهم محاولين تشكيلها بمقياس بعض الكيانات أو الأفراد الذين انبهروا بهم، وهذا واضحٌ في حدثاء السن وتأثرهم بمن يسمون أنفسهم “مؤثرين”، فتذوب ذواتهم ويتمحوروا حول الذات الأخرى، وهذا الأمر شديد السلبية ومآلاته لا تقل خطورة عن مآلات الفردانية، ويستحق أن يُعتنى به للحد من هذه الظاهرة الخطيرة.

التقاطع بين الفردانية والذوبانية

وبالرغم من أن الذوبانية تعتبر سلوك متباين عن الفردانية، إلا أنها من جهة أخرى يمكن أن تكون مؤدية لها، إذ إنّ الفردانية يمكن أن تنشأ عن ذوبانية الفرد حول شخص فرداني فينتقل هذا السلوك إليه، فهو تعرض إلى عمليتين:

١- أنه وقع في الذوبانية وفقد ذاته، وتأثرت أو التفّت حول ذاتٍ أخرى متبنية الفردانية.

٢- أنه تبنى هذه الذاتية الجديدة وصُبِغ بها حتى أصبح فرداني، ولكن جوهر فردانيته غير أصيل.

فهذان المصطلحان -الفردانية والذوبانية- متباينان من جهة، ويؤدي أحدهما إلى الآخر من جهة أخرى، وكلاهما جدير بتدمير المجتمع السوي، وإغراقه في تمزق أو تشوه اجتماعي.

كيف تفشّت الذوبانية في المجتمع؟

أفضى حكم النظام الرأسمالي وتفشيه في المجتمعات إلى حدوث تغيُّرات جذرية في شكلها، ومن أهم هذه التغييرات هو تكوّن ما عُرِفَ بالأسر النووية، وهي التي تتكون من الوالدين وأبنائهما فقط، وضمر وجود الأسر الممتدة خصوصا في المدن الصناعية والحواضر، فـ (بارسونز) مثلا يرى أنّ شكل الأسرة النوويّة هو الأكثر تناسبًا مع المجتمع الرأسمالي الحديث.

فالأسر باتت في صورة وحدات منعزلة عن بعضها، ويظهر السلوك الخارجي لأفراد الكثير منها على أنه فرداني متمحورٌ حول ذاته ومنعزلٌ عن الكيان الكلي للأسرة -التي بدورها منعزلة جزئيا- ولكن إذا تأملنا قليلا سنجد أنّ عددًا لا بأس به من الأفراد ليسوا فردانيين، وإنما ذائبون، سواء في كيانات أخرى مثل الأوتاكو -أي مدمني الأنمي-، أو الفرق الغنائية الكورية وغيرهما، أو حول أفراد مثل المؤثرين كما أسلفنا.

ويتضح هذا أكثر عندما نحاول تحرير سمات الشخصية الفردانية الأصيلة، حيث إننا سنجد أنّ صفات الاعتداد بالذات والاعتماد عليها والاكتفاء بها صفات أساسية، مما يعني أنه يمكن أن يعيش بعيدًا عن كيانات (حقيقة أو افتراضية) أو يعيش بينهم دون أن ينفعل كليًا معهم، ودون أن يشعر بإشكال كبير، لأن الشعور الغريزي بالانتماء عنده قد أشبعه بالانتماء لذاته.

من ناحية ثانية نلاحظ صفات أخرى في شرائح واسعة من المحسوبين على الفردانية وتتضمن: عدم تحمل البقاء بعيدًا عن تلك الكيانات (الافتراضية – حقيقية)، عدم القدرة على أخذ قرارات مصيرية، الهشاشة النفسية، عدم وضوح -وأحيانًا اضطراب- الهوية الذاتية، وهذا يعني أحد أمرين:

١- أنهم ذائبون تمامًا ولم يبق من ذواتهم ما يمكنّهم من الانفعال الواقعي؛ مما يعني أنهم ليسوا فردانيين.

٢- أنهم فردانيون فردانية غير أصيلة -الموضَحة آنفًا- فيحتاجون إلى بقاء حبل الانتماء مع من اصطُبِغوا بفردانيته، لأنها هوية ليست أصيلة عندهم، فلا يمكن أن تحافظ على ذاتيتها دون تعزيز خارجي.

ارتداء الأوتاكو لأزياء شخصيات الأنمي

ما أسباب تكوُّن الذوبانيين؟

الحقُ أنّ أسباب جنوح تلك الظاهرة الخطيرة في هذا الجيل تحديدًا كثيرة جدا ومتعددة، فجزء كبير منها يعود إلى طريقة التربية الخاطئة التي لا تعزز الثقة في نفوس النشأ، ولا تربيهم على العزة التي يجب أن يتحلى بها المسلم، ولا تعطيهم أدوات ووسائل الوصول إلى فهم الذات وتكوين الهوية الذاتية، ولا تعلمهم تحمل المسئولية وأخذ القرارات.

وكذا طريقة التعليم في المدارس الإلزامية التي تلغي شخصياتهم وتقولبهم، فيضطر أغلب الأفراد إلى الذوبان في محيطهم خصوصًا مع عدم وجود خلفية تربوية تُحصِّنهم من هذا التذويب؛ فطبيعة هذا الجيل المعروفة بـ “رقائق الثلج”، أراها نتيجة طبيعية لطريقة التربية والتعليم، وسبب أساسي لجنوح ظاهرة الذوبانية.

أنواع الذوبانية

يمكن تقسيم الذوبانية إلى: ذوبانية كليّة، وذوبانية جزئية.

أما الأولى وهي الذوبانية الكلية، وتتمثل صورتها فيما ذكر آنفًا، وهو فقدان الإنسان ذاتيته كليًّا، أما الثانية، وهي الذوبانية الجزئية فهي تأثر جانب من جوانب الإنسان بهذا الإشكال مع الحفاظ على بعض التماسكية في جوانبه الأخرى.

يمكننا القول بأن الذوبانية الجزئية موجودة على مر العصور، فكما قال ابن خلدون في مقدمته “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، فإنه بطريقة أو أخرى يشير إلى شكل من صور الذوبانية الجزئية، فشعور الهزيمة أمام الغالب يمكن أن يكون نفسيًا أو فكريًا أو ماديًا أو اجتماعيًا، وكل جانب من الجوانب الأربع يمكن أن يقع فيه انبهار وولع بالغالب -أيًا كان، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات- فيؤدي إلى الذوبان فيه وتقليد أعرافه خصوصًا لو كان الانبهار ماديا أو اجتماعيًا، ومعتقداته لو كان الانبهار فكريا أو نفسيا.

وساعد في تعزيز الذوبانية الجزئية في الجانب الفكري رواج فكرة النسبية وعدم الاكتراث، مما أدى إلى انصهار حاجزَي الفكر والهوية اللَذين يمنعان وقوع هذا النوع من التأثر.

ويمكن أن تتحول الذوبانية الجزئية إلى كلية في حال وقوع الفرد في الانبهار الكلي، وهذا يحدث عندما تذوب بقية تكويناته الذاتية المتماسكة ليفقد ذاته تمامًا.

ما المآلات الاجتماعية للذوبانية؟

إنّ مآل الذوبانية هو مجتمع عاجز تمامًا عن القيام بأي شيء أو صدور أي رد فعل عنه، لأن ردود الأفعال لا تتأتى إلا بوجود ذات تنفعل ليصدر عنها رد فعل -على الأقل-، فالذائب فاقدٌ لذاته، لذا فهو مطموس الهوية والذاتية معًا، بل إنّ الفرداني يمكن أن يصدر عنه رد فعل وإن كان قاصرًا لعدم انخراطه مع المجموع الكلي أو عدم توجيهه للمصلحة الكلية، ولكنه على الأقل لا زال محتفظًا بجزءٍ أساس من مقومات إنسانيته وهو الذات.

ختامًا

إننا نعيش في عصر متسارع في كل شيء، فالقفزات والتغيُّرات الاجتماعية باتت سريعة ومتقلبة، فملاحظة المجتمع وسلوك الأفراد ومحاولة رصد الظواهر الاجتماعية والفكرية الجديدة أو نظمها في اصطلاح يوضح مساحتها وحدودها أمرٌ مهمٌ في طريق الإصلاح لا بد أن نحرص عليه، ويجب شحذ الهمم لمعالجة هذه الإشكالات، وتوجيه الجهد الأكبر إلى أسس ومنابع الإشكال -وتتمثل هنا في التربية والتعليم – حتى يتم حله بشكلٍ صحيح ومتوازن.

أسأل الله أن يبلغ هذه الأمة رشدها.

جناية الحاضر على التاريخ.. تأثير النزعات المعاصرة في فهم الماضي

اعتدنا سبر أحداث التاريخ لرصد الخيوط التي كوّنت النسيج الحالي للحياة والمجتمع، وطفقنا نعدّد الأسباب التي أدت إلى انبثاق عدد من القضايا، وبحثنا عن التكوين النفسي لهذا الجيل بين تلافيف الماضي، ولكن هل للحاضر سطوة على الماضي كما نرى سطوة للماضي دومًا؟ وهل هناك جناية للحاضر على الماضي؟

القولبة الفكرية للماضي

من السمات الواضحة لهذا العصر هي القولبة، كل شيء بات مقولبًا بشكلٍ لا يقبل إعادة النظر أو التفاوض، ونجد أنّ الملَكَة الفقهية باتت ضامرة عند الكثير من المشتغلين في مجال الفكر والدعوة فضلًا عن عموم الناس، فأصبح الكثير لا يحسن تصوّر الأمور إلا في شكلٍ وقالبٍ واحد، إما أبيض أو أسود، إما حلالٌ خالص أو حرامٌ مُطلَق، دون إدراك أنّه ثمة لون رماديٌ، وألوان كثيرة بين هذين اللونين، وبحسب القرائن المصاحبة لكل قضيّة وحالة يكون اللون الموافق لها هو المناسب، ولكن ما نراه الآن هو الزجّ بصاحب السؤال أو الإشكال إلى أقصى غاياته لعدم امتلاك مرونة الملكة الفقهية التي تضع كل حالةٍ على نحو ما يناسبها.

وهذه الحالة لا تتوقّف عند عتبة الحاضر، بل امتدّت لتفعل فعلتها بين دهاليز الماضي، فنجد أنّ البعض عندما يعودون لقراءة أحداثِ الماضي لا يُحسِنُون خوض غماره دون اصطحاب قوالبهم الفكرية، فيصنّفون الأحداث حسب مقاييس قوالبهم، بل إذا وجدوا أنّ بعض السياقات لا تحتمل القولبة، فإمّا أن يمزقوها لتناسب القالب، أو يطمسوها، ثم يستنطقون قوالبهم للخروج بالنتيجة التي رسموها بداية، وتصبح كل الأحداث التاريخية تدور بشكل “منسجم” مع أفكارهم وتخدمها وكأن التاريخ ما كُتِبَ إلا لهم، فالحاصل أنهم اعتقدوا رأيًا ثم حملوا أحداث التاريخ عليه دون تورّعٍ أو عدالة.

قراءة الماضي تحت ضغط الواقع

تولَّدت العديد من المصطلحات المعاصرة نتيجة تَولُّد بعض التيارات الفكرية التي ساهمت في تشكيل وتكوين الواقع الحالي، وهذا الكيان الاجتماعي الجديد أحدث ضغطًا على المسلمين المعاصرين؛ فاضطروا كذلك إلى صك بعض المصطلحات لينافحوا بها عن الدين، فبعد الشقاق الذي وقع في متسلسلة التاريخ الأوروبي بين العلم التجريبي والدين، والذي أفضى إلى جنوح النزعة العلموية؛ إذ لم يقتصروا على الكاثوليكية، بل انتقلوا بهذا الحكم إلى كل ديانة، فأخذ بعض المشتغلين في الساحة وضع الدفاع عن طريق تعزيز المصطلحات التي توائم بين “العلم” و “الدين”، وتضع الشقاق بينهما، ظنًا منهم أنهم هكذا يخرجون الإسلام من مأزقٍ كبير ضائق.

 وبالرغم من وجود بعض جوانب النظر حول هذه المصطلحات وتأثيرها في الواقع، ومآلات اعتمادها كمسلّمات مرتبطة بهذا الواقع، إلا أنّ مناقشتنا في هذا المقال ستكون حول تأثيرها الممتد في عمق الماضي والتاريخ، فمع اعتياد واعتماد هذه المصطلحات وغيرها، أصبح الخروج عنها أو تصوّر الواقع بدونها أمرًا شاقًا خارجًا عن سياج العقل الجمعي المعاصر، فنجد أنه قد نُقِلَت هذه المصطلحات إلى الحِقَب الماضية ووُصِفت بها، فعند ذكر العلماء المسلمين وما قدموه، أول ما يتبادر إلى الذهن هم العلماء الذين أسهموا في جانب العلم التجريبي كالبيروني وابن الهيثم وغيرهما، ثم تتم عملية الانتقال الثانية والتي تتمثل في اتخاذ هذه المنجزات كبرهانٍ ساطع على كون الإسلام لا يعادي العلم التجريبي ولا يتعارض معه، ثم يُحصَر تقدُّم المسلمين في هذه الحقبة، وهذا بمثابة اعتراف ضمني لمعيارية التقدم المادي لنهوض الأمم، ثم نعود مرة أخرى إلى واقعنا لنرى أن التقدم المادي ليس بين أيدينا، فنعيش تحت ضغط سؤال “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”، وهكذا دواليك نعيش في غمرة تلك الدوامة.

والإشكال الذي وقع فيه من يسير في هذا المضمار يتمثل في أمرين أساسيين:

أولهما: أنه تم استدعاء إشكالات الحاضر ومصطلحاته التي نتجت عنه إلى حِقَب في الماضي لم تعش هذه الإشكالات، وبالتالي فإن استدعاء هذه المصطلحات يعد باطلًا لا معنى له، فهي بمثابة تصدير بطارية هاتف إلى زمن ما قبل الهاتف، فأصحاب البطارية يُنَظّرُون حولها، ويتناقشون بجد عن مدى جدواها، بينما لو بُعث أهل هذا الزمان لنظروا باستغراب إلى هذا الجسم العجيب، ثم يتركونه ويذهبون، إذ لا عمل له عندهم ولا طائل أو معنى يذكر من وجوده.

ثانيهما: إنّ تلك العقلية المبرمجة تحت ضغط الواقع بخست حق الكثير من العلماء والعلوم بحصرهم العلم في العلماء الذين أسهموا إسهامات تجريبيّة، لكن لو أوردنا علم الحديث فقط كمثال لعلم عظيم امتلك منهجية رصينة مذهلة في إثبات صحة الروايات من جهة المتن والإسناد، وهو من أجلّ العلوم وأدقها، بل من مفاخر هذه الأمة، سنعلم أنّ عبقرية العلوم لم تُحصَر في السياق التجريبي فقط، بالإضافة إلى أنّ أصحاب ذلك الطرح تغافلوا أو غفلوا كون الكثير من العلماء الذين برعوا في العلوم التجريبية كانوا في ذات الوقت فلاسفة ومؤرخين وفقهاء، لنعرف الواقع الحقيقي حينها وهو أنّ التقدم في العلوم التجريبية كان نتيجة طبيعية لوضوح الهُوية ونضوج البناء الإنساني على ضوء تلك الهوية، فحينما يصل المجتمع إلى هذه الحالة من النضج؛ فإنه ينمو طبيعيًا ليتمدد في مساحة الكون بمختلف تشكلاتها ليحقق الاستخلاف الذي نما منه ولأجله، لذا فإن رؤية الماضي وقراءته تحت ضغط الواقع الحالي يؤدي إلى طمس هذا الماضي ويعيق الناظر إلى هذه القراءات عن استشفاف الحالة الحياتية الحقيقية للمجتمع المسلم حينها، ويضع غشاوة على تلك العين التي تبحث بين سطور تلك القراءات عن ملامح النهضة.

سجن الماضي في مصطلحات الحاضر

عندما طُعِن الإسلام ونُعِتَ بأنه دينٌ دوغمائي، لا يحمل فكرًا أو فلسفة، فبدأ ينشأ ويتشكل مصطلح “الفكر الإسلامي” ليناوئ تلك الاتهامات ويتحرك في مسار تجريدي يضاهي المسارات المعادية له، وبدأ المصطلح في النمو لينتقل إلى تسميات على مستوى الأفراد كـ”مفكر إسلامي” وغيره على إثر هذا الواقع الجديد.

لكن موطن الجناية هنا على الماضي هي تصدير هذا المصطلح إلى الماضي واستخدامه في سياقات تاريخية لم تشهد تلك الإرهاصات التي ولّدت هذا المصطلح، وبالتالي فإن مجرد ذكر هذا المصطلح عند السرد التاريخي يعتبر إعادة تشكيل وهيكلة لتلك الحقبة وفق معطيات الواقع الحالي، وكذا تُعَدّ اعترافًا ضمنيًّا لنجاح الغزو الفكري الذي اجتاح العالم الإسلامي في ترسيخ الانفصالية بين العقيدة التي تقتضي العمل وبين الفكر المجرد، وأنّ هذا المضمار “الفكري” كله في عزلة عن الإنتاج العلمي بكافة مساقاته، وهذا النجاح لم يتوقف عند حدود الحاضر، بل استطاع أن ينتقل إلى الماضي ويرسمه وفق مصطلحات منبثقه من غزوه الآني.

قراءةٌ ضيزى!

يحتّج الكثيرون بآرائهم ويضفون عليها نكهة وثائقية من خلال قياسها على أحداثٍ وسياقات في الماضي، ويلزمون الآخرين بقولهم خصوصًا عند تشابه القضايا والأحداث، لكن موطن جنايتهم هنا أنهم تجاهلوا قرائن الزمان التي تحيط بكل حراكٍ وقع فيه، إذ إنّ الأحداث لا تحدث في مساحة فراغ عدمية فيُضمَن تمدد الحدث في هذا الفراغ بذات الطريقة في كل مكان وزمان، وإنما تحدث وسط قرائن متعددة ومتشابكة تُمثِّل الوعاء الذي يُشكِّل هذه الأحداث ويعطيها طابع معين، وبالتالي فإن محاولات القياس المجردة على الماضي دون ذكر القرائن وفهم ما تقتضيه لخروج الحدث بهذا الشكل يعتبر تجنّيًا على الماضي لطمس قرائنه، وظلم لأناسٍ كُثُر حُمِلت أقوالهم وأفعالهم على غير محملها وزُجَّ بها وسط قرائن جديدة منتظرين منها نتائج متشابهة!

ما واجبنا نحو الماضي؟

إنّ أول واجب علينا تأديته هو رفع الظلم عن الماضي وقراءته قراءة موضوعية غير متأثرة بضغوطات الواقع أو متقولبة بأفكاره أو محبوسة في مصطلحاته، إذ إنّ هذا الأمر لا ينحصر في كوننا نرغب في قراءة موضوعية واعية للماضي، وإنما يمتد لنزع الغشاوة التي وضعناها بأيدينا أثناء قراءتنا له، وبالتالي ضمان الخروج بأحكام واستنباطات ورؤى أقرب للصواب وأكثر واقعية، حينها يكون في مُكنتنا حقًا الاستفادة من هذا الماضي، لأننا رأيناه كما هو، بعينه هو، لا بعدستنا نحن، وكذا ستتبلور الأخطاء الحقيقية التي كانت في رحابه بوجهها الحقيقي دون تحريف يصيبها من لوثة قوالب الحاضر، لذا يجب على المشتغلين في الساحة الآن الاحتياط من استخدام أي مصطلح عمومًا قبل سبره وتمحيصه، والمصطلحات التي تخص الماضي خصوصًا لِما فيها من التداعيات المذكورة آنفًا، ولعل هذا يكون من أُولى الخطوات وأَولاها التي تسهِم في تحرير الماضي وما بُني عليه من تلك القوالب، وبالتالي صياغة واقع أكثر توازنًا ونضجًا.

مآلات الهوية الحداثية في عالم متسارع

لنفهم قضية الهوية حق الفهم لابد أن ندرك أننا لا نتلقى الواقع في موضوعية مطلقة، وسلبية تكتفي بالرصد والتسجيل، فالعقل الإنساني عقل توليدي يبقي ويضخّم ويهمش ويضيف ويحذف، وتتم عملية الإبقاء والاستبعاد والتضخيم والتهميش والإضافة والحذف حسب نموذج إدراكي يشكل هوية الإنسان هو في صميمه رؤية للكون.

الهوية.. كيف تتشكل ذواتنا؟

إن هوية شعب ما تتشكّل عبر مئات السنين من خلال تفاعله مع الطبيعة وبيئته الجغرافية ومع بني جلدته ومع الشعوب الأخرى. ولأن أعضاء هذا الشعب لا يعكسون الواقع كما هو، وإنما يتفاعلون معه، فعقولهم التوليدية تبقى وتستبعد وتضخّم وتهمّش، وكذا هويتهم فإنها تتشكل من خلال إدراكهم لما حولهم، ومن خلال تطلعاتهم ورؤاهم وذكرياتهم، فهي ليست مجرد انعكاس بسيط لبيئتهم.

من هنا تكتسب الهوية فرادتها وتركيبيتها التي لا يمكن ردها إلى قانون أو نمط مادي. ولكن عادة ما ينطلق الكثيرون من الرؤية المادية التي يسمونها “علمية”، فيدرسون الهوية في إطار النموذج المادي كما يفعل كثير من الدارسين في الغرب. واستخدام النموذج المادي يعنى استخدام الحواس الخمس، كما يعني دراسة الظواهر الإنسانية كما تُدرَس الظواهر الطبيعية. ومثل هذا المنهج يودي بالهوية تمامًا، لأنه لا يتعامل مع الواقع إلا من خلال معايير مادية، وهي معايير عاجزة بطبيعتها عن رصد الهوية في كل تركيبيتها وفرادتها.

إنسان السيولة المعولَم..

لقد أدى هذا المنهج إلى تعريف الإنسان باعتباره “الإنسان الطبيعي”، بمعنى أنه إنسان يتسم بسمات عامة أضيفت إليه من قبل الحضارة التي تحيط به، أي أنها ليست أصيلة فيه. وبذلك تتحول الهوية إلى مسألة مضافة آليًّا، وتغدو مجرد زخرفة، وهكذا يصبح المشروع الإنساني هو العودة إلى الإنسان الطبيعي متجاوزين الزخارف الإضافية.

“هذه الفكرة عبرت عن نفسها في فكر حركة الاستنارة الغربية -التي توصَف بأنها عقلانية مادية- كما تعبّر عن نفسها فكر العولمة، فالعولمة هي في جوهرها العودة إلى هذا الإنسان الطبيعي، الذي لا يعرف الحدود أو الهويّة أو الخصوصيّة وليس عنده أي إدراك أو اكتراث بالقيم الأخلاقية والمعنوية مثل الكرامة والارتباط بالأرض والتضحية. ولذا نجد أن خطاب العولمة يتحدث عن حرية انتقال السلع ورأس المال، والشركات عابرة القارات وحدود الدول، ولا يذكر شيئاً عن الثقافات أو الهويات المختلفة”(١).

الهوية في العصر الحديث بين الفردانية والجماعية

إن الفصل بين الفرد والمجتمع، والحديث عنهما كأنهما قوتان منفصلتان أو معسكران متقابلان هو من عيوب البحث النظري الذي يتصور حالات وقضايا لا وجود لها في واقع الأمر، لأن المجتمع هو مجموع أفراده، وكذا فإن الواقع المحسوس هو أن كل فرد هو في ذات الوقت كائن مستقل وعضو في جماعة. “ولذلك لا يمكن فهم حياة فرد، ولا تاريخ مجتمع دون فهمهما معاً [….]، يسعى كل فرد أن يكون ذا قيمة عند الآخرين وبالتالي فإن هذه القيمة تكمن في أحكام الآخرين. إن الشعور بالكينونة والوجود يكون من خلال تلك القيمة التي يمنحها الآخر بأحكامه، وهي أحكام دالة وجديرة بالاعتبار. أن يكون المرء كائنًا ما من أجل الآخر عملية تترجم الرغبة في تلك الهوية على نحو قطعي” (٢).

وهنا “تظهر المشكلة في أن هشاشة العبقرية تكمن في حاجتها إلى جمهور. وتلخص هذه العبارة إحدى معضلات الوجود الاجتماعي، فالفرد لا تترسّخ لديه العديد من السمات إلا بفضل الاعتراف الخارجي بها، اعتراف الآخرين، وكثير من تصورات الإنسان عن نفسه هي انعكاس واعٍ أو مشوّش أو ناقص أو مختزل عن تصورات الآخرين عنه” (٣) من أجل هذا “نجد أنفسنا في أحوال كثيرة في مأزق (تمثيل النفس)، بمعنى ما مدى مصداقية ما أعتقده عن نفسي وما يعتقده الآخرون عني، وتكمن صعوبة المأزق في التناقض الأبدي بين رغباتنا في الحصول على الإطراء وربما الشهرة والمكانة والاحترام وبين قدراتنا ومؤهلاتنا الشخصية، عند التعامي والانجرار خلف الرغبات تتضاءل المشكلة لدينا ونتحوّل لكائنات بائسة ومستلبة للآخرين وجاهلة بذاتها” فالنفس الحديثة لا تمتلك أي مضامين صلبة عن ذاتها لأنها تعاني من تعويم نفسي وتعيش في مرآة فارغة تستدعي قدرًا أكبر للإرشاد، و”المفهوم الحديث للهوية ينبع من تقدير الذات وأن الذات الداخلية لها قيمة، وأنها ليست مطالبة بالخضوع لقواعد المجتمع، بل إن المجتمع هو الذي يجب أن يتغير، وعليه تصبح الهوية سمة عالمية للشخصية البشرية التي تتوق إلى الاعتراف والإيمان بها”.

العصر الحديث وهوية التقدم

لقد أعلى العصر الحديث -بعد التحرر من القيم التقليدية- من القيم الفردية للشخص، وكيف يكتشف ذاته متفردًا عن الجموع حوله، وقد غدت علامات الطريق التقليدية أقل بريقًا وتأثيرًا وضرورة، وأصبح العالم الاجتماعي يواجهنا بتشكيلة واسعة ومحيرة من الخيارات، وللسرعة التي يتسم بها عصرنا دور في هذا، إذ يعني التغير السريع وكثرة المعلومات تشتّت المشهد وانعدام اليقين ممّا يعني أن الهُوية المتشكلة هي أيضا هُوية مترددة ومتعددة ومداها لحظي، “إن انهيار إحساس الثقة بالنفس والآخر، داخل أنظمة القيم الثقافية، وداخل الأنظمة الاجتماعية، من شأنه أن يعزز مواقف اللامسوؤلية وأن يؤدي إلى نمو النزعة السلبية والاتجاهات الفردية. حيث لا يبقى هناك شيء يمكن للمرء أن يؤمن به سوى الذات عينها ولكن هذه الذات لا يمكنها أن تكون قوية متماسكة وذلك لأنها محاطة بأطر منطقية ونماذج متضاربة ومتناقضة لذلك لا يمكن اليوم للإنسان المعاصر أن يتملك على إحساس الثقة بالنفس ويبدو أن ذلك التملّك في غاية الصعوبة. فالعمليّات التي تؤكّد النزعة الفرديّة في الغرب المعاصر تعود إلى انحلال الأنظمة المتكاملة، فالإنسان المعاصر لا ينفتح على أية تجارة ليس لها قيمة بالنسبة لوجوده الخاص”. (٤)

الهوية المعاصرة ووهم الحرية

لقد تم إقناعنا بأننا أحرار، وأن على كل واحد منا إيجاد هُويته المميزة، ليكون متفردًا عن أقرانه، إلا أننا في الوقت ذاته أُخضعنا إلى الاستهلاك الممنهج وتم إقناعنا أننا لا يمكن أن نجد هُويتنا دون شيء مادي نرتديه أو نقتنيه، لقد تحررنا من الرقابات ومن الأشكال التقليدية المجتمعية التي تُقوض حريتنا، ألا أننا الآن، متشابهون بنفس الدرجة في أسواقنا وعاداتنا، وأصبحت المنتجات هي تبيع لنا القيم، “وهكذا فإن الجيل الذي أراد إنشاء هويته الخاصة وكان يندد بالنزعة الاستهلاكية، اعتنقها بعد أن ساعدته في التعبير عن ذاته، فأمكنه شراء الهوية بدل إنشائها”. (٥)

إن تحرير الذات أنتج أنواعًا جديدة من الناس يصفون أنفسهم بأنهم أحرار من قيود المجتمع، لكن في حين شعور هؤلاء البشر الجدد بالحرية أصبحوا عالة بصورة متزايدة على هُوياتهم في السوق، وكما قال الآن تورين: “إنّ التحرر من الرقابات ومن الأشكال التقليدية للسلطة يتيح السعادة، غير أنه لا يضمنها، إنه يستدعي السعادة إلا أنه يُخضعها في نفس الوقت إلى التنظيم المُمركز للإنتاج والاستهلاك، والتأكيد بأن التقدّم هو السير باتجاه “الوفرة والحرية والسعادة” وبأن هذه الأهداف الثلاثة مترابطة جدًّا الواحدة منها بالأخرى، ليس سوى إيديولوجيا يعمل التاريخ على تفنيدها باستمرار”.


مصادر الاقتباسات:

  1. الهوية والحركية الإسلامية، دكتور عبد الوهاب المسيري
  2. الهوية، اليكس ميكشللي
  3. مقالة من صفحة الاستاذ عبدالله الوهيبي-
  4. الهوية، اليكس ميكشللي
  5. صناعة الواقع، محمد علي، مركز تفكر للبحوث والدراسات، 2014

سيرورة الحداثة والعلمنة.. من حداثة السوق إلى علمنة الحياة!

لم تكن الحداثة مجرد مرحلة زمنية عابرة، بل سيرورة جديدة يدخل فيها الإنسان في مرحلة جديدة من الوجود، حيث تغير فيها -بحسب تعبير د. هبة رؤوف عزت- “مقومات العيش الإنساني وأُعيد تعريف الزمان والمكان لتمنحهما معاني أكثر اقترانا بالرأسمالية في مراحلها المتتالية؛ وبالتالي أعادت طرح سؤال: ماذا نعني بالإنسانية وما خصائصها” [من مقدمة كتاب الحداثة السائلة]. فالحداثة لها طرفان: هدم ومن ثم بناء جديد، وأثناء هذا وذاك، ثمة حديث عن فصل شديد بين المجالات وخاصة الأخلاقية والدينية عن مجرى الحياة ومن ثم إعادة تمركز متطرف حول الإنسان فقط باعتباره مالكًا وليس مستخلَفًا، وهذا ما يمكن أن يشار إليه بالعَلْمَنة.

العلمنة .. فصلٌ مؤقّت أم مسار حياة؟

ثمة محاولات للخداع تدور دائمًا على الألسنة –خاصة في الوقت الراهن- في وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أن العلمنة فصل للدين عن الدولة، أي أن تقف الدولة على مسافة حيادية واحدة من جميع منتسبي الأديان، وألا تفضل أحدا لسبب ديني.

لقد انتبه إلى هذه الخدعة عدد من المفكرين مبينين أن العلمنة في جوهرها فصل للقيم الأخلاقية عن الحياة، لكن أي حياة؟

اصطدم د. عبد الوهاب المسيري بالمجتمع الأمريكي الحداثي، وكان هذا دافعًا له ليحلله مقارنًا إياه بمجتمعه المصري التراحمي، فأبدع مفهومين مركزين للدلالة على حال الحداثة المقترنة بالرأسمالية، فصار لدينا (مجتمع التراحم) في مقابل (مجتمع التعاقد)، وتبرز هنا مفاهيم الرحمة والعقد كمفاهيم مركزية ومفتاحية لفهم النماذج الفكرية في كلا المجتمعين، ففي المجتمع الأول تبرز الأخلاق القائمة على الرحمة في حين أن المصالح القائمة على الاتفاقات الشديدة الوضوح والتي لا تحتمل التأويل ولا التراجع عنها هي أس القيم للرأسمالية النفعية.

الثورة الصناعية .. صعود أم انحدار؟

جوهر القيم الأخلاقية يتركز في كونها عقلًا يمنع الإنسان عن مقارفة ما يسيئُ ويدفعه للقيام بما هو واجب، وكلما زادت أخلاق امرئٍ ما زادت دائرة واجباته، فالكريم لا يكتفي بإعطاء الزكاة بل يتبعها بالصدقات نظرًا لأنه يرى أنه موكل بوظيفة مساعدة الناس، وفي هذا الإطار يمكن فهم تصرفات عدد من الصحابة وغيرهم من الذين أخرجوا نصف أموالهم أو أكثر صدقة.

غير أن الثورة الصناعية التي تحققت في عصر النهضة غيَّرت كثيرًا من المفاهيم، لقد فتحت عجلة الصناعة ودورة التصدير شهية التملك والسيطرة وكسب المال، فظهرت سرديات فلسفية تمجد من الإنسان –الغربي- وقدراته وقوته واكتفائه بذاته، وانعكست هذه الفلسفات على الواقع بشكل أفكار الرأسمالية والاستعمار واستجلاب العبيد ونشأت سرديات تمجد النجاح المادي وبدأت أسطورة تحقيق ثروات بالتخلق وساعدتها لاحقًا الدعايات والأفلام في التضخيم.

في ضوء كل هذا أعيد النظر إلى الأخلاق على أنها قوانين يحتمي الضعيف بها، ومن أجل تخفيف القيود نُظِر إلى الأخلاق –التي هي تجلٍّ حقيقي للدين في حياة الفرد– على أنها قيد يجب التخلص منه. وهكذا بات ينظَر للدين –والأخلاق بالتالي– على أنها شأن شخصي بعد أن كانت مرتكزًا جمعيًّا واجتماعيًّا.

من دكان “المعلم” إلى الشركات العابرة للقارات.

في إحدى القصص -التي قد لا تكون حقيقية وإنما تشير إلى الحالة الجمعية والمخيال الجمعي– يفِد جواسيس من جيش الأعداء إلى المدينة فيدخلون السوق متنكرين ويذهبون إلى أحد الدكاكين ليشتروا بعض الأشياء فلما اشتروا حاجتهم الأولى وأرادوا ابتياع شيئا آخر طلب منهم صاحب الدكان أن يشتروها من جاره بحجة أنه باع بعض الأشياء في حين أن جاره لم يبع شيئًا بعد، فلما أخبر الجواسيس قائدهم عدل عن فكرة غزو البلدة مبينا أن هزيمة هذا الشعب غير ممكن.

هذه الحكاية قد تكون من نسج الخيال كما أشرت لكنها مهمة لفهم المجتمع وارتباطه بالأخلاق حتى في مجال الاقتصاد، بتعبير آخر فإنه لا يمكن الحديث عن شعب متماسك دون أخلاق حاكمة حتى في المجال الاقتصادي، هذه الأخلاق كانت تُعلَّم وتنقل عبر الأجيال بواسطة (المعلم) الذي كان يعلّم (الصناع) الجانب التطبيقي مع الجانب الأخلاقي بتعبير آخر ثمة معرفة نظرية وتطبيقية تتوارث وتنقل عبر الأجيال، وفي هذا الإطار ظهرت عائلات اشتهرت بـ”شيخ الكار” الذي يمثّل رئيس الحكماء في مهنته، فهذه المعرفة كانت تنتقل وتهذّب وتشذّب، غير أن فترة الحداثة غيّرت هذا وجعلت مهمة “المعلم وشيخ الكار” في يد مدرّبي التسويق وخبراء التنمية البشرية، وثمة فرق شاسع بين “المعلم” و”المدرب” فالتدريب يحيل إلى تعليم تقني مبرمج أكثر من “المعلم” الذي يأتي من العلم بداية والاحتكاك والاستمرار والمداومة. كما تغيّرت فكرة الاتجار مع الناس من الاستفادة وبناء ثروة شخصية إلى الاحتكار العالمي والسيطرة على الموارد وتركيز الثروات في أيدي الشركات العائلية –في جوهرها- العابرة للقارات.

رحلة المعرفة من الكلية إلى الجزئية

من الكتاتيب ومدارس الأمس إلى معاهد وجامعات اليوم، هذا ما جرى في رحلة المعرفة، فالتعليم الحديث بالرغم مما حققه من قفزات فإنه في الأصل يهدف إلى تخريج جيل من الشباب المهيئين نفسيا و”معرفيا” للعمل في معامل الحداثة وشركاتها العابرة للقارات، وهو تعليم يشتغل بتطوير مهارات معينة مع إغفال مهارات أخرى، لذلك فإن علوم الرياضيات والفيزياء وغيرها أكثر حضورا فيه.

بتعبير آخر فإن التعليم في زمن الحداثة تعليم تجزيئي ولا يمكن أن يقدم تصورا كليا عن العلوم والمعرفة. لأن هذا لا يخدم “الثورة الصناعية” وما ترتبط به من الرأسمالية والعلمانية.

ثمة تصور للمعرفة قائم على الإدراك الكلي للروابط بين العلوم المختلفة، فكل العلوم تؤدي –في نهاية المطاف- إلى نقطة واحدة، فالطالب –من خلال هذا المنهج- يطّلع على كل العلوم النظرية والتطبيقية ثم يختص بواحد منه مدرِكًا لعلاقة اختصاصه ببقية العلوم، ولذلك نجد في وصف العلماء القدماء ما يلفت النظر من كونه عارفًا بالعلوم النظرية وغيرها، وخذ مثالًا على ذلك الإمام الغزالي والرازي أو الفارابي وابن سينا وابن رشد حيث كان اطلاعهم على بقية العلوم المختلفة عاملا في توازن نظرتهم وعدم وجود تصادم معرفي مفرطٍ في حياتهم، أما المعرفة الحالية فهي معرفة مبتسرة مختزلة لا تستطيع إيجاد تصور كامل وشامل للكون، ولذلك نرى إشكالات معرفية في أفكار بعض من يوصفون بأنهم (رجالات العلم) حيث وجود أي دورٍ للعلوم الإنسانية والتفكير القائم عليها إلى جانب طغيان العلم المادي وتطوره بشكل يدعو إلى القلق، فالعلم في جانب من جوانب تطوره أصبح قاتلا ومخيفا وقد بدأت أصوات تتعالى بضرورة وجود حدود أخلاقية له.

لقد أفضت هذه الحالة التعليمية التجزيئية إلى أن تظلم بعض التخصصات المعرفية بتحميلها ما لا تحتمل فيدفع بها لتقديم أجوبة عن أسئلة ليست من حدودها وهذا ما نراه في حالة (العلموية) حيث ينظَر مثل إلى الفيزياء على أنها العلم الذي يجدر به تقديم الجواب عن أسئلة كلية كبرى كونية والحال أن هذا العلم مثلًا لا يستطيع أن يجيب عن أكثر من سؤال ” كيف”، وليس “لماذا”، وشتان بين السؤالين!

قصة نقل الحياة من “نحن” إلى “أنا”!

اِلْحق شغفك واسعَ وراءه، قم بما تحب، ادرس ما تحب، عبارات قد تكون جميلة ومحفزة في ظاهرها، لكن من المحتمل أنه لو درسنا خلفياتها لرأينا شيئا مختلفًا! فالسعي وراء الشغف يُخفي وراءه حياة فردية تتنكر لمتطلبات كون الإنسان مخلوقًا اجتماعيًّا، فثمة تصور للحياة مسبق قائم على التجمع والتكافل -أو كما سماه المسيري- فهو مجتمع التراحم، وقد ظهر الآن مكانه مجتمع الحياة الفردية بتسميته الأخرى مجتمع التعاقد.

في هذا الإطار ليس على الفرد إلا القيام بما يراه مصلحة أو يحقق سعادة له وهكذا ظهر في أدبيات التحفيز والتنمية عبارات من مثل الحق بشغفك، وحقق ما تحب، وقد تخفي هذه العبارات أشياء أخرى توحي بأنه يجب عليك أن تعيش في هذه الحياة فردًا لا يبصر معاناة الآخرين، ولا يهتم بما يواجه المجتمع من تحديات مختلفة!

ناقش المسيري هذه الفردانية وأساسها المتمثل في الحرية بناء على أنه قد ‏”أصبح من الممكن إغواء الإنسان الفرد وإيهامُه بأن ما يرغبُ فيه هو قرارٌ حرٌ نابعٌ من داخله، ولكنه في الحقيقة، شاهدَ مئات الإعلانات التي ولَّدت الرغبة الذاتية، وخلقت عنده الرغبة التلقائية” [الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، عبد الوهاب المسيري]

وهنا، فإنه من المؤكد أننا لا ندعو إلى محو الإنسان لذاته على حساب الجماعة، إلا أنه في الوقت نفسه يجب ألا ينظَر إلى الحياة ضمن منظور فردي يؤدي إلى نزاعات وإشكالات تظهر آثارها التدميرية على الكون منذ الآن، فالجشع المرافق للنظرة الفردانية وحب التملك الذي سيؤدي إلى التدمير البيئي آفات نراها اليوم في كل مكان.

خلاصة

إن العلمانية المتضمنة في جوهرها لتيارات الحداثة قد ولّدت كثيرًا من الإشكالات على المستويات الوجودية والمعرفية والأخلاقية، فعلى المستوى الوجودي بات الإنسان يرى نفسه مالك الكون وليس مجرد مستخلَف فيه، وكونه مالكا يعني أن كل شيء في منظور مباحٌ، ولهذا اكتسبت العلوم التي تهيئُ له السيطرة عليه أولوية في النظام المعرفي والعلمي، وهنا نواجه مشكلة معرفية فالعلم الكلي غاب عن مناهج التعليم لحساب العلم الجزئي.

إن نصف حقيقة -كما يقال- أخطر من كذبة، فالعلم الجزئي يولد كثيرا من الإشكالات التي لن تستطيع العلوم الرياضية والفيزيائية حلها، أما على المستوى الأخلاقي، فالإنسان الاجتماعي الذي يعيش ضمن منظومة جمعية من القواعد والمعارف بدأ يغيب لحساب الإنسان الفردي الذي يميل لقضاء حياة وحده وغاب مفهوم الأسرة لحساب المعاشرات السريعة وهكذا بدأنا نرى حروبا -وإن لم تكن معلنة- بين الناس الأفراد الموجودين في مدن مدججة بأنظمة المراقبة والأمن.

فلسفة التفرّد في الإسلام

أبتدئ مقالي هذا بالسؤال الآتي: هل هناك أسمى من رسالة الإسلام لكي تصل عموم البشر وتخرجهم من الضلال إلى الهداية والنور؟

بالنسبة لنا –نحن المسلمين- فإننا لا نظن بغير ذلك. لكن هل يبرر لهذه الغاية النبيلة أن تعمّم عبر إغواء الناس بمن يعظّمونهم ويقتدون بأفعالهم وقراراتهم؟ ومن يقرأ في حادثة ابن مكتوم الأعمى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد أن الجواب “لا”، حتى إن كان ذلك يعني الوصول لأعداد غفيرة في وقت قصير ودخولهم الإسلام جميعًا، فلم تشفع غاية الرسول في دعوة أشراف مكة ليتبعهم أهلها، في دفع العتاب الرباني على عبوسه وإعراضه عمن قصده في السؤال ليهتدي إلى دين الله بنية صادقة.

ولعلّ الحكم في هذا، أن دخول هذا الدين يبدأ بتزكية النفس أولاً من الاتباع، اتباع الشهوات والهوى وما ينطوي فيهما من رجاء وابتغاء في الآخرين، فذلك جوهر تسليم الأمر كله لله تعالى، في رد الشر وجلب الخير.

هي العبودية الأمثل والأجدر للاعتناق، لأنها تحترم مشيئة الإنسان فتدعوه بمخاطبة عقله وإجابة أسئلته ومن ثم تستميل الإيمان في قلبه حتى يبلغ اليقين. إنها ليست عبودية رِقٍّ تسلب الإنسان حريته، بل عبودية رُقِيٍّ تضبط النفس البشرية وتهذبها بما يتوافق مع تكليفها.

عِبَرٌ لا بدّ منها!

نمرّ على هذه الحادثة التي خلّدها الله تعالى في كتابه العزيز، ونغفل عن ماهية تفرد كل إنسان في اختياره المكفول له حتى يلقى حسابه.

إن كل طفل يولد، يتعلّم مفتاح الحرية في كلمة (لماذا؟)، ويستمر الأطفال بممارسة هذه الحرّيّة في السؤال حتى يتوقف بعضهم في مرحلة ما، أهمّ الأسئلة بدأت بهذه الكلمة، وأعظم الاكتشافات نتجت عنها.

لماذا سقطت التفاحة؟ وكأن التفاح لم يسقط قبل ذلك من شجرته! إنه استفهام السببيّة الذي يُظهِر حرية عقلك في التفكير، ويدل على أنك لست خاضعًا لفهم من حولك، والذي يمكن أن يكون قاصرًا أو منحرفًا أو متقاعسًا ومؤدٍّ لعللٍ عديدة أخطرها أنه ليس هناك قدرة على الالتزام بمتطلبات التغيير أو حتى الرغبة في ذلك.

يمكننا أن نرى انعكاس أبعاد هذا الهدي الرباني في قصة الأعمى على ما وصلنا إليه من ضعف في هويتنا الإسلامية. ولا أقول بسبب قوة التأثير، بل هو ضعف حقيقي بدرجات متفاوتة تصل للافتتان التام.

أتباع الثقافة الغالبة

هم فئة يدينون في تصرفاتهم لما يملى عليهم بشكل غير مباشر، فيتابعونهم عبر التقليد والإجابة عن سؤال المظهر لديهم، كيف يلبسون؟ ماذا يأكلون؟ كيف يتكلمون؟ من يصادقون وينصرون؟.

يظنون أنهم عبيد لله تعالى ويدينون بحقه وعلى صراطه المستقيم فيما يفعلون لكنهم تابعون للمؤثرين حاملي لواء الثقافة المشوهة من الغرب على أنها جزء من حضارته. وأدهى من ذلك اعتقادهم أنهم أحرار في خياراتهم ومتفردين في اتخاذها.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، يا معلّمنا وقدوتنا لو كنت بيننا اليوم، فكيف نقول ونوضحُ لجنابك –حتى- أصغر خيارات المسلمين في حياتهم؟

تضع بعض الفتيات الطلاء على أظافرهن، وتخالف لون البنصر عن بقية الأصابع. تسأل إحداهن لماذا اخترت ذلك؟ فتقول: لا أعلم، قد رأيت هذا الشكل على أظافر غيري فأعجبني، ففعلت! فإن أعلمتها أن هذا الفعل يعرف أساسًا بـ(Femme Flagging)  في الثقافة الغربية بأنه كان سائدًا كإشارة بين الشاذين والشاذات لرغبتهم في ملاقاة نفس الجنس، فحينها –قد- تشعر بالخجل.

بمثال آخر، فإنك قد تتكلّم مع أحد الفتيان، فيحدّثك بفخر عن عمل قام به ثم يتبعها بحركة (Dabbing)، فتسأله لماذا اخترت هذه الحركة تحديدا فيقول: لا أعلم، حركة رائعة يفعلها الجميع. فإن أعلمته أنها إشارة رمزية لتدخين الحشيش بين مغنّي الراب، لربما شعر بالخجل.

والشعور بالخجل -على الأقل- أمر محمود؛ إذ إنّه مرتبط بالهوية الدينية ويضعها فوق الاعتبار. أما أولئك الذين ينكرون المعلومة، ويستخفّون بضررها، ويحفظون القاعدة الفقهية القائلة: “الأصل في الأشياء الإباحة” دونما تحرٍّ في البحث، فإن مفتاح الحرية لديهم يتحوّل من (لماذا)؟ إلى (لِمَ لا)؟ في كل جديدٍ طارئٍ مستحدَث.

بكل تأكيد فإن هناك فرق بين السؤالين ولو بدا ظاهرا الحرية فيهما، إلا أنّ الأول متحفِّظٌ والثاني متحرر. وبينما يتحقق الأول من الموانع والضوابط، نجدُ الثاني دافعًا للترغيب بالمنفعة واللذة كيفما اتفق. وهؤلاء “المتحررون” من الضوابط أولُ من يسارع لاتهام المحافظين بالتشدّد، وشعارهم في الحياة لكل بدعة جديدة أن “الدين يسر” وأن مضمون الرسالة الإسلامية العقدية أهم من هذه الشكليات المرمّزة. ولو أنك اقترحت عليهم جدلًا تزيين الأظافر بشعار الحزب النازي، أو حيَّيْتَهم بتحية هتلر، لرأيت الزجر والتشدد في الهوية الإنسانويَّة المستحدَثة!

حين يتحوّل التهديد الناعم إلى وحشٍ شرس!

تهديد الهوية الإسلامية هنا تحديدًا ليس في اتباع المسلم للسمت العام المتحرر وتعرضه للزلل في السلوكيات الناجمة عنه، فكل امرئ –غير معصوم- ضعيف أمام المغريات وقد يقع في الأخطاء، وإنما التهديد هنا بارتضاء التبعية وما تبطنه من قناعات قد تتعارض مع الإسلام دون التثبّت منها، بحيث يتأثر تدريجيًّا بأفكار ما بعد الحداثة التي يهمين على محتوى قنوات التواصل الاجتماعي، والتأثر بالبيئة الخصبة لترويج الاستهلاكية واللحظات الآنية والسخرية.

فوق ذلك، نرى أولئك وجوه الإعلام الافتراضي المؤثرين -ممن يرسّخ هذا الفكر- يسعون لإضفاء طابعهم الشخصي المتفرّد في كل أمر عن علم ودون علم، وفي أحيان كثيرة يصبح رأيهم بمثابة التشريع لمتابعيهم.

إن المفارقة هنا أن القول السديد عند غالبية المؤثرين يفصّل على قياس سعة قبول المتابعين، فلا أحد يريد أن يخسر متابعيه. وفي غياب المرجعية الدينية وتحت وطأة اعتناق هذا الفكر اللقيط والمضطرب ذاتيًّا، سواء من المؤثر أو المتابع، لا مناص من انتقاد الإسلام بنفس كيفية التشكيك في جزئيّات العقيدة والعبادات والمعاملات، وتغليب أجزاء على بعضها؛ وهكذا يغدو من الطبيعي الإيمان بأن الله الرحيم سيدخل الملحد الخلوق الجنة! وأن في بعض مناسك الحج مظاهر وثنية يجب أن تلغى! وأن الاقتراض مع وجود أضرار الربا تَحِلُّ للمحتاج! وغير ذلك مما يقدّمه هؤلاء المؤثرون، وكل هذا على فرض أن المؤثر الجاهل يقدِّم فكره بحسن نية، فكيف لو كان مدفوعًا لتغيير فكر المتابعين؟!.

إن المصيبة الحقيقية تكمن في أن عمل المؤثر على المنصات الافتراضية معرّضٌ دائمًا للاستغلال من قبل أجندات كثيرة تخدم مصالح الساعين لإفشال أي محاولة نهضويّة أو إصلاحية في مجتمعاتنا، وتلك المصالح التي تقتضي تغيير فكر العامة في إنشاء انطباعات بديلة، واستحسان بِدَعٍ جديدة، وتبنّي آراء غريبة …إلخ، بما يمتلكون من أساليب إعادة التوجيه وإحكام السيطرة.

وهذا الأمر مارسته الشركات الرأسمالية في الإعلانات بصفاقة قبل أن تعتمده الحكومات. إذ ما معنى أن يدعو لاعب رياضي محبيه لأكل الدجاج المقلي، ورقائق البطاطس المهدرج زيتها، وأن يشربوا المياه الغازية المحلّاة في الوقت الذي يمتنع هو عن ذلك لدواعي الصحة واللياقة؟

وفيكَ انطوى العالَم الأكبر

هناك شيء ما في فطرة الإنسان يدفعه في قرارة نفسه للاعتقاد بأنه مميز ومتفرد كبصماته. أليس عجيبًا أن نتشابه في الأسس التشريحية للأجساد ونتمايز في تفاصيل البصمات البيولوجية؟ وكأن الله تعالى يقول لك إنك متفرد لديه، فلا تظننّ نفسك نكرة بين الناس.

إنّ تَفرّد الإنسان في فلسفة الوجودية يكمن في حريته التامة في التفكير والاختيار والإرادة، دون قيود مادية أو معنوية، ولعل ذلك ما يلتبس على البعض فينزع صفة التفرّد عن العبودية لله في الإسلام، مستندين على تلقين الله الدين لعبده. لكن في ذات الوقت هذه الحرية التامة (الخيالية) تقتضي عدم التأثر بحوافز وأحكام ومنافع… إلخ مما يجعل وجودها في الإنسان يعدُّ ضربًا من الخيال، لأنه مجبول على حب الشهوات، ويُسأل عما يفعل، ويحتاج لوجود الآخرين.

إن ذلك يقودنا إلى أن حرية الإنسان تحتاج لأن تكون مقيدة بشكل أو بآخر كي تكون واقعية؛ أي أن تكون متأثرة بضوابط معيّنة سواء بتعاليم الدين أو القانون أو العرف الاجتماعي أو غير ذلك. وهنا نستطيع أن نقول: إن تفرد المرء لا يتعارض مع الحرية المقيدة إن كان من يفرض القيود ذو حرية تامة مطلقة.

يتمثل هذا التفرّد –في الإسلام- بحرية المرء في مقاومة هوى النفس. بمعنى آخر، حتى لو وحّدنا الدين على الناس جميعًا لبقي كل إنسان متفردًا في عمله الصالح وتقربه لله تعالى؛ لا يطغى عمل عبد على آخر، ولا يجزى عبد دون الآخر، ولا يؤاخذ عبد بعمل الآخر.

وهذا هو التفرّد الحقيقي القيّم بمعزل عن التفرّد الظاهري في خيارات الناس وتصرفاتها المتأثرة ببعضها البعض. وهو ما يحقِّقُه الله تعالى لكل عبد وضع دينه نصب عينيه في تفكيره وخياراته، وابتغى مرضاة ربه في عمله.

العمارة الاجتماعية والصديقة للبيئة: البيوت الطينية مثالًا


إن ما نتج من الصناعة المكثفة لمواد البناء المصنعة من إسمنت وحديد في حقبة الحداثة جعل بعض المعماريين يأخذون موقف متحيزًا من الحداثة وأخذوا على عاتقهم مسؤولية تقليل التلوّث في عمارتهم ونتاجهم البنائي.

لقد أبعدت الحداثة كل ما هو غير مادي وملموس عن الحسبان، وقد عرّف المعماري العراقي الراحل رفعت الجادرجي فكر الحداثة قائلاً: “تتساوى الشعوب في متطلبات وإمكانيات تلبية حاجاتها، ولذا لم يؤخذ هذا الموقف النظري بعين الاعتبار لخصوصيته الإقليمية والثقافية والحضارية والصناعية وخصوصية تحديد الهويات الإثنية و الوطنية والتراثية” [جاردجي،1998، ص20].

إن التركيز على السياق الوظيفي والتكنولوجي وارتباطه بمفهوم الموضوعية المعمارية بعيدٌ عن السياق الثقافي والحـضاري، وقد أدى ذلك إلى ابتعـاد عمـارة الحداثة عن الانسجام والتفاعل مع المجتمع والسياق الحـضاري الذي تظهر فيه، بمعنى أنها أخفقت في تواصل عمارتها وما سبقها من تقاليد وموروث حضاري، [الذاتي والموضوعي في عمارة الحداثة وما بعد الحداثة، د. فلاح جبر، أ.م.د. عباس علي حمزة].

أدى ذلك في كثير من الحالات إلى فقدان هوية المكان التاريخية، وجعل المعيارية الأولى في تقييم نجاح المشروع المعماري في قيمته الاقتصادية، دون اهتمام كبير بما هو متعارف عليه من تصورات تقليدية للجمال والتراث. بل بات النظر إلى الجمال مرهونًا بمدى الكفاءة الاقتصادية والوظيفية عند المعماريين الحداثيين، مع أن مفهوم الجمال عادةً ما يكون متسامي عن المنفعة، إلا أن الحداثيين يرون أن الكفاءة والعملية والمنفعة القصوى هي الغاية، وعندما تنفذ هذه الغاية وتطبّق بانسجام وبشكل متناسق، بذلك ندرك ونستشعر الجمال بصورة مفهومة مناسبة لتطلعاتنا.

الحداثة والتراث عند المعماري حسن فتحي

مُنحت أول جائزة آغا خان التقديرية في عام 1980 للمعماري حسن فتحي، وهو مهندس معماري وفنان وشاعر مصري، لُقّب بالفيلسوف المعماري وعالم الاجتماع في العمارة العربية، وذلك تقديراً لالتزامه مدى الحياة بالهندسة المعمارية في العالم الإسلامي، وقد كانت أطروحاته غير مسبوقة ومثيرة للجدل، يقول فيها إن الرجوع للتراث هو قمة الحداثة، وبما أن المعيارية الأهم في العمارة المعاصرة هي الاقتصاد، فإن العمارة الطينية اقتصادية ولا تحتاج لأدوات مكلفة ولا إلى مختصين لفهم التعقيدات التقنية. يكفي وجود مادة البناء في الطبيعة (الطين) ووجود أشخاص ومعماريين وحرفيين مهتمين بتبني هذا الأسلوب في البناء، وبعض رأس المال البسيط، وهكذا يثور الإنسان على المنظومة الرأسمالية بعودته لأصله البدائي الشاعري.

صورة لمرشحي جائزة آغا خان للعمارة في دورته الأولى. د. حسن فتحي يجلس على يمين آغا خان الرابع. المصدر: ardalanassociates.com

تدريجيًّا، لقيت العمارة الطينية الكثير من الاهتمام من العماريين المهتمين بالبيئة والمهتمين بالثقافة على سواء. ولم تعد مقتصرة على مفهومها الاقتصادي، بل أصبحت نمطًا معاصرًا و”ستايل” معينًا يطلبه الأثرياء ليعيشوا أجواء غير اعتيادية ويستشعروا بقربهم من الطبيعة وانسجامهم بالسياق المحلي وما فيه من خصوصية بيئية ومناخية.

المحافظة على البيئة والكفاءة في التصميم

الفيديو التالي للبيوت الطينية في مصر:

https://www.youtube.com/watch?v=xLeVdrxI8u4

كما يوضح الفيديو، يوجد العديد من الدراسات التي تؤكد أن القيمة الاقتصادية لبناء البيوت والمباني الطينية لا تقتصر فقط على سهولة اقتناء مواد البناء المحلية وعدم الحاجة لاستيراد مواد خارجية فحسب، ولا حتى على دمج المجتمع في عملية البناء وإعطاء المواطنين مسؤولية بناء مأواهم الخاص، بل أيضاً في وجود خصائص فيزيائية للطين تجعله يناسب مختلف التقلّبات الجوية من حر وبرد في الأقاليم الحارة مثل مصر والمكسيك وعدة بلدان أخرى. وذلك أن في الطين خاصيّة العازل الحراري، وهكذا يكون دافئًا في شتاء وباردًا في الصيف. كما أن تنظيم المبنى بشكل معين من الساحات والغرف المتباينة في الحجم وبفتحات ونوافذ مدروسة وفي الاتجاه الموازي لحركة الرياح المحلية في المنطقة قد يجعل تسيير الهواء البارد داخل المبنى ممكناً بشكل طبيعي، دون الحاجة لمكيفات هوائية أو أجهزة كهربائية باهظة التكلفة.

العقلية البدائية وربطها بالتراث

نرى في كثير من الأحيان اهتمامَ جائزة آغا خان للعمارة بربط الهوية والتراث بما هو بدائي. إن الحداثة أحدثت صدعاً كبيراً في تصورات الناس لمفهوم التراث والثقافة، والذي أدى في الكثير من الحالات بتجريم الحداثة والعقلانية والمنفعة وتعزيز النوستالجيا الشاعرية في العودة لما هو طبيعي وقديم، وهنا يجب القول إن أطروحات المعماري حسن فتحي تستحق الدراسة والاستفادة منها، فهي عمارة فلاحية بامتياز، تركز على الإنسان والطبيعة بهدف صناعة بيئة تصلح للعيش في انسجام وتوافق بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، حسب تصورات مؤيديه.

إن الفكرة المعمارية في الأعمال البارزة لا تـشكل انعكاسـاً أو تعبيراً عن ذات المـصمم مـن ناحيـة، ولا تعبيـراً موضوعياً مباشراً عن مفـردات الظرف التصميمي، الأعمال العظيمة في العمارة هي التي صنعت معماريها العظام، وهؤلاء لم يكن همهم التعبير عن أنفسهم أو ذواتهم فحسب، وكانت أعمالهم دائماً منبثقة من خصوصيات الظرف التصميمي بعد التعمق بها وبلورتها. [الذاتي والموضوعي في عمارة الحداثة وما بعد الحداثة، د. فلاح جبر، أ.م.د. عباس علي حمزة].

صورة ترمز لجماليات عملية البناء كمرحلة مستمرة من التفاعل والتغيير، من تصوير د. عمار خماش. المصدر: facebook.com

يقول المعماري الأردني د. عمار خماش والمرشح السابق لجائزة آغا خان للعمارة في إحدى منشوراته على مواقع التواصل: “في العمارة، نفقد الجانب الأكبر  من الجماليات غير المقصودة و الناتجة غالباً عن صراحة الموقع و جمال تعامل يد وعقل الإنسان مع المواد و حيثيات التنفيذ.”(1) ويتوافق مع هذا الكلام ما قاله المعماري المصري د. عبد الحليم ابراهيم في مقابلته مع د. عبد الوهاب المسيري عندما تم تكريمه بجائزة آغا خان للعمارة، حيث يقول د. عبدالحليم: “هناك في عملية البناء بعض الأحداث التي تربط ما بين طاقة الجماعة الإبداعية وجذور هذه الطاقة الإبداعية في عقائدها ووجودها وتقاليدها وثقافتها وبين عملها المبدع المنتج بصفة عامة. وهذه الأحداث يمكن أن توصف ويمكن أن تقنن ويمكن أن تكون ارتكازًا لعملية جديدة تصف البناء والمعمار”(2).

الإبداع والجمال في العصر الحالي

المعماري المبدع هو المعماري القادر على الإحاطة بحياة أمتـه وتـسجيل أعظـم إنجازاتهـا، وأدق تفاصـيل مجريـات أمورهـا، لأنـه يحمل مسؤولية اجتماعية وأخلاقية وجمالية تجاهها (برلنسكي،1982،ص18-19 )، وهذا يتطلب منه أن يرتفع بمستواه الفكري و الثقافي، ويرتقي بمزاولته الإبداعية من خلال إذابة الواقع (الموضوع) في الإبداع المعماري.

إن عمـل المعمـاري المبـدع هـو عمليـة ذات بعـدين، البعـد الأول ذاتـي ويتعلـق بالمعمـاري والحالة النفسية المختلفة التي تسعى لإنتاج عمل يتميز بالأصالة، والبعد الثاني هو الموضوعي الذي يتعلق بالآخرين وبالمجتمع والظروف البيئيـة والحـضارية التـي يعـيش فيهـا المعمـاري ]الذاتي والموضوعي في عمارة الحداثة وما بعد الحداثة، د. فلاح جبر، أ.م.د. عباس علي حمزة[. وبالتالي فإن معرفة ما هو مناسب لهذا العصر وترجمته في اللغة المادية من الثقافة هو أمر في غاية الأهمية وهي قرارات سهلة ممتنعة ترتكز على العديد من العوامل التي يجب أخذها بالحسبان. وهنا فإنه من المهم متابعة اتجاه سير جائزة آغا خان وتدقيقه، لنعرف على أية معايير يقيمون نجاح كل مشروع معماري.


المراجع:

جادرجي رفعت، عالم الفكر، عن المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب، الكويت، مجلد 27 ،عدد 2 أكتوبر/ديسمبر 1998.

بيلنسكي، الممارسة النقدية، ترجمة د.فؤاد مرعي و د.أ مالك عصفور، دار الحداثة، الطبعة الأولى، بيروت، 1982.

الذاتي و الموضوعي في عمارة الحداثة و ما بعد الحداثة، د.فلاح جبر، أ.م.د.عباس علي حمزة، المجلة العراقية لهندسة العمارة والتخطيط, 2011, المجلد 10, العدد 22-23-24, الصفحات 27-44. تاريخ الزيارة 22/05/2021. الرابط: https://www.iasj.net/iasj/download/e0cd264e1ac28222.

اقتباسات أخرى:

  • منشور على فيسبوك للمعماري عمار خماش. تاريخ الزيارة 22/05/2021 . الرابط:

https://www.facebook.com/photo?fbid=1136003656469968&set=a.127266427343701

  • لقاء نادر سُجل عام ١٩٩٢م يستضيف د عبدالوهاب المسيري في صالونه؛ المعماري د عبدالحليم ابراهيم. تاريخ الزيارة 22/05/2021. الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=1lMm01KN_zE&t=1174s

الانتماء في اللامكان

هل شعرت في مرة من المرات بعدم الانتماء للمكان الذي أنت فيه؟ ولا بد من التوضيح إلى أني لا أقصد هنا عدم الانتماء لمجتمع معين، وإنما أن يكون المكان الذي نراه ذا ملامح غير واضحة أو غريبة بحيث لا يمكن التعرف عليه أو إيجاد سبل للتواصل لفهمه واستيعابه.

يرى بعض المنظرين المعماريين أن استشعار هذه الحالة هو أحد نتاجات الرأسمالية المتأخرة، فإهمال السياق الثقافي والتاريخي لمختلف بقاع الأرض واستبداله بنموذج حداثي –شبه موحّد- يضع الأولوية للتكنولوجيا والعلوم التي وصلها الإنسان بجعل كل الأماكن في بقاع الأرض متشابهة، وبالتالي يمكن القول إن العمارة الحداثية تجمعها هوية مشتركة وهي التقدمية والكفاءة التكنولوجية، وهي في الوقت ذاته نموذج عام لا يضع خصوصية للمكان والسياق، أي لا هوية خاصة فيها.

have-i-been-here-before-an-exploration-of-liminal-spaces/

على التوازي من ذلك، قد تشعر في نفسك متآلفًا مع مكانٍ ما تصادفه أو تدخله للمرة الأولى، إن موضوع الأماكن التي تعطي الإحساس بواقع مغاير انتشرت كثيراً على مواقع التواصل الاجتماعية، وأقتبس هنا -من أحد المقالات المتخصصة- “عندما تدخل إلى مطعم أو مبنى مدرسة لم تطأ قدمك فيه من قبل، ولكنك تصاب على الفور بشعور من الألفة، وإحساس مقلق تقريبًا، تقشعرّ عظامك. يبدو الهواء كثيفًا مع الحنين إلى الماضي، والقشعريرة تتسلل إلى رقبتك وذراعيك وتشعر بالتجمد، وتحاول بشدة البحث عما كنت هنا من قبل، مثل اللحظات التي أعقبت الحلم مباشرة، عندما لا يزال المرء متمسكًا بالحلم.”(1)

هل يمكن إنشاء وبناء اللامكان كمكان للانتماء؟

نحت الأنثروبولوجي مارك أوجيه مصطلح اللا مكان non-place وقصد به الإشارة إلى الأماكن العامة مثل محطات الحافلات ومحطات القطارات والمطارات التي مهما كانت متقنة وعظيمة فإنها لا تمنح شعورًا بالمكان أو الانتماء.

عادة ما تكون هذه الأمثلة أو الأمكنة أماكن انتقالية، لا يوجد فيها وظيفة أو غاية محددة بل هي وسيلة بين حالتين مختلفتين من الوجود: المغادرة والوصول. وبالتالي فإنه من المفترض للإنسان ألّا يشعر بالانتماء فيها لأنها ليست مكانًا بحد ذاته، وإنما هي فاصل بين لحظتين أو مكانين.

إن مفارقة اللا مكان -وفقًا لأوجيه- تعني أن أي شخص يمكن أن يشعر فيها بغض النظر عن خلفيتهم الثقافية لأن هذه الأماكن تعتبر غريبة على الجميع بالتساوي. لكن ماذا إن أصبح عدم الانتماء هو الذي يجمعنا؟ وبالتالي فإننا سننتمي كلنا لهذا الشعور من عدم الانتماء؟ ماذا لو أننا –مثلاً- سافرنا إلى بلد غريب ثقافياً بالنسبة لنا، فإن المكان الأكثر ألفة في ذلك البلد سيكون عند التواجد في المصعد الكهربائي الفارغ وعند صالات المطارات وفي الفنادق، وهي أمثلة لما يعتبر “لا مكان”، والذي يبدو في هذا السياق عالميًا ومفهومًا للجميع.

By 颐园新居 – Own work, CC BY-SA 3.0, https://commons.wikimedia.org/w/index.php?curid=32598793

الفرق بين المكان واللامكان

يُعتقد أن “المكان”، تم بناؤه بشكل علائقي محمّل بالمعاني، ومن ثمّ فإن تشكيله جاءَ من خلفية تاريخية واسعة ثقافيًّا، وبذلك فإن البشر –باحتمال كبير- قد يجمعون على أن المنزل يمكن أن يكون رمزاً للمكان. أما “اللا مكان” من ناحية أخرى، يؤخذ إلى أماكن فيها تجريد من المعنى، وتكون متجانسة لا هوية محددة لها، وقابلة للتبديل إلى حد كبير.

جادل الفيلسوف الوجودي بول تيليش في كتابه (علم اللاهوت النظامي) حول حاجتنا الملحة للانتماء إلى مكان ما، فالانتماء للمكان “وسيلة للحصول على مساحة. يسعى كل كائن إلى توفير مساحة لنفسه والحفاظ عليها. وهذا يعني قبل كل شيء موقعًا ماديًا – الجسم، قطعة أرض، منزل، مدينة، بلد، العالم. وهي تعني أيضًا “الفضاء” الاجتماعي – مهنة، مجال تأثير، مجموعة، فترة تاريخية، مكان للتذكر والترقب، مكان داخل بنية من القيم والمعاني. ألا يكون لديك مساحة ومكان معناها أنك غير موجود”.(2)

كل هذا يؤكد أهمية وجود حدود للشيء، وبالتالي القدرة على تأطير المفاهيم وعدم تركها حرة دون حدود. ومن المهم جداً فهم كيفية تحديد المكان في هذا العصر لأن ذلك له آثار في فهم الوجود ويمس الجانب الغيبي غير المحسوس من الإنسان في بعض الأحيان.

بالتوازي مع ذلك، هل الوجود في مكان جغرافي محدد هو ما يعطي قيمة وانتماءً للوجود؟ إن أبناء المهاجرين وأطفال الثقافة الثالثة – وهو مصطلح يشير إلى الأشخاص الذين ولدوا أو نشأوا في سنواتهم الأولى من حياتهم في ثقافات غير ثقافاتهم الأصلية– ينتمون لفضاء أوسع وغير مرتبط بأرض معينة، أي أن انتماؤهم أوسع انتشاراً ومرونة فلا يمكن نزعه بنزع الظروف والمواقع المادية. كما أن مفهوم الارتباط للمكان أصبح أقل حدية من قبل بسبب انتشار الانترنت والفضاء الرقمي.

يجادل بعض المفكرين أن دور العبادة تم استبدالها بالمتاحف الفنية في العصر الحديث، قد يكون ذلك صحيحاً بالنسبة للأماكن المجردة والانتقالية كذلك عند الإنسان الحداثي. فمثلاً السريالية هي السمة المميزة للمساحات المجردة، حيث إن الهدف المشترك هو إعطاء المشاهدين شعورًا بالألفة والاغتراب بنفس الوقت.

 

أي من الممكن أن يصبح المكان الذي لا معنى له، هو المكان الأكثر تأثيراً وأكثر قيمة، وبالتالي هل يصبح اللامعنى هو المعنى الأسمى؟ هذا ليس تشاؤماً بل محاولة لفهم الواقع المتغير للإنسان في العصر الحالي، فنرى أن رؤية غرفة صماء غير مزينة أو غير مؤثثة بغرض أو وظيفة محددة بوضوح يترك المشاهد في حالة من الصمت الشعوري أو شيء أقرب لعدم اليقين.

إن ربط الأماكن المجردة والانتقالية بمفاهيم غيبية موجود في فلسفات كثيرة مرتبطة بالحياة ما بعد الموت والحالات الانتقالية للوعي في الديانات الهندية، كما هو موضح في الصورة أدناه، وهي مرحلة انتقالية بين كائنين وشكلين من الوعي.

وكما أن الأماكن الانتقالية وربطها بالوعي موجود أيضاً في الديانات المسيحية واليهودية، وهي مواضيع يجدر الاطلاع عليها لفهمها بصورة أقرب. وبما أننا غير متخصصين في هذه المواضيع، فكل ما يمكننا فعله هو بحث الروابط فيما بينها والتحذير من آثارها في فهمنا للواقع وكيفية تفاعلنا مع المكان.


الإحالات:

  • مقال بعنوان هل كنت هنا من قبل؟ استكشاف المساحات “المجردة” Have I Been Here Before? an Exploration of “Liminal” spaces. https://cutt.ly/TnxSPD8
  • مقتبس من الكتاب: الهجرة والتنوع والتعليم: ما وراء أطفال الثقافة الثالثة Migration, Diversity, and Education: Beyond Third Culture Kids. https://cutt.ly/KnxSdj6

 

دور  العمارة البنيوية في تعزيز هوية المكان

ثمة –في حقل العمارة- عدد من النظريات المستخدمة، شأنها شأن بقية الحقول التجريبية والنظرية، وإذا ما أردنا رصد قائمة بنظريات الهندسة المعمارية، فسنجد النظرية الوظيفية واحدة من أبرز نظريات العالم المعماري عبر التاريخ، ومُنذ أن بدأ ما يُعرَف بعصر الأنوار أو عصر العقل مطلع القرن الثامن عشر صار ينظَر إلى المجتمع على أنه منتَج عقليّ محض بعيدًا عن العوامل النفسية والعاطفية، كما أن الآلات التي شكّلت جزءًا أساسيًّا من ثورة الصناعة صارت الملاذ الأهم لأصحاب رؤوس المال، حرصًا على الوصول للاستفادة القصوى من المال من جهة والآلات الصناعية من جهة أخرى..

إلى جانب ذلك ظهرت نظرية الاستفادة أو العمارة الوظيفيّة في العمارة، وقد كان المعماري السويسري/الفرنسي شارل إدوار جانيريه-كري -المشهور بلقب لو كوربوزييه- أحد أهم روّاد عمارة الحداثة في القرن العشرين، وقد كان أبرز من طبق هذه النظرية في كُل مبانيه وأحد أهم المطورين والداعمين للوظيفية في كل مبادئها .

أدّى مبدأ الوظيفية المحضة في الهندسة المعمارية إلى مشاكل عدة، منها أن مفهوم الوظيفة للمكان أو الآلة أو المبنى قد يختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى، فلا يمكن تحديد مفهوم واحد للوظيفة؛ إذ إن لكل سياق خصوصية مكانية وزمانية، ولكل مجموعة من الأشخاص أولويات مختلفة في استخدام الآلة أو المبنى، وبالتالي فإن عبارة (الشكل يتبع الوظيفة Form follows Function) المتداوَلة بين المعماريين العقلانيين الحداثيين بدأت تترجم نتائج تناقضاتها في الواقع الحي.

بوستر يحمل شعار (الشكل يتبع الوظيفة). المصدر: digitalbeauty.com

البنيوية في العمارة

يمكن التأكيد على أن البنيوية في العمارة أقرب لأن تكون ردة فعل على الحداثة، لكن على عكس حركة ما بعد الحداثة، فإن البنيوية تطوّرت بشكل أبطأ وأقل وضوحًا خلال عدة فترات في العقود الماضية.(1)

في عام 2012 قُدِّم السؤال الآتي -حول جائزة المعمارية البريطانية المعروفة اختصارًا بـ RIBA-: “هل ينبغي منح الـ Venturis الميدالية الذهبية الملكية RIBA لهذا العام؟” ويُقصَد بذلك روبرت فينتوري وزوجته دنيس براون اللذان يعدّان من أشهر منظري العمارة في تيار ما بعد الحداثة-.

إلا أن المثير للدهشة هو أن لجنة RIBA لم تمنح Venturis الميدالية، وبدلاً من ذلك، أعطت المعماري الهولندي هيرمان هيرتزبيرجر الجائزة لهندسته القائمة على النظرية البنيوية ومساهماته النظرية.

المعماري هيرمان وأحد تصاميمه المعمارية. المصدر: architectureandeducation.org – alchetron.com/Structuralism-(architecture)

شعور الاغتراب في العمارة المعاصرة

ثمة تحوّل عجيب يلاحَظ في تركيز المعماريين في تيارات ما بعد الحداثة، فمع أن العقلانية الحداثية كانت شديدة الحزم في تعريف العمارة على نحو صلب، إلا أن السيولة التامة في أفكار فينتوري لم تكن لتنقذ الموقف، مع أهمية أفكار النقدية التي قدمها.

لقد كان تعليق جاك برينجل، الرئيس السابق لـ RIBA أن “الميدالية الذهبية الملكية، أرقى جائزة بريطانية، يجب أن تذهب إلى مهندس معماري يدفعنا إلى الأمام، وليس إلى الوراء”.(2)

لقد كان المعماري الهولندي هيرمان هيرتزبيرجر متأثرًا بالفكر البنيوي على نحو واضح وجذري، وكانت القضية الرئيسية لهيرتزبيرجر هي مشكلة تفاعل المستخدمين مع المبنى وكيفية منع الشعور بالاغتراب الذي تنطوي عليه اللغة المجردة للهياكل النحوية الموجودة في بنية العمارة.(3) وكنا قد تكلمنا عن ذلك سابقًا في مفهومه للتأقلم والاستجابة للتغيير، ونظرياته التي توضح الفرق ما بين المرونة وتعدد الأوجهFlexibility vs Polyvalence .

المشاركة في البنيوية المعمارية

الفكرة الرئيسية التي ترتكز عليها البنيوية المعمارية هي مبدأ المشاركة، حيث إن المستخدمين يكون لهم دور في تحديد هوية المكان، كما يكون تحديد وظيفة المبنى مبنيًّا على حاجات المستخدمين الأساسيّة، فشخصية المستخدمين وهويتهم غير ممسوحة في البنيوية المعمارية وذلك على عكس العمارة الحداثية، وبالرغم من أن هذه المباني صلبة ومجردة مثل العمارة الحداثية، إلا أن ما يجعلها مختلفة عن العمارة الحداثية هي أنها أكثر قابلية لإعادة التأويل في الزمان والمكان، ففيها مساحات كبيرة (حيز مكاني) ومسامات واسعة (في الوظيفة) تسمح بالتغيير وعدم التشدد و تعطي فراغ للمستخدمين لإضفاء على المكان طابع خاص على حسب السياق والوقت (حيز زماني).

إلى جانب ذلك فإن العمارة البنيوية متأسسة على نظام الكبسولات المتعددة، التي تنتشر بحسب السياق وحسب الحاجة، فتكون مثل النسيج المتماسك بخلاياه المتفردة، وبالرغم من أن كل كبسولة تعَدّ كيانًا خاصًّا، إلا أنها مترابطة ومتلاحمة مع الكبسولات الأخرى لتنتج نسيج يجمع ما بين المساحات العامة والخاصة بطريقة تسمح بإضافة جدران إضافية عند الحاجة أو توسيع الفراغات بين الكبسولات لإيجاد أماكن لها طابع خاص.

يجب التنبه هنا إلى أن الكبسولات قد تنتج هوية عامة متماسكة قابلة للتعريف، حيث إن هذه الطريقة في توزيع المساحات والبناء تضمن وجود أماكن عامة وأماكن أكثر خصوصية، ومن الأمثلة على ذلك هو برج كبسولة “ناكاجين” في طوكيو عاصمة اليابان؛ إذ إن البرج متكون من كبسولات منفردة ومتراكبة بشكل متفاعل مع السياق الموجود، فوجود الكبسولات بأمكان واتجاهات محددة يكون بحسب عوامل عدة يتم تقييمها وإيجاد حلول متأقلمة مع العوامل.

برج كبسولة ناكاجين في طوكيو. المصدر: https://www.archdaily.com

التأقلم بين العالمية والمحلية

تكمن أهمية العمارة البنيوية في أنها تجمع ما بين العالمية والمحلية، فهي قابلة للتغير والتأقلم بحسب السياق وتستلهم الحلول من الواقع المحلي، وتعدّ مباني جامعة قطر –من وجهة نظر هندسيّة بحتة- مثالًا واضحًا على قدرة العمارة البنيوية على استلهام النموذج المحلي وترسيخه، فقد صمّمت مباني الجامعة ونفّذت من قِبَل المهندس د. كمال الكفراوي، وتتميّز الأبنية بالتصميم التجميعي لوحدات متكررة مع استخدام الحلول التقليدية المحلية المتمثلة في البراجيل (ملاقف هواء خليجية) والمشربيات والتظليل والحوائط المزدوجة والأفنية الداخلية.(4)

 وهذا يقودنا لضرورة دور فهم خصوصية المكان في استيعاب الواقع؛ حيث إن مبدأ “هوية المكان” صار مهمًّا جداً في فكر ما بعد الحداثة لدى أطياف مختلفة، وذلك لأهميته في حياة الإنسان، فالإنسان يحتاج الشعور بمكانه في هذا العالم ليتمكن من هضم الواقع واستيعابه، وإلا فإنه سيكون تائهًا طوال الوقت دون القدرة على الربط مع المحيط المادي وما يدور حوله من تغيرات.

علاقة الوعي الإنساني بالمكان

من الجدير بالاهتمام وجود الكثير من التركيز على مفهومي الزمان والمكان في العصر الحالي. فإن كنا نعيش في عصر السرعة وتغير الزمان على الدوام، فإن علينا التساؤل: ماذا عن المكان؟ وكيف يمكن أن نفهمه، وكيف نربط وعينا به؟

قد تكون العمارة البنيوية بابًا للإجابة عن هذه الأسئلة، وقد تكون أجوبة غير شافية بالضرورة، نظرًا لكون البنيوية تستلهم نظريّة متشابهة بشكل عام، لكنها تقدم حلولاً قد تبدو مناسبة للبعض، كما أنها تضعنا في قلب الواقع المعاش حتى ندرك حجم الإشكالية وثقلها، وبذلك فإنها تفتح مجالًا لأسئلة وإشكاليات أخرى، تتطلب منا مداومة البحث والنظر، أي أنها تنتظر مبادرة الفردِ ووعيه الخاص لتعطيَ نمطًا مغايرًا، كما أنها تبقى صماء عند غياب شخصية الإنسان.

إن أغلب التصميمات المعاصرة للمباني في عصر ما بعد الحداثة غير واضحة في مدخلها ومخرجها، وفي بدايتها ونهايتها، كأنما تترجم الواقع السريع الذي نحن فيه، حيث كل شيء مؤقت وغير ثابت، لا أهمية له إلا في اللحظة الراهنة.

تعتمد البنيوية المعمارية على وجود الإنسان حتى تنجح، وبدون الإنسان يبقى التصميم غير ناجح ولا يؤدي وظيفته تماماً، فالبنيوية بطبيعتها تهتم بتكوين وحدات مصممة ومتعددة الأوجه شكلياً في جميع مستويات الوجود الإنساني (سواء كان الوجود يتعلق بغرفة أو مبنى أو مدينة). فقط عندما يستحوذ المستخدمون على الهياكل من خلال الاتصال أو التأويل الفوري أو ملء التفاصيل، تحقّق الهياكل وضعها الكامل وتكون قد أثبتت نجاحها.(5) وهنا يمكن لنا إنهاء المقال بهذا الاقتباس من المعماري هيرمان “في البنيوية، يميز المرء بين هيكل ذو دورة حياة طويلة والجيوب بدورات حياة أقصر.”(6)


الإحالات والمصادر:

لكتابة هذا المقال، تم الاستفادة من مقال (ما بعد الحداثة) على موسوعة السبيل. تاريخ الزيارة 11/05/2021 https://cutt.ly/5bSp9f8

  • مقال حول العمارة البنيوية. تاريخ الزيارة 11/05/2021 https://cutt.ly/QbSpUDY
  • المصدر السابق نفسه
  • تم الاستفادة من التغريدة التالية عن عمارة البنيوية لدى هيرمان هيرتزبيرجر https://cutt.ly/sbSpAPv
  • تم الاستفادة من المنشور التالي عن مباني جامعة قطر https://cutt.ly/ybSpDJJ
  • Arnulf Lüchinger, Structuralism in Architecture and Urban Planning, Stuttgart 1980. Structuralism as an international movement. Including original texts by Herman Hertzberger, Louis Kahn, Le Corbusier, Kenzo Tange, Aldo van Eyck and other members of Team 10.
  • مقال حول العمارة البنيوية. تاريخ الزيارة 11 /05/2021 https://cutt.ly/xbSpGRp

 

التشفير لغة العصر

أظهرت لنا الأحداث المنصرمة قدرة شبابنا على تجاوز معضلة التقييم والمعايير التي تفرضها إدارات ومالكو وسائل التواصل الاجتماعي، سواء من حيث الكتابة بالأحرف غير المنقوطة، أو تغيير بعض الحروف من لغة إلى أخرى، أو فصل الحروف بعضها عن بعض بطريقة دالّة على تعمّد ذلك، وغير ذلك من وسائل وطرق التشفير المتعمّد..

لعله من المناسب القول: إن لغة التشفير هي اللغة المناسبة لهذا العصر، سواء كان ذلك من حيث النص المكتوب، أو الصورة المنشورة، فلكل نص وصورة أكثر من تأويل، لا يدركه إلا من امتلك خلفية واختصاصًا معيّنًا، وذلك بسبب الانفتاح الحاصل بين الشعوب والثقافات.

الحقيقة بين الظاهر والباطن

يقودنا هذا الكلام إلى البحث في المقولة الآتية: وهي أن القدرَ المسلّم به من ظاهر الحقيقة “قد لا يكون كل شيء”، حيث إن خلف ذلك باطن يدركه المختصون ويفهمه المدققون المحقّقون، فقد تعدد الدوائر الثقافية واتسعت، وقلّ -أو كاد يكون إلى الندرة أقرب- وجود المختصين الذين يهتمون لدقائق الأمور، ومن هنا ينبغي الإشارة إلى أن تيارات ما بعد الحداثة قد زادت من حدة هذه التصورات المبطّنة غير المنضبطة، وذلك لعدم وجود معيارية محددة ولا مدرسة فكرية ثابتة تتمحص الحقائق من خلالها.

التشفير

يعمل التبديل والتشفير على فتح مدارك جديدة في الوعي، ويضع المتلقي في حالة ذهول لكبر وعمق الظواهر التي أمامه، وبالتالي يعلم أن الذي أمامه ليس بالشيء البسيط وإن بدا كذلك.

يزعج التشفير -على الأقل- الإنسان؛ إذ يجعله يتخلى عن مسلّماته المسبَقة، ويعمل على تحريك وتبديل أماكن وجود الحقائق في دماغه، فعلى سبيل المثال، لو أن أحداً قام بتحريك جهازك النقال على الطاولة وأنت مشغول بالحديث، فإنك عندما تتفقّده مرة أخرى ستكتشف أنه ليس بالمكان الذي تصوّرت أنه فيه. وليست المشكلة في محض “التحريك”، إذ إنها ليست أمرًا عظيمًا، إلا أن المشكلة تأتي من كونك قد فقدتَ السيطرة على ما تمتلك.

دعنا نتساءل!

ماذا نمتلك من حياتنا هذه في نهاية المطاف؟ ما مدى سيطرتنا على البيئة من حولنا؟ ماذا إن كانت البيئة المصنوعة من حولك هي التي تسيطر على مقتنياتك وحتى تصوراتك؟

نعود ونكرر، إنها ليست نهاية العالم لو أن أحدهم استطاع تحريك جهازك النقال، دون أن تنتبه، فربما حرّكه لمصلحتك، أو ربما كان الجهاز على وشك الوقوع وهو قام بتحريكه حتى لا يقع مثلاً، أي ليبعد الضرر عنك من شيء لم تنبته إليه أو تعلمه، إلا أن المشكلة في ذلك كله هي أنك فقدت السيطرة على ما تمتلك.

لنفكّر الآن في الموضوع من مبدأ أهميّة التشفير؛ إذ إن حدثًا بسيطًا كتحريك الجهاز النقال من الطاولة يمكن تأويله بطرق كثيرة، تجعلنا كل واحدة منها نعاود النظر في كيفية عيشنا لحياتنا اليومية، وتدفعنا لتحليل كمية الرموز التي نتلقّاها من كل فعل أو كلمة نفعلها ونقولها.

ضرورة الدقّة والتخصّص

ماذا إن كان لعامة الناس مطلَق الحق في تفسير الظواهر وجعل آرائهم مهما تناقضت بمثابة القول النهائي الفَصل؟

كثيرٌ من الناس يتسوّر على الاختصاصات الأكاديميّة وينزعج من الدقة التي تقوم عليها، ويسوَّق أن الأمر ليس كما نظن أننا نراه، بل إن بعض الناس يظن أن الأكاديمي قد يخادع الناس بالتقاطه للفروق في مختلف القضايا الأكاديمية الدقيقة، وإبراز ورقة المصطلحات التي قد تكون معقدة للغاية، كما هو الحال في تخصصات الفلسفة وفلسفة اللغة والتأويل.

هنا ينبغي علينا القول: -إنها على الأرجح- ليست بذلك التعقيد وينبغي علينا محاولة فهمها، وإن تطلب ذلك وقت وجهد مثل تعلّم أي علم.

من المؤكّد أن ترك المحترف يقوم بعمله على الوجه الذي يتقنه أفضل وأجدى، إذ إن صاحب الخبرة والاختصاص أكثر دراية فيه منا، ولا ينبغي علينا التذمر من الظواهر التي نراها؛ إذ إن غير المتخصص لا يدرك التفاصيل المختفية تحت الظاهر، فعلى سبيل المثال، نحن نرى أن البنائين يصدرون الجلَبة والضوضاء في عملهم، وأن المكان يغطّى بالإسمنت والتراب وبعض الروائح غير المستساغة.. إلا أننا لا نبني على ذلك حكمًا سلبيًّا، إذ إنهم إنما يفعلون ذلك من أجل إنجاز البناء بشكلٍ متينٍ وهيئة أفضل، وعليه فإننا لا نتذمر من وجود الاسمنت أو الضوضاء الصادرة، إذ إنه من دون ذلك لن يتحسّن البناء.

بالتوازي مع ذلك، فإن لنا الحق في طرح الأسئلة ونقد وتكسير التصورات المسبقة التي بناها لنا أشخاص آخرون في وعينا دون استئذاننا، حتى لو تحجّجوا بالقول إنهم فعلوا ذلك لمصلحتنا، أي ربما نود تحسين المكان بمادة أخرى غير الاسمنت، خاصة إن امتلكنا القدرة على فهم البديل أو إنشاء تصوّر عنه.

جاك دريدا

قد يكون للفيلسوف جاك دريدا وجهة نظر في رؤيته التي تقوم على تفكيك الأبنية الفكرية واللغوية من دون أخذ الإذن من أصحابها، خاصة إذا ما استخدام أفكاره في وجه كلِّ منتَج مليءٍ بالغرابة والخيبة وفقدان المعنى والغاية من حولنا، وحين نفهم الواقع الذي نعيش فيه، ونمتلك الكيفية الصحيحة للتعامل والتفاعل مع ما يحيطنا، من تغيرات في الزمان والمكان، حينها نعلم حقيقة غايتنا من الوجود والمعنى من كل ما نفعله.

التفكيكية وتعدد الأوجه الوظيفية في نمط المعمارية زها حديد

تُعَدّ المعمارية الراحلة زها حديد -رحمها الله- واحدةً من بين أكثر المعماريات تأثيراً في العمارة المعاصرة حول العالم. وبطبيعة الحال فإن الجدل يكثُر حول ما قدمته من تغييرٍ في مفهوم العمارة والفضاء المعاش والذي ما زال مثير للجدل والنقاش، حيث إن هناك فئة من المفكرين والمعماريين يرون أن أعمالها تفكيكية لا سياق محدد لها، في حين أن باحثين وناقدين آخرين يرون أن أعمالها حالمة للغاية وغير واقعية، بل إنها -إلى جانب ذلك- مكلفة اقتصادياً وأشبه بشراء تحفة فنية بدلاً من بناء مبنى.

هذا الكلام من ناحية عملية مقبول، إذ إن الدول بالفعل تتباهى بوجود مبنىً من تصميم معماري عالمي –كأعمال زها حديد- وكأنها تحفة فنية صُمّمَت لتعرض للناس، إلى جانب ذلك يرى البعض أن أعمالها مقتصرة على الجانب الجمالي من التصميم دون اعتبار كبير للوظيفة من المبنى أو الجانب الاقتصادي، ولا حتى التاريخ الخاص بالمكان والتقاليد والثقافة الخاصة بموقع المبنى وما يحيطه من سياق.

المصدر: aletihadpress.com

 

هل عند زها حديد رؤيا منعشة ومجردة أم رؤيا أيديولوجية؟

وقد تكون بعض هذه الدعاوى صحيحة وقد تكون مقبولة وصالحة للنقاش، إلا أنه من الجيد دراسة توجهات زها حديد الفكرية والفنية ومعرفة سبب اتجاهها لهذه التصاميم.

في مقابلة لها مع الإعلامي ريكاردو كرم -وكانت تفضل فيها التكلم بالانجليزية مع أنها تفهم اللغة العربية- كانت توضح أنها لا تتقيد بالتقاليد الموروثة. (1)، إلا أن من يدرس كلامها وأعمالها يدرك أن توجهها ليس تفكيكيًّا بالكامل، ومن ثمّ فإنه من غير الإنصاف وضع كل أفكارها في خانة التفكيكية العبثية، نظرًا لكون أعمالها التفكيكية موضوعة لهدف وغاية ووظيفة معينة وليست أعمالاً عبثية لا معنى لها، كما سنرى في هذا المقال، إلى جانب ذلك فإن بعض آرائها المعمارية تعد منطقيّةً للغاية وتفتح الأذهان لطرق جديدة في التفكير الهندسي.

ينبغي علينا -قبل الشعور بالتهديد من التفكيك- تعريف كل من “التقليدي”  وتبيين معنى “الإرث الثقافي” وأهميته وأي جزء منه يستحق الاحتفاظ، قبل البدء بتصنيف الأفكار ما بين (تقليدي) و(غير تقليدي).

ربما يمكننا الانطلاق من تحديد (ما هي الثقافة) وما هو الإرث الثقافي، قبل الغوص في ضرورة تقديس التراث وعدم السماح بمساسه.

 

مطار بكين داشينغ الدولي، المصدر: architizer.com

 

ردة الفعل الفكرية للمعماريين فيما بعد الحداثة

لقد كان توجه زها حديد للنزعة التفكيكية طبيعياً في الوقت والظروف التي كانت فيها؛ إذ إنه مع مشارفة تيار الحداثة Modernism على الأفول، ومحاولة بعض المعماريين إعادة إحيائها، أدركت زها حديد مع معلميها ومعماريين آخرين أن تاريخ الفن الحديث توقف عن النمو، فقالت: لقد أحبِطَ تاريخ الحداثة

(The History of Modernism was aborted).  وبالتالي فإنه كان لا بد من القيام بقفزة تالية وإنجاز أعمال معمارية تفسّر الفن الهندسي وغيره من الأمور بطريقة مختلفة، إذ إن تحدي الواقع يتطلب إعادة ابتكار الرسوم والتصورات والتكنولوجيا وتجارب الفضاء المعاش، وكل هذه الخطوات والتوجهات كانت لتطوير منهج ومشروع نظري لفهم الواقع وفهم العصر بشكل مخالف لما كانت عليه تيارات الحداثة.

من المبادئ المهمة لإيجاد معنى حقيقي ومؤثر للمكان، ألّا يكون مبنيًّا على الرتابة المتكررة التي تم اعتمادها في العمارة الحديثة، وبالتالي فإن فكرة التجاور Juxtaposition كانت في غاية الأهمية لتوليد طرق جديدة لفهم الفضاء المعاش وتغيير نمط وسلوك الناس في تصورهم للمكان، من خلال كسر النمط المعتاد ودمج القديم بالحديث وبالتالي إنشاء تصادم كبير وهدم للمقاييس عبر التفكيك.

أي أن التفكيك كان لهدف محدد، وهو إيجاد معنى وتجربة جديدة مختلفة عن النمطية الصناعية التي خلفتها العمارة الحداثية الوظيفية.

من المثير للاهتمام أن في تصميم المبنى الواحد للمعمارية زها حديد، تكون طوابق المبنى مختلفة عن بعضها البعض، والتالي فإن وجود طوابق عديدة في المبنى الواحد لا يعني أن التجربة المعاشة ستكون نمطية في كل الطوابق، وهذا بالضبط هو عنصر المفاجأة في إيجاد معاني ووظائف جديدة للمكان التي يستشعرها المستخدم ويدرك أن المبنى –وحتى الوجود- لا يقتصر على وظائف جامدة محددة مسبقاً.

ME Dubai hotel, the Opus, Dubai, UAE. Source: architizer.com

رأي زها حديد عن العمارة الإسلامية

من الجدير بالاهتمام أن زها قد سُئلت في مقابلة معها عن رأيها في العمارة الإسلامية -بما أنها عراقية الأصل- وقد يتصور للكثيرين أنها بعيدة كل البعد عن الهندسة المعمارية الإسلامية الشرقية التقليدية، إلا أنه كان مهمًّا فهم رؤيتها لهذا الفن الهندسي.

تقول المعمارية: إنها ليست منفصلة عنه كثيراً؛ لأن الكثير من المهندسين العصريين تأثروا بالهندسة المعمارية الإسلامية. وأوضحت أنها ليست متأثرة بطريقة واضحة وشكلية بفن الخط والكتابة إلا أنه لا شك أن فكرة سلاسة الخط وسيولته موجود في رسوماتها وتصاميمها. حيث إنها تستلهم الأفكار التجريدية والتنظيمية بدلاً من النتائج الشكلية. وبالتالي فثمة تأثير من العمارة الإسلامية في أعمالها، فهي توضح أنها تتعلم وتتأثر بطريقة واستراتيجية التصميم وتنظيم المساحات بدلاً من التعلم والاستلهام مما تسميه بـ”الهندسة المعمارية الإسلامية الفولوكلورية والتقليدية”.

الهندسة تعكس لغة العصر

تكمل حديثها وتقول إن الهندسة تعكس العصر الذي نعيش فيه الآن، ونحن الآن لا نعيش بالطريقة ذاتها التي كنا نعيش فيها قبل 3 آلاف سنة. تنبّه مُحاور المقابلة لهذا الكلام وقال لها “لكن هذا هو إرثنا”، إلا أن المعمارية كانت ثابتة في تأكيد أن الحفاظ على التراث يكون عند الضرورة وبوجود وظيفة معينة له، وهي ليست مقتنعة بالفلوكلورية وربطها بالطراز الإسلامي. وتؤكد ذلك وتقول: “أنا آسفة لكن إن لم يكن كلامي صحيحاً فإن هذا يعني أنه لا يمكن للعالم الإسلامي التقدم لأنه متمسك بتراثه، لا يمكن الجمع بين الإرث والحداثة إلا من خلال استخدام أفكار التراث في تنظيم المساحات الحديثة”.

Niederhafen River Promenade, Hamburg, Germany. Source: architizer.com. Photographer: ©PietNiemann. Source: architonic.com

 

أما عن رأيها بالمعماريين العرب الذين يحاولون الدمج بين الحداثة والتراث، مثل المعماري رفعت جادرجي و د. راسم بدران وحسن فتحي وعاصم سلام، فقد أشادت أنها قد تعجب ببعض أعمالهم إلا أن انتقادها هو لتوجههم الفكري وليس لأعمالهم بشكل تقني، فقد يحترف أحدهم في إعادة تصميم التراث لكن مع ذلك فإن النقد هو ليس للعمل بعينه بل للتوجه. فليس كل ما هو قديم يعني أنه جيد في النهاية، وتظن أن اتجاه الكثير من المعماريين في هذا العمل فظيع ومريع.

نقد توجهات العمارة الإسلامية

لتأكيد وجهة نظرها بطريقة موضوعية ولتثبت أنها ليست معادية للطراز الإسلامي وأنها تحاول توضيح طريقة ومنهج فكري لإنقاذ الطراز الإسلامي من حصره بشكل ونمط معين، تقول: إنه من الجيد التعلم من التراث في فهم كيفية تنظيم المدينة وكيفية العيش وفقاً لطرق واستراتيجية التنظيم، وحتى تتكون أفكار ملهمة ذات معنى مناسب للعصر وناجحة لا تناقض فيها.

ترى أن هذا التوجه أفضل من جعل الإرث أداة للتزيين، وذلك لئلا تبنى ناطحات سحاب عليها أقواس خارجية بهدف تسمية ذلك بـ”الطراز الإسلامي”، إذ إنها ترى أنه لا يمكن حصر الطراز الإسلامي بأشكال معينة وإن كانت بعض الأشكال المعهودة جزءًا من الطراز بصورة عامة، وذلك بهدف التجديد وعدم الجمود، إذ ليس الهدف هو التخلص من الجماليات أو التخلص من الطراز الموروث، وإنما إعادة النظر في الاجتهاد البشري المعماري الذي فرضت أشكالاً كبيرة منه الأحوال التاريخية والبشرية ووضعته موضع التقديس.

CityLife Shopping District, Milan, Italy. Source: architizer.com

في ختام المطاف، فإن اجتهادات زها قد يوافقها البعض، ومن الطبيعي أن ينتقد آراءها آخرون، فهي تقول وجهة نظرها وهي قابلة للأخذ والترك. إلا أنها تفتح آفاق للنظر بكيفية ربط تصورات الإنسان الحديث بالمكان وكيفية إنشاء معنى للوجود وتوضح الطرق التي ينشأ بها هذا المعنى، وتقربه في الوقت ذاته لفهم المسلم المعاصر بطريقة تجعله يتقبل تراثه ويحترمه، مع حرصها على ألّا يحصره بأنماط أو أشكال وأزمان محددة.


الإحالات:

(1) مقابلة في برنامج Zaha Hadid | وراء الوجوه – مقابلة مع زها حديد: https://www.youtube.com/watch?v=Av__gx3i8vc&t=1817s