الأنثى والحجاب بين تشبُّثٍ وتخلٍّ
لاحظتُ مؤخراً أمراً استحوذَ على تفكيري، ولم أرنُ بعدُ لإجابةٍ شافيةٍ كافية وافيةٍ عن السبب الحقيقي خلفها، وهو سرّ تخلي الأنثى عن حجابها بعد سطوعِ نجمها، وتحقيقها لمرتبةٍ ربّما كانت حُلما تتسلّقُ إليه بكل جوارحها ثمّ ما لبثت حين وصلت إليهِ أن تجرّدت من حجابها أولاً ويكأنه سيشكّلُ عائقا أمام بزوغِ هذا النّجمِ، أو سيؤدي إلى تبدّده!
تساؤلات على طريق الالتزام
لستُ أدري، لكنّه أمرٌ يستدعي طرح تساؤلاتٍ مهمّة على النّفسِ، من قبيلِ: هل ارتدينا الحجابَ عن قناعةٍ تامّةٍ، أم أنه كان محضَ سلطةٍ فرضها الوسطُ العائليّ المحافظ، أم أنه رغبةٌ مؤقتة ما فتئت أنِ انطفأت جذوتها وخمدت؟ فإذا ما كنا ارتديناه عن قناعةٍ محضةٍ، فكيف نفسرُ التغيّر الجذريّ الحاصلَ بعد سنواتٍ من ادّعاءِ القبضِ على جمرِ السّترِ والعفافِ، ليختفيَ الشّعارُ الرّنانُ فجأةً، ويحلّ محلّه شعاراً آخرَ بالتّحرّرِ موسومٌ، وبالحياةٍ مزعومٌ؟ وهل يمنعنا الحجابُ من الحياة؟ ثم هل تكمنُ القيمةُ الفعلية للأنثى في إظهارِ خصلات شعرها؟
بدايةً، وقبل الشّروعِ في الإجابةِ عن الأسئلةِ التي طُرِحت آنفاً، وتفكيكها وِفقَ حيثياتٍ واقعيّةٍ، وتناولها من منظورٍ تحليليّ نفسيّ، وجب أولاً التّنديد بهاته الظاهرة التي تفشّت على نحوٍ كبيرٍ على أبواب مواقع التواصل الاجتماعي التي خوّلتْ للمرءِ خاصيّاتٍ عِدة من ضمنها خاصيّة التأثير والتأثّر، والتي شكلت مجمّعاً ضخماً يُدعى بالمؤثرينَ؛ هذا المُجمّع يعملُ على ترسيخِ قيمٍ وسلوكاتٍ من خلالِ تشكيلها وفقَ قوالبَ تناسبُ عقلَ كلّ متلقٍّ ومتأثرٍ بأفكارهم.
ومن ضمن هذا المجمّع، نجدُ صنفَ المؤثّراتِ، واللائي بدأنَ مسيرتهنَّ بروتيناتٍ بسيطةٍ، اتّسعتْ دائرتُها مع كلّ تحديثٍ وتحدٍّ يفرضهُ التطبيقُ على مُستخدميه، من خلالِ تجربتي مع مواقع التواصل الاجتماعي منذ بدايةِ عهدي بها، تعرّفت على مؤثراتٍ، وتابعتُ بعضهنّ، وتأثرتُ ببضعٍ من أفكارهنّ ما شاء لي الله أن أفعل، فكنت أغبطُ هاته على لباسها المتناسقِ المحتشمِ، وأحسدُ تلكَ على ما حباها الله بهِ من سترٍ وعفافٍ يجمّلها، وكنتُ أحياناً أسأل الله أن يرزقني القبولَ الذي رزقهنّ، ثمّ كبرتُ، وقرأتُ، ونضجتُ بالقدر الذي جعلني أدركُ مدى التّزييفِ الذي كنتُ واقعةً فيه، لأكتشفَ أنّ تلكَ التي كنتُ أرجو حذوَ حذوها بالستر والوقار، قد أصبحتْ وبعد أن فاضَ عليها التّطبيقُ بخيراتهِ من المتابعين والمتابعاتِ بدونِ حجابٍ، نزعتهُ عن رأسها نزعاً، بينما أخرى قد أصبحتْ تتساهلُ في إخراجِ خصلةٍ من مقدّمةِ الرّأسِ، وكأن في ذلك إثباتٌ لعدمِ إصابتها بالصّلعِ، بينما أخرى قد أعلنتْ تنديداً واسعَ النّطاقِ عن معاداةِ الحجابِ، بعد أن كانت لا يُرى منها إلا الوجه والكفّينِ، ليحلّ عليها يومٌ وقد أصبحَ الجزء المكشوف من جسدها أكثر من المستور.
هذا التّفسّخ المُعلن، والتحرّر المدَّعى يدفعنا للتساؤلِ والتّوقف عند هذا المنعطفِ الخطير.
نعودُ هنا لمسألة أولى، وهي هل حقّا ارتداءُ الأنثى للحجابِ كانَ عن قناعةٍ تامّةٍ؟ إن الجزمَ بذلكَ لا يكونُ إلا بعد التّعرِضِ لبضع تساهلاتٍ أو نقاطِ اختبارٍ، ما يجعلها تُقرُّ وتجزمُ بمدى اقتناعها بالحجاب من عدمهِ، قد تأتي هذه الاختبارات في لحظاتٍ فارقةٍ تجعلها إمّا متشبثةً بحجابِها، أو متساهلة متخليّة عنه، فهبْ أنّ القدر أتاحَ لها إمكانيّة إتمامِ الدّراسةِ في منطقة تبعدُ عن مكان سُكناها، ولا يعرفها هنالكَ أحدٌ، وقد زيّنتْ لكِ شياطينُ الإنسِ مدى حسنها وجمالِها بدونِ حجابٍ، وأنّهُ لا بأسَ بالتّجردِ منهُ في مكانٍ لا رقيبَ ولا عتيدَ عليها فيهِ. هُنا في هاتهِ اللحظة بالذّاتِ تُدركُ الأنثى علاقتها بحجابها إن كانت متينةً بُنيتْ على أسسٍ صلبةٍ، أم أنّها بناءٌ مهترئٌ يهتزُّ بربعِ كلمةٍ، ويزيغُ بثُلثِها.
المسألةُ الثّانية هي إذا ما كان الحجاب محضَ سلطةٍ أبويةٍ فرضها الوسطُ العائلي المحافظ، وهذا النّوعُ من السّلطِ يجعلُ ثقةَ الأنثى مهتزّةً بنفسها أولاً، وبعائلتها ثانياً، كونها تربّتْ على نِطاقٍ سُلطويٍّ محضٍ يغيبُ فيهِ عنصر الحوارِ بالحكمة، والموعظةِ، وبالتي هي أحسن وأقوم، فتجدُ الأبَ قليلَ العلمِ، لا يفقهُ من دينهِ إلاّ ما شاء الله له أن يأخذَ من فقهاء المسجدِ، وخطباءِ الجمعةِ، فيُدرجُ المسائلَ وفقَ بعضها، ويخلطُ بين ما تُمليهِ العاداتُ وما تنصّ عليهِ الأحكام الشرعيّةُ، فيشكّلُ فكرةً عامّةً تجعلهُ ينهرُ أكثرَ مما ينصحُ، ويوبّخُ أكثر ممّا يعظُ، ويُعاقبُ أكثرَ ممّا يُعلّم، فتتشكّلُ هالةٌ من الخوفِ لدى أبنائه وبناتهِ خاصّةً، فيُطِعنَ عن خوفٍ وضعفٍ، ثمّ ما إن تسنحُ الفرصةُ، فتنقضي حياةُ وليّ الأمر ويوافيهِ الأجلُ، أو تغدقُ عليهنّ الدّنيا من نعيمِها وخيراتِها، فيستقِلن بذواتهنّ، حتى يشرعنَ في التّحرّرِ من الحجابِ كإعلانٍ عن التحرّرِ من أول سلطةٍ قيّدتْ حريّتهنَّ.
اغرس القِيَم بالحكمة
تخيّلْ لو أنّ خِطابَ القمعِ حلّ محلّهُ اللينُ والوعظُ، وبدلَ تعدادِ عباراتِ التّوعدّ بالعقابِ إذا ما لم ترتدِ الأنثى الحجابَ، أن يتِمّ تعدادُ محاسنِ السّترِ، وذكرِ قصصِ أمّهاتِ المؤمنينَ والصّحابياتِ وهنّ خيرُ نساءِ المسلمينَ وأطهرهنّ، وبدل التّوبيخَ يحلُّ التّنويهُ، فيُحبّبُ الحجابُ لقلوبهنّ، ويبتغينَ السّترَ حُبّاً وفرحاً، بدلَ أن تكرهنهُ فيرينهُ قيداً لهنَّ، وسلطةً عليهِنَّ.
فالحوارُ يصنعُ الفرقَ، والكلمةً الطّيبةُ خيرٌ وفي النّفسِ أبقى، وإنَّ ما يصنعهُ اللينُ لا يصنعهُ الجبرُ والقسرُ، وإنّما تُكسب الأنثى باللينِ، ولا يصنعُ بِها العُنفُ إلاّ عناداً وتمرّداً وإن بُنيَ على حقّ وصوابٍ.
وهنا ثمة مسألةُ ثالثةُ ينبغي التنبّه لها، وهي تلكَ الجِذوةُ حديثةُ العهدِ بالتوَقّدِ، وقدِ اشتعلتْ بنورٍ خافتٍ ولّدَ رغبةً ملحّةً بأمرٍ، فما إنْ يختفِ مفعّلُها الأساسيُّ حتى تخمدَ وتنطفئَ، فتعودُ حليمةَ لعادتها القديمةِ، فقد ترى الأنثى عازمةً حازمةً على ارتداءِ الحجابِ، وقدْ طفتْ رغبةٌ ملحّةٌ بنفسِها أن تفعلَ، فتُسرّ بذلكَ وتفرحُ لها، وتدعُ الله لها بالثّباتِ والسّدادِ، ثم تمرُّ فترةٌ فتجِدها قد ارتدّتْ عنهُ، وعادتْ لسابقِ عهدِها، واختفتْ الرّغبة التي شعّتْ وشاعتْ بملامحها، ليحُلّ محلّها جمودٌ بادٍ، ونفورٌ مُعادٍ، وهذا قد يرجعُ إلى اختلاطِها بِجُمهورٍ نغّصَ عليها عزمها، وقبّح إليها صنيعها بدل أن يحبّبها فيهِ، فتصبحُ واهيةَ الهِمّةِ، واهنةَ النّفسِ، تتقلّبُ بينَ اختبارين فتغلبُ عليها شِقوتها وتخضعَ لهوى النّفسِ، وتأتمرُ بأمرِها، وتتبعُ ما أملتهُ عليها.
ومن جُمهورِ العباراتِ نجدُ تلكَ التي تتحَجّجُ بالحجابِ وتصيغهُ في قالبِ معيقٍ لتقدّمِ الأنثى وتعلّمها، فتسمعُ أنّهُ سِجنٌ للأنثى يحجبُها عن الحياةِ، ويقيّدُ حركتها ونجاحَها، ويجعلُها تبدو ضعيفةً للرائي إذا ما تطلّعَ إليها، كما أنّه قد يتِمّ تلفيقُ أشنعِ الصّفاتِ وأبخسها بالحجابِ ليُزيّنوا لها الفانية، وأنّها ستغدو ناجحةً، مُتحضّرةً، مُتحرّرةً، وكأنّها بذلكَ حيزتْ لها الدنيا بحذافيرها، وهذا ما يصبون إليهِ.
رمزيّة الحجاب ومكانة المرأة
إن الحجابَ لم يكن سدّاً مانعاً للحياةِ، أو معرقِلاً لتعلّمِ الأنثى وتقدّمِها، بل أنهُ إلى جانبِ تعلّمِها يكون حافظاً لها، ومُحافظاً عليها من الأعيُنِ التِي تُمدُّ بالتّطاولِ على غيرها. وإنّ من سنَّ الحجابَ كمُعرقلٍ للحياةِ إنّما لغايةٍ في نفسهِ لم يصبُ إليها، فمنْ يُندِّدُ بتحرّرِ المرأةِ ويدّعي حمايتها وصونَ حقوفها من البشر إنّما يودّ تسهيلَ السّبلِ للوصولِ إليها، والتّمتّعِ بها دونَ موجبِ شرعٍ أو حقٍّ، فتجدُه يحمِلُ الشعاراتِ المُنمّقة، ويردّدُ العباراتِ المُلفّقةِ ليُجمّلَ لها طريقاً تشابكَ فيهِ الشرّ بالمنفعةِ، والسوءُ بالمصلحةٍ، والشّهوةُ بالحرّيةِ، تكونُ الأنثى فيهِ هي الضّائعُ الوحيدُ، أمّا من سانَدها فعارفٌ بتلكَ الطرقاتِ، وهو الموجد لها، يتربّصُ لها في نِهايتِهِ لتغدوَ لقمةً سائغةً لذّةً للمشتهينَ من أمثالهِ.
سواء كانت الأنثى بحجابٍ أو بدونهِ، فعليها ألاّ تدعَ أحداً يقنعُها بأنّ قيمَتها يمكنُ اختزالها في مادّةٍ معيّنَةٍ، فقد حباها الله بعقلٍ وحكمةٍ وبصيرةٍ، ما يجعلها لا تقبلُ بالعودةِ لعصور الجاهليّةِ حيثُ كانت قيمةُ الأنثى في جسدِها وحسبُ؛ أداة متعةٍ لا أقلّ ولا أكثر، يتمُّ التّخلص منها بعد أن يُقضى منها الوطرُ، و يذبل الجمالُ، أو تترهّلُ منعرجاتُ الجسدِ؛ فالإسلامُ أتى وكرّمَها أحسنَ تكريمٍ، وحفِظَ حقوقها، وأملى ما لها وما عليها، لكيْ لا تَظلِمَ ولا تُظلمَ، ولا يبخسَها كائنٌ ما كانَ حقّها أو يُجرّدها من إنسانيّتِها وأنوثتِها، ويُنكس فِطرتها التي فطرها الله عليها. وما يُلاحظُ أنّ كثيراتِ بتنَ يتُقنَ لذاكَ العهدِ، بل ويعُدنَ إليهِ بمحض إرادتهنّ، فتجدهُنَّ بعد ذلكَ يأتينَ ليُعلّمننا أصولَ الحُرّيةِ والحياةِ وهنَّ سجيناتٌ في زنزانةِ هواهنَّ، يأتمِرنَ بأمرهِ، وينتهينَ بنهيهِ، بينما يقفُ خلفهُنَّ محرّكٌ ودافعٌ خفيٌّ يزيّنُ لهنّ سوءُ عملهنَّ ليجلُبنَ لهُ سجيناتٍ أخرياتٍ يكُنّ طعماً ومطمعاً لهُ ولأقرانه.
لم ولن يكرّمَ المرأة أحدٌ مثلما فعلَ الإسلامُ، وأيّما عبدٍ من عباد الله المستضعفينَ ادّعى اهتمامهُ وحرصَهُ عليها، وأتى بما يُخالفُ الشّريعةَ الإسلاميّة في حِفظِها وصونها إنّما ادعى الكذبَ، وكان حديثهُ مفترى ينطوي عن غاياتٍ خبيثةٍ لا يعلمُها إلا الله وحدهُ، فسبحانه يغيّرُ ولا يُغيَّر، ولله من قبلُ ومن بعد في خلقهِ شؤون.