الحجاب والمساواة

image_print

في الوقت الذي كنّا نتلقى السهام فيه من كلّ جانب، هناك في الداخل السوريّ، حيث لا يمكن لأحد أن يتكهّن من أين ستأتيه الضربة بالضبط كي تصيب في مقتل، وحيث لا يمكن لأحد تخمين نوع السّلاح الموجّه وتأثيره، كنت أتساءل عن الثوابت كيف كان بالإمكان التشبّث بها ضمن كل الظروف القاهرة إلى هذا الحد؟!

في الدراسات النفسية والاجتماعية دلالات واضحة على انحدار القيم وزعزعتها خاصة في وقت الحرب، وكنت أحاول مقارنة الجانب النظري بالواقع، وكان الحجاب من ضمن الثوابت التي شهدت زعزعتها في النفوس، الأمر الذي كان يستدعي التأمل والبحث.

اليوم، وبعد مرور سبع سنوات أثبتت المرأة فيها نفسها بشكل أكبر بكثير عن ذي قبل، وحضرت في كل المجالات حضوراً لم يشهد نظيراً في أية مرحلة سبقت، وأظهرت علماً وعملاً وفاعلية وإبداعاً فلم تحتج إلى دليل كي تثبت للمجتمع أنها مساوية له في التفكير والعقل والقدرة على الإنجاز والتعلّم والتطور، مساوية له في التكليف بما بُني الإسلام عليه من أركان ودعائم، وهي مثله تماماً في كونها مسؤولة أمام الله تعالى على الإهمال والتقصير، ومحاسبة على أخطائها في حقّه وحقّ كل ما جعله تحت رعايتها، فلماذا إذاً لا تتساوى معه في الشكل والهيئة، ولماذا كل هذا التشبّث بقطعة قماش؟ وقد كان السؤال مطروحاً بجلاء: هل الحجاب يحدّ من مساواة الرجل والمرأة؟

يفترض كثير من الناس أن الحجاب في الإسلام كان دافعاً ضد المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة، ويعتبرون الحجاب قيداً كبيراً يحدّ من انطلاق المرأة ونزوعها نحو الحرية، ومعاكسة لحقها في أن تمارس دورها دون قيود في الشكل والمظهر.

وإذا تأملنا في الحقائق من زاوية موضوعية أشمل وأوسع، لوجدنا أن هناك مساواة في التكليف والعبادات والفاعلية والعمل حسب القدرة والاستطاعة لكل منهما، وسنجد مساواة في القدرات سواء كانت ذهنية أو اجتماعية أو نفسية أو علمية، تماماً كما نجد لكل منهما احتياج ومطلب للتعاون مع الآخر، في عملية بناء المجتمع وإصلاحه والرقي به.

المرأة تشترك مع الرجل في كل معنى إنساني أو اجتماعي، أو تربوي أو عقلي، لا يميزه عنها أي شيء ولا يتفوق عنها من تلك المعاني بشيء، ولا تقلّ هي بما تمتلكه من عقل في قيامها بالتكاليف التي أمرها الله بها، ولا بأنها مثله ستحاسب أمام الله على الخطأ والتقصير، وإنما الاختلاف هو في الشكل والتكوين، فقد تميزت المرأة بجمال الفطرة وجاذبيتها، مما يحرك الغرائز ويدفع لاحتياج آخر، فيكون الانجذاب لغة اتصال جديدة تحتاج أيضاً إلى مجرى صحيح ضمن شراكة مشروعة لتصب فيه، الأمر الذي يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة تحمل محورين، الأول في صيغة العمل والبناء، والآخر محور الانجذاب الفطري الذي يقود له تكوين المرأة وما تحمله من مفاتن، وفي انجذاب الرجال – على مستويات- لتلك المفاتن، والذي قد يخرج بصيغ سلبية تحمل الامتهان لكرامتها، وقد لا يحمل أية صيغة سلبية، حسب شخصية بناء الرجل وتعامله مع تلك الفتنة، وبالتالي فلا يمكن قياس ذلك ولا الحدّ منه بحال من الأحوال.

ولأن الإسلام قد دعا إلى المشاركة الفعالة بين الرجل والمرأة بما يخدمه ويسهم في ارتقاء الأمة ونهضتها، فقد جعل هناك شروطاً لتلك المشاركة لئلا تتحول عن غايتها ومغزاها، فتنحدر أو تمتهن حق المرأة في التكريم وصون الكرامة، أو تفسح المجال لأصحاب الغرائز غير المنضبطة من إيذائها بكل وسيلة ممكنة.

فكان الحجاب، لأنه الحاجز المنطقي الذي يحول بين تلك الغرائز غير المنضبطة وبين المرأة، فإن التزمت به حالت بينها وبين احتمالية الأذى، ودفعت من يخاطبها أو يتعامل معها إلى مخاطبة عقلها وإنسانيتها، ليكون التعاون والتكامل منضبطاً في أفضل صورة ممكنة.

وهذا بالضبط ما تشير إليه الآية الكريمة في سورة الأحزاب: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين}.

ومن هنا نستطيع أن نتلمس الحكمة الحقيقية من الحجاب، ألا وهي دفع الأذى عن المرأة، والدفع باتجاه تأسيس مجتمع سوي، لا تعدي فيه على الحقوق، ولا امتهان للكرامة، مجتمع مساواة في أعلى المستويات في العلم والعمل والفاعلية الحقة، وانضباط في أعلى المستويات لوضع حد لأية احتمالات ممكنة للتجاوزات السلبية وهذا من أرقى نظم الإنسانية وأعلاها.

هل الحجاب وسام أخلاق؟
كما ذكرنا سابقاً الحجاب هو حاجز للحيلولة دون إثارة الفتن والغرائز، فهو أداة لمنع الأذى أن يصيب المرأة، أو يحرّك السوء في النفوس، فيقع أذى على الصعيدين الفردي والاجتماعي، وبالتالي فليس منطقياً بحال من الأحوال أن نقول بأنه وسام أخلاق وفضيلة لمن ترتديه، تماماً كما هو ليس دلالة انحدار أخلاقي لمن تنزعه، والشّواهد كثيرة بين النساء اللواتي جعلن من الحجاب غطاء لأفعال سوء، أو احتجبن ولم يقف الحجاب حائلاً بينهن وبين سوء أخلاقهن، كما هي كثيرة أيضاً لمحجبات كُنَّ على أعلى مستويات التميز والتقدم العلمي والعملي، فلم يقف الحجاب حائلاً بينهن وبين إثبات أنفسهن والارتقاء بعقولهن لمصلحة أمّة، والأمر هو ذاته لمن لم تحتجب، فما الغاية إذاً من الحجاب مادام لا يركز لفضيلة ولا ينفي رذيلة؟

الغاية هي كما ذكرنا إحاطة المجتمع بضوابط منطقية حكيمة تمنع أحد مسببات وقوع الأذى، وتحمي أفراده، سواء كانت المرأة أو الرجل، تحميهم من مزالق الفتنة ووقوع الفساد.

ولا يمكن لأحد أن ينكر كيف تكون النظرة لامرأة أظهرت مفاتنها، وتوجهت للمجتمع تخاطب فيه الفكر والعقل، كيف يتلقى بعض الذكور خطابها مهما كان علمياً أو عقلياً متوازناً، إنهم في الحقيقة لن يروا فيها سوى تلك الصورة التي أعجبتهم، وحركت فيهم الغريزة، ليلقوا تعليقاتهم عليها جزافاً، وينسفوا كل العلم والعقل الذي خاطبتهم به.

المعادلة واضحة في الإسلام، وهي: هناك حاجة وضرورة مُلحّة على أن تقوم المرأة على دورها المطلوب، وأن تعمل بفاعلية في كل مجال يوافق قدرتها وعلمها وطاقتها، وهناك شراكة على بناء المجتمع ونهضته، تنتظرها كي تتقدم وتثبت نفسها دون تحرج أو تردد، والمطلوب منها في حضورها الفاعل هذا أن تضبط الإيقاع عبر حجاب يصونها من عيونٍ ملوثة وأدمغة لا تعمل إلا باتجاه سلبي، وألا تسمح إلا بأن يخاطب منها العقل والروح، لا أن تخاطب كجسد في ميدان يتطلب الجدية في حمل الهم، والهمة في تحقيقه.

الثوابت في كل مرحلة قد تتزعزع، والمهم كيف نعمل العقل، ونحسن التعامل مع كل ما يحاول هدمها.

التعليقات

تعليقات