مقالات

السنن الأخلاقية .. أخلاق القلب وسننه

لعل أجمل ما نفتتح به هذا المقال هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: (يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِىَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ”، ثُمَّ قَالَ له: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَحَبَّني كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ)  [أخرجه الترمذي في السنن].

عندما يتم الحديث عن سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام فإن المتبادر إلى الذهن بعض السنن المتعلقة بأعمال الجسد، كالسواك واللحية، وأداء النوافل المتعددة، لكن ثمة سنن تغيب عنها الأنظار، وهي سنن القلوب والأخلاق التي تهم كل مسلم متبع للنبي عليه الصلاة والسلام.

سنن القلوب

الحديث الذي أشرت إليه سابقًا يعالج سنة من السنن التي يمكن أن ننساها، غير أن هذه السنة ليست مما يقوم بها الجسد من الأعمال، وليست مما يقال باللسان من الأذكار، بل هي من أعمال القلوب، ولذلك يمكن تسميتها بسنن القلوب، أو أخلاق القلوب، وهذه السنن لها مكانها المهم، ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قرنها بسنته التي هي طريق للوصول إلى رحمة الله وجنته.

الغش هنا عكس النصح وإرادة الخير، فالحديث يبين أنه يجب على المؤمن أن يبيت وهو طيب القلب مريداً للخير لعباد الله، وهذا الأمر من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

يعلق أحد شراح الحديث على هذا الحديث: “فإن الخلق من الأخلاق المذمومة ليس من سنته، ومن فعل الأفعال المرضِيَّة، وترك الأخلاق المذمومة، فقد أحيا سنته؛ أي: فعل فعله” وعليه فإن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ذات أبعاد ومستويات متعددة، ونستطيع أن نشير هنا إلى مستويين لها:

سنن الأجساد، وهي التي تقوم بها جوارحنا من ذكر باللسان، وصلاة بالأجساد، وغيرها..

سنن القلوب، وهي مجموعة من الأخلاق التي تتمركز في القلب وتنعكس على ظاهر الإنسان على شكل أفعال طيّبة.

لكن لماذا القلب؟

القلب ليس هو القطعة العضليّة التي تضخ الدم إلى الجسد، بل هو جوهر العالم الروحاني للإنسان، لذلك فإن هذا القلب له مركزية في صلاح الإنسان. ولكي نعرف مفهوم القلب لا بد من النظر إلى آراء المفكرين الإسلاميين كالغزالي وغيره إليه حول القلب. فمثلاً يؤكد الغزالي على أن القلب سر من أسرار الله، وبه يكون السير إلى الله ووفق تعبيره: “موقع نظر الله تعالى المترجم عنه هو ‌القلب وهو معدن التوحيد ومنبعه” [إحياء علوم الدين] كذلك فإن المفكرين المسلمين قد عنونوا لعدد من مؤلفاتهم بعناوين تحتوي على مفردة القلب في إشارة إلى مركزيته عندهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وذم قسوة القلوب لابن رجب الحنبلي، واعتلال القلوب للخرائطي وغيرها.

من النظر في الاستخدام القرآني والنبوي للقلب سنلاحظ أن القلب ذو أهمية، وهذه الأهمية تنبع من الوظائف التي وُكِّلَ بها، فالقلب في القرآن أداة للفهم والتعقل {لهم قلوب لا يفقهون بها} [الحج: 46]، والقلب هو مركز السلامة {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89]. أما في الحديث  فالقلب هو مركز الإصلاح ونقطة بدايته، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) [أخرجه مسلم]، وفي حديث آخر بين لنا كيف أن الله تعالى ناظر فقط إلى قلوبنا فقال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) [أخرجه مسلم].

أخلاق القلوب

في أحاديث كثيرة نرى تركيز النبي عليه الصلاة والسلام على مركزية أخلاق القلب وسننه، لذلك قال مشيرا إلى صدره التقوى هاهنا. والتقوى خلق مهم في الإسلام، فقد ربطت كثير من العبادات بالتقوى، كما أن سنن القلوب، هي مجموعة من الأخلاق التي يقوم بها القلب وتنعكس على الجوارح على شكل أفعال محمودة، فالرحمة والحياء أفعال منشأها قلبي ثم تنعكس على الجوارح.

لقد وصف الحكيم الترمذي هذه العلاقة بين الأخلاق المستقرة في القلب وانعكاسها على عمل الجوارح، فعندما تناول حديث: (بينما رجل يمشي في الطريق إذا أبصر بغصن ‌شوك فقال والله لأرفعهن هذا لا يصيب أحدا من المسلمين فرفعه فغفر له) [أخرجه ابن حبان في صحيحه] يبين أن ما أدخل الرجل الجنة ليس الفعل الظاهري عندما أزاح الأذى عن طريق المسلمين، بل الرحمة التي تمكنت في قلبه ودفعت به إلى القيام بهذا العمل. فعندما قَبَّل النبي عليه الصلاة والسلام طفلا له اعترض عليه أحدهم فبين النبي عليه الصلاة والسلام مركزية الأخلاق القلبية من خلال قوله: (وما أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة) [أخرجه ابن حبان في صحيحه] فالنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أن الرحمة تبدأ من القلب لتنعكس على الجوارح على شكل لطف بالأولاد وتقبيل لهم وتقديم الفاكهة لهم أولا.

وكذا في الحديث: (كانَ النَّاسُ إذا رأوْا أوّل الثمر جاؤوا به إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: “اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا في ثَمَرِنا، وبَارِكْ لَنا في مَدِينَتِنا، وبَارِكْ لَنا في صَاعِنا، وبَارِكْ لَنا في مُدّنا، ثم يدعُو أصغرَ وليدٍ له فيُعطيه ذلك الثمرَ) [أخرجه ابن حبان في صحيحه]. فرحمة النبي عليه الصلاة والسلام النابعة من قلبه انعكست ظاهرا على أفعاله على شكل تقديم أولى ثمرات الفاكهة إلى الأولاد الصغار الذين يرغبون بها أيما رغبة.

إن القلب المليء بالإيمان ينفض عنه الأخلاق المذمومة، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل) [أخرجه النسائي في السنن]. يشير إلى أن المفترض عدم اجتماعهما، ومن هنا فإن انعكاس الأخلاق القلبية على الأفعال الظاهرة مهم جدا، لأنه لا يكفي أن يكون الخلق دون انعكاس مادي، فلا يكفي أن يكون القلب كريمًا دون أن يبرهن الإنسان على ذلك بكرم على من حوله من الناس، وكذلك الرحمة لا تكفي أن تكون في القلب دون تجلٍّ مادّيٍّ بالرحمة على من حوله.

سنن النبي عليه الصلاة والسلام ليست فقط منحصرة بالأفعال البشرية وعادات المأكل والملبس، بل من سننه: تربية القلب الرحيم، وإنشاء الإنسان الحيي الكريم، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يسأل شيئا فيرده، وكان يكره أن يخبر بشيء كريه عن صحابته، ويحذرهم من ذلك فيقول لهم: (لا يبلِّغُني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا فإنِّي أحبُّ أن أخرجَ إليْكم وأنا سليمُ الصَّدرِ) [أخرجه أبو داود في السنن]

ختامًا

يحقق الإنسان إنسانيته عندما يدرك بأنه مخلوق عميق فيه من المعاني ما فيه، وأنّ فيه روحًا من ربه عزوجل. والقلب كالروح سر من أسرار الله. والنبي عليه الصلاة والسلام جاء ليسن لنا وليتمم لنا النظام الأخلاقي، وهذه السنن الأخلاقية تبدأ من القلب باعتبار الخلق الطبع النفسي والداخلي للإنسان كما تبيّن معاجم اللغة وغيرها.

وعليه فإن السنن القلبية وأخلاقها أساس في التقييم الأخلاقي، إذ إن الظاهر وحده لا يكفي عند الله، بل لا بد أن تنعكس هذه الأخلاق على الباطن والظاهر، على شكل أفعال خيرة تعم الإنسان والحيوان والطبيعة. فالله قد شكر لمذنبةٍ عاصية سقت كلبًا فغفر لها وأدخلها الجنة.

النفس البشرية بين التزكية وأعباء الرسالة

جاء الإسلام دينًا متكاملًا يوازن بين العقل والنفس والروح والجسد، يعطي كُلًّا منهم حقه بما يتوافق مع الطبيعة البشرية، وأتى بتشريعات تنظم حياة الأفراد والجماعات وتضعها في أطر تضمن سلامة الفطرة الإنسانية. وطالما أن صاحب الشريعة هو خالق الإنسان وأعلم بما يحفظ فطرته فقد ضمَّن هذه الشريعة بما يزكي النفس ويحميها من براثنها، وبهذا أصبح الإسلام منظومة متكاملة للارتقاء بالنفس البشرية.

مفهوم التزكية في الإسلام

التزكية -كما يقول الغزالي- هي تكميل النفس الإنسانية بقمع أهوائها وإطلاق خصائصها العليا. وقد قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 9] من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من الرذائل والأخلاق الدنيئة. فالتزكية تطهير للنفس من أدرانها الطَبْعيّة والخلقية، وتقليل قبائحها ومساوئها، وزيادة ما فيها من محاسن الطبائع ومكارم الأخلاق. فالتزكية تقوم على أمرين: التخلية والتحلية، أي تخلية النفس من كل الذنوب والسيئات، والمعاصي والبليات، والقبائح والمسترذلات. وتحليتها بالمكرمات، وتنمية المستحسن من الأخلاق والعادات حتى تبلغ بها النفس المطمئنة. [تفسير ابن كثير]

إن جوهر عملية التزكية: الارتقاء بالنفس درجة درجة، من السيئ إلى الحسن ثم ترقيها في مراتب الحسن والصفاء حتى تبلغ أعلى المستويات الإنسانية وأسماها، فتتحول من نفس أمارة بالسوء أو لوامة إلى نفس مطمئنة راضية عن ذاتها مرضية عند مولاها وربها

أعباء الرسالة وطبيعة النفس البشرية

قال الله عز وجل {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلًا} [المزمّل: 5] أي إنَّا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا العمل به، فقد جُبلت النفس على حب الراحة والدعة والركون والاثِّقال إلى الأرض، وجُبلت على اتقاء المخاطر وركوب مطايا التضحية لا سيما التضحية بالنفس فكان ثِقَل الرسالة هنا هو الأمر بالجهاد، قال الله عز وجل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216]، وفُطرت النفس على حب المال وحب ادخاره، قال ابن حجر [في فتح الباري]: أخبر الله عن الإنسان أنه {لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} والخير هنا المال اتفاقا، فيأتي الأمر الثقيل بالزكاة، ويأتي الأمر بإقامة الصلاة على أوقاتها بما فيها صلاة تقطع عليك نومك، وترك البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، وصيامٌ يختبر تقواك وصبرك ويكبح شهواتك، وغير ذلك الكثير من تفاصيل أوامر الشريعة الإسلامية مما يستوجب وجود منظومة قوية محكمة تضبط رعونة الإنسان وتروضه، وهنا تأتي دور التزكية التي تحرر الإنسان من طبيعته الطينية لينطلق في رحاب النفخة الإلهية، وتميل نفسه للخير والطمأنينة ويستطيع التحكم في أهوائها وشهواتها بالقدر الذي يتناسب مع كونه آدمي في النهاية.

إن الإنسان مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد مزدوج الاتجاه، بمعنى أنه في طبيعة تكوينه: من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه، وهو لذلك مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى أيهما أراد، وهذه قدرة كامنة في كيانه يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 7-8] ويعبر عنها بالهداية تارة {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وإلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان هي التي تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعدادات الخير فيها وتغليبها على استعدادات الشر فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبّأها وأضعفها فقد خاب [في ظلال القرآن]

لا تزكية دون تسليم

لا يمكن للإنسان أن يصل إلى جوهر التزكية إلا إذا بدأ بالتسليم، التسليم أولًا بكونه بشري يصيب ويخطئ وتعرض عليه العوارض وتتقلب به الأحوال، وبأن نزعاته البشرية لا تستقيم له ولا يتذوق معنى الطمأنينة إلا بلجوئه إلى قوة أعظم منه تحميه وترعاه وتربيه، فيسلِّم بضعفه ونقصه واحتياجه لربٍ حكيمٍ عليمٍ قادرٍ رحيم، ثم يسلم له ولتمام علمه وحكمته فيخضع لأوامره ونواهيه. هنا تحديدًا يصل الإنسان إلى مرحلة تقبل التزكية حيث أنه سيكتشف رغم تجلي اليقين أمامه ومعرفته بحقيقة الوجود وتسليمه لها أن نفسه لا زالت تساوره بفعل المنكرات، وما فتئت تذبه عن القيام بالواجبات، فهنا تتجلى معاني مجاهدة النفس ورياضتها حتى تصل إلى مرحلة الطمأنينة التامة والثبات الدائم، بل وترى في بذلها لبارئها لذة لا يعدلها لذة، وتنزع منها كل خوف إلا من خالقها.

هل الإسلام مصحة نفسية؟

قبل مدة وجدت شابًا كوريًا دخل الإسلام حديثًا وكان يروي قصة إسلامه والتي مختصرها أنه تعرض لصدمات نفسية واجتماعية كثيرة وقاسية أدت إلى دخوله في حالة اكتئاب شديدة، فبينما هو يبحث عن الحل قرأ عن الإسلام فوجد فيه تحريرًا لروحه فلامس وواقع فطرته فأسلم، ظل فترة ينشر مقاطع يومية يعرض فيها تعلمه للإسلام ويقرأ بعض آيات القرآن، وأسلم أخوه أيضًا على إثر إسلامه وغيّرا أسماءهما إلى أسماء عربية، وبالفعل انقطعا عن شرب الخمر وأكل الخنزير وشرعا في تعلم الصلاة، وكذا حرصا على الالتقاء ببعض المسلمين الآخرين سواء من حديثي العهد بالإسلام أو من الدعاة.

 في الواقع كنت أتابعهم بشكل منتظم لأرى تطورهم في تعلم الإسلام وكنت بهما فرحة مستبشرة، إلا أنّ ثمة تَخوّف اختلج نفسي لِما رأيت عندهما من إشكالات عقدية في فهم جوهر الإسلام الذي به يصمد المرء ويتحمل القول الثقيل وأعباء الرسالة، وكان من حولهم يتجاوزون عنها بحجة أنهم حديثو عهدٍ بالإسلام، فعندما يستثقلون الخمس صلوات يقولون لهم لا بأس باثنتين في بادئ الأمر حتى تعتادوا، يُقال هذا لأناسٍ لم يعرفوا لماذا أصلًا يكابدون أعباء الرسالة!

بعد فترة من الوقت قال هذا الشاب الذي أسلم بدايةً أنه بالفعل تعافى نفسيًا عند دخوله إلى الإسلام ولكنه لا يستطيع إقامة فرائضه بشكل كامل وأن الأمر متعبٌ للغاية رغم أنه دينٌ جميلٌ حقًا وله فضلٌ في معافاته ولكن لا يستطيع، وبالفعل ارتد عن الإسلام وغيّر اسمه مرة أخرى وترك الأمر برمته.

هذا لم يكن صادمًا جدًا بالنسبة لمن لم يتشربوا معنى التسليم في قلوبهم لينطلقوا منه إلى التزكية التي تثبتهم وتعطيهم جلد لتحمل أعباء الرسالة. لأنه ما دخل الإسلام في الأصل من أجل البحث عن الحقيقة، وإنما كان احتياجًا بمجرد تحصيله خلع عباءة الإسلام ولم يتحمل ثقلها..

وهنا نسأل ما موقف رسول الله من التنازل عن بعض الأحكام الشرعية من أجل تأليف القلوب؟

 استمع وفد ثقيف إلى الإسلام، ورأى أحوال المسلمين، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسلموا، لكن كان عندهم بعض الشروط يريدونها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الشروط توضح أنهم لم يريدوا الإسلام حباً فيه، ولكن جاءوا رهباً منه ورغباً في المصالح من ورائه.

قال زعيمهم عبد ياليل بن مسعود: أفرأيت الزنا، فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه؟ يعني: هم يريدون أن يستحلوا الزنا، مع علمهم أن من تعاليم الإسلام تحريم الزنا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام هو عليكم حرام؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]. فقال عبد ياليل: أفرأيت الربا؛ فإنه أموالنا كلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: لكم رؤوس أموالكم، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]. فقال زعيمهم: أفرأيت الخمر؛ فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منه؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد حرمها، وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].

هذه أمور ثلاثة حاولوا أن يحذفوها من الإسلام، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان واضحاً تمام الوضوح، وكان حازماً تمام الحزم، لا مساومة في الدين، ولا التقاء في منتصف الطريق إذا كان الأمر يخص العقيدة والحلال والحرام، ولم يسع إلى تأليف قلوبهم عن طريق حذف أو تبديل في الشريعة.

قام وفد ثقيف للتشاور، فقال بعضهم لبعض: ويحكم إنا نخاف -إن خالفناه- يوماً كيوم مكة، يعني: لو رفضوا أن يأخذوا الإسلام كاملاً دون حذف ولا تبديل فقد يغزوهم في يوم من الأيام، ويحدث لهم ما حدث لأهل مكة، فأتوا الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: نعم لك ما سألت، ثم قالوا: أرأيت الرَبَّة؟ لا زالت هناك محاولات أخرى لحذف بعض الأمور من الدين الإسلامي، قالوا: أريت الربة ماذا نصنع فيها؟ الربة هي اللات وهي الصنم المعبود في الطائف، وكانت من أعظم أصنام العرب، والجميع كان يقسم بها ويهدي إليها ويذبح عندها ويعتقد فيها، فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام إجابة حاسمة لا مجاملة فيها، قال: اهدموها.

ففزع أهل ثقيف وقالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلنا. فكان عمر بن الخطاب حاضراً هذه المفاوضات فقال: ويحك يا عبد ياليل إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، فرد عليه عبد ياليل وقال: إنا لم نأتك يا عمر (يعني: ليس هذا من شأنك).

لكن لم يجد أهل ثقيف بداً من هدم اللات، وأصر الرسول عليه الصلاة والسلام على هدمها، لكنهم بدأوا يسامون على توقيت هدم اللات، فطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدع اللات ثلاث سنين قبل أن يهدمها، فأبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سنتين، فأبى، فقالوا: سنة، فأبى، فقالوا: شهراً واحداً، فأبى صلى الله عليه وسلم، فأسقط في أيديهم، وقالوا في يأس: تولَّ أنت هدمها، أما نحن لا نهدمها أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها. [السيرة النبوية]

إننا نجد في وفد ثقيف ما نراه في هذا الشاب وغيره ممن لا يتحمل أعباء الرسالة، لأن كليهما لم يدخلا الإسلام لأجل الإسلام أو لأجل تجلي الحقيقة، بل دخلاه لمصلحة ما سواء كانت نفسية الأبعاد أو اجتماعية، ومثل هؤلاء لا يصمدوا كثيرًا أمام القول الثقيل. ونجد أيضًا أنه لا يمكن المساومة على حكمٍ من أحكام الله، والتدرج لا يكون في مركزيات الإسلام وإنما يمكن أن يأتيه الإنسان فيما نَفُلَ منه، فلا إسلام بلا أعباء ومجاهدة، لذا نجد في جيل الصحابة أنهم كانوا يتحملون من العذاب ما لا يتخيله بشر ويظلوا ثابتين على الدين لأنهم أتمّوا التسليم وتشربوا التوحيد في قلوبهم فكان عندهم من الفهم والصبر على الأذى ما يجعلهم يلجون مطايا المنايا بتامّ الرضا. أجل الإسلام يزكي النفس ويطهرها بل هو شفاء لها، ولكن يجب على هذه النفس أيضًا تحمل أعباء الرسالة.


مصادر للاستزادة

١- http://www.saaid.net/bahoth/81.htm

٢-https://www.elazayem.com/main/islamic_encyclopedia/null/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%A9/510

٣- السيرة النبوية للدكتور راغب السرجاني.

https://youtube.com/playlist?list=PL4aBqnO2MtcFT7jgUVs5WwYa9Vi053HeU

https://al-maktaba.org/book/32238/617

٤- سلسلة حلقات فقه النفس للدكتور عبد الرحمن ذاكر الهاشمي.

العلم المجرّد .. فتنة أم طوق نجاة؟!

ليس من الصدفة أن تبتدئ أوّل آيات القرآن نزولاً بالحثّ على القراءة، وأن تذكر أهم مزايا الإنسان، أي إمكانية العلم والتعلّم، فالله البارئ سبحانه: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4-5]، وفضّله على سائر خلقه بهاتين المَلَكتين: العقل والعلم، فمن يرد الله به خيرًا يجعل له إلى العلم مسلكًا ويعبّد له طريقًا إليه، ومن لم يكن له في العلم باعٌ ولو أقل القليل، أُرسل في الدنيا يجمع منها ما يجمع، ثم يعود كأن لم يكن له منها نصيب، لا يغنيه جمعه المال دون علم ولا ينفعه عند الله.

إن أفضل العلم ما دل على الله، وعلى مراده من عباده، ويكون فاضلًا ما تبعه وخدمه وألحق به، ثم بعد ذلك يكون من العلم ما يعرف الناس به دنياهم ويتفاضلون فيها، وبه يعمرون أرضهم وديارهم.

ولعل القول إن موضوعًا كهذا قد طُرق مرات ومرات، ولكن ما تفجؤنا به الأيام مما يثير الدهشة من انسحاق للهوية ومن انحرافات مخزية يستلزم التذكرة كل حين، وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

العلم وسيلة والعبادة غاية

مكانة العلم بمختلف توصيفاته وتعريفاته لا تخرج عن كونه وسيلة للدلالة على الله وعلى مراده من خلقه، وطريق لتسخير مخلوقات الله في عمارة أرضه وتهيئتها ومن فيها لعبادته وفق منهج الله تعالى، فمناط الأمر كله ومرده إلى عبادة الله وحده وفقط، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56- 57]، فلما كان الخلق كله ابتداء متضمنا خلق الإنسان لعبادة الله وحده، لزم أن يكون كل ما سخر في الكون يؤدي وظيفة لهذه الغاية، سواء جعل للإنسان سلطانًا عليه أم لا، وسواء عرف تلك الوظيفة أم لم يعرف.

إن الإنسان لا يتسلط على ما حوله من مخلوقات إلا بسلطان العلم بأمر الله، لقوله تعالى:  {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، ولو استعمل الإنسان سلطانه لشق طريقه نحو معرفة الله فبها ونعمت، فبذلك قد استخدم الوسيلة لتحقيق الغاية في المسار الصحيح، أما لو استعملها وفقا لهواه فإنه بذلك يخرج بها عن مراد الله.

إن وجود العلم أساسًا بهذه الكيفية وتسخيره لبني آدم هو إرادة الله، فلو أراد الله تعالى لأداة أخرى أن تستعمل للدلالة عليه بدلًا من العلم لما كان للعلم قيمة حينئذ، فهو يكتسب قيمته من شرف وعلوّ الغاية التي ارتبط بها وبالدلالة عليها، وإلا فلا قيمة له، فنجاح الإنسان في الوسيلة يقاسُ بقدر تحقيقه للغاية، وما دامت الغاية لا تُطلَب ولا تتحقّق فلا قيمة للأدوات، ولا نجاح حقيقي آنذاك يعتبر، لأن المنشأَ ماديٌ والهدف كذلك.

العلم وسيلة

فتنة العلم

وصل الوثوق بالعلم إلى حد يشبه طغيان الأساطير اليونانية حول آلهتها المزعومة، بل باتت نزعة العلموية “تقديس العلم” محورًا أساسيًّا في النقاشات، ورسمت حوله هالة تتجاوز حجمه الحقيقي، شأنه كشأن الكثير من الوسائل التي تحوّلت من الوسيلة لتحل محل الغايات.

إن ما يعقب تحول الوسيلة إلى غاية من المشكلات أكبر من المنافع التي قد تتأتى منها، ومن هذه المشكلات الطاغية في تحول العلم إلى قداسة ظاهرة أن سطوة هذا العلم على جهل الإنسان في أحيان كثيرة تجعل منه مرشدًا يُتبَع ومصدرًا يُتَزَوّد منه بعيدًا عن وحي الله، بدلًا من أن يخدمه ويفسره وييسر وصوله للناس.

وبدهي أن مثل هذا الانحراف يأتي من أصحاب الهويات المائعة المنجرفين خلف أفكار برّاقة تفسد العقل والدين، ولربما وجد بعضهم هويته الضائعة في نظرية علمية تسد جوع روحه، أو منهج تجريبي يقضي فيه عمره كما يقضى في غيره، وظيفة تؤدى كأي وظيفة عدا أن لها رونقا وبهرجًا خاصًا، ليس بالضرورة رسالة عظيمة وخدمة للبشرية أو حرصا على نفعها، كما أن أكثرهم في النهاية دمى تحركها أيدولوجيات أكبر، تصوغ مخرجات هذا العلم وتجاربه وفقا لمساراتها ومخططاتها.

إن ما لا يتوقع ههنا أن ينسحب ستار هذه السطوة على أصحاب الوحي أنفسهم، فنجد بعض الكتاب والمفكرين والمثقفين وبعض الدعاة أحيانًا ينجرفون إلى تصديق خرافات بعض هذه العلوم، ناهيك عن محاولة أسلمتها ونشرها بين الناس.

تعظم البلوى –بكل تأكيد- في أمر العامة، أو من يظنون العلم خيرًا كله، ولا يسعهم إلا تصديق ما يجيء من خلاله سواء كان صافيًا أو مشوبًا بأكاذيب وخرافات، فليس بوسع الجميع تمحيص ما يعرض عليه من الكلام، خاصة إذا ادّعى قائله استناده إلى مصادر علمية صحيحة ومحكمة، وتفنيد ما قد يرد فيه من شبهات بقصد وغير قصد يطعن أغلبها في صميم العقيدة ومبادئ الدين.

إن أدلجة المنتَج العلمي وإخراجه من سياقه المحض إلى سياقات أخرى تدعم نزعات تقديسية تواجه الدين، سواءً بمزج صحيحه ببعض الكذب، أو بتحوير الصحيح منه ليتلاقى مع الأكاذيب، فإنه سيأخذ أختام العلم التجريبي ودرجات التحكيم العالية فيصبح بعيدًا عن أي مجال لمناقشته أو رفضه، وما يلبث أن تُنشَر الفكرة وتُعمَّم وتكثر أدبياتها المرئية والمسموعة، بل وتسن لأجلها القوانين الدولية رغمًا عن جميع الناس، بغضّ النظر عن سحق الفطرة وتجريد الإنسان من بقايا إنسانيته، فيصير الحق باطلًا، ويصبح الوضع المعكوس الصورة الأمثل، وكل ذاك نابع من مغبة الافتتان بالعلم والنزعات التي تقدسه.

قليلُ العلم ضياع!

السرعة التي تطال كل شيء، إنها من أشد ما ابتلينا به في هذا الزمن، ومن آثارها ما انعكس على الرغبة في تحصيل العلم بطرق سريعة، بغير بذل كثير وقت أو جهد، ونجد لهذا صدى في البرامج التي تسمي نفسها (علمية) والتي تعرض لمواضيع وأفكار علمية بصورة مقتضبة ومختصرة وسريعة، بطرح وجهة نظر معينة هي ضعيفة على الأرجح وتخدم سياقًا معيَّنًا، أما المواضيع التي تتسم بالرصانة فلا تخلو من حشوها ببعض المغالطات والخرافات.

إن المشاهد الذي انتشى بفرقعة الموضوع العلمي الجديد داخل رأسه، لم يحصّل علمًا نافعًا في الحقيقة بحيث يمكنه الاستفادة منه أو إفادة غيره، فهي لا تعدو أن تكون فرقعات ترضي نشوتها الفضول لدينا، وعلى الأغلب يتم نسيان أكثرها بعد قليل من الوقت، ولكن ما لا يتم نسيانه هي تلك الشبهات التي مُرِّرَت بذكاء، وما علق بوعي المتلقّي ولا وعيه، وما ينشأ من تراكمات تشكل في النهاية تصورا كثرت فيه الانحرافات، يَقِلُّ معه إنكار المنكَر في أحسن الأحوال، هذا إن لم يكن من مؤيدي تلك الأفكار الجديدة المنحرفة والمنافحين عنها، كونها تقدم على أنها علمٌ محكمٌ تجريبيٌّ محايدٌ كما يُظَنّ.

إن من أخطر آثار هذه الانحرافات هو الانحراف العَقَديّ الذي ينتشر بين المسلمين، والذي يلاقي انتشارًا واسعًا، خاصة بين الأجيال الجديدة البعيدة كُلِّيًّا عن أي شكل من أشكال العلوم النافعة وتحصيلها، فتمثل هذه المصادر لهم منبع العلوم الرصين الذي لا يُرَدُّ ولا يُناقَش.

ليس ثمة عند المسلم شيء أثمن من عقيدته، وقد سخّر الله بعض الناس يفندون شبهات هؤلاء الناس الذين وقع نتيجة إفسادهم أناس كثيرون، فيبينون انحرافاتهم ومغالطاتهم.

ما يضر أحدنا لو حرم العلم كله وأتى الله بعقيدة كصفحة بيضاء، لهو يومئذ في مقام أعز من مقام العالم الضال المضِلّ، ولو جمع امرؤ العلم كله، ونشره في أرجاء الدنيا ثم أتى الله بعقيدة هُتِك رداؤها، فإنه حينها لفي خسران مبين، لا يغني عنه علمه من الله شيئا.

فالسلامة في العقيدة أرجى من كل علم، ومعرفة الله وحده تغني عن كلّ معرفة أنبتها المخلوق ولا تدل على الخالق، وإن لم يستطع أحدنا أن يفرز ما يتلقاه ويفنده ويميز النافع منه والضار، فعليه أن يبعد ذهنه عن التعرض لذلك كله، وألّا يأخذ العلم إلا ممن هم أهل للثقة، وبطرقه الصحيحة التي تبين له المسائل والأفكار من وجوهها كلها، فيعرف نفعها وضرها، فلا يخدع بما ينخدع به غيره.

هل يرتدي إبليس قرنيه دائماً؟

ثمة شيء أصعب من مواجهة العدو، إنّه توقّع زمن ومكان ظهوره، و إن كان الحديث عن أعدى أعدائنا –أي إبليس- فالصعوبة تكمن في التيقّن من وجوده أصلاً، فتخيّل معي حجم الخداع حين تكون ملقىً في شباكه تسيّرك وساوسه -أي في ميدان حربه عليك- لكن دون أن تعلم.

كما أنَّ للإنس لثاماً يتغطّون به فلا يعرفهم أحد، فإنّ للشيطان أشكالَ تنكّرٍ أخفى وأعظم، بعضها قد يصل في التمويه حدَّ الملائكية، وفي القرب منك حدَّ دواخل نفسك ونواياك، وصولاً إلى الدخول في أعماق قلبك.

لإبليس أبواب متفرقة، يدخل منها سويّاً أو بالتناوب، لحاجاتٍ نعلمها وأخرى قد لا نفهمها، أيّاً كانت تفاصيل أهدافه بالتحديد، فغايته المجملة العامّة واضحةٌ صريحة؛ (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص:82] وإنّا السّاعونَ لأن نكون ممّن أكّد ربّ السماء على ثباتهم قائلاً (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا) [الإسراء:65].

استُلهِم هذا المقال من تجارب اجتماعية وإنسانية حدّثني أصحابها بها أخيرًا، لافتين انتباهي إلى ذاتي وتجاربي أنا أيضاً، وإلى مرور أنفسنا الآدميّة بذات أشكال الخداع والمكر المتكررة، فكم يتلوّن ذاك الملعون بشتّى الهيئات والأشكال، حتى إننا لا نكاد نعلم أنّه هو إبليس عدوّ أبينا آدم الأول والأخير!

سنكشف في السطور اللاحقة بعضًا من وجوهه المختلفة متلبّساً بجرمه، وسنحاول تحليل بعض أشكال تحايلاته علّنا ألّا نسقط في وحلها مرةً أخرى.

التذكير.. بالضعف والتقصير

يدبُّ فينا العزم أحياناً كثيرةً على فعل بعض الأعمال الصالحة، والقربات النافعة، أو على تزكية أنفسنا وإصلاح أحوالنا، وإذ نحن كذلك يدهمنا هاجس أسود يسابق تلك الأفكار قائلاً: هل نسيت ما فعلت؟ كيف تحفظ القرآن وأنت تفعل ذنبَ كذا، وكيف ستصلّي وأنت ما زلت على هذه الحال؟

وسوسة إبليس

وما هي إلا ثوانٍ فتشتعل في العقل والقلب أفكارٌ ضالّة، وافتراضات فاسدة، توهم الإنسان بأنَّ مثل هذه القربات لا يفعلها إلا الصالحون الذين لا يشابه حالهم حاله، فتُيئسه تلك الهواجس من التوبة والأمل في الصلاح، وتجعل التقرّب إلى الله في فكره كجبلٍ عالٍ لا يبلغه إلّا كاملٌ لا يخطئ ولا يزلّ..

فلنقف ههنا، عند هذا الخاطر الخفي، لنواجهه بأن التوبة إنما شُرعت للعاصين والمقصّرين، فقد ورد في الحديث الصحيح؛ أن (الَلَّه أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ) [أخرجه الإمام مسلم في الصحيح برقم 2747].

كما أنَّ الطاعات والفضائل إنّما تُبدأ بالصبر على المحاولات المتكررة والمجاهدة، ولا ريب أن على هذه المحاولات أجرٌ يساوي أجر الإتقان أو يزيد عليه أضعافاً، فما كان الماهر في القرآن ماهراً إلّا بعد تعتعةٍ وجهاد ومقام تعلّم وضعف بلّغه ما بلغ، وفي هذا ورد عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قولُه (الماهِرُ بالقرآنِ مع السفرَةِ الكرامِ البرَرَةِ، والذي يقرؤُهُ ويتَعْتَعُ فيهِ وهو عليه شاقٌّ لَهُ أجرانِ) [أخرجه الإمام البخاري في الصحيح برقم 4937] ومن هنا، فلنخاطب أنفسنا، أليس لنا في كلِّ طاعةٍ تعتعة، ومحاولاتٌ نسعى فيها للمستوى الأفضل وللوجه الذي يليق به سبحانه!

فإن أيقنت ذلك، واستوثقت من خداع هذا الوسواس، فاثبت لئلا لا تنطلي عليك حيله، ولا تكن ضحية التقليل من قدر سعيك أو التذكير بتقصيرك وذنبك فإنما ذاك من عمل إبليس ونفثه.

تكسير الثبات وزعزعة التوبة

تعهّد إبليس بكل استكبارٍ بتحقيق وعده الذي وجّهه لله تعالى مع سبق الإصرار والترصّد، ومن ثمّ فإنّه ليس ذاك العدوّ الذي تثنيه الخسارة أو تتعبه الانتكاسة، أنسيتَ وعده حين قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].

إنَّ توبة أحدنا لا توقف إبليس، بل تزيده غيظاً وحقداً، وتزيدُ من همته في ردّنا على أعقابنا، فتجده يحيط بك من كل جانب، ويحاول الظهور من كل ثغرةٍ وباب، يريد سحبك لعهدك السابق، وذنبك الذي هجرت، فإذ به يكفّ عن تزيين الذنب مستبدلاً ذلك بتشويه هجرانه، بإيقاع العيوب والخطوب في توبتك، ويزيّن ذلك كلّه بهيئة ملائكيّةٍ جداً، على شكل وخزات ضميرٍ تُريك ذنبك من زاوية أخرى لا تتعرض للذّته وشهوتك إليه، فقد بات الوقت متأخراً الآن على هذه الحيل إن كانت التوبة صادقةً حقيقيّة!

إلا أنّ باب الضمير هذا يبدو مقنعاً أكثر فيجعلك تبدأ بالتساؤل، ما حال رفقة السوء الآن، ألن يؤثر فيهم هجراني المفاجئ لهم؟ ماذا عن تلك الفتاة ألن يَكسِر قلبها إغلاقي لمنافذ الحديث معها؟ ألم أكن شريكاً في الذنب؟ ..إلخ.

سيندفع إبليس ليجعلك تنسى عواقب الاستمرار في الذنب، وسيعظّم صعوبة تركه في نظرك بشتّى الطرق، وسيستطيع تبرير عودتك للذنب أو استمرارك مراراً وتكراراً…

سيسوّغ إبليس السرقة بحالك المعدم، وسيهوّن نهب المال العام بفساد الحكومات، ولا ننسى تلك الحيلة التي تجدي نفعاً مع كلِّ الذنوب؛ “انظر كيف يفعل الجميع ذلك”، وكأنه ينسى أنّ الله في عليائه يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].

الطعن في نواياك

يعلم الماكر حرص المؤمن المستمر على الإخلاص، ويعلم دور النيّة كعاملٍ أساس في قبول العمل، لذلك فإنّ النيّة هدفٌ مهمٌّ له. ومن ثمّ قد يغرقك في جمال عملك الصالح حدّاً تلزم فيه الوسيلة وتنسى المتوسّل إليه.

إن أصعب الخسارات أن تضيّع عملك هباءً وتنثر جهاد الطريق في الهواء بسبب نيّةٍ متفلّتة، كعمل خيرٍ كان في بادئ الأمر لوجه الله ثم أصبح في نهايته ينتظر ثناء من قَرَأَ، وشُكرَ من استفاد، وصورة الناسك الصالح وحسن الذكر والمدائح، فألزِمنا اللهم مقعد صدقٍ وإخلاص لا نغادره حتى نلقاك.

في باب النيّة له أسلوبٌ -ينبغي ذكره- يعاكس الأسلوب الأوّل كلياً، ولعلّه أكثر ما يستخدمه مع المخلصين حقّاً والذين قد ينفعون الآخرين ويأخذون بأيديهم إلى الخير والهدى؛ إذ إنه يعلم حرصهم الشديد على الصدق وتثبيت نظرهم على الآخرة، فتجده يسدّ عن الناس باب نفعٍ من هؤلاء الصالحين حين يوسوس لهم بالنفاق والرياء، فتجدهم يمتنعون عن نصح الناس بترك ذنبٍ معين مخافة أن يكونوا قد فعلوه يوماً، أو بإمساك علمهم عن الآخرين مخافة أن يكون رياءً وكم دبّت هذه المخاوف في قلوب الكثيرين أحياناً وأحيانًا.

لا تكفّنّ عن تذكير نفسك بكيده الطويل المستمر، بإصراره على إضلالك وبمصلحته في ذلك، لا تخدعنّك أساليبه، إن أدركتَ الذنب فاعزم على هجره عزماً صادقاً، وإن هجرته فالزم موقفك، وارقد على بساط الآيات والذكر الحكيم فإن فيه شفاءً للصدور المتعبة السقيمة بأمراض الأبدان والقلوب، لا تلتفت فيدخل لك من ألف بابٍ وباب، ثبّت نظرك على من لأجله هجرتَ الذنب رغم لذّته، ومن لأجله سلكتَ طريقاً طويلاً، مهاجراً إليه، راجياً أن تبقى هجرتك إلى ما هاجرتَ إليه.

لا يرتدي إبليس قرنيه دائماً.. هذا ما يجب فهمه وقوله، إنه متلاعبٌ شرّير..  فاحذر كلّ الحذر يا عدوّه الأول والأخير.

احرص على ما ينفعك

يقف الإنسان أمام وسائل الإعلام مُتابعاً لما يحدث في هذا العالم، فكم حصد الوباء من أرواح، وكم هُجّر أشخاصٌ من أوطانهم، وما آخر الكوارث التي حصلت، وماذا عن أخبار الإلحاد والعالم الغربيّ الذي تنتكس فطرته شيئاً فشيئاً، ماذا عن التفاهة المنتشرة في مواقع التواصل، وعن ضياع الأجيال، ماذا عن الحروب، ثُمّ يتساءل، ما الذي عليّ فعلُه؟

في البداية لابُدّ أن نعلم بأنّنا نعيش على هذه الأرض لمدةٍ محدودة، وبأنّ مدة الإقامة ستنتهي مهما طالت، والله تعالى قد وزّع الابتلاءات على البشر، كُلٌّ حسبما يُطيقُه، وقد أعلَمَنا في كتابه بوضوح بأنّه تعالى لا يُكلّف نفساً إلا وسعها، ونتيجة الامتحان في تمايز الناس ما بين صابرٍ وشاكر، وساخطٍ وغافل.

مِمّا لا شكَ فيه، أنّ المسلم يهتم لأمر إخوانه المستضعفين، ويهتم لأمر أُمته في صلاحها وفسادها، ومن واجبه أنه لو كان يستطيع المساعدة أو الإصلاح بقدر استطاعته أن يفعل ما يستطيعه، وإن لم يستطع فعليه أن يتذكرهم في دعاءه.

ثُمّ ماذا بعد؟

بعد ذلك عليه أن يتذكّر الحقيقة التي تقول: إنّ كل بلاءٍ يقع بالمسلمين، ليس في قدرتك رفعه؛ فإنّ الله لن يسألك إن لم ترفعه[1].

وهنا، نستحضر قصة آل ياسر في بداية دعوة الإسلام، حيث كان المسلمون قلّة قليلة، يُخفونَ إسلامهم عن المشركين، قال جابر رضي الله عنه: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمّار وأهله وهم يعذَّبون فقال: (أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ، وَآلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ) [أخرجه الحاكم في المستدرك برقم: 5666]، والشاهد هنا بأنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد أرجَأ أمرهم إلى الآخرة، فلم يكن حال المسلمين آنذاك يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكذا أمرُ بلال بن رباح، وسؤال الصحابة للرسول -عليه الصلاة والسلام- ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصرُ لنا؟

ففي الحديث: عنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ قَالَ: (شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟

فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) [أخرجه البخاري في صحيحه برقم: 6943]

فالرسول -عليه الصلاة والسلام-  هنا يأمرهم بالصبر، ويُكرر على مسامعهم حقيقة البلاء في الدنيا، وحقيقة عدم بقاء الدُنيا على حالٍ واحد، حيث تتعاقب الأحوال مع مرور السنين، والأهم من ذلك أنّهم لم يتوقفوا عن العمل ولم يتراجعوا عن دينهم وعن الدعوة إليه رغم القلّة والضعف، ورغم أنّهم غرباءٌ بين الناس، والغربة مع الخوف ومع رؤية الإنسان للطريق الطويل المُظلم الذي لا يرى النور في آخره، كُلُّ هذا قد يُقعِد الإنسان عن العمل، ورُبّما يُقعِده عن الدعاء، وقد يدفعه للهرب بالاتجّاه والطريق المُعاكس للحق، حتى يدفع عن نفسه الشعور بالغربة، فيذهب إلى السراب يحسبه ماءً يروي به عَطشَه، حتى إذا جاءَهُ لم يجدهُ شيئاً.

هروبٌ إلى الله أم هروبٌ إلى الوهم؟

وسط هذه الظروف وأنواع البلاء المختلفة في الدين والدنيا، تتعدّدُ طرق هروب البشر، ما بين هاربٍ إلى الحقّ وهاربٍ إلى الباطل، إلا أنّ طريق الحقّ واحد، وطرق الباطل كثيرةٌ مُتعدّدة.

خُلق الإنسان وهو يُدرك بفطرته أنّ الدنيا هي ليست دار المقام، ففي داخله شيءٌ يُخبره أنّ هذا المكان لا يمكن تحصيل السعادة الكاملة فيه، وبأنه لابُدّ من الكدر والهمّ فيه، ومن هذا المُنطلَق، يبدأ الإنسان رحلته في الهروب.

بعض الناس يظنون أنّ النجاة تكون بتحصيل المال، أو بالهجرة إلى إحدى دول الأحلام، حيث اللذة التي لا تنتهي والانفتاح والأموال، ثمّ إن رحلوا إليها لا يلبثون إلا أن يعلموا بأنّها لم تُحقّق لهم فردوساً أرضيًّا كما ظنّوا فيعاودون الركض والهرب ويطلبون المزيد، يريدون رفع سقف اللذة، إلا أنه مهما ارتفع لا يجدون شيئاً يشفي مرادهم، إن هو إلا سرابٌ وغمٌّ وخوفٌ من فقدان الدنيا يؤرّقُ مضاجعهم.

وبعض الناس يهربون للشهرة ومواقع التواصل، وكذا حالهُم كحال مَن في المثال الأوّل، وليس بالضرورة أن تكون طُرق الهروب مُكلفةً كهذه، بل لعلّ كثيراً من الناس يهربون إلى إدمانٍ مجانيّ، يظنّونه هيّناً، وهو في حقيقته خطيرٌ جداً.

الهروب إلى السجائر، أو إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو إباحية المقاطع الفاحشة، الهروب إلى الأفلام والمسلسلات ومجالس اللغو، أو إلى عيادات التجميل، إلى الألعاب الإلكترونيّة والأسواق، اللجوء إلى الأغاني، الإمعان في الاستهلاك والتعلّق بالبشر، يدمنون ذلك كله ويطلبون المزيد والمزيد منها، فلا تزيدهم إلا خوفاً من فقدان اللذّة، ولا تزيدهم إلا تعاسة حتى وإن كان ظاهرها السعادة، وطُرق الباطل لا تنتهي كما أسلفنا.

ولأنّ الإنسان بفطرته يبحث عن الجنّة، فالطريق الحقيقيُّ للوصول إليها واحدٌ فقط، جاء الرُسُل فوجّهوا البشر إليه، وهو طريق العمل والتعب والمُجاهدة، مُجاهدة النفس عِلماً وعملاً، عملٌ مستمرٌ يشمل أعمال القلوب والجوارح من خلال الطاعات وترك المعاصي بعد العلم بما لا يسع المسلم جهله من الدين، جدولٌ يوميٌّ يضعه الإنسان لنفسه فيه أقلّ القليل مِمّا ينبغي للمسلم فعله، وحينما يُردّد الأذكار يُدرك معانيها فلا ينسى الهدف من وجوده في الدنيا، ولا ينسى أنّهُ سيُحاسب عن كلّ دقيقة تمضي من وقته، وعن جميع تفاصيل عمله وعِلمه وماله وأهله ودوائره القريبة، وعن أمره بالمعروف وإنكاره للمُنكر ولو بقلبه.

يقول الله تعالى على لسان نبيّه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: ١٥٣]

هذه هي معركة الإنسان الحقيقيّة، سواء أَخرَج من تحت الأنقاض فاقداً أهله، أم دخل السجن مظلوماً، أم عاش حياةً مطمئنةً آمنة، أم عاش في أوضاعٍ اقتصاديّةٍ سيئة، فمعركة الإنسان أينما كان، في أن يختار طريق الهروب الصحيح، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: ٥٠].

الزم ثغرك

يقول عليه الصلاة والسلام: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها) [أخرجه الإمام أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرَد]، من هنا نعلم بأنّ الله سيُحاسبنا على أدوارنا وأعمالنا، حتى وإن كانت الدنيا في أسوأ الأحوال، فحين تقوم القيامة أيختار الإنسان البكاء والتوجُّع على الأطفال الجرحى في الحروب في منشورٍ ما، ثُمّ يُغلق التطبيق لينتقل إلى مشاهدة فيلم، يحسبُه مُهدّئاً، أم يدعو للضعفاء في الأرض ثمّ ينتقل إلى معركته الحقيقيّة وميدان عَمله؟ أم هل يستمر بالشكوى من القرارات الظالمة من المسؤولين ومن سوء الأوضاع الاقتصاديّة، ثُمّ يهرب إلى سجائره، ويسوّغ هروبه؟ أم يترك أمر الظلم والظالمين لِله ويمضي في طريق الحقّ رغم جميع الظروف؟

وكذلك نقول في أوضاعنا الفكرية والسلوكية، عندما يتعرض الإنسان لانتكاسة الواقع والسلوك والفطرة، هل الواجب عليه أن يبقى في صراعٍ مع نفسه وقَلقٍ مستمر مِمّا يحُلّ من إشكالاتٍ في تفكير الشباب وعقائدهم وضياعهم لأوقاتهم، مع يأسٍ ودون عملٍ حقيقيّ في إصلاح نفسه، أم يحاول الإصلاح بقدر ما يستطيع وقد هدأَت نفسُه، وعَلِمَ أنّ هداية القلوب وإصلاح الأمم بيد الله، ويبدأ من مجاهدة النفس أولاً؟

لعل الأغلب يقول: نعم، لابُدّ أن من الانتقال إلى ميدان العمل، وهنا لا ندعو إلى عدم الاهتمام بشأن المسلمين، بل على العكس، يتألّمُ الإنسان لألمِ أخيه المُسلم، ويتألّم الإنسان لسوء الأحوال إجمالاً في بلاد المسلمين، لكنّنا الآن لا نملك حكمًا إسلاميًّا عادلاً صحيحاً في أغلب بقاع العالم، بل إن الواقع يقول إنّنا في حالة ضعف، وهنا لا يملك المسلم سوى أن يبذل بقدر استطاعته من السعي لتنمية فكره ووعيه ودعم نهضة الأمة وإن بعمله اليومي المستقيم إلى جانب اللجوء والدعاء، مع التسليم والإذعان بحقيقة توزيع البلاء على الناس من قِبَل الله تعالى، وبحقيقة أنّ الأُمم تضعف وتقوى ولا تبقى على حال، لأنّ الله هو الأعلمُ بما يحتمله عباده، وبما يُصلحُ به عِباده، وبأنّ هذه سُنّة الحياة.

أقتبس ههنا للأستاذ أحمد سالم إحدى نصائحه الثمينة، يقول: “إذا لم تُضع واجباً أوجبه الله عليك ينصرون به أو يخفف عنهم البلاء تخفيفاً حقيقياً فلا بأس عليك، ووالهم بقلبك ودعائك وواسهم بما تستطيع، ولا تنصرف عن غاياتك التي اخترتها لتخدم بها دينك.

وإني والله شهدت في العشرين سنة الأخيرة أناساً ينتقلون هكذا من حادثة إلى حادثة لا هم يؤثرون في تلك الوقائع تأثيراً ملموساً يقابل أوقاتهم وجهودهم التي ينفقونها، ولا هم صنعوا شيئاً حقيقياً في التحديات القريبة منهم التي كانوا مؤهلين بالفعل للتغيير والإصلاح فيها.

إياك أن يدخل لك واحد من الناس من هذا الباب فيلفتك عن عملك لدين الله فيما تحسن وبما تحسن فيحيلك إلى ثرثار تجعجع بلا طحين، لا أنت رفعت البلاء ولا أنت عملت لدين الله صالحة تقرب الناس إلى ربهم وتقربك إلى رضاه.”[2]

ولنا أن نزيد هنا ونقول أيضاً حتى الدوائر القريبة من أهلٍ وأصحاب، من بعد نُصح الإنسان لهم ومحاولاته المستمرة في الإصلاح بكافّة الطُرُق وبكُلّ ما يستطيع، وبالدعاء بعد بذل الأسباب؛ لن يُسألَ بعدها عن النتيجة، فالإنسان مسؤولٌ عن السعي فقط، ولا يملك أحدٌ قلوب العِباد، بل إنّ معركة كل إنسان الحقيقيّة تبدأ من تزكيته لنفسه.

والآيات التي تدور حول إصلاح النفس وتزكيتها أوّلاً كثيرة، نورِدُ بعضها ههنا، كقوله تعالى: {منِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥] وقوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: ٦] وقوله جل في علاه: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام: ١٠٤].

فلا بُدّ إذن للإنسان أن يلزمَ ثغره مهما تغيرت الظروف وتعاقبت، ولا يهرب إلا باتجّاه الحقّ بعيداً عن الباطل.

مهما بدَت صور الباطل أسهل وأجمل وألذّ، ومهما حاول الأعداء من الجنّ والإنس تزيينها، فليعلم الإنسان أنّها راحةٌ كاذبة، ولذّةٌ مؤقتة، بل إنها تحمل ألماً شديداً في طيّاتها، وليتأكّد كذلك بأنّ طريق الحقّ وإن بدا صعباً، وإن كان يبعث الشعور بالغربة ففيه الراحة الحقيقيّة، وفيه اللذّة التي لا تنتهي ولا تموت “فأريحوا أنفُسكُم بالتعب”[3].


[1] . من جملة ما نشره أ. أحمد سالم، على قناته في تيلغرام.

[2] من منشورات أ. أحمد سالم في قناته على تيلغرام.

[3] مقولة للدكتورعبد الرحمن ذاكر الهاشمي.