العلم المجرّد .. فتنة أم طوق نجاة؟!

image_print

ليس من الصدفة أن تبتدئ أوّل آيات القرآن نزولاً بالحثّ على القراءة، وأن تذكر أهم مزايا الإنسان، أي إمكانية العلم والتعلّم، فالله البارئ سبحانه: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4-5]، وفضّله على سائر خلقه بهاتين المَلَكتين: العقل والعلم، فمن يرد الله به خيرًا يجعل له إلى العلم مسلكًا ويعبّد له طريقًا إليه، ومن لم يكن له في العلم باعٌ ولو أقل القليل، أُرسل في الدنيا يجمع منها ما يجمع، ثم يعود كأن لم يكن له منها نصيب، لا يغنيه جمعه المال دون علم ولا ينفعه عند الله.

إن أفضل العلم ما دل على الله، وعلى مراده من عباده، ويكون فاضلًا ما تبعه وخدمه وألحق به، ثم بعد ذلك يكون من العلم ما يعرف الناس به دنياهم ويتفاضلون فيها، وبه يعمرون أرضهم وديارهم.

ولعل القول إن موضوعًا كهذا قد طُرق مرات ومرات، ولكن ما تفجؤنا به الأيام مما يثير الدهشة من انسحاق للهوية ومن انحرافات مخزية يستلزم التذكرة كل حين، وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

العلم وسيلة والعبادة غاية

مكانة العلم بمختلف توصيفاته وتعريفاته لا تخرج عن كونه وسيلة للدلالة على الله وعلى مراده من خلقه، وطريق لتسخير مخلوقات الله في عمارة أرضه وتهيئتها ومن فيها لعبادته وفق منهج الله تعالى، فمناط الأمر كله ومرده إلى عبادة الله وحده وفقط، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56- 57]، فلما كان الخلق كله ابتداء متضمنا خلق الإنسان لعبادة الله وحده، لزم أن يكون كل ما سخر في الكون يؤدي وظيفة لهذه الغاية، سواء جعل للإنسان سلطانًا عليه أم لا، وسواء عرف تلك الوظيفة أم لم يعرف.

إن الإنسان لا يتسلط على ما حوله من مخلوقات إلا بسلطان العلم بأمر الله، لقوله تعالى:  {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، ولو استعمل الإنسان سلطانه لشق طريقه نحو معرفة الله فبها ونعمت، فبذلك قد استخدم الوسيلة لتحقيق الغاية في المسار الصحيح، أما لو استعملها وفقا لهواه فإنه بذلك يخرج بها عن مراد الله.

إن وجود العلم أساسًا بهذه الكيفية وتسخيره لبني آدم هو إرادة الله، فلو أراد الله تعالى لأداة أخرى أن تستعمل للدلالة عليه بدلًا من العلم لما كان للعلم قيمة حينئذ، فهو يكتسب قيمته من شرف وعلوّ الغاية التي ارتبط بها وبالدلالة عليها، وإلا فلا قيمة له، فنجاح الإنسان في الوسيلة يقاسُ بقدر تحقيقه للغاية، وما دامت الغاية لا تُطلَب ولا تتحقّق فلا قيمة للأدوات، ولا نجاح حقيقي آنذاك يعتبر، لأن المنشأَ ماديٌ والهدف كذلك.

العلم وسيلة

فتنة العلم

وصل الوثوق بالعلم إلى حد يشبه طغيان الأساطير اليونانية حول آلهتها المزعومة، بل باتت نزعة العلموية “تقديس العلم” محورًا أساسيًّا في النقاشات، ورسمت حوله هالة تتجاوز حجمه الحقيقي، شأنه كشأن الكثير من الوسائل التي تحوّلت من الوسيلة لتحل محل الغايات.

إن ما يعقب تحول الوسيلة إلى غاية من المشكلات أكبر من المنافع التي قد تتأتى منها، ومن هذه المشكلات الطاغية في تحول العلم إلى قداسة ظاهرة أن سطوة هذا العلم على جهل الإنسان في أحيان كثيرة تجعل منه مرشدًا يُتبَع ومصدرًا يُتَزَوّد منه بعيدًا عن وحي الله، بدلًا من أن يخدمه ويفسره وييسر وصوله للناس.

وبدهي أن مثل هذا الانحراف يأتي من أصحاب الهويات المائعة المنجرفين خلف أفكار برّاقة تفسد العقل والدين، ولربما وجد بعضهم هويته الضائعة في نظرية علمية تسد جوع روحه، أو منهج تجريبي يقضي فيه عمره كما يقضى في غيره، وظيفة تؤدى كأي وظيفة عدا أن لها رونقا وبهرجًا خاصًا، ليس بالضرورة رسالة عظيمة وخدمة للبشرية أو حرصا على نفعها، كما أن أكثرهم في النهاية دمى تحركها أيدولوجيات أكبر، تصوغ مخرجات هذا العلم وتجاربه وفقا لمساراتها ومخططاتها.

إن ما لا يتوقع ههنا أن ينسحب ستار هذه السطوة على أصحاب الوحي أنفسهم، فنجد بعض الكتاب والمفكرين والمثقفين وبعض الدعاة أحيانًا ينجرفون إلى تصديق خرافات بعض هذه العلوم، ناهيك عن محاولة أسلمتها ونشرها بين الناس.

تعظم البلوى –بكل تأكيد- في أمر العامة، أو من يظنون العلم خيرًا كله، ولا يسعهم إلا تصديق ما يجيء من خلاله سواء كان صافيًا أو مشوبًا بأكاذيب وخرافات، فليس بوسع الجميع تمحيص ما يعرض عليه من الكلام، خاصة إذا ادّعى قائله استناده إلى مصادر علمية صحيحة ومحكمة، وتفنيد ما قد يرد فيه من شبهات بقصد وغير قصد يطعن أغلبها في صميم العقيدة ومبادئ الدين.

إن أدلجة المنتَج العلمي وإخراجه من سياقه المحض إلى سياقات أخرى تدعم نزعات تقديسية تواجه الدين، سواءً بمزج صحيحه ببعض الكذب، أو بتحوير الصحيح منه ليتلاقى مع الأكاذيب، فإنه سيأخذ أختام العلم التجريبي ودرجات التحكيم العالية فيصبح بعيدًا عن أي مجال لمناقشته أو رفضه، وما يلبث أن تُنشَر الفكرة وتُعمَّم وتكثر أدبياتها المرئية والمسموعة، بل وتسن لأجلها القوانين الدولية رغمًا عن جميع الناس، بغضّ النظر عن سحق الفطرة وتجريد الإنسان من بقايا إنسانيته، فيصير الحق باطلًا، ويصبح الوضع المعكوس الصورة الأمثل، وكل ذاك نابع من مغبة الافتتان بالعلم والنزعات التي تقدسه.

قليلُ العلم ضياع!

السرعة التي تطال كل شيء، إنها من أشد ما ابتلينا به في هذا الزمن، ومن آثارها ما انعكس على الرغبة في تحصيل العلم بطرق سريعة، بغير بذل كثير وقت أو جهد، ونجد لهذا صدى في البرامج التي تسمي نفسها (علمية) والتي تعرض لمواضيع وأفكار علمية بصورة مقتضبة ومختصرة وسريعة، بطرح وجهة نظر معينة هي ضعيفة على الأرجح وتخدم سياقًا معيَّنًا، أما المواضيع التي تتسم بالرصانة فلا تخلو من حشوها ببعض المغالطات والخرافات.

إن المشاهد الذي انتشى بفرقعة الموضوع العلمي الجديد داخل رأسه، لم يحصّل علمًا نافعًا في الحقيقة بحيث يمكنه الاستفادة منه أو إفادة غيره، فهي لا تعدو أن تكون فرقعات ترضي نشوتها الفضول لدينا، وعلى الأغلب يتم نسيان أكثرها بعد قليل من الوقت، ولكن ما لا يتم نسيانه هي تلك الشبهات التي مُرِّرَت بذكاء، وما علق بوعي المتلقّي ولا وعيه، وما ينشأ من تراكمات تشكل في النهاية تصورا كثرت فيه الانحرافات، يَقِلُّ معه إنكار المنكَر في أحسن الأحوال، هذا إن لم يكن من مؤيدي تلك الأفكار الجديدة المنحرفة والمنافحين عنها، كونها تقدم على أنها علمٌ محكمٌ تجريبيٌّ محايدٌ كما يُظَنّ.

إن من أخطر آثار هذه الانحرافات هو الانحراف العَقَديّ الذي ينتشر بين المسلمين، والذي يلاقي انتشارًا واسعًا، خاصة بين الأجيال الجديدة البعيدة كُلِّيًّا عن أي شكل من أشكال العلوم النافعة وتحصيلها، فتمثل هذه المصادر لهم منبع العلوم الرصين الذي لا يُرَدُّ ولا يُناقَش.

ليس ثمة عند المسلم شيء أثمن من عقيدته، وقد سخّر الله بعض الناس يفندون شبهات هؤلاء الناس الذين وقع نتيجة إفسادهم أناس كثيرون، فيبينون انحرافاتهم ومغالطاتهم.

ما يضر أحدنا لو حرم العلم كله وأتى الله بعقيدة كصفحة بيضاء، لهو يومئذ في مقام أعز من مقام العالم الضال المضِلّ، ولو جمع امرؤ العلم كله، ونشره في أرجاء الدنيا ثم أتى الله بعقيدة هُتِك رداؤها، فإنه حينها لفي خسران مبين، لا يغني عنه علمه من الله شيئا.

فالسلامة في العقيدة أرجى من كل علم، ومعرفة الله وحده تغني عن كلّ معرفة أنبتها المخلوق ولا تدل على الخالق، وإن لم يستطع أحدنا أن يفرز ما يتلقاه ويفنده ويميز النافع منه والضار، فعليه أن يبعد ذهنه عن التعرض لذلك كله، وألّا يأخذ العلم إلا ممن هم أهل للثقة، وبطرقه الصحيحة التي تبين له المسائل والأفكار من وجوهها كلها، فيعرف نفعها وضرها، فلا يخدع بما ينخدع به غيره.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد