مقالات

ماذا تعلمت عن الحياة من خلال مشاهدة المسلسلات؟

قل لي ما تتابع، أقل لك من أنت!

قد تبدو هذه جملة سطحية وتعميمية، إلا أن نظرة سريعة إلى مقال “تبادل آراء” لصحيفة نيويورك تايمز قد تمنحنا نوعاً من الاتفاق على المقدّمة المفترضة، فقد نشرت الصحيفة المذكورة مقالاً بعنوان “ماذا تعلمت عن الحياة من خلال مشاهدة الأفلام؟” ( What have you learned about life from watching movies)

حيث افتتحت المقال بمقدمة للكاتبة مانولا دارجيز Manohla Dargis: “الأفلام تعلمنا كل شيء، كيف نطمح ونحلم وندخّن ونلبس، وكيف نحب، وكيف نضحّي، سواء لأجل الحب أو الوظيفة والعمل؟”، ثم اختتمت المقال بسؤال عام لمن يحب مشاركة رأيه بالإيجاب أو النفي عن تجربته مع الأفلام.

بعد الاطلاع على ردود اثنين وسبعين مشاركًا، لم أُفاجأ بأن المعظم موافقون بشدة ويشاركون تجاربهم وانطباعاتهم عن الأفلام، فقال أحدهم: حتماً ستكون إنساناً مختلفاً عند خروجك من قاعة السينما عما كنت عليه لحظة دخولها!

وآخر يقول مستعيناً بالتاريخ بأن هذه الصناعة العظيمة التي بدأت ١٨٨٨ ما زالت إلى اللحظة تتطور مع تطور الإنسان وتعينه على الإجابة عن أسئلة الحياة المختلفة، -وكأن ١٢٠ عاماً من حياة البشر وتجاربهم المختلفة كافية لاستخلاص الأجوبة!! فكيف إن كانت هذه المسيرة تخطّ منحنىً متسارعاً مبتعداً عن أي وحيٍ سماوي!- ويزيد آخر بأنه تعلّم كل شيء عن الحياة من خلال مشاهدته للأفلام!

السينما والطريق لرسم الثقافة

وجدَتْ هذه البلاد التي تأسست من عدة قرون -نصفها الأول دموي والآخر نزاعات عرقية- نسيجَها الاجتماعي متبايناً ومختلفاً، لا أعراف أو حتى أهداف مشتركة تسمو عن المأكل والمشرب وأساسيات العيش، فكان لا بدّ من الوصول إلى ضمائر الناس ونفوسهم لمحاولة التوفيق ربما ورسم الثقافة العامة للبلد الجديد، وقد حقق التلفاز هذه الغاية بجدارة؛ إذ كان يبثّ للناس على مدار الساعة الصورة المثالية للمواطن والعامل والموظف الأمريكي، والصورة البراقة للأسرة المتحابّة المتراحمة، والصورة الجذابة لما يجب أن تكون عليه الطلاب والطالبات في الثانويات والجامعات، ثم تصبح المهمة على عاتق المشاهد، لمحاولة الوصول إلى تلك الحالة التلفزيونية.

ما يثير العجب هو أن تُباع نفس الخلطة إلى بلادٍ وحضارات ضاربةٍ في التاريخ منذ القدم، كوّنت عبر آلاف السنين أعرافاً وطرائق معيشية عريقة استوَت بعد أن استقت من الوحي قيمها نموذجاً يُحتذى به في وقتٍ من الأوقات، لينقلب الحال وتصبح الدراما والخبائث من الأفكار هي ما نقتدي به ونستقيه، مُعرِضين عن كنوزٍ تركها لنا الأسبقون، ويقدمها الآن بعض المعاصرون بفضل الله.

ابدأ العمل وتفكّر!

كفانا جلوساً على مقاعد الحسرة، وبكاءً على الأطلال، ولنعد إلى الواقع، إلى ساعات النهار الأربع والعشرين التي تملكها، إن رأس مالك وحقك الوحيد الذي لا ينازعك فيه أحد هو هذه الساعات التي تُمنَحُها كل صباح من الحيّ القيوم بلا مقابل، فهي فرصة جديدة لتدارك ما فات، وحبل ودٍّ للاقتراب من عتبات رضوانه، فأنت من تقرر كيف تستهلكها.

لن أُدخلك في متاهات المؤامرات أو أقول إن هناك من يجلس ويخطط ليعبث بوقتك وبباكورة أيامك والسنين الذهبية من شبابك، فأنت أبسط من أن تُنفق عليك هذه الجهود والأموال! لكن، أتعرف من هو الأبسط منك والأقل شأناً؟

هو ذاك الكاتب الذي حمل قلماً يخط فيه سيناريوهاتٍ عن عائلات يُقال إنها من عندنا، تتلاقى وتخون وتسرق وتكذب وتقيم علاقات غير شرعية وكل ما يمكن أن يخطر على باله من شطط وإمالة (فكل ذلك جذاب للتسويق)، ويعينه على ذلك إنسان آخر أقل حظاً بمهارات إخراجية يحوّل المكتوب على الورق إلى مشاهد حقيقية بالاستعانة بأشخاص قرروا تكريس عمرهم للتمثيل، واحتراف تحويل خيال شخص ورؤية شخص آخر إلى شيء يشبه الواقع (إذا غضضنا البصر عن الأجندات والأهداف)

صورة مسلسلات وأفلام

كل هؤلاء الأشخاص الذين ليسوا نجوماً ولا لامعين، راهنوا على الساعة والساعتين التي ستقدمها لهم بالمجان، وصبروا وعملوا بلا كللٍ ولا ملل، ودعّموا أنشطتهم بإعلانات وأموال طائلة تُنفق حتى تترسخ عندك قناعة أنك تحتاج متابعتهم لتتعلّم عن الحياة وأهوالها وتعرف الناس وغدرها، والنساء و”كيدهن”، ومكر الرجال، وجشع الأغنياء ومأساة الفقراء…. إلخ.

وعلى فرض أنك واعٍ لذلك كله، وأنك تقضي هذه السويعات للترفيه، أفيُعقل أن تبني جداراً، وتتعب على رصف حجارته، ثم من باب الترفيه تبدأ تصدّعه بطَرْقاتٍ من هنا، وضربات من هناك؟

هذا الجدار هو عقلك ونفسك اللذان تحتاجهما لتواجه الحياة بنفسية مستقرة وشخصية متّزنة خالية -قدر الإمكان- من حوارات الدراما وردّات الأفعال مسبقة الصنع والتعابير الجاهزة، كما في عبارة “أنا حدا كتير….” التي ظهرت وانتشرت قبل أكثر من عشر سنوات إثر ظهور مسلسل سوري يكرر هذه العبارة في كثيرٍ من لقطات السيناريو، وعلى ألسنة العديد من شخصيات المسلسل التي تتكلم بهذه الطريقة، وما هي إلا عدة أشهر إلا وصار الحوار بين الناس يتضمن الكثير من “أنا حدا كتير”، وأترك لذاكرتك مهمة إيجاد تعابير ومدخلات مشابهة، وربما من نوع آخر.

الترفيه ضرورة أم حاجة

أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفرد المسلم على تحمّل مشاقّ الحياة وصعابها، والتخفيف من الجانب الجدي فيها، ومقاومة رتابتها، شريطة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شرائع الإسلام وأوامره، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَظَنَا فَذَكَّرَ النَّارَ قَالَ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ، فَقَالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَقَالَ: يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ). [أخرجه مسلم في الصحيح]

فمعنى هذه العبارة –أي (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) أنه “لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ عَلَى الْحُضُورِ وَفِي وَقْتٍ عَلَى الْفُتُورِ، فَفِي سَاعَةِ الْحُضُورِ تُؤَدُّونَ حُقُوقَ رَبِّكُمْ، وَفِي سَاعَةِ الْفُتُورِ تَقْضُونَ حُظُوظَ أَنْفُسِكُمْ” [المباركفوري في شرح سنن الترمذي]، وهنا يُترك كل شخص لضميره ليعرف كمية العبادات الضئيلة التي يُمارسها يوميّاً.

في ناحية أخرى، فإن أغلب من يقضي وقته في الترفيه، سواء بمسلسلات التلفاز أو ألعاب الهاتف، فإنه بعيدٌ كل البعد عن الإنجازات الجادة –ولا أظن أننا بحاجةٍ لإحصاءات واستطلاعات لإثبات ذلك- فوحده من يشعر بتعب ولذة الإنجاز يقدّر قيمة نفسه وقيمة وقته ولمن يعطي سمعه وأذنه وانتباهه.

متاهات السوشال ميديا

إن كنا ما زلنا حديثي عهد بهذا الفخ الجديد الذي وقع فيه حتى أكثرنا انشغالاً واجتهاداً، فخ إضاعة الوقت في متاهات “الماجَرَيات” التي تبثها لنا يومياً وسائل التواصل الاجتماعي دون توقف أو كلل أو ملل، فلا نكاد نشهد معركة خمدت بين داعية ومفكر حتى تندلع ثانية، عدا عن مزاحمات المواعظ والدروس والعبر والنصائح والتنبيهات والتحذيرات والأخبار والمستجدات، وكل ذلك مما يبدو كأنه ثقبٌ أسود يلتهم ساعاتنا وأيامنا والسنوات على غفلة منا، بينما يتوجب علينا –في الأصل- أن نتجه للانشغال بشيء أهم في حياتنا الحقيقية.

أوليس من غير الحكمة ونحن نصارع أنفسنا في مهمة التخفّف من الملهيات أن نزداد في متابعة هذه الفضاءات وأن نفتح جبهة حربٍ جديدة مع مسلسلات تشبكنا معها ٣٠ ساعة وربما أكثر، في الوقت الذي يتأسف فيه كثيرٌ منا لمرور عشر دقائق من ذكرٍ أو تلاوة لصفحة من كتاب الله تعالى.

يوصي العديد من الأطباء بألا تتجاوز مدة الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعي ثلاثين دقيقة، وبذلك يتوفّر للإنسان متابعة صفحتين أو ثلاثٍ أو خمس على الأكثر المجمل –في حال كانت ذا محتوى غني وقيّم- فإن زاد الحال عن ذلك انقلب إلى مضيعة للوقت، فيصاب المتابع بالتخمة المعرفية والفوضى، إذ إن منصات التواصل لا يؤخذ عنها العلم وإنما هي منصة للتذكير، والأولى والأصل أن يرتبط العلم بالعمل، ومن كان عمله التصفّح والتقليب بالساعات فإنه ممن يظنون أنهم يحسنون صنعاً وهو من الأخسرين.

البدائل والحلول

حسنٌ، يشار لنا على الفور بكلمة “ما البديل؟” التي صارت ردنا السريع على كل من يحاول إبعادنا عن عادة سيئة أو فعلٍ خاطئ!! وكأن البديل يجب أن يكون موجوداً، وكأنما إقامتنا في فندق ٥ نجوم، وليست في دار امتحانٍ وابتلاء!!

بلى، إننا نفتقر في مكتبتنا العربية للمرئيات المفيدة التي تجذب اليافعين والشباب، إلا أن ملء هذا الفراغ لا يكون باللجوء لبدائل لا تناسب قيمنا وأخلاقنا.

ولعل الحل يكون بالإقلاع عن هذه العادة أولاً، وأنا أكثر من يتفهم صعوبة الأمر، فمع الأسف الذكريات العائلية الجميلة يُرسم أغلبها خلال جلسات المساء لمتابعة مسلسلٍ ما أو فيلم، إلا أن الأمر يستحق كل جهدٍ مبذول، والمكسب في نهاية المطاف هو عمرك وبركة وقتك.

ومما يعين على هذه الخطوة التدرّج بالترك، ومجاهدة النفس قدر الإمكان على الامتناع كلياً في رمضان عن مشاهدة أي شيء، وملء الوقت بالعبادات التي تؤجر عليها وتثاب وترفع مقامك عند ربّك -وهو هدفنا الأساسي- والاستعانة بالله قبل كل شيء، فمعارك النفس داخلة في حكم الجهاد، وتغيير العادات يتطلب وقتاً وصبراً وثباتاً، ورمضان فرصة ذهبية للانطلاق، وهو من رحمة الله بنا أن فرض علينا هذه المساحة الضيقة من باحة العام الواسع، لنُعيد فيها حساباتنا ونتمكّن من الامتناع جزئياً عن أساسياتٍ حياتية، تمهيداً للإقلاع عن مُهلكات نحسبها ضروريات.

من وحي التجربة

وقبل التنعّم بطعم الحرية والخلاص من قيود وأسلاك التلفاز الشائكة، دعني أشاركك بعضاً من تجربتي الشخصية التي بدأتها في مطلع العشرينات من عمري، عند اندلاع الثورات وسقوط كثير من المشاهير من أعين الجماهير، فقررت الامتناع ما استطعت عن متابعة التلفاز ومن ضمنها المسلسلات والأخبار والأفلام، فعشت في قوقعتي الصغيرة وبات الفراغ كبيراً، ملأته فوراً بتطوير مهارة أحبها ولا أعرفها، ألا وهي “الحياكة”، وبعد عدة شهور ومن خلال فيديوهات اليوتيوب أتقنتها فصارت ملجئي الذي أستعين به على ليال الشتاء الطويلة.

وحمّلت على هاتفي تطبيق Duolingo لتعليم اللغات، فتعلمت مبادئ الفرنسية (بالإضافة إلى التحاقي بمدرسة بدوام جزئي لا يُذكر في البداية) لكن مع ذلك أُرجع الفضل للـدقائق الخمسة عشر التي كنت أتمرن بها على هذا التطبيق بشكل شبه يومي، فصار بإمكاني إجراء محادثة بسيطة، وفهم معظم ما أسمعه وكل ما أقرأه.

جاهدت نفسي لمشاهدة المحتويات وقراءة المقالات التي أهتم بتعلمها باللغة الانجليزية بدل العربية، مثل الحياكة، والصحة، ورعاية الأطفال، وحتى الطبخ وكل ما يخطر بالبال، فأتقنت الانجليزية لوحدي في المنزل إلى درجة القدرة على التعبير عن نفسي بشكل جيّد جدّاً، وقراءة المواد المتعددة في المواقع الإخبارية، والاستماع لمحاضرات مختلفة بمواضيع متنوّعة، في فترة تُعتبر قصيرة.

لقد كان أهم إنجاز لي هو حفظ القرآن، ولو أنه جاء متأخراً ولكن أحمد الله الذي أذن لي بحفظ كتابه، فبفضله ونعمته حفظت الخُمس مع صحبة خيرٍ تعينني على ذلك..

لم يكن الطريق سالكاً سهلاً؛ إذ حصلت بعض الانتكاسات، ولكن بمجرّد أن تقتنع أن وقتك أثمن من أن يضيع هباءً، فإن الصعب يغدو سهلاً بإذن الله.

ختامًا، فإن كنت قد استطعتُ أن أقوم بذلك، فإنكَ بالتأكيد أيضاً تستطيع، وإننا مهما اجتهدنا لن نخسر الترفيه، إلا أننا سنربح أنفسنا مع ذلك.


المصادر:

(١) عن الترويح عن النفس موقع إسلام ويب

https://www.islamweb.net/ar/fatwa/129613/

مقال نيويورك تايمز:

https://www.google.com/amp/s/www.nytimes.com/2018/12/03/learning/what-have-you-learned-about-life-from-watching-movies.amp.html

 

مصدر صورة الوسائل التواصل الاجتماعي

<a href=”https://www.freepik.com/vectors/people”>People vector created by pikisuperstar – http://www.freepik.com</a&gt;

“الرحلة”.. عندما يتحول الدين إلى فنتازيا تاريخية!

تسعى شركة مانجا للإنتاج -التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان الخيرية والمعروفة بـ “مسك الخيرية”- إلى “إلهام أبطال المستقبل”، من خلال إنتاج “الرسوم المتحركة وألعاب الفيديو والقصص المصوّرة ذات الرسالة الهادفة”. وبناء على هذا التعريف نرى إطلالة الشركة علينا قبل أشهر قليلة بفيديو تشويقي لما وُصِف بأنه أول “فيلم أنمي سعودي ياباني” يحمل اسم “الرحلة”.

ووفق الشركة، فـ “الرحلة” فيلم إثارة وتشويق و”فنتازيا تاريخية” مستوحى من “تاريخ شبه الجزيرة العربية ومن الحضارات القديمة في المنطقة” ويروي قصة خزّاف اسمه أوس “يمر بتجربة إنسانية كبيرة ويدافع عن مدينته ضد غزو يأتيها من الخارج”.

لوغو شركة مانغا للإنتاج واستوديو توي أنميشن، منتجة فيلم "الرحلة" والاستوديو الذي قام بالتنفيذ

وشارك في إنتاج الفيلم استوديو توي أنيميشن Toei Animation، أحد أقدم استوديوهات الأنمي القائمة إلى الآن -إن لم يكن أقدمها-، والذي خرّج مَن أصبحوا بعد ذلك أساطيرًا في هذه الصناعة، أمثال هاياو ميازاكي وأوسامو تيزوكا، كما أن الأداء الصوتي في الفيلم كان على يد نخبة من المؤدين، كهيروشي كاميا صاحب الأداء الصوتي لشخصية ليفاي أكرمان من أنمي “هجوم العمالقة” وكذلك الحال بالنسبة لباقي طاقم العمل من إخراج وإنتاج.

وقبل أيام ظهر إلى النور الفيديو التشويقي الثاني للفيلم، لنكتشف أن قصة الفيلم تدور حول غزو أبرهة الأشرم للكعبة! وهكذا تصبح الحوادث والقصص القرآنية “فانتازيا تاريخية” عن “حضارات قديمة في المنطقة”! وهكذا يُلهَمُ “أبطال المستقبل” وتصنّع “أجيال صالحة مؤمنة معتزة بتاريخها وثقافتها” من وجهة نظر شركة مانغا للإنتاج ورئيسها التنفيذي (عصام البخاري)، الذي لم ينطق كلمة “الإسلام” ولو مرة واحدة طيلة مقابلة أجريت معه للحديث عن الفيلم، بل قل: كانت مقابلة تفوح منها رائحة القومية المنتنة.

“الرحلة” في عصر الصورة

باتت الصورة -التي لطالما كان لها بريقها- الآن مدعومة من قبل الإمبراطوريات الرأسمالية بما لديها من نفوذ اقتصادي وقدرات تكنولوجية، بل إن الدول بشتى أشكالها -الديموقراطية منها والقمعية- تستخدمها لتحقيق أهدافها؛ فتوحّشت الصورة وتغلغلت في مفاصل حياتنا وتفاصيل أفكار الإنسان كافّة، ورسمت حاضره وماضيه ومستقبله وحددت له الحقيقة والخيال، بل وأفقدته ذاتَه واستنزفت عمره وأنهكت روحه.

الترفيه في عصر الصورة هو المطلب والهدف، والغاية والوسيلة، فهذا العصر مُغرِقٌ في الماديات، مفرّغ من أي قيمة متجاوِزة، محكومٌ بآليات السوق، عصر سائلٌ لا مكان فيه لقِيَم متعالية، ومعانٍ سامية، وثوابت مقدسة، وحقائق راسخة، عصر نُزِعت فيه القداسة عن غير الصورة!

وما “الرحلة” إلا محاولة لنزع القداسة عن الدين، أقدس المقدسات الذي فيه معنى حياة الإنسان ومفتاح نجاته.

وبداعي الترفيه –أو بحجّته-، يصبح تحريف الدين مجرد “تعديل طبيعي في الحبكة لأغراضٍ درامية ولزيادة جرعة الإثارة والتشويق، وأمرًا لا يستحق من الجدل الكثير”، كما أن “الفن ليس مطالبًا بنقل الحقيقة والتقيد بالواقع”، و”هذا عمل ترفيهي خيالي (فنتازيا تاريخية)، وليس عملًا وثائقيًا”. ففي عصر الصورة تتغير المعايير والمقاييس والمبررات والأحكام، في سبيل تحقيق “متعة المُشاهِد”.

فلا عجب إذن إن وجدنا هذه “الفنتازيا التاريخية” انتقلت إلى عالم الأفلام والمسلسلات، ليتحول الدين في نهاية المطاف إلى مجرد مادة ثرية ينهل منها المؤلفون والأدباء، وأساطير مثيرة تُحاك حولها الحبكات وتُنسَج منها القصص والحكايات، القائمة بطبيعتها على الخيال والمبالغات وتفاصيل لا توجد إلا بمثل الإسرائيليات، لتَرسُم تصوراتنا وتشكل انطباعاتنا وتكُون مصدر معلوماتنا عن كل ما يتعلق بديننا وعقيدتنا. وفي نهاية المطاف، تختلط السردية الدينية للتاريخ بالأساطير في عصر الصورة.

هذه هي الصورة التي ستُرسم لأبرهة في ذهن كل من سيشاهد الفيلم

بعد أن يحوّل “الرحلة” قصص القرآن إلى “فنتازيا تاريخية”، يكون الدين قد استُبيح بأيدٍ عربية -مع الأسف- ليتحول إلى نمط شبيهٍ أو قريبٍ من قصص ألف ليلة وليلة، مداره الحديث عن القصص الأسطورية المحضة، فلا غرابة إذن إن قامت جهات الإنتاج الأجنبية -الغربي منها والشرقي، الأمريكي منها والياباني- باستكمال هذه “الرحلة” الفجة من تحريف الدين الإسلامي واستباحته. كأن نجد شركةً مثل (نتفليكس) تعيد كتابة تاريخنا وتصوير ديننا، ليس للعالم الغربي فحسب، بل حتى للشباب العربي بما يعانيه من انهزام حضاري وخضوع لسلطة “الثقافة الغالبة” ورضوخٍ لقوة الصورة.

وحتى إن زالت الغشاوة وذهب سحر الصورة، وظهرت التعليقات المعترِضة والردود الغاضبة، فهذا غالبًا لن يغير من الواقع شيئًا البتة، فنحن أمام “رحلة” مدعومة من أعلى السلطات في الدولة، رحلة تحريف دينٍ، واستئصال قِيَمٍ، وتغييب وعي، وتزوير تاريخ، ومسخ ثقافة، وطمس هوية، وتشويه مجتمع.

إن محض إدخال الدين إلى نطاق سيطرة الصورة، يعني أن صاحب الصورة هو من يرسم شكل هذا الدين، ويقدمه كما يشاء للفئة التي يشاء. ولك أن تتخيل الحال عزيزي القارئ حينما يكون صاحب الصورة ليس ذو نفوذٍ سياسي واقتصادي فحسب، بل صاحب أعلى سلطة في الدولة، فكيف يمكنه تشكيل هذا الدين وتقديمه على الصعيدين المحلي والعالمي؟ خصوصًا إن استخدم الأنمي في سبيل ذلك!

الأنمي.. ذلك الوافد الجديد القديم

رغم ما تحمله الأفلام والمسلسلات الحية في طياتها من خيال وأساطير إلا أنها لا تُقارن بما يمكن أن يتضمنه الأنمي من خيال بحكم طبيعته، مما قد يعني أن خطره أشد وأثره أكبر، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار أن الفئة التي يستهدفها الأنمي تشمل أعمارًا أصغر نسبيًا، هذا بالإضافة إلى الصورة الوردية المرسومة في المخيال الاجتماعي عن الأنمي خصوصًا واليابان عمومًا.

ولا أدل على انتشار الأنمي من تبنّي الدولة له واستعانتها به لاجتذاب ومخاطبة شبابها!

فشبكة mbc المقرّبة من السلطة، هي أول جهة عربية تتبنى الأنمي في المنطقة وتبثه بشكله الياباني المترجم الخام، من خلال قناتها mbc action ومنصتها الرقمية (شاهد)، وبهذا تضمن وصوله إلى أكبر فئة من الشباب، وكل هذا حدث منذ بضعة أشهر فحسب.

إلا أن “الرحلة” لم تبدأ الآن، فما يحدث ليس وليد اللحظة، ولا هو مجرد استغلال لوسيط رائج حاليًا، بل إن الأمر ظاهر للعيان منذ ما يقارب العشرين عامًا، مع إطلاق mbc لقناتها الثالثة (mbc3) والتي كانت مخصصة لبث الرسوم المتحركة الأجنبية -الأمريكية في الغالب- مع وجود واضحٍ للأنمي الياباني طبعًا، وكان ذلك أيضًا دون إجراء أي تعديل رقابي يراعي الدين أو القيم أو الأعراف، أو حتى عمر الفئة المستهدفة.

مثال ذلك مسلسل الرسوم المتحركة الفرنسي الكندي Totally Spies! والذي عُرف عربيًا بالجاسوسات، والذي نشأت على أفكاره العديد من الفتيات، وبطلاته شابات كل ما يستحوذ على اهتمامهن هو مواكبة آخر صرعات الموضة وإقامة العلاقات الرومنسية مع الشبان. وهذا يعطي لمحة عن طبيعة الأفكار التي تحاول قنوات mbc ضخها عبر مختلف قنواتها، أفكار أوصلتنا اليوم إلى ظواهر كانتشار “الفاشينيستات” اللواتي يجدن ملايين المتابعين والمتابعات.

شبكة قنوات mbc التي تعد من أضخم الشبكات في المنطقة العربية وأكثرها تنوعًا -إن لم تكن الأضخم- تحاول تشويه الإسلام وضخ الثقافة الأجنبية الغربية عبر كل ما تبثه من برامج وأفلام ومسلسلات عربية وأجنبية.

وفي المقابل، وعلى مدار سنين، نجد النقيض تمامًا في طبيعة وثقافة المجتمع المتلقي للمحتوى -بأعرافه وقوانينه وتقاليده-. والجدير بالملاحظة هنا أن المتحكم بالنقيضين هي الجهة ذاتها، بالتالي فإن هذا التناقض الصارخ -وما يؤدي إليه من أزمة حادة في الهوية -قد تصل إلى معاداة كل ما هو عربي إسلامي ووصمه بالتخلف- لم يكن غالبًا بمحض الصدفة؛ بل إن الدور الذي لعبته شبكة قنوات mbc في ضخ الأفكار الأمريكية أوجد لها مكانًا بين تسريبات ويكيليكس، ليس اليوم بل قبل أكثر من عشر سنوات!

هذه الشبكة هي من تروج الآن للأنمي في المنطقة، مما سيدفع إلى مزيد من الانسلاخ عن الهوية العربية والإسلامية، ولكن هذه المرة لصالح اليابان، فالأنمي هو سفير اليابان إلى العالم. وصانع القرار في هذه الشبكة، هو ذاته من يريد استخدم الأنمي لتحريف دين الإسلام ونزع القداسة عنه!

في ظل كل هذا، يستحق الأنمي حيزًا أكبر في الفضاء الإسلامي الفكري والدعوي والتوعوي، ويجدر بمن يهتم بنهضة الأمة وصلاح شبابها أن يوليه مزيدًا من الانتباه والاهتمام ومحاولة الفهم، لكي لا يتحول الإسلام وقيمه إلى “فنتازيا تاريخية”!

هل الفن وسيلة للإصلاح؟

من مزايا المنهج الإسلامي شّموليّته الواضحة في كلّ شيء، ونقصد بالشمولية هنا وجود ضوابط وأطرٍ عامّة ومقاصد أساسيّة للإسلام تتنزّل الحوادث المتجددة تحتها والبحث عن اجتهادات فيها ضمن تلك الضوابط، حيث إن الشريعة حدّدت لنا المبادئ التّي يستطيع أن يلتزم بها الإنسان المُسلم في مُختلف مجالات الحياة من سياسة واقتصاد واجتماع، ويمتدّ ذلك أيضًا إلى الفن بمُختلف أنواعه، وما ابتعدت البشريّة عن هذه الضّوابط في أيّ مجالٍ إلاّ وأتبع ذلك انحراف وفساد وانتكاسة عن الفطرة الإنسانيّة.

يتبادر إلى الأذهان أنّ الإسلام عدو للفنّ وأنّه لا يُمكن النّبوغ فيه مع المُحافظة على القِيَم والمبادئ الإسلاميّة، فكيف يُمكن –أصلاً- توظيفه في التّغيير والإصلاح؟!

يحتج البعض في رَفضه للفنّ بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْ والْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، وتعليقًا على هذه الآية نرى الإمام ابن حزم يقول في مواضع متعددة بأن الكفر متأتٍّ عن إرادة الإضلال عن سبيل الله واتخاذ ذلك هزؤًا، بل لو أن امرؤًا اشترى مصحفًا بقصد الإضلال عن سبيل الله لكان كافرًا” [المحلّى بالآثار، ابن حزم، ج7- 567] ومن ثمّ يمكن القول إنه لا علاقة لهذه الآية بتحريم الفن البنّاء السّليم والنّقي.

محمد الغزالي

محمد الغزالي

يرى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله “أن الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح! فهنالك أغان آثمة، تلقى في ليال مظلمة وإن كثرت فيها الأضواء، لا تسمع فيها إلاّ صراخ الغرائز أو فحيح الرّغبات الحرام، وهناك أغان سليمة الأداء، شريفة المعنى، قد تكون عاطفية وقد تكون دينيّة وقد تكون عسكرية تتجاوب معها النّفوس، وتمضي مع ألحانها إلى أهداف عالية” [السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي، ص 109] “لقد أشاعت المدينة الحديثة الراديو والتلفزيون وغيرهما من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهي على سواء، ومعروف أنّ هذه الأجهزة أدوات غير مسؤولة عمّا يصدر عنها، وإنّ المسؤولية تقع على المؤلفين والمغنين والمخرجين، ففي استطاعتهم أن يقدّموا النّافع ويحجبوا الضّار” [المصدر السابق، 125].

إنّ الفن وسيلة يستخدمها الإنسان ليُعبّر عن تصوّراته في الحياة، ولينقُل ما يؤمن به من أفكار ومبادئ للمُتلقّي، فإن صلح هذا الإنسان وأبدع في فنّه فسيُنتج لنا صورة فنيّة سليمة المعالم نبيلة الأهداف تُنير الفكر الإنساني، وإن كان هذا الإنسان مُتّبعًا لأهوائه فاسد العقيدة، فلن يُنتج لنا إلاّ فنًّا مُشوّهًا لا خير فيه، بل لن يزيد المُشاهد إلاّ انحرافًا وضلالاً. فالمُشكل هُنا في الإنسان وفي كيفيّة توظيف الفن الذّي أصبح جزءًا من مُجتمعاتنا وثقافتنا المعاصرة.

الفن في الغرب

يعكس الفن في الغرب تصوّرات الأفكار والأفراد في واقع الحياة المعاشة في ظل طغيان المادة وفساد الفطرة، وأوّل ما يلفت نظرنا في الفن الغربى أنّه مشغول بالآلهة وبصراعها مع الإنسان الذّي بمقدوره الانتصار عليها والاستقلال بذاته.

وفي كلّ مرّة تكون هذه الآلهة أو القدر هي مصدر الشرّ والاستبداد، وفي المُقابل يكون الإنسان هو المُتعرّض للظلم وصاحب الحقّ، وبناء على ذلك وجب عليه تحدّي الآلهة المزعومة، حتّى يستطيع التحكّم في مصيره وصناعة تاريخه بنفسه دون الخضوع لأيّ قوّة خارجيّة. فعلى سبيل المثال الأفلام الحديثة التي يكون فيها الأبطال هم أشخاص من ذوي القدرات غير الطبيعيّة فيتمّ تأليههم في مواجهة قوى الشرّ الظالمة أو في بعض الأحيان يتطور الأمر بينهم وبين الإنسان العادي إلى صراع لإثبات قدرة انتصار الإنسان على هذه الآلهة وانتزاع السّلطة منها.

ومن مظاهر الفن الغربي أيضًا تمييع الدّين وتشويهه وتقديمه للعامّة بصورة باطلة ومنحرفة، حيث يتمّ عرض قصص الأنبياء مثلا كما حدث في فيلم نبي الله نوح وموسى بطريقة مُحرّفة فيها تجسيد للذات الإلهيّة، ففي ذلك افتراء على حقيقتها، كما أن فيها تجسيد للأنبياء ونزع للعصمة التّي منحها الله لهم، ولا ينتهي الأمر هنا بل يتمّ غالبًا عن طريق الفن ربط التطرّف والتخلّف بالدّين، خاصة بالإسلام، كما يتمّ الاستهزاء به في المسرحيّات من أجل المُتعة والتّسلية.

أمّا على المستوى الاجتماعي فقد أصبح الفن تهديدًا للأمن والاستقرار داخل المجتمع، حيث يتمّ تبرير أعمال العنف والقتل لشخصيّة عاشت ظلمًا اجتماعيّة واضطرابات نفسيّة وجعلها ضحيّة يتعاطف معها المُتلقّي، فتُصبح له قابليّة للّجوء للعنف الجسدي واللّفظي كلّما وقعت له مظلمة من باب التمرّد على النّظام القائم، وهذا ما حصل عندما تمّ عرض فيلم الجوكر الذّي انتقِد بشدّة بسبب العنف المفرط فيه إلى جانب التّبرير لإجرام هذه الشّخصيّة، وخلال عرضه في دور السّينما الأمريكيّة تمّ نشر وحدات أمنيّة إضافية فيها خوفًا من تداعيات عرض هذا الفيلم.

الجوكر أحد أشكال الفن

لم يترك الفن في الغرب العلاقات بين الرّجل والمرأة على شكلها الفطري، فلا يكاد يخلو عمل فنّي من عرض مفاتن المرأة من باب الإغراء والمُتعة وتقديس الجسد، كما بات عرض العلاقات الجنسيّة المُحرّمة وكأنه جزءٌ من الدلالة على الحبّ، حيث لا بدّ من تلبية الغرائز كلّما سنحت الفرصة لذلك بدون تحرّج أو قيود أخلاقيّة، ومن شدّة الانحراف الفنّي أصبح يُروّج اليوم لزنا المحارم، والشّذوذ، بل وصل الأمر بأن تقوم نتفليكس بالدفاع عن إدراج فكرة اشتهاء الأطفال والدعوة للمثلية وعرض أفلام من بطولة أطفال مراهقات بما لها من إيحاءات جنسيّة مبالغ فيها!

إنّ مثل هذا الفن، الذّى يتم إخراجه بإتقان وجودة عالية تأسر المُتلقّي، وذلك لن يُنتج إلاّ إنسانًا كارهًا للدّين، جاحدًا لربّه مُنغمسًا في شهواته مُتّبعًا لأهوائه بدون حدود، ونحن لا نُنكر وجود روائع إنسانيّة عميقة وعالية فيها مشاعر راقية في الفن الغربي، إلا أن قول ذلك يجب ألّا يحجب عن أبصارنا المفاسد التي ذكرناها وما يترتّب عليها من انحرافات.

الفن في مُجتمعاتنا

ربما يقال إن بداية الفن في مُجتمعاتنا كانت تحترم التّقاليد اليومية والأخلاق، وعندما دخلنا في طور الحداثة أصبح أرباب الفن مولعين بتقليد الغرب في كلّ شيء يُناقض قيم الإسلام، لقد بدأ الفن ينسلخ رويدًا رويدًا عن منهجه في إظهار مشكلات المجتمع إلى تحريف فكره، وأصبح من الضروري فيه أن تظهر المرأة بطريقة جذّابة ومُغرية، وأصبحت بعض الانتاجات الفنيّة تعرض العلاقات المُحرّمة من دون حرج باسم الإبداع والحريّة وذلك بهدف تحصيل أكبر نسبةٍ ممكنة من المُشاهدات.

أصبحت لحظات الضّعف والانحراف أمام الغرائز والنّزوات تُصوّر على أنّها بطولة فانقلبت المفاهيم عندنا، لقد تحوّلت الخيانات الزّوجيّة واتّخاذ العشيقات حبًّا وتضحية، وتحوّل التعرّي واللّباس الفاضح وغير اللائق تحرّرًا ومُوضة يتسابق إليها شبابنا اقتداءً بالمشاهير من الفنّانين والفنانات، وتحوّل الكلام الفاحش وعقوق الوالدين وشرب الخمر والتميّع رُجولة وفخرًا، وكلّ ذلك يُقام في الأعمال الفنيّة عندنا باسم الواقع وتشخيص حالة مُجتمعاتنا!

كما أصبح الفن اليوم طريقًا لتشويه قُدواتنا الإسلاميّة وتزييف التّاريخ ووصفهم بالتطرّف والإرهاب والقدح المسيء حتّى تنفر العامّة منهم بدون الاطّلاع على سيرتهم وما قدّموه لأمّتنا الإسلاميّة، ونذكر على سبيل المثال الهجمة الشرسة في احدى المُسلسلات على شيخ الاسلام بن تيميّة وجعله سببًا لاتّباع شبابنا لمنهج التّكفير وإباحة دماء الأبرياء، ولنضف إلى ذلك ما يتمّ ترويجه من أباطيل في أعمال فنيّة حديثة باستغلال ما تقوم به  بعض التنظيمات المتطرفة لإلصاق تُهمة القتل والعنف بالاسلام دون توضيح الحقيقة للمُتلقّي ودون تبيين انحراف هذه التّنظيمات عن الحقّ.

لن ينتهي دور الفن هنا بل سيزجّ في السياسة عن طريق إنتاج مُسلسلات ذات جودة عالية هدفها تزييف الحقائق وتلميع صورة الأنظمة الظالمة والمستبدّة، بهدف تبرئتهم من كلّ إجرام قاموا به داخل أوطانهم وخارجها، بل أصبح الفن اليوم يُوظّف من أجل تبرير جريمة التّطبيع مع الكيان الصّهيوني وإقامة الحفلات الغنائيّة إرضاءً لقرارات السّلطة الحاكمة واستجابة لطلبها!

وقد انعكس كلّ ذلك سلبًا على مُجتمعاتنا وانتشر بيننا العنف والفساد الأخلاقي والجمود والوهن أكثر من ذي قبل. ولنا أن نتساءل الآن إذا كانت هذه صورة الفن عندنا، فما البديل الذّي يُقدّمه الإسلام لنا؟

الفن في الإسلام

إنّ الالتزم بمنهج الله في الفن لن يجعله عبارة عن مواعظ وخطب وإرشادات دينيّة متسلسلة، ولن يتحدّث العمل الفني عن العقيدة والفقه فقط، ولن يكون مُنفصلاً عن واقع الحياة عن طريق تقديم صورة مثاليّة للإنسان غير قابلة للتّطبيق، بل سيجعله يتناول كلّ جوانب الحياة ومشاكلها بكلّ حرّية من زاوية التصور الإسلامي.

قد يتحدّث الفن الإسلامي عن الكون فيصوّر لنا جماله وارتباطه بالخالق ويصفه لنا على أنّه خليقة ذات روح تُسبّح لله وتخضع له وتشهد على من عاش فيه وكلّ مخلوق موجود فيه إلاّ وله حياة وروح كما قال الله لنا في كتابه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]

وقد يتحدّث الفن عن الإنسان فيراه خليفة الله في الأرض وعبدًا له يستمدّ حياته ووجوده من الله وحده وأنّ له دورًا فاعلاً في الحياة، وأن هذا الكون مُسخّر له ليُصلح فيه ويُحارب الظلم والشرّ، ومن ثمّ يكشف عن حقيقة الإنسان الذي له منافذ ضعف يستغلّها عدوّه الأوّل الشيطان ليُغويه، فتكون هنا مُجاهدة النّفس والشيطان من أجل اتّباع منهج الله والثبات عليه وتربية النّفس على ذلك.

بكل تأكيد فإنه من المهم للفنّ مُعالجة العلاقة بين الجنسين بإعطائها طابعها الإنساني النّظيف الطاهر بعيدًا عن الرذيلة والشّهوات، وأن يظهر أن العلاقة الطاهرة مهمة لبناء مُجتمع مُتوازن ونقيّ وتغيير واقعه والنّهوض به.

وقد يتحدّث الفن عن رسول الله عليه صلى الله عليه وسلّم فيُخبرنا عن حياته وأخلاقه وعن علاقته بربّه وعلاقته بأصحابه وبأهله وأزواجه وعن غزواته وكيف نصره الله فيها، وعن كفاحه من أجل نُصرة الحقّ ودحض الباطل، ليكون خير قدوة لنا في مُختلف المجالات، ولنتعلّم منه كيف نُدير حياتنا ونحياها.

قد يتحدّث الفن عن المُستويات العليا للجمال التّي تشمل كلّ مجلات الحياة كجمال الأخوّة الاسلاميّة ومدى حاجتنا لها اليوم، وجمال الحبّ الذّي يشمل الحبّ الإلهي والإنساني وجمال الأخلاق، وكيف تحيى الأمم بها، وكذلك جمال الصّبر على محن الحياة والعزم على تجاوزها مع التوكّل الله الذي بيده كلّ شيء، وجمال الخير الذي يجب أن يكون ديدنه كلّ إنسان، وجمال الحقّ والعدل الذي تقام بهما الدّول النّاجحة، وجمال الحريّة والكرامة التّي تطمح إليها الشّعوب والأمم المقهورة والمظلومة، وجمال العلوم التّي تنهض بها الأمم وتُنير بها طريقها وتُحقّق بها استقلالها، وجمال النّضال والبذل والتّضحية بالمال والنّفس من أجل الإصلاح والتّغيير والعودة لمنهج الله ومُحاربة المُنكر والجمود والجهل، وجمال الجهاد الذي تكسر به الأمّة قيود الاستعمار والمذلّة والاعتداء على حُرماتها.

وللفنّ أيضًا أن يُجسّد لنا الواقع ومشاكله الكبرى بدون إفراط أو تفريط، وفق الضوابط الإسلاميّة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وتسليط الضوء على الانحرافات النفسيّة والخُلقيّة التّي يعيشها الفرد منّا مع تقديم الحلول لها في شكل فنّي إبداعي وفق الهدي الإسلامي.

وخلال هذا كلّه يُصبح للفنّ الإسلامي مجال واسعٌ للتّعبير الشامل في كلّ مجالات الحياة، وإنّ مثل هذا الفن سيُساهم بلا شكّ في ترسيخ القيم والمفاهيم الإسلامية بيننا، وسيلفت كذلك نظر المُتلقّي إلى مواضع الخلل التّي تعيشها مُجتمعاتنا وكيفيّة النّهوض بها، وسيدفعه ذلك إلى العمل وعل والهمّة من أجل التّغيير.

إننا لن نصل لهذا المستوى الفنّي إلاّ في وجود فنّانين تشبّعت أنفسهم وقلوبهم التصوّر الإسلامي الصّحيح، فتراهم يتطلّعون للإصلاح، كما أن علينا دعم مواهب شبابنا المُسلم في هذا المجال، والإحسان تأطيرهم وعدم غلق باب الفن عنهم فيفرّون من دينهم ويُسخّرون طاقاتهم الابداعيّة في الفن القبيح المشوّه والمنافي للأخلاق.

العفاف الاجتماعي.. عقبات وتحدّيات

إذا أردت تدمير مُجتمع ما والسيطرة على أفراده، فعليك أوّلًا نشر الانحراف والانحلال الأخلاقي داخله، ومن ثمّ سيُصبح كلّ فرد مُتّبعًا لشهواته وساعيًا لإشباع غرائزه بنهمٍ، وسيُصبح ذلك محور حياته.

وقد تسرّب لنا نحن المسلمين اليوم هذا النوع من الانحراف وأصبح هنالك فساد في العلاقة بين الجنسين، وتسابقٌ من أجل إشباع الغرائز، وفقدنا بوصلة الإيمان التّي تُوجّهنا إلى الطّريق المُستقيم في الحياة، وانعكس ذلك كلّه على الفرد وعلى المُجتمع الذّي غشاه الوهن والضعف.

صورة تعبر عن الوقوع تحت أسر الغرائز والشهوات والتي تناقض العفاف الاجتماعي

هذا الحال الذي وصلنا إليه لم يكن موافقًا لما روّجه بعض بني جلدتنا المُنتمين للنّخب المُثقّفة بأنّ الانفتاح على الفكر الغربيّ بكلّيّته سيوصلنا للتقدّم العلميّ والحضاري، إلا أن هذا الأعمى لم يزدنا –في الحقيقة- إلاّ تخلّفًا وعُبوديّة وتقديسًا للغرب، إلى جانب تأخرنا في العمل المُثمر ومن دون تحقيق أيّ تغيير واقعي يُذكر.

إنّ الفرد منّا اليوم يجد نفسه حائرًا لا يدري أين الحقّ من الباطل في ظلّ هذه الفوضى الفكريّة التّي نعيشها، خاصّة في باب العلاقات بين المرأة والرّجل، فنجد أصواتًا مُتعاليةً من هنا وهُناك، كلٌّ يُناقض الآخرـ بين من يدع ولانفتاح غير محدود، وبين انغلاق تامّ على الذات مُؤدٍّ –ولا ريب- للكبت والانهيار.

فساد العلاقة بين الجنسين في الغرب

كانت بداية الانحراف قد ظهرت في العصور الوسطى في أوروبا أي مع بداية انحراف المسيحيّة وتسلّط الكنيسة على النّاس واستعبادهم باسم الدّين، حيث كانت الفكرة الشائعة في ذلك الزّمان أنّ الجنس شيء دنِس في ذاته، وأنّ المرأة مخلوق شيطانيٌّ يجب الابتعاد عنها، وأنّ الزّواج غريزة حيوانيّة ينشغل بها عامة النّاس، وأن من أراد السّعادة والتّقوى فعليه مُجاهدة نفسه والتخلّي عن فكرة الزّواج، وفي المُقابل كان هنالك الفجور والفواحش المُنتشرة فرارًا من هذا الكبت والقيود الواهمة.

 واستمرّ هذا الانحراف حتّى انفضحت الكنيسة بفسادها الجنسي بين الرّهبان والرّاهبات، ومع الانقلاب الصّناعي في أوروبا، والمُطالبة بالتحرّر المُطلق من كلّ شيء، ظهر فساد آخر سرعان ما انتشر وتصاعد مُتمثّلاً في التوجه نحو الإباحيّة الكاملة والتبذّل الأخلاقي والحريّة الجنسيّة.

ومما أسهم في ذلك ظهور السينما والتلفزيون والتحرّر من الأخلاق الضابطة، والاختلاط الماجن، ودور الأزياء والصّحافة، وأصبح البغاء والعلاقات المشبوهة والزّنا أمرًا عاديًّا في أوروبا، كونه داخلاً في الحريّات الشخصيّة التي لا ترتبط بالدّين والأخلاق والتّقاليد.

 وصل الأمر اليوم في أوروبا من شدّة هذا الانحراف إلى إعلان وزيرة المواطنة الفرنسيّة مؤخّرًا على أنّ قانون منع تعدّد الزّوجات في فرنسا لن يُؤثّر على حريّة ممارسة الجنس الجماعي، وتعدّد العشيقات، بل وصل بهم الانحراف والضّلال بأن يُعلن مجلس الشّيوخ الفرنسي السّماح بمُمارسة الجنس مع الفتيات في سنّ13 سنة إن كان ذلك بالتّراضي!

فأيّ انتكاس للفطرة وانحراف عن العفاف والحياة الطاهرة بعد هذا؟!

على الرغم من هذا الانفلات من الأخلاق والضّوابط والتّقاليد إزاء العلاقات الجنسيّة التّي أصبحت تُقام في يُسر وتحت حماية القانون من دون قيود، فإنّ شهوة الفرد داخل هذه المُجتمعات الحديثة لم تشبع بعد ولم تهدأ، وإنما واصل الإنسان الانحراف في تنفيسها إلى حدّ الملل الجنسي، حيث أبيحَ الشذوذ، وأصبحنا نرى -دونما تحرّج- حفلات زفاف تُقام لشخصين من نفس الجنس!

زواج المثليين من نتائج غياب العفاف الاجتماعي

فقد أثبتت نتائج بعض الدّراسات في استقصاء لمواطني الدّول الأوروبيّة قابليّتهم لهذا الأمر سنة 2015 حيث كانت النّسب كالآتي: 66% لكلّ من ألمانيا وفنلندا والنّمسا و55% في إيطاليا(2)، وفي تقرير فرنسي حديث صادم كُشِف عن أنّ أكثر من 10 آلاف طفل تعرّضوا للتحرّش الجنسي في الكنائس الفرنسيّة منذ 1950 وأنّ القساوس المُصابون بشذوذ اشتهاء الأطفال يتجاوز عددهم 1500(3)!

ولا ينتهي الأمر ههنا، إذ صدر أخيرًا كتاب “العائلة الكبيرة” الذّي هزّ المُجتمع الفرنسي للخبيرة الدّستورية “كاميل كوشنير” كشفت فيه أنّ رئيس مجلس إدارة معهد الدراسات السياسية المرموق بباريس، قد اعتدى جنسيًّا على شقيقها التوأم، وأسفر ذلك عن خروج الكثير من الأشخاص عن صمتهم وظهرت كثير من الفضائح الجنسيّة وزنا المحارم للعديد من المشاهير في الفنّ والسّياسة والإعلام.

وفي النّهاية أدّي هذا الانفتاح الجنسي، المُتجرّد من كلّ القيم الإنسانيّة، إلى هَوَسٍ ونَهَمٍ غير محدود وإلى غياب الأمن النّفسي والاستقرار الاجتماعيّ، وبالتّالي أصبح يُعاني البعض في هذه المجتمعات من ضغط عصبي وقلق وجنون قادهم إلى الاغتصاب والجريمة، حيث نشرت مجلّة “مادموزيل” الفرنسية سنة 2019 أنّه يتمّ اغتصاب امرأة كلّ سبع دقائق في فرنسا(4).

 واقعنا والعلاقات بين الجنسين

عندما قلدّنا الغرب بطريقة عمياء، انحرفت مُجتمعاتنا عن قيم العفّة والحياء رويدًا رويدًا، فأصبح الإعلام عندنا يستخدم فكرة التسوّل الجنسي، حيث يتمّ تشجيع المرأة والرّجل على الاقتداء بالنّموذج الغربي تحت عنوان مواكبة العصر والحداثة، فعلى المرأة أن تكون أكثر جاذبية وإثارة فور خروجها من بيتها سوى في العمل أو في الدراسة أو عند ذهابها للتسوّق، وعلى الرّجل أن ينساق وراءها ويُغازلها، ويبني صداقة معها من باب المُتعة واللّهو.

كما يتمّ في الأفلام والبرامج والمُسلسلات التّركيز على عرض العلاقات المُحرّمة وكأنّها التعبير الوحيدُ عن الحبّ والرّومانسيّة، ويتمّ إظهار مُرتكبيها على أنّهم ضحايا يجب التّعاطف معهم، أو الترويج لأنّ ما قاموا به من حرّيتهم الشّخصيّة، ولا يخفى أن الترويج للتعرّي وكشف مفاتن الجسد بات أمرًا لازمًا لهذه الأفلام، وذلك بدعوى شعور المرأة بأنوثتها، ومع تكرار الإعلام هذه الصّور والمشاهد والبرامج، صار المُتلقّي مهيّأ لقبول هذه المُمارسات داخل مُجتمعه ولا يُنكرها عند حدوثها.

الإعلام يحارب العفاف الاجتماعي

ولا ننسى أيضًا دور النّخب المُثقّفة عندنا التّي تسعى ليلاً نهارًا لتقويض مبادئ الإسلام داخل المُجتمع، وإعطاء كلّ وافد غربي إلينا طابعًا فلسفيًا وعلميًّا؛ لتبريره وإقناع العامّة بقبوله، أو لاستخفاف عُقولهم وأفكارهم، وها قد بتنا اليوم نسمع مُصطلحات غريبة عنّا كالأمّهات العازبات أو النّوع الاجتماعي وصار مرتكبو فعل قوم لوط يُطالبون بتشريع حقوق خاصة لهم علنًا في مُجتمع دينه الإسلام!

وانعكس ذلك سلبًا على الأسرة التّي لم تعد راحة وسكنًا حيث ارتفعت نسب الطّلاق، وأصبح كِلا الزّوجين يبحث عن صديق أو شريك يلجأ إليه باسم الصداقة، وأصبح البيت والأطفال عبئًا على كليهما، فانهار نظام الأسرة، وانجرّ عن ذلك ضياع الأبناء وشتاتهم النّفسي، ومع بلوغهم سنّ المُراهقة يجدون أنفسهم في مُجتمع مُنفتح على الإباحيّة فيبدؤون باتّخاذ الخليلات وقد يصل بهم الأمر للوقوع في الفاحشة مع طول الابتعاد عن منهج الله وترك تعاليم دينه.

ضرورة نشر العفاف الاجتماعي

اهتمّت الشريعة الاسلاميّة بنشر العفاف داخل المجتمع ووضعت له ضوابط مُعيّنة حمايةً له من الانحراف والفساد، وإنّنا لن نجد في العالم تشريع بشري يصل لهذه الدقّة ويهتمّ بهذه التّفاصيل من باب الحفاظ على فطرة الإنسان وضمان حياة سليمة له ولبنيه. فقد ضبط الشّرع لنا البصر وأمرنا بغضّه عن المُحرّمات رجالاً ونساء عملاً بقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30- 31]، وضبط لنا طريقة الكلام ونهى المرأة عن النّعومة المُفتعلة في نبرة صوتها فقال الله لها: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، وضبط طريقة اللّباس للمرأة وللرّجل وجعل لهما عورات وجب سترها، فعن عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: (رَأى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَخِذَ رَجُلٍ خارجةً فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: غَطِّ فَخِذَكَ فإنَّ فَخِذَ الرَّجُلِ عَورتُه) [أخرجه أبو داوود والترمذي في السنن]، وأمر الله في كتابه المرأة فقال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، وضبط طريقة مشية الرّجل والمرأة، فوجّه الله النساء قائلاً: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، وأمّا الرّجل فجاء الأمر على لسان لقمان بأن: {اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19].

 وكما أنّ اليوم لقاء الرّجل والمرأة أمرٌ واقع لا مفرّ منه، سواء في العمل أو الدّراسة أو أي مكان آخر، فلا بدّ أيضًا من مُراعاة أمرين:

أوّلهما: أن يكون للّقاء هدف ومصلحة فيها إصلاح ونفع للأفراد والمُجتمع، وليس لقاءً ماجنًا لا هدف وراءه سوى إرضاء شهوة النفس، وثانيهما: أن يكون هنالك التزام بالضوابط الإسلاميّة التّي ذكرناها آنفًا.

ولنا في قصّة سيدنا موسى عليه السّلام أسوة حسنة، عندما وجد امرأتان لم تستطيعا السقاية بسبب وجود عدد كبير من الرّعاة حول الماء وامتنعتا عن مزاحمة الرّجال والاختلاط معهم والاحتكاك المُباشر بهم حياء منهما فخاطبهما نبي الله موسى عليه السّلام بكلمة واحدة {مَا خَطْبُكُمَا}، ولم يبحث عن افتعال مُحادثة معهما التزامًا بالعفّة وابتعادً عن مسالك الفتنة فذهب للمقصد مُباشرة، وكان جوابهما أيضًا مُختصرًا لا زيغ فيه حيث {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}. فقام موسى {فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}. أي أنه أدى واجبه ثم انصرف ولم يستغلّ ضعفهما لإشباع غريزته ومُماطلتهما، وعندما أخبرا والدهما بذلك عادتا على استحياء يدلّ على عفة كلٍّ منهما {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [الآيات من سورة القصص: 23- 25] وهذا هو الأصل في اجتماع الرّجل والمرأة.

إن مدار العفّة إذًا الامتناع عن كلّ فعل قبيح لا يليق بكرامة الإنسان كما حدّده شرعنا الحنيف، وإذا أردنا حماية مُجتمعاتنا من الانحلال المدمّر والمُهلك لروابط المُجتمع فعلينا العودة لمنهج الله والالتزام بمبادئ ديننا والتخلّق بآدابه وتربية الأجيال عليها، فإن لم نفعل فستلتَهمُنا الإباحية وينخر في جسد مجتمعاتنا الفساد!


الهوامش:

(1): جاهليّة القرن العشرين لمحمد قطب، دار الشروق للنشر بتاريخ 1993، ص 189.

(2): موقع أورونيوز، مقال بعنوان دول الاتحاد الأوروبي وزواج مثليي الجنس بتاريخ 13 جويلية 2017.

  (3): نفس المصدر، مقال بعنوان تقرير يكشف تعرض ما لا يقل عن 10000 طفل لاعتداءات جنسية في كنائس فرنسا منذ عام 1950 بتاريخ 3 مارس 2021.

  (4): موقع فرنسا24، مقال بعنوان العنف ضد النساء: اغتصاب امرأة كل 7 دقائق في فرنسا بتاريخ 25 نوفمبر 2019.

 

 

كيف يتحول النقد الساخر إلى سخرية وتجريح؟

تصدرت في الآونة الأخيرة موجات متعددة من السخرية، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو من خلال مقالات نقدية تُقَدَّم على بعض المواقع المتخصصة بهذا الشأن؛ متجاوزة النقد الطبيعي المنضبط كما هو معروف في النقد الساخر، إلا أن الأمر تجاوز ذلك إلى النيل من الأفكار، والشخصيات والمنظمات بطريقة تجريحية استهزائية.

باتت السخرية تقدّم صورًا نمطيَّةً، تصوّر المشهد السياسي والفكري والاقتصادي، بمشاهد لا تقبل التحليل أو التأويل، وتحوّلت السخرية إلى نمط يحكم سلوك الأفراد، من خلال توجيه أفكارهم وعقائدهم، وبتقديم هذا النوع الساخر على أنه فن هادف!

 فمتى يتحول النقد الساخر إلى تجريح وسخرية؟ وما الفرق بينهما؟

النقد الساخر
يوصل النقد الساخر رسالته دون إيلام أو تشويه، من خلال عرض الفكرة وما يقابلها من حقيقة أو رأي يدعيه القائل، ويتجنب النقد الساخر -بحدوده الطبيعية- الإخلال بصورة أي شخص، أو التعرض لمعتقداته لغرض التشويه، إضافة لتجنّب الاستهزاء بالصورة الخَلْقية لأي إنسان؛ فالهدف الأساسي من النقد الساخر يتمحور حول تفنيد الفكرة دون التعرّض للأشخاص بالكلام المسيء والتصوير الجارح.

 ويستعمَل النقد الساخر عادة، عندما تكون الفكرة المقابلة سطحية إلى درجة يصعب الرد عليها بطريقة علمية، فيتجنّب العالم الرد عليها بطريقة أكاديمية ويقوم النقد الساخر بإظهار إسرافها بالسطحية وعدم مطابقتها للواقع والمنطق ونذكر مثلًا الردود الساخرة على المؤمنين بعدم كروية الأرض واتهام ناسا بأنها تنشر هذه العقيدة كذبًا وبهتانًا..

وكذلك يستعمَل النقد الساخر عندما تصبح الأفكار السطحية ضارة بالمجتمع أو تشكل تهديدًا مباشرًا له كإيمان بعض الناس بأن لقاحات كورونا تحتوي على شريحة تنصّت ستغرَس في أجسادهم!.

وتظهر الأفكار السطحية في تفكير البعض، عندما يركزون على الفرع دون الأصل، والغرق في الجزيئات دون الكليات، والأفكار المثالية الزائدة دون النظر لحقيقة الواقع، عندها تدفع الأفكار السطحية أي شخصٍ إلى النقد الساخر، وخصوصًا عندما يتحول القائل إلى أسلوب الابتسار الحضاري من خلال جعل التقدم والعلوم شيئًا مقصورًا على العقل الغربي دون غيره، وطمس معالم الرقيّ والتقدّم في الحضارات الأخرى وإن كانت منجزاتها مما يؤثر في نشأة العلوم الحديثة، والترويج لأن الحضارة الغربية حضارة واحدة ناتجة عن جهود أبنائها وعلمائها الذاتيّة فقط وأنها المبدعة والرائدة ومركز الحضارات الأخرى الناقلة أو التابعة.

يكون النقد الساخر إبداعيًّا حين يصدر من الإنسان المهتم والمتابع والذي يملك دراية علمية وأدبية في الموضوع المستهدف، وللناقد أسلوبه المهذّب فلا يستخدم الرموز المصوّرة، ولا يسعى للتجريح أو شتم خصمه.

لهذه الأسباب كلها يمكن القول إن النقد الساخر أمر طبيعي وحقٌّ مكفول في مختلف الأعراف البشرية، طالما أنه لا يتجاوز على الآخرين حقوقهم بالرأي والتعبير، ولا يصادر منهم حق المعرفة أو التأويل، ولا يسخر من الشكل الخارجي ويجرح بأسلوبه.

كيف يصبح الاستهزاء طريقًا للإهانة؟
إن نظرنا إلى السخرية والتجريح باعتبارها من طرق التعبير الجديدة، فإننا سنراها تقوم على أن يستعمل فيها الشخص ألفاظًا تقلب المعنى الحقيقي إلى عكس ما يقصده المتكلم، ويندرج الاستهزاء فيها حيث إن مراد المستهزئ هو الإضحاك بالتجريح، وغرض الساخر هنا ليس النقد، وإنما تصوير الشخص أو التيار أو المنظومة الفكرية في صورة استهزائيّة مضحكة، والذي يصل غالبًا إلى حد الإيلام المعنوي أو النفسي من خلال الاستهزاء بالعيوب الخَلْقية -كالطول، والقصر، والتلعثم- أو تركيب صورته على أجسام ورموز ضاحكة كما تطفح بها مواقع التواصل الاجتماعي.

النقد الساخر على وسائل التواصل الاجتماعي

وتكون السخرية بالافتراء على الناس، أو السخرية من أخطاء يعلم المتحدث أنها قد تحدث لكل الناس، ويكون ذلك من خلال تركيب الكلام على منشور ما أو تصريح صحفي، ثم التقوُّل على صاحبه بما لا يقصد، وتحميل الكلام أوجهًا مختلفة دون أن يقصد صاحبه أيًّا منها.

لقد درج في العادة أن يكون هذا السلوك على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض لفت انتباه المتابعين، وزيادة أعدادهم، أو لتحقيق غايات شخصية تخصه، وهذا النوع منتشر كثيرا، خصوصا عندما يتم الحديث بالدين أو توضيح أحكام شرعية.

وتنتشر عادة السخرية والتجريح عندما لا يمتلك الشخص ردًّا حقيقيًّا على فكرة علمية، فيجد الشخص هنا أنه من الأسهل عليه الطعن بها وبصاحبها من خلال التشويه المتعمّد، وليس الحوار حول رفض الفكرة وعدم الإيمان بها أو الاعتراف بجهله!

لكن، لمَ يجب أن يغوص الساخر المستهزئ في بطون الكتب، ويبحث عن الحقيقة، طالما أن تقمّص دور الاستهزاء الساخر؛ سيجلب له المتابعين ويزيد من شهرته ويحقق له غايته في تسطيح العلم والوقائع، فهذه الطريقة – السخرية والتجريح – غير مكلفة؛ إذ كل ما على الساخر فعله، تركيب الصور، وتقطيع الكلمات، وتجزيء الأفكار بما يخدم قضيته، وعندها سيجد جمهورًا بالملايين، ومئات وربما آلاف مؤلفة من المعجبين الذين يتخذونه قدوة.

لقد بتنا نلاحظ في الآونة الأخيرة أنه صار للاستهزاء مساحات واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام من خلال الترويج –على الأقل- لبرامج السخرية المنتشرة كثيرًا في الفترة الأخيرة.

ويلاقي أصحاب هذه المشاريع دعما كبيرا من المؤسسات الإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني، ومن الجمهور المتعطش” للضحك”، الذي لا يهمه البحث والتمحيص وراء الفكرة المعروضة والتأكّد من صحتها وبطلانها هي صحيحة أم لا، بل يسلّم عقله للساخر المستهزئ بدون أدنى مقاومة.

السخرية.. نقيض للجدية وطريق للابتذال
يمثّل الرد الساخر المستهزئ نموذجًا للاجتزاء والاقتطاع؛ حيث يركز على الأفكار التي تخدم سخريته، فيقتطعها من سياقها الصحيح؛ وبالتالي تفشل كل محاولات الشخص المستهدَف للتوضيح أدراج الرياح -إلا إن سلك نفس طريقة السخرية والتجريح-.

 إذن فالسخرية -أسلوبًا استهزائيًّا- ليست نقدًا عاديًّا يمكن التعامل معه أو التغاضي عنه، بل هي اختزال للأفكار وتنميطها بقالب معين، وهي ليست أداة تعبير يمكن احترامها لما تحمله من إهانات لنُظُمٍ فكرية أو شخصيات اعتبارية.

تعبّر الجدّية عن البحث والتحقيق والدراية الكاملة، وهي ضدّ الضعف والهزل والتنميط، إذ تقتضي البحث والاستقصاء عن الموضوع المستهدَف، والعلمَ به وعدم السخرية منه، إلى جانب تقديم الأفكار بطريقة علمية، أو تفنيدها حسب الأصول المطلوبة، دون ابتذال أو تشويه.

 وكذلك فإن الإعلام الجدي يبحث عن المعلومة ويشخصها بالطريقة الصحيحة دون إسفاف، والشخص الجادّ يبحث عن مضمون الحديث وعن الرسالة الباعثة له والغاية المقصودة منه، أما السخرية والتجريح فإنها تهدف إلى استهداف المعلومة أو الفكرة أو الشخص بشكل مباشر، دون تقديم طريقٍ علميٍّ يسوّغ ذلك.

تتناول السخرية في مواقع التواصل والإعلام الكثير من المنظمات والأفكار والشخصيات المعروفة بطريقة تشويهية وانتقائية، دون البحث في أفكارهم ومصادر معلوماتهم، وحتى لو بحثوا فإنه غالبًا ما ذلك يُقدَّم في قالبٍ كوميديٍّ ساخر مثل استهداف المقدسات لدى المسلمين من خلال الاستهزاء المنظم، بهدف امتهان كرامتهم والإساءة إليهم من خلال ربط بعض الوقائع المعاصرة بسلسلة من الأحداث التاريخية.

النقد الساخر من المسلمين

يتجنب الأشخاص في فضاء التواصل الاجتماعي التعرّض في الغالب للمفاهيم المعقدة والتي تحتاج إلى بحث متواصل، فيلجأ هؤلاء إلى السخرية منها كونها تريح من عناء الاستقصاء، وتوفّر برامج السخرية، منصّات متخصّصة لاستقبال الباحثين عن السخرية والاستهزاء!

السخرية بشكلها الاستهزائي نقيضٌ للجدية، والرابط بينهما هو خيط رفيع يسهل قطعه وتجاوزه، وتستخدِم السخرية -سواء من خلال برنامج منتظم أو المنشورات على منصة فيسبوك- أسلوب الاستخفاف بالخصم والحط من قدرته المعرفية، من خلال “الرموز الضاحكة” والهجوم الساخر؛ فمع وضعِ صورة ساخرة ضد الأفكار المقدمة سيصبح الدفاع عن مبدأ ما أمرًا مثيرًا للضحك عند الغالبية العظمى من متابعي تلك البرامج.

لعل أشد نتائج السخرية والتجريح هو تحولها إلى طريق للابتذال؛ من خلال التكلف والتصنع اللذين يتعارضان مع السجيّة والتلقائية، إلى التضحية بالوقار في سبيل جلب الأنظار، مثل استخدام الأساليب التهريجية في نقد الخصم، وتقديم العبارات النابية تعبيرًا عن الإنسان الظريف!! لكن الواقع المؤكّد هو أن السخرية والتجريح تجبر أصحابها –مؤسسة أو أشخاصًا– على الغوص أكثر فأكثر في الابتذال، إلى حد مهاجمة البرنامج والساخر نفسه، وتحكم عليهم التجاوز في حق حرية الآخرين في الاعتقاد والممارسة، وتصبح مصادرة الآراء – عندهم – مجرد نكتة أو جولة ترفيهية.

خلاصة القول
يجب تحديد الحدود الرئيسية بين النقد الساخر الطبيعي المقبول، وبين السخرية والتجريح، التي تأخذ دور الحكم على الأفكار والأشخاص والمنظمات، وهذا لا يعني الدعوة للتوقف عن استخدام النقد الساخر المنضبط بما لا يخرج عن أوامر الإسلام ونواهيه، كونه يُسهِم في تنوع الطرق الإعلامية، وهنا لا بد من وضع ميثاق شرف يحدد طرق استخدام هذا النوع من التعبير، ويوجه طريقة استخدامه.

 قد يكون من المناسب في كثير من الأحيان استخدام السخرية في انتقاد السلطة السياسية بهدف إبراز جوانب الفساد والظلم فيها، إلا أن استخدام الإساءات الشخصية والأخلاقية دون راع وموجِّه، فلعل تجاوزه ومنعه أولى، وعليه فإنه يجب بكل بساطة تقنين النقد الساخر بما يحفظ حقوق الآخرين ويمنع من الوقوع في فخ التجريح.

دعاوى كبيرة في قوالب جاهزة

ليس ثمة شيء أصعب من أن تعاني عمرك كله في عقدة نقصٍ تذكَر كلما ذُكِرتَ! هذا ما يمكن الإشارة إليه بشكل عابر، إلا أن المراد من ذلك التعريج على العقدة التي تلازم عامة المسلمين حتى أصبحوا يعانون ممّا يسمّى “عقدة الإسلام”، فصار لزامًا عليهم أن يعملوا على تلميع صورتهم في كل محفل ولقاء.

هذا التشكيك الذي نعيش حملاته علينا داخليًّا وخارجيًّا دفع كثيرًا من المسلمين لأن يغفلوا عن كمال الشريعة التي جاء بها الإسلام، واندفعوا يشككون بجدوى الدعوة له أو التديّن به، لقد ابتعدوا عن أن يكون أعزة بدين الله.

الطريق للتخلص من القوالب الجاهزة
لن يكون غريبًا أن نسمع بشكل شبه يومي قواعد تردُ على ألسنة الناس وقنوات الإعلام وصفحات التواصل، تختزل الدين وتعاليمه ضمن مسمّيات منفّرة، فأضحت الشرائع التي تهدف إلى حماية المرأة –مثلاً- ضغطاً وتحكماً، وكذلك صار قول الحق أو حكم الشرع بشيء معين تطرفًا أو عنفًا وشرًّا وقسرًا على شيء ما.

في حقيقة الإمر فإننا بحاجة ماسة إلى النظر في ديننا بعيون مختلفة وربما استخدام عدسات مناسبة تعزز الرؤية وتقلّص التشويش الحاصل، وكما أخبرنا رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ الحلال بيّن والحرام بيّن، وإننا مطالبون أمام الله سبحانه بتحرّي الدقة والصواب عند كل تصرّف ومع رفّة كلّ جفن، فنحاكم الأمور بما يناسب أمر الله، ونسأل أنفسنا: أهذا يرضي الله أم يغضبه؟

هذا يقودنا إلى ضرورة سؤال أهل الذكر وحتمية الحاجة إليهم في كل عصر، والطريق لذلك يكون بأن نتحرى أقوال الفقهاء وإجماعهم في المسائل وألّا نتخَطَّف الشاذ منها لمصلحة أو هدف، وألا نخشى إلا الله ربنا في ذلك، فنرمي حملنا عليهم ونتوكل على الله ونفوض إليه أمورنا كلها، فيكون أي ذنب اقترفوه أو تسبّبوا لنا فيه أوزاراً يحملونها يوم القيامة، لكننا على الأقل نحافظُ على وحدة أمرنا ونتجنب شتات الحال.

فهم الإسلام طريقٌ للدفاع عنه
علينا أن نكون على يقين بأنه لا وجود للتناقض بين واجبات المسلمين وبين التعايش مع بقية الناس فوق أرض واحدة، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب أصيل في كل وقت ومكان مهما اختلفت العصور، إلى أن نلقى الله وأحدنا قابض على دينه كالقابض على جمرة حين يكثر اللغط والخبث والفساد وتصبح معرفة الحق منوطة بصاحب الفراسة والبصيرة.

سنجد دوماً أشخاصاً –بالأمس واليوم وغداً وفي المستقبل- يفكرون بطريقة مختلفة منبثقة من حيث لا ندري، وستتسبّب أفكارهم بتشكيكنا حتى بأنفسنا ومبادئنا وتمسكنا بشريعة ربنا، وسنصل إلى وقت يكون فيه أكثر أهل الأرض متبعين لأهوائهم وأمزجتهم.

بالنسبة لي –على الأقل- فالحل السحري هو في جلسة تصالح مع نفسي، بصحبة ورقة أكتب فيها، ترى لماذا أشعر بالحرج من النقطة الفلانية أو أتجنب الاستماع إلى الشيخ الفلاني.

اتبع ذلك، ستجد بكل بساطة أنك تعاني من سيطرة فكرتين أو ثلاث على عقلك، بحيث يجعلونك في موقف عداء وتوتر مع دينك كلما ذكرت تلك النقاط، والحل في أن تتحرى كل قضية تسبب لك توتُّرًا بصدق، وأن تبحث عن الحق لتعرفه وتقف عنده، وأن تسأل وتستفتي العلماء والفقهاء للوصول إلى الحق، وأن تعاهد نفسك على قبول نتائج بحثك كما هي دون أن تسمح لنفسك بالخلط بين تقصير الدولة مثلاً أو القضاء، وبين تشريعات الله العادلة.

قد نقول مما يشتهر على اللسان بين الأوساط العامة “يضيع حق المرأة إذا طُلِّقَت أو مات زوجها”، والسبب ليس له علاقة بالدين وإنما أشياء أخرى كقصور القوانين القضائية أو تلاعب القضاة والرِّشَى.

لكن تعاليم ديننا توضّح أن المرأة تتربّع على هرم المجتمع والأسرة وهي حجر أساس في كل مشاريع الحياة، فالشريعة الربانية تحوي خلاصة قِيَم العدل؛ إلا أن فكر كثير من الناس –للأسف- قد تلوّث وتأثر بمشوشات خارجية لا حصر لها، فبتنا اذا سألنا أحدهم “ما هو مفهومك عن الحكم بالشريعة؟” ستجده يتصبب عرقاً خائفاً أو ملتهباً من شدة الغضب، وهو يصف الفكرة بأشنع الألفاظ ويصف السائل بالتخلف والرجعية!

أين الخلل والحلّ؟
مردُّ هذا التعصّب هو تبعية الفكر وقصوره، فقد أصبح مصطلح الشريعة في ذهنه مرتبطاً بالعنف واللحى الطويلة والنساء المحجبات بالإكراه فقط، وهو فكر ارتضاه له الإعلام ومكّنه فيه.

إنّ الشرع الرباني على العكس من ذلك تماماً، فهو توظيف للعدل الإلهي والوحي السامي في حياتنا اليومية.

انظروا لأوامر الله في مثل قوله {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] فكم نحتاجها اليوم ونحن نرى أشنع التصرفات التي تعاكس هذا الهدي من فتيات وفتيانٍ يفترَض بهم أنهم مسلمون، ولننظر إلى آية الدَين، إنها أطول آيات القرآن، كونها آية شاملة جامعة تحفظ الحقوق منذ 1400 سنة.

القرآن هو الحل لمشكلة القوالب الجاهزة

أيعقَل أننا ابتلينا بالعمى، فيمتدح أكثرنا جملة من التشريعات الغربية مرفقة بعبارة مهترئة مفادها أنهم رائعون حقا، فهم “مسلمون بدون إسلام” حسنٌ، ما دمنا معجبين “بإسلامهم” فلماذا نخاف وننفر ونشعر بالضيق إذا ما سمعنا أحدهم يقول: لنجرب تطبيق التشريعات العادلة الإسلامية كما كانت يوماً؟

لماذا ينفر كثير الناس بسرعة من مقولة: الشريعة هي الحل؟

هذا المستنكر لتلك العبارات هو نفسه المعجب منذ دقائق فقط بنفس التشريع لكن بنكهة غربية فقط، فلم يشعر بالغثيان؛ إذ لم يطلَق على تلك الممارسات اسم “شريعة” لا أكثر.

يحضرني ههنا مثال ذكره أحد الدعاة يقول فيه: إن ربنا الحكيم خلقنا وخلق “كتالوجنا” معنا، فلو أنك اشتريت جهازاً جديداً فلا بد أنك ستحوطه بعنايتك وتخاف عليه من الهلاك، ومن أجل ذلك ستقرأ كل تفصيلة مذكورة في كتيب الاستخدام، وعليه فما بالك بنفسك، حيث خلقك رب عظيم فأحسن خلقك، وأرسل لك كتيب الاستخدام والصيانة ورسلاً تأخذ بيدك إلى بر الامان بأقل الأضرار، ولكن كان الإنسان أكثر شيء جدلاً.

جور الحكام لا مفر منه في كل زمان مهما اختلف، كما أنه سيكون لعلماء الدين أو حملة همّ الدعوة بعض الأخطاء من شخص لآخر بين الحين والآخر، وسيفتح باب التشكيك المجالَ لكل شيء يمكن أن يلوث نظرتنا للدين الحق ولروائع التشريع.

الحل أمامنا، أن نصبر ونتابع مجاهدة النفس بالتوازي مع الغوص في القرآن العظيم دستور الحياة الذي لطالما كان وسيكون حياة لقلوبنا قبل أجسادنا.

سحر الويكا: كيف تسللت عبادة الشيطان إلينا عبر السينما والمناسبات؟

أنتجت هوليود في العقدين الأخيرين الكثير من الأفلام والمسلسلات عن السحرة والقوى السحرية، وسلّطت وسائل الإعلام الأضواء بشكلٍ أكبر من أي وقتٍ مضى على الويكا وطقوسها، كما ضمنتها في ألعاب عن التعاويذ تستهدف أطفالاً بعمر ال١٠ سنوات.

غلاف كتاب: سحر الويكاتتصدّر كتب الويكا والسحر والشعوذات رفوف المكتبات في الغرب، وتلاقي رواجاً كبيراً لاسيما بين المراهقين، وتناقش كاثرين ساندرز صاحبة كتاب “سحر الويكا Wicca’s charm” أهم الأسباب التي تشدّ المراهقين والشباب لهذا الموضوع في عدة نقاط، فما هي؟

أولى تلك النقاط هي “تملّك الفتيات للقوة” فبحسب أساطير الويكا التي يُقال إنها بدأت منذ ٣٥٠٠٠ سنة، كانت النساء هنّ الحاكمات ويعبدن الطبيعة والآلهة الإناث، وكانت الحياة هانئة مسالمة، إلى أن جاء “الغزو الذكوري” الذي عكّر صفو المجتمعات النسائية وأرضخهن، ومنذ ذلك الوقت تحاول النساء استعادة الملك والسُّلطة من الذكور، ويروّجن بأنّ على النساء التحالف سويةً لتمكين الآلهة النسوية من استعادة الحكم مرةً ثانية ليعم السلام مجدداً.

أما النقطة الثانية فهي: وَهْمُ “القوة المطلقة” حيث تبدو فكرة السيطرة على القوى الخفيّة المؤثّرة بما حولنا جذّابة للمراهقين، خاصةً أن الويكا توهم هؤلاء بأن السحرة الصغار على قدرٍ أكبر من القوة والقدرة على التحكم والسيطرة ممن هم أكبر منهم سناً، بالإضافة لذلك يضفي الطابع السري لممارسات الويكا غموضاً وإثارة تزيد من إغراء تلك الفئة العمرية.

في حين أن “حماية الأرض” تعد النقطة الثالثة، حيث إنه في عالم يعاني من تغييرات مناخية كبيرة معظمها ليس في صالح الأرض والطبيعة، يجد المراهقون في الويكا التي تقدس الأرض والطبيعة فرصةً لإحداث تغيير للأفضل.

على طريقتي وحسب هواي
هذه إحدى أهمّ صفات الويكا ومبادئها، فليس ثمّة قوانين ضابطة فيها ولا ثوابت، بل يقولون: كل شيء ممكن، ولا يوجد خطأ أو صواب، ولكل شيء استثناء، وكل إنسان بإمكانه اختيار القوانين التي يرى أنها تناسبه وتلائمه، وفي المراهقة التي لم تنضج فيها فكرة الأمور المطلقة والثوابت الأخلاقية، ستجد الويكا لها طريقاً سلساً في عقول ومنطق هؤلاء الصغار في كل مكان.

يسرد موقع focus on the family تجربة لإحدى المنتسبات للويكا تقول فيها الفتاة المسيحية “كاثي” بأنها قررت في فترة المراهقة أن تعرف أكثرعن هذا الديانة الوثنية المحيطة بها من كل مكان، فكانت تعيش في مدينة سايلم الأمريكية والتي تشتهر بتاريخ حافل بالساحرات وممارسة طقوس السحرة.

تعرفت الفتاة على راهبةٍ ويكيّة، ثم حصل أن ضمّت الأخيرة الفتاة تحت جناحها واهتمت بتعليمها السحر، وطمأنت الفتاة بأن أفعالها إنما هي “سحر أبيض” لا مشكلة فيه، بل على العكس قد يعود بالنفع على الكثيرين، وبعد عدّة سنوات أتقنت الفتاة الفنون السحرية التي تعلمتها، إلا أن الأمور سارت لتنحني نحو السواد والظلام[1]، وشعرت بأنها تنحدر تدريجياً إلى أمور غامضة لا تمت بصلة لكل ما قيل لها من قبل.

وجاء اليوم الذي رأت فيه ما لم يخطر ببالها، فبينما هي في غرفتها في نهارٍ صيفي حار، تشعر فجأة بالبرد وتصاب بالرجفة والقشعريرة وتتراقص أمامها فجأةً العشرات من الشياطين السوداء حسب وصفها، ضاحكين بصوت عالٍ، فتحاول الفتاة تلاوة ما تحفظه من تعاويذ وتمتمات لتطردهم، ولا يزيدهم الأمر إلا ضحكاً، وتزداد المسكينة رعباً، ثم تناجي الله بصلاةٍ تعلمتها في طفولتها، فيعود كل شيء إلى طبيعته، الأمر الذي قادها فيما بعد لترك كل ما له علاقة بهذه الديانة إلى الأبد[2].

هل الويكا كذبة بيضاء؟
غلاف كتاب "الويكا: الكذبة البيضاء الصغيرة للشيطان"يقول ويليام شنوبلن Schnoebelen العضو السابق في الويكا في كتابه الكذبة البيضاء الصغيرة للشيطان: “الويكا هي واحدة من أكثر الخدع المغرية التي توصل إليها الشيطان”، ويصف كيف أن رغبته الدافعة كانت الحصول على مزيد من المعرفة بأسرار عالم الروح. لكن أساتذته قادوه إلى مسارات انتهت بالخداع فقط، وقد علم فيما بعد أنها كانت طرقًا بالية لا أكثر، وأنّ سحره الأبيض في “حركة العصر الجديد” لم يكن سوى عبادة الشيطان القديمة.

يكمل شنوبلن بأن فلسفة العصر الجديد التي تروّج لها ديانة الويكا هي مجرد اختلاق حديث لأكاذيب الشيطان المركزية: يمكن للإنسان أن يصبح إلهاً، وللوصول إلى هناك يجب أن “يتطوّر” من خلال العديد من التناسخات، لكنه اكتشف أن تطوّره وصعوده ما كان إلا “نزولًا”، ويشرح بالتفصيل كيف انتقل من الرقص عاريًا في الغابة إلى القيام بالتضحيات الدموية والنوم في نعش!

أعياد الويكا
يحتفل أتباع الويكا بثمانية أعيادٍ في السنة تسمى الأسبات (جمع سبت) Sabbats، وسنرى فيما يلي أن العالم المسيحي الحديث قد اقتبس معظم أعياده منها، ونشرها حول العالم تحت تأثير العولمة، وهي بالترتيب:

أعياد الويكا

السامهان Samhain
يُحتَفَل بهذا العيد في 31 من أكتوبر ويمثل بداية السنة أو دورة الزمن عندهم، ونهاية فصل الضوء، وبداية الظلام، ويتم فيه التعبير عن الشكر والامتنان على ما أُعطوه في السنة الماضية. والأدلة المكتشفة في إيرلندا واسكتلندا وبريطانيا على احتفال القدماء بهذا العيد قبل المسيحية، وهو ما قد يجمع اليوم بين ليلة الهالوين وعيد الشكر.

 يول Yule
يُحتفل به في وقت الانقلاب الشتوي فيما بين ٢٠-٢٥ديسمبر، وحسب الباحث ريفن غريماسي Raven Grimassi في كتابه روحانية الساحر spirit of the witch “يمثل يول بالأساس تجديد دورة الحياة، ففي الوثنية القديمة آمن الناس أن الانقلاب الشتوي هو الوقت الذي يولد فيه إله الشمس من جديد” وقد كانت تُنصب الأشجار في الخارج ويتم تزيينها لإيمانهم أنها تجلب البركة من الآلهة والأرواح، واحتفالاً بولادة إله الشمس، وتُقدم الهدايا. وكما أشار غريماسي إلى أن شجرة الزينة يجب أن تكون دائمة الخضرة لترمز إلى قوة الحياة التي ستنجيهم من فصول السنة الصعبة. وكما نرى فهو عيد يتطابق في وقته وطقوسه مع عيد الكريسماس – عيد الميلاد- لدى المسيحيين اليوم.

إيمبولك Imbloc
تعني البطن في اللغة الإيرلندية القديمة، ويحتَفَل به في ١-٢فبراير وتشير إلى الأغنام الحوامل، ويعد هذا اليوم هو نقطة الوسط الفاصل بين الانقلاب الشتوي والاعتدال الربيعي، ويعبر عن التطهير والخصوبة والأمل ووعد المستقبل، وقد تجسّدت هذه المفاهيم في شخصية الإلهة بريدجيت، إلهة الطب والشعر والخصوبة والحدادة والينابيع المقدسة، وفي التقاليد المسيحية في بعض البلاد لا يزال يُحتفل بهذا اليوم كعيد للقديسة بريدجيت!

أوستارا Ostara
ما بين ٢٠-٢٣مارس حيث يتم الوفاء بالوعود والآمال التي حملها عيد إيمبولك في عيد أوستارا أي عيد الاعتدال الربيعي، ويأتي اسم العيد من إلهة الربيع والخصوبة الجرمانية إيوستر Eostre، والدة الفجر التي -وفقاً للأساطير القديمة- عادت الآلهة للظهور من تحت الأرض حيث كانت نائمةً لعدة أشهر.

طقوس الاحتفال تشمل البيض الملوّن والكتاكيت والأرانب والزهور، تركيزاً على الولادة والتجديد، ويُقرن رمز البيضة بمفهوم المتاهة، حيث يتم اخفاؤها والبحث عنها، وتعود هذه الفكرة حسب زعمهم إلى العصر الحجري الحديث في مناطق مختلفة مثل إيرلندا والهند واليونان، وهي بمثابة تمثيل رمزي لفصل الذات عن الواقع الخارجي الحالي، وبالتالي إيجاد معنى أكبر داخل الذات، تماماً كما الطقوس الممارسة في عيد الفصح في أيامنا.

بلتان Beltane

صورة من الريف الانكليزي عام ١٨٨٤ لأشخاص يحتفلون حول المايبول

يحتفَل بهذا العيد بما بين ٣٠أبريل- 1مايو- حيث يأتي النور والخصوبة بقدوم الصيف، ويُعتقد أن الاسم مأخوذ من عبارة نيران بيل Bel’s fire في إشارة إلى بيل Bel إله الشمس السلتي وتعني حرفيّاً النار الساطعة، في مراسم الاحتفال تُضرم النيران ويبدأ الرقص وغالباً حول شجرة كما في العصور القديمة، وتطورت مع الوقت رمزية الشجرية إلى رمز على شكل عمود يعرف باسم مايبول Maypole، يتم تزيينه بخيوط طويلة وشرائط يمسك بها المشاركون.

 

احتفال البلتان حول العمود في قريبة شاغورد البريطانية Chagford عام ٢٠١٢[3]

احتفال ليثا
ويكون فيما بين ٢٠-٢٢ يونيو ويُعتقد بأنه الاسم الانجلوساكسوني لشهر يونيو، يُحتفل فيه بأطول يوم في السنة، ويُعتبر هذا اليوم نقطة التحوّل في العام، ويشتمل الاحتفال على إشعال النيران والرقص وتناول الفواكه الطازجة وكعك العسل والولائم فرحاً بانتصار النور على الظلمة، مع توقّع الظلام الذي سيتفوق على النور في الأيام المقبلة -حيث يزداد طول الليل تدريجياً على حساب النهار- والرجاء بأيام خفيفة وطويلة تعود إليهم بعد الفصول المظلمة.

الممارسات الشائعة في هذا اليوم بالإضافة إلى الأعياد والنيران هي حماية النفس وتحصينها من القوى غير المرئية التي استيقظت حديثاً في عيد بلتان السابق والتي تكون اليوم في كامل قوتها وقد تسبب ضرراً كبيراً.

ويتم صنع التعاويذ للاحتماء وخاصة لمن يعقدون زيجاتهم في هذا اليوم، الذي يحرص الغالبية على اختياره يوماً للاحتفال بالزواج كجزء من الاحتفال الكبير.

لوغ ناساد Lughnasadh
يكون هذا الاحتفال في 1 أغسطس، وقد سمّي باسم الإله السّلتيّ “لوغ”، الذي يمثّل إله لنظام والحقيقة، وهذا الاحتفال عبارة عن مهرجان حصاد يُحتفل فيه بمرور الصيف إلى الخريف.  وتُقدّم فيه أولى ثمار الحصاد للآلهة والإلهات.

مابون Mabon
يحتفل بـ مابون في الاعتدال الخريفي من خلال الشكر والتفكر بما اكتسبه الفرد وخسره على مدار العام وذلك في ٢٠-٢٣سبتمبر ويقابله عيد الشكر في القارة الأمريكية، أما الاسم فهو ابتكار معاصر، صاغه الكاتب الويكي أيدان كيلي Aidan Kelly مؤخرًا في سبعينيات القرن الماضي، لكن الاحتفال بالاعتدال الخريفي يُعدّ ممارسة قديمة جدًا.

إلى أين تسير وثنية الويكا؟
في الختام لا بدّ من التساؤل عن مدى انسياق العالم تدريجياً نحو الروحانيّات الشيطانية لأسباب عديدة بفعل الإعلام وجهوده الحثيثة وتبني ما يسمى دين العصر الجديد، والويكا ليست إلا أداة جذابة من أدوات هذا الدين لاستهداف صغار الشباب والشابات من مختلف الثقافات والمجتمعات، ليتفقوا جميعاً في النهاية أن دين المرء هواه، وإلهه نفسه ورغباته.

نسأل الله السلامة والثبات على دينه الحنيف.


المصادر والهوامش:

https://www.ancient.eu/Wheel_of_the_Year/

https://www.chick.com/battle-cry/article?id=Wicca-Seduction-of-the-Innocents

https://www.focusonthefamily.com/parenting/the-hidden-traps-of-wicca/

Wicca’s charm by Catherine Sanders

https://youtu.be/4ku4mG-RXbs

 

[1] حكم تعلم السحر في الإسلام التحريم، والكثير من العلماء كفّروا تعلمه حتى وإن لم يمارسه، وليس في الإسلام تمييز بين سحر أبيض أو أسود، فحتى لو استخدمه صاحبه لنفع الناس أو فك السحر عن المسحورين فهو آثم لاستعانته بالشياطين.

[2] يتساءل البعض كيف يمكن لصلوات من الإنجيل المحرّف أن تطرد الشياطين، ونقول إن قصص طرد الشياطين بنصوص “الكتاب المقدس” إذا كانت صحيحة فعلا فربما تحدث لأن التحريف لا يعني أن الكتاب كله من صنع البشر، بل فيه أجزاء كثيرة من الوحي الإلهي، وعندما يلجأ المسيحي إلى الله بالدعاء فحتى لو كان يشرك معه في العبادة نبيه عيسى عليه السلام فإن الدعاء قد يُقبل لصدق التوجّه.

[3]  مصدر الصورة: https://www.terriwindling.com/blog/2015/05/beltane.html

الشهرة والظهور وتطوّر مفهوم الـ (trend) عبر العصور

الشهرة هي تلك الرّياح التي تواجه مركبك طالما اخترت الإبحار، والناس بين مسخّر تلك الرّياح لخدمة شراعه بحيث يصل بسموّ أفكاره ويحقق نفعها الانتشار، وبين متشاغل بالعاصفة ظانّاً أنّها قد ترفعه طالما تفوق سرعة المركب، فتراه نسي الوجهة وظنّ أنّ الطيران يتمّ بشكل عشوائي ناسياً أنّ الوصول للهدف يتمّ على نحو مدروسٍ مهذّب.

وأكثر المشاهير اليوم بين إيجابيّ وسلبيّ، فالأمر فيه بحث ونظر، ولكن إنّما نتحدّث عن مسلّماتِ مراعاةِ شفافية وعاء الروح لكيلا نلقاه بالبهرج والوهج المؤقّت قد تكدّر أو انكسر.

وسم الشهرة
لا يخفى أن (trend) كلمة إنكليزية، وتطلَقُ على كلّ حدث أو نموذجٍ يُحدث ضجّة إعلاميّة بين النّاس ويوجّه الأنظار لطرفٍ أو قضية ما، وهو ما يثبته المعنى اللغوي، فالـ (trend) هو الاتّجاه، وهو –باصطلاح مواقع التواصل الاجتماعي – الشيء الأكثر بحثاً أو الأكثر تداولاً في فترة معيّنة.

لنسلك النقاش بالأمر ضمن اتّجاه واضح؛ إذ يجب علينا أن نعرف حقّ المعرفة أنّ الـ (trend) ظاهرةٌ تستولي على العقول اليوم، فالكلّ يريد أن يكون ذاك الشّخص الذي يؤثّر في الناس، أو محورَ الحدث الذي تنطلق إليه الأنظار.

وبناء على هذا التصوّر بات الاتجاه لا يهمّ، فالبعض يختار سفاسف الأمور كتصوير الشباب لدقائق حياتهم أو خروج أحدهم بشيء مخالف للدّين أو للفطرة السليمة، وكلّ الهمّ أن يصبح حدثاً يتمّ التكلّم عنه، متناسيًا أنّ هذه الطفرة في عمقها أمرٌ هشّ وأنّ هذا التوهّج المفاجئ كاذبٌ مؤقّت، لا يرفع بنياناً ولا يُقيم عمراناً.

وهنا أسأل نفسي، هل مفهوم الـ (trend) يتعارض مع مبادئ المسلم؟

لم يكن الإسلام يوماً مقيّداً لأي لبِنة خيرٍ إيجابية تسهم برفع راية الأمّة، وإنّما كان مهذّباً ومقوّماً لكلّ مائل عن الطريق المتّجه نحو السموّ والرفعة؛ إذ إنّ الإنسان الذي كرّمه الله تعالى على جميع مخلوقاته وميّزه بالعقل والإدراك لا ينبغي له أن يسمح لنفسه بالسقوط نحو القاع ولو بتنازلٍ بسيط؛ ولذلك فإنه لم يكن ثَمّة مانعٌ في الإسلام لتوجيه السلوك باتّجاه معيّن يدخل في أهداف الإسلام وخدمة مبادئه، بل إنّ من توفيقَ من الله في أن يترك الإنسان أثره النافع في الآخرين أينما سلك وتوجّه.

من الممكن أن تقوم بمناقشة كتب تُساهم في بناء عقول سليمة لمن حولك وتشارك تجربتك مع الآخرين، ومن الممكن أن تطرح محتوى يطوّر لغة تتقنها لدى من يريد التعلّم، ومن الممكن فعل أشياء أخرى كثيرة، فالأبواب مفتوحة لكل راغبٍ في إحداث أثرٍ إيجابيٍّ بالناس.

إلا أن مدار الأمر وعمقه يظهر لك حين تسأل نفسك عدّة أسئلة لتقيس صحّة اتّجاهك، كأن تسألها “لمَ أقوم بهذا الأمر الذي يجعل مني شيئًا أو من فعلي حدثاً مميّزاً”، “ما نوع المحتوى الذي أقدمه للآخرين”، “ما الرؤيا التي وضعتها لنفسي ولأمّتي”، وقبل كل ذلك أن تسأل نفسك: هل الهدف منفعة شخصية آنيّة لا تُسمن ولا تغني من جوع؟ أم أنّ هناك طبخة دسمة لأوصال الأمّة المقطّعة جوعاً؟ وأن تفكّر مليًّا في أنك إن سلكت مسلكاً إيجابياً، فهل تملك الحصانة لنفسك ضد الشهرة ونسيان الهدف الأسمى والأساسي؟

هذه جزءٌ من الأسئلة التي يجب أن يجيب المرء عليها قبل أن يشرع بتقديم أي محتوى للنّاس.

نماذج من ظاهرة التأثير في القرآن
القرآن الكريم والسّنة النبوية زاخران بالأحداث التي كانت حديثاً مطروقاً بين أصحاب وقت ما، بين إيجابي وسلبيّ، ولكن في نهايات كلّ قصّة نأخذ عبرة واحدة أنّ ما كان سلبياً كان مؤقّتاً وما كان إيجابياً بقي نبراساً يُستضاء به.

  • قارون نموذجًا سلبيًّا على الصعيد المادّي

كان قارون رجلاً من قوم سيدنا موسى، آتاه الله مالاً عظيماً، فما كان منه إلا أن ردّ الفضل لذاته، وخرج يستعرض ماله وكنوزه بين النّاس بطَراً وأشَرَاً، بدل أن يكون جزاء إحسان الله إليه إحساناً لخلقه، لا استعراضاً لبهرج زائل ومال آفل.

لقد كان قارون -بلغة العصر الحالي- المؤثر الشهير (trend) في تلك الفترة بماله وكنوزه، وكان حديث النّاس بين لائم له ومذكّر بفضل الله عليه، وبين حاسد ومتمنٍّ أن يؤتى مثلما أوتي قارون من مال، ولكن طريقة طرح قارون السلبية للأمر جعلت النهاية إلى سراب.  

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ  * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ  *فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:76-82]

  • ماشطة ابنة فرعون نموذج إيجابيّ على الصعيد الإيماني:

أدركت ماشطة ابنة فرعون الحقّ واتّبعته، فكانت اتّجاهاً مختلفاً عن السائد في ذلك الوقت من تأليه لفرعون وتقديس له، لقد عرفت الصواب فلزمته، ولم يؤثّر عليها فساد ما حولها، وإنّما كانت نقطة ضوء وسط ذلك الظلام فكانت بلغة العصر الحالي (trend) في ثباتها وعدم تزعزعها.

عن عبد الله بن عبّاس  tقال: قال رسول الله r: (لَمَّا كانتِ اللَّيلةُ الَّتي أُسريَ بي فيها، أَتَتْ عليَّ رائحةٌ طَيِّبةٌ، فقُلْتُ: يا جِبريلُ، ما هذه الرَّائحةُ الطَّيِّبةُ؟ فقال: هذه رائحةُ ماشِطةِ ابنةِ فِرعونَ وأَولادِها. قال: قُلْتُ: وما شَأنُها؟ قال: بيْنما هي تَمشُطُ ابنةَ فِرعونَ ذاتَ يَومٍ، إذْ سَقَطَتِ المِدْرَى مِن يَدَيْها، فقالتْ: باسمِ اللهِ، فقالتْ لها ابنةُ فِرعونَ: أَبي؟ قالتْ: لا، ولكنْ رَبِّي ورَبُّ أَبيكَ: اللهُ. قالتْ: أُخبِرُه بذلكَ؟ قالتْ: نعَمْ. فأَخبَرَتْه، فدَعاها، فقال: يا فُلانةُ، وإنَّ لكِ رَبًّا غَيري؟ قالتْ: نعَمْ، رَبِّي وربُّكَ اللهُ. فأَمَرَ ببَقرةٍ مِن نُحاسٍ، فأُحميَتْ، ثمَّ أَمَرَ بها أنْ تُلْقى هي وأَولادُها فيها. قالتْ له: إنَّ لي إليكَ حاجةً، قال: وما حاجتُكِ؟ قالتْ: أُحِبُّ أنْ تَجمَعَ عِظامي وعِظامَ ولدِي في ثَوبٍ واحدٍ وتَدفِنَنا، قال: ذلكَ لكِ علينا مِنَ الحقِّ. قال: فأَمَرَ بأَولادِها فأُلْقوا بيْن يَدَيها؛ واحدًا واحدًا، إلى أنِ انتَهى ذلكَ إلى صَبيٍّ لها مُرضَعٍ، وكأنَّها تَقاعَسَتْ مِن أجْلِه، قال: يا أُمَّهْ، اقتَحِمي؛ فإنَّ عذابَ الدُّنيا أَهْوَنُ مِن عذابِ الآخِرةِ، فاقتَحَمَتْ.) [مُسند الإمام أحمد، بإسناد صحيح]

الشهرة والتأثير وأسئلة الشباب
كثيرٌ من الشباب يتساءل عن اتجاهات التأثير، ترى بعضهم يقول: إن المحتوى الإيجابي لن يجعلني trend)) لأنّ الشهرة لأولئك الذين يقدّمون محتوى سخيفاً لا فائدة منه.

بادئ ذي بدئ يجب أن نعلم أنّ العوامل التي تؤثر في جودة أي محتوى هي: موافقته للشريعة والصدق والجودة والابتكار.

أما الموافقة للشريعة فيكون ذلك بأن لا يخالف المحتوى عقيدة ولا مبدأ من مبادئ الإسلام، بالتوازي مع الصدق في إرادة التغيير، والجودة بحيث يكون المحتوى هادفاً ومنسوجاً من خيوط قويّة، وأن تحقق فيه الابتكار بأن يكون غير مملّ ولا مكرراً لغيره.

 هنا -أي بعد تحديد الاتّجاه- يأتي أمر مهمّ وهو استحضار أنّ الشهرة ليست شيئاً منشوداً، وإنّما هي شيء مساعد لتحقيق الانتشار، والمؤمن مُدرك لحقيقة نفسه وقدراته وأنّ كلّ ما يأتيه من نِعَم فإنّما هي من الله تفضّلاً ومنّة، لا من جهد شخصي.

قد يتساءل آخرون بأن العمل على محتوى جيّد لن يجلب العدد المطلوب من المُتابعين، إذ لا أحد يهتمّ رغم أنّ المحتوى هادف؟

هنا لا بد من أن نتذكّر أن ديدن الصالحين –دائمًا- هو العمل والتوكّل، فربّ عمر يقضيه الإنسان يعبّد طريقاً ما، دون أن يُعرَف، وكان له شرف تمهيد الطريق فحسب، وربّ عمر قضاه نبيّ وهو يدعو إلى الله تعالى دون أن يؤمن به مؤمن واحد، فقد جاء في الحديث الشريف: عن عبد الله بن عبّاس t قال: قال رسول الله r: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النبيُّ والنبيَّانِ يَمُرُّونَ معهُمُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ) [رواه البخاري، حديث صحيح] وبالرغم من أنه لا رسالة يتمّ تقديمُها أعلى وأجود وأفضل من رسالة التوحيد،  إلا أن بعض الأنبياء يأتون دون تابعين، فعدد المُتابعين ليس دليلاً على جودة الرسالة، إنّما الخير باستمرار تمهيد الطريق ولو لم نلقَ سالكين.

يترك بعض الأشخاص الأثر دون أن يُذكروا في صفحات التاريخ أصلاً، وخير مثال على ذلك، الرجل الصالح الذي جاء من أقصى المدينة يسعى فقط ليقوم بالمهمّة التي يمليها عليها إيمانه، رجل لم يأتِ ماشياً، وإنّما جاء يخطو على نحو مسرع، لم نعرف اسمه، وإنّما رفع ذكره صفاء رسالته، قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]

إن الشهرة لها متلازمة المتابعين، حيث يبدأ الإنسان –أحيانًا- منحاه بشكل سليم، إلا أنه سرعان ما يُقيّد نفسه وسط الطريق بردّة فعل الآخرين، يرتفع بمدحهم ويُحبَط بذمّهم، وإن قلّ العدد قلّ منه العطاء والمدد، وبات كزهرة ذابلة تشعر أن لا أهمّية لها دون التصفيق والثناء من الجمهور، فإن أحجموا ذبل وإن أقبلوا بثّ أجمل العطور، وهذه حمّى تعترض السائر نحو هدف سامٍ، إذ إنّ العين يعتريها عند السلوك ضعف بصر وبصيرة، وتربط حبالها بجهة متقلّبة الأهواء والآراء، متناسية أنّ أمتن حبل هو حبل يُربط مع خالق الأرض والسّماء.

إن كيان المؤمن في نموّه وانطلاقته ورحلته ونتائجه مرتبط بنفسه وعقيدته ونتاجه، فقد قال رسول الله r: (مَثَل المؤمن مَثَل النحلة، لا تأكُلُ إلا طيِّبًا، ولا تضَعُ إلا طيِّبًا) [صحيح ابن حبان: 247]

“ما وراء الطبيعة” وتكريس الخرافة

قبل أيام بثت شبكة نتفليكس مسلسل “ما وراء الطبيعة” أول عمل مصري من إنتاجها، والذي وفرته مدبلجًا بتسع لغات ومترجمًا إلى أكثر من 32 لغة. والعمل مبني على سلسلة روايات ذائعة الصيت تحمل نفس الاسم. كل هذا كان كفيلًا بإحداث حالة من الترقب منذ الإعلان عن العمل وضجة بعد بثه، لدرجة تصدره قوائم المشاهدة على شبكة نتفليكس في عدة دول حول العالم، ودخوله -ولو بشكل مؤقت- قائمة imdb لأفضل 250 مسلسل في التاريخ.

وقبل مناقشة محتوى المسلسل -وما قد يتخلله ذلك من حرق للأحداث- يجدر بنا في البداية الحديث عن سلسلة الروايات التي بُني عليها المسلسل.

سلسلة روايات “ما وراء الطبيعة”
“ما وراء الطبيعة” هي سلسلة روايات جيب للكاتب أحمد خالد توفيق، من نوع التشويق والغموض والرعب موجهة للمراهقين، وهي من أوائل الأعمال الأدبية من هذا النوع في الوطن العربي، إن لم تكن الأولى. وقد تم نشرها على مدار أكثر من عشرين عامًا، منذ العدد الأول عام 1992 وحتى العدد الثمانين (الجزء الثاني) عام 2014.

غلاف العدد الأخير من السلسلة

تدور أحداث السلسلة حول شخصية خيالية تدعى الدكتور رفعت إسماعيل، الذي يجد نفسه أمام سلسلة من الأحداث الخارقة للطبيعة. وخلال مغامراته يواجه د. رفعت إسماعيل العديد من المخلوقات الأسطورية من المستذئبين ومصاصي الدماء إلى الزومبي وآكلي لحوم البشر، كما يقابل أناسًا قادمين من عوالم موازية ومسافرين عبر الزمن. هذا بالإضافة إلى السحرة والفضائيين، وبالطبع الأشباح والشياطين.

ولا يقتصر مسرح الأحداث على مصر، بل تدور الأحداث في شتى الدول والمناطق، بدءًا من الولايات المتحدة ومرورًا بجبال التبت، وانتهاء بـ”جانب النجوم” وهو مكان من نسج خيال الكاتب يحوي المخلوقات الشريرة.

مسلسل “ما وراء الطبيعة”
يأخذ المسلسل خمسة من المغامرات التي خاضها د. رفعت اسماعيل ويقدمها في ست حلقات، تحمل العناوين التالية: أسطورة البيت، أسطورة لعنة الفرعون، أسطورة حارس الكهف، أسطورة الندّاهة، أسطورة الجاثوم، أسطورة البيت: العودة.

بوستر مسلسل “ما وراء الطبيعة”

ويبدأ المسلسل بالدكتور رفعت وهو لا يؤمن بما يُسمى “ما وراء الطبيعة” وينتهي به مؤمنًا متيقنًا بوجود “ما وراء الطبيعة”. وفي البداية فإن هناك إشكالًا بأن شخصًا مسلمًا -أو ذا عقيدة دينية أيًا كانت- لا يؤمن بالماورائيات على الإطلاق. فالماورائيات تشمل الجن والملائكة والشياطين والجنة والنار وغيرها. ومن ثم فإن ما أصبح د. رفعت يؤمن به بعد مغامراته خلال الحلقات الست، ما هو إلا خرافات.

وما يزيد الأمر سوءًا أن بعض هذه الخرافات منتشر فعلًا ووثيق الارتباط بالثقافة الشعبية المصرية والعربية -كالجاثوم مثلًا-، وترسيخه لن يزيد المجتمع إلا جهلًا، خصوصًا إن وُضع بالاعتبار أن هذه القصص تستهدف المراهقين. أما الخرافات المبنية على الثقافة الغربية فما هي إلا امتداد لهيمنة هذه الثقافة. 

وبتتبع رحلة د. رفعت خلال المسلسل، في طريقه نحو الإيمان بـ “ما وراء الطبيعة” نرى الاستنجاد بالآلهة الفرعونية “احمنا يا حورس” وتلاوة التعويذات والترانيم الفرعونية كذلك، والجثو والصلاة لوحشٍ أسطوري، واستخدام بطاقات التاروت للتنبؤ بالمستقبل، من قِبل عدو د. رفعت، لوسيفر (إبليس) نفسه.

دينٌ موازٍ
في زمن الصورة التي يلهث فيه الناس وراء الأدرينالين، وبحجة أنها أرض خصبة للإثارة والرعب والغموض، فإن المظاهِر الشركية وغيرها من المخالفات العقدية التي احتواها المسلسل هي نتيجة طبيعية للتعرض للماورائيات في الروايات والأفلام والمسلسلات وغيرها من المواد “الترفيهية”. فهذه المواد شكلت ما يمكن تسميته بتراث عالمي مشترك من الصعب الخروج عنه، والذي كوّن ما يشبه الدين المحرَّف أو المنظومة العقائدية الموازية للديانات السماوية.

غلاف العدد الثامن والسبعين من سلسلة “ما وراء الطبيعة”

ومن ذلك مثلًا الوسيم الجذاب ذو “الكاريزما” لوسيفر والذي يوصف بأنه “حامل الضياء”، أي حامل النور والحياة والمعرفة والحضارة والحرية، وإله هذا الكون الذي يستحق أن يعبد بدلا من الإله الخالق الذي طرد الإنسان من الجنة، كما تصفه هيلينا بلافاتسكي مؤسِّسة جمعية الحكمة الإلهية (ثيوصوفيا)، التي تعد من أهم الجمعيات الباطنية. [انظر مقال الهندوسية من موسوعة السبيل].

وفي عصر العولمة العابر للقارات والثقافات يزداد القدر المشترك بين هذه المواد، خصوصًا عندما يكون الإنتاج منحصرًا بجهات محدودة ذات منظومة فكرية وثقافية واحدة، بإمكانها إعادة صياغة هذه المواد قبل تقديمها على الشاشة، واضعة المعايير الثقافية والتقنية لغيرها، في زمن الصورة.

مثلًا مما هو جدير بالذكر -والذي لفت انتباه أحد متابعي المسلسل- في هذا السياق، وفي ضوء ما توفره شبكة نتفليكس من دبلجات وترجمات متنوعة للعمل، هو ما حدث في الحلقة الرابعة من المسلسل، حيث قام دجال يُدعى “الشيخ صلاح” بقتل ابنته بعد أن تم اغتصابها. وهذا هو وصف سام هاريس -أحد الفرسان الأربعة للإلحاد الجديد- للمجتمع المسلم. فمن المهم الإشارة هنا أن هذا لم يكن موجودًا في رواية “أسطورة النداهة” الأصلية. حتى أنه في الرواية يتم إسقاط خرافة الندّاهة، بينما يقوم المسلسل بترسيخها.

من نافلة القول أن جهات الإنتاج لديها الأدوات اللازمة لتقديم الصورة التي تريد لأي شيء على أوسع نطاقٍ ممكن، إلا أن هناك خصوصية في قيام جهات الإنتاج الغربية بإنتاج أعمال متعلقة بالماورائيات وتقديمها للمشاهِد المسلم، حيث ينتُج عن ذلك تشويه العقائد وتحريف الدين نفسه في عقول أصحابه، وعدم الاكتفاء بتقديم صورة مشوهة عن الملتزمين بهذا الدين، بل بتشويه الجوهر العَقَدي للدين من خلال التحكم بالتصورات الذهنية المرتبطة بالماورائيات الموجودة في هذا الدين -كصورة إبليس مثلًا-، حيث يستمد المشاهِد تصوره من المادة التي يشاهدها، نتيجة لطغيان قوة الصورة. 

وهذا الخطر كان موجودًا منذ تعرض المسلمين للأعمال الغربية التي تتطرق للماورائيات، لكن الآن تضاعف الأثر واشتد الضرر، فالمادة الآن أقرب للمشاهِد، وهي تُقدَّم بلغته وفي بيئته وعلى لسان طاقم عملٍ مألوفٍ له، وهذا يضمن انتشارها على نطاقٍ أوسع بكثير من الأعمال الأجنبية. وهنا يتضافر الإنتاج الناطق بالعربية مع الناطق باللغات الأجنبية في سبيل الوصول لكافة أطياف المجتمع. ومن الجدير بالملاحظة هنا أن إنتاج نتفليكس في المنطقة العربية قبل “ما وراء الطبيعة” كان أيضأ مرتبطًا بالماورائيات، وهو مسلسل “جن”.

ختامًا، فإن لم ينطلق المنتَج الثقافي من منطلقات عقائدية وقيمية أصيلة، فلن يكون إلا مسخًا مشوهًا، ينطلق من منطلقات الآخر في محاولة لأن يكون مجرد بديل له، وفي النهاية لن يكون إلا مروجًا ومكرسًا للثقافة التي يحاول أن يحل محلها.

المرأة في هوليوود وأساطير النجاح والحرية

سجادة حمراء، أثوابٌ فاخرة، حليّ ثمينة، جمالٌ وقوةٌ واستقلالية، خطابات شكر وثناء وفخر، وحديث عن التوازن والسعادة والاستقرار..كل تلك الصور البراقة تتبادر للأذهان عند ذكر المرأة في هوليوود. فهؤلاء النساء يظهرن لنا على الشاشات وفي دور السينما كمثالٍ لتحقيق الذات والوصول إلى قمة هرم النجاح. يرسمن نموذج الجمع بين القوة والحسن والأنوثة في عيون بناتنا وشبابنا كأنهم يمثلون غاية السعي ونهاية النفق المظلم الذي تقطنه الشعوب.

لكن نظرة فاحصة إلى عالم هوليوود والنساء فيه تظهر بشاعة الحقيقة المخفية. فبين معاناة نفسية وأمراض عضوية وضغوطات اجتماعية وفقدان للخصوصية، تعيش “النجمة” الهوليوودية حياتها تلهث وراء سرابٍ لا تمسكه مهما أغرقت نفسها بالماديات. لا تملك حياتها ولا بأبسط القرارات، مسكينة تائهة في متاهات مريرة إما تجهل الذي يُفعل بها أو تدري وتتغافل مقابل الأجر المادي و وهم النجومية المزعومة.

ولأن فتنة الظاهر قد تخيّل للناظر أن هؤلاء الإناث يمثلن المرأة القدوة، أقف في هذا المقال مع صورٍ من الظلم والاستعباد التي يعانينها، لتعلم شاباتنا أن مثيلاتهن لسن محل غيرة، إنما أهل لأن نشفق ونأسى عليهن مهما بلغت أعداد جمهورهن واتسعت قصورهن وغلت حليّهن.

مقارنة بالرجل
حين تتحدث الصحافة الغربية عن المرأة في هوليوود فإن التركيز غالباً يكون على عدد الممثلات في الأدوار الرئيسية وحواراتهن وأجورهن وعدد النسوة العاملات وراء الكواليس، كل ذلك مقارنة بالرجل طبعاً.[1] وإن كانت هذه النقاط مثبتةً بالاحصائيات، إلا أنها انعكاسات للرؤية النسوية التي لاتريد للأنثى إلا أن تحقق ما حققه الذكر، وأن يكون لها النصف في كل شيءٍ، بغض النظر عن اهتمامها به أومناسبته لطبيعتها. نجد النسويات مثلاً يعترضن على أن ثلاث نساء فقط على مر التاريخ ربحن جائزة الأوسكار لأفضل مخرج، رغم أن نسبة المخرجات النساء في هوليوود لم تجاوز 8-13% من المخرجين عبر السنوات![2]

لكن الذي أود تسليط الضوء عليه ليس نقص حضور المرأة أو نوع الحوارات التي تعطى لها، إنما ما يجري في خلفية كل ذلك، كيف تدخل الأنثى هذا العالم، وعلى أي أساس يتم اختيارها من بين المنافسات؟ وإن كانت تلك الأدوار تدر أرباحاً هائلة لمجرد أداء بعض الحركات وقول بضع عبارات، فما الذي تقدمه امرأة لتحصيلها والحفاظ عليها؟

إن التمثيل في هوليوود لا يشبه غيره من المهن، فتسابق الفتيات في أمريكا على فرص الظهورعلى الشاشة، مع قلة الأعمال المنتجة نسبياً يجعل المنافسة عصيبة جداً،[3] مما يقنع المتنافسات بضرورة تحمل أي شيء مقابل رضا المخرجين والمنتجين (الرجال غالباً).[4] وقد أظهرت تقارير عديدةٌ أن رضا هؤلاء لا علاقة له إلا بآرائهم وأهوائهم الخاصة، التي يقال أنها تتوجه إلى شخصية الفتاة، حضورها المسرحي، طاقتها، تميزها، تفوقها، وحيويتها وغيرها من السمات المعنوية التي لا تملك معيارية حقيقية. وبذلك يكون المجال مفتوحاً لمجموعة من صناع الأفلام لتقييم آلاف الفتيات بناءً على شكلهن الخارجي ثم اختيار بضعٍ منهن للدخول في هذا العالم والتحول إلى “نجوم”. ولنا أن نتخيل الحدود المهنية المحفوظة خلال التجارب، فهذه الممثلة روزمند بايك تقول إن المسؤولين طلبوا منها التعري في تجربة أداء لفلم “Die Another Day”،[5] وهذا أندي هنري -مسؤول تجارب أداء مسلسل “CSI”- يُطرد من عمله بعد أن كشفت خمس ممثلات أنه طلب ذات الفعل منهن خلال التجارب، الأمر الذي وافقن عليه طمعاً في الأدوار.[6] وهكذا يتحول ما يفترض أن يكون مقابلة عمل مهنية إلى حالة مبتذلة من عرض سلعة وقبول أو رفض.

تقول الممثلة جين فوندا لمجلة ديلي تلغراف: “حين يتعلق الأمر بالممثلات فالمظهر يختصر كل شيء، فالرجال بصريون جداً ويريدون الشابات الحسناوات في الأعمال، ولذلك تجدنا نحاول الحفظ على شبابنا دائماً”.[7] أما التفوق الأكاديمي والخبرة والاحترافية فلا قيمة لهم ولا اعتبار، إنما هي مسألة ذوق شخصي للمسؤول لا أكثر، ولا عجب أن إحصائية أجرتها مجلة فوربز وجدت أن 10% فقط من الممثلين الأعلى أجراً في هوليوود يحملون شهادة جامعية.[8] وكذلك فالبقاء في هوليوود يستوجب على الممثلة أن تحافظ على صورتها وشبابها دائماً، وإلا رفَضها الجمهور وأعرض عنها المخرجون. وتعليقاً على ضغط هوليوود على نجماتها ليحافظن على شكل جسدٍ معين ونحافة مرضيةٍ غير واقعية تقول ليزا كودرو -بطلة مسلسل Friends- إن التوقعات التي كان ينبغي عليها تحقيقها كجزء من عملها في المسلسل جعلتها غير راضية عن جسدها أبداً، مما دفعها إلى محاولة تنحيف نفسها بشكل دائم، حتى أنها كانت تشعر بالتعب والبرد والمرض بسبب الحميات، وكانت رغم ذلك تتلقى المديح والثناء ممن حولها كلما خسرت مزيداً من الوزن.[9]

فضائح الاستغلال وحركة MeToo
إن كان هذا حال المرأة في مرحلة العبور إلى هوليوود فكيف بعد أن تدخلها؟

سنة 2017 انفجرت في الإعلام الأمريكي والعالمي فضيحة المنتج المشهور هارفي واينستين الذي ادعت أكثر من 50 امرأة أنه قام باعتداءات جنسية ضدهن، ومع هذه القضية بدأ هاشتاغ MeToo  بالانتشار، حيث تشجعت النساء في هوليوود (ثم خارجها) على الإفصاح عن إساءات واستغلالات جنسية تعرضن لها من قبل الرجال.[10]و بدأ بتلك الحملة حديث طويل عن السلطة الرجولية في هوليوود والحاجة للثورة على الذكور وسحب مركز القوة من أيديهم. فبحسب إحصائية نشرتها USA Today  فأكثر من 94% من النساء في هوليوود عانين اعتداءً جنسياً مرةً على الأقل في العمل.[11] لكن العجيب هنا أن الحل المقترح لم يكن تبديل بيئة عمل النساء لتكون أكثر أماناً، ولا تخفيف مشاهد العري والإثارة في أفلامهن أو وضع ضوابط على ما يسمح تمثيله، إنما الصراخ في وجه الذكور الجنسيين العجيبين ومطالبتهم بالخروج عن طبيعتهم البشرية بينما يستمر كل شيءٍ كما هو. فالصناعة موجهة لتحفيز الغرائز وإثارة المتعة، لكنها في نفس الوقت تنكر على صانعيها التأثر بما تنتجه!

أتأمل هذا الضياع وأقارنه بتكريم الإسلام للإنسان وحفظه رجلاً وامرأة جسداً وروحاً من شياطين الإنس والجن. فشريعة غض البصر ومافيها من رفع للنفس البشرية تكفي ليظهر الفرق بين منظومة دين الحق التي تعترف بالغرائز وتوجهها ومنظومة حزب الشيطان التي تنكر الطبيعة البشرية ثم تتفاجأ بها عند حدوث المصائب.

من إنسان إلى إعلان
إضافة إلى كل الاستغلال الذي يمارس بحق المرأة في عالم السينما، فإن الشركات الرأسمالية أيضاً تستغلها لتحولها من إنسان ذي كينونة وروح إلى وجه دعائي. بكل بساطة تدفع شركة مستحضرات تجميل او عطور مبلغاً مالياً للممثلة مقابل تحويلها إلى وجهٍ إعلامي للعلامة التجارية، فتنتشر صورتها على المجلات والإعلانات، وجدران المحال وعلب المستحضرات فتتحول من كائن إنساني عزيز، إلى جسد لا يُرى إلا لإبراز فعالية مستحضرٍ يسوقه. يصير مطلوباً من هذه الإنسانة ارتداء ملابس معينة في كل محفل ومقام، وذكر المنتج الفلاني في كل لقاء، والظهور على أغلفة المجلات ولوحات الإعلانات في الطرقات، كأنها إعلان متحرك مستمر، ولا أرى في الحقيقة أشبه بالعبودية من هذه الممارسة!

ورغم أن ذلك كله يجري وفق عقود رسمية برضا الطرفين، إلا أن الفنانة تعلم حين توافق عليها أنها مجبرة على فعل ما يميزها، فهي تريد للجمهور أن يذكروها بين المنافسين، وللمنتجين أن يظنوا أنها مطلوبة وذات شعبية عالية ليختاروها في الأعمال المستقبلية. فأين العدل والحرية في ذلك كله؟ وأين الكرامة إن صار الإنسان أداة كذب وخداع وزيادة أرباح؟

هوليوود ليست استثناء
رغم أن الحديث هنا عن المرأة في هوليوود، إلا أن الذي أصفه يشمل عرض النساء في ظروف مرسومة من أجل إمتاع الجماهير وتحصيل أموالهم في أي مكان وزمان. ففي عالم بوليوود (السينما الهندية) مثلاً تقول الممثلة شريا نارايان في مقابلة مصورة أن استغلال المرأة جنسياً مقابل أن تكون “Somebody” أو شخصاً معروفاً في السينما هو الشائع.[12] فالسلوك إلى القمة في هذه الصناعة مع كثرة المتنافسين عليها لا بد أن يمر بما يسمونه “casting couch” أو كنبة تجارب الأداء، ولا شك أن جميع الممثلات مجبرات على سلوك هذا الطريق على حد قولها. علاوة على ذلك تقول نارايان (وقد خانتها عبرةٌ) أنها مقصاة إلى حد كبير لأنها لا ترضى أن تكون أداة تسويق لمنتجات يكلف الواحد منها ما يكفي لإطعام عائلة في بلدها. فهي ترفض أن تكون وجه جمال استثنائي على الدوام وتكره أن يطلب منها ارتداء أزياء المصممين ومجوهراتهم والمحافظة على مثالية هيئتها وشعرها في كل لقاء كي تكون وجهاً إعلامياً معروفاً للمنتجين والمخرجين.[13]

هؤلاء النساء المستعبدات لمعايير الجمال الخيالية ورضا الجمهور والمخرجين وشركات الإنتاج ورؤوس الأموال، هؤلاء اللواتي لا يملكن أن يدفعن عن أنفسهن اعتداءً ولا إهانةً، هن من يتربع على قمة سلم المال والشهرة ويقبع أسفل هرم الحرية والطمأنينة، هؤلاء يتصدرن فيشعرن ربة المنزل المسلمة الكريمة العفيفة بالنقص والدونية والهوان. يشعرنها بأن سؤال زوجها عن وجهتها إن خرجت انتقاص منها، لكن تحديد مخرج العمل لحميتهن وطلب المنتِج أن يصبغن شعورهن نهاية القوة والاستقلالية بالتأكيد!

إن هوليوود وغيرها من صناعات ليست إلا صناديق مغلقة تهدف لتصوير الحياة بأكملها بشكل مزيف لا يمت للواقع بصلة. فهذه العوالم لا تقدم الأفلام أو المسلسلات للمتعة فحسب، إنما تقدم رموزاً بشرية أيضاً تعيد للجمهور تعريف الحياة واضعةً المال والجمال والشهرة والمتعة كقيم عليا تلغي في سبيلها كل الأخلاقيات التي تعارفت عليها الأمم عبر تاريخها الطويل. فهؤلاء الممثلات اللواتي لم يقدمن للإنسانية إلا أداء بضع حركات أمام ستارة خضراء مقابل بخاخ ماء أو مروحة هواء، يظهرن في في اللقاءات والمؤتمرات يعطين عامة النساء محاضراتٍ في المساواة والحقوق والنجاح دون أن يعترض عليهن أحد، بل إن وجهات نظرهن تُنشر وتبجّل ويُحتفى بها كأنهن وصلن إلى غاية السعي و صرن في الفردوس الذي نتطلع إليه.


[1] Hollywood’s devastating gender divide, explained. Kelsey McKinney, VOX, 2015. https://www.vox.com/2015/1/26/7874295/gender-hollywood

The challenges of being a woman in the Hollywood business. Ashlea Green, MyStory, 2017.  https://yourstory.com/mystory/3c08075d00-the-challenges-of-being-a-woman-in-the-hollywood-business.

[2] Study: Women Film Directors Saw Their Numbers Shrink in 2018. Gregg Kilday, The Hollywood Reporter, 2019. https://www.hollywoodreporter.com/news/women-comprised-just-8-percent-directors-top-2018-films-1172727

Hollywood’s devastating gender divide, explained. Kelsey McKinney, VOX, 2015. https://www.vox.com/2015/1/26/7874295/gender-hollywood

[3] Only 2% of actors make a living. How do you become one of them?. Michael Simkins, The Guardian, 2019.

https://www.theguardian.com/film/shortcuts/2019/jun/05/only-2-per-cent-of-actors-make-a-living-how-do-you-become-one-of-them

[4] The challenges of being a woman in the Hollywood business. Ashlea Green, MyStory, 2017.  https://yourstory.com/mystory/3c08075d00-the-challenges-of-being-a-woman-in-the-hollywood-business.

[5] Rosamund Pike Says She Was Asked to Strip for ‘Die Another Day’ Audition. Katie Kilkenny, The Hollywood Reporter, 2018.

https://www.hollywoodreporter.com/news/rosamund-pike-says-she-was-asked-strip-die-day-audition-1135808

[6] Actresses Say Veteran ‘CSI’ Casting Employee Coerced Them Into Disrobing. Gary Baum, The Hollywood Reporter, 2017.

https://www.hollywoodreporter.com/news/women-say-veteran-csi-casting-employee-coerced-disrobing-1058398

[7] Jane Fonda:Ageism in Hollywood is “alive and well”. Bangshow.com, The Washington Post, 2015.

https://www.washingtonpost.com/entertainment/jane-fonda-ageism-in-hollywood-is-alive-and-well/2015/05/23/4df46594-0168-11e5-8c77-bf274685e1df_story.html?utm_term=.cf57dfb6a44b

[8] College Majors Of The Stars. Lacey Rose, Forbes, 2007.

https://www.forbes.com/2007/06/25/celebrity-college-education-biz-media_cx_lr_0626majors.html#5cd5d77b351a

[9] Lisa Kudrow Speaks Out About The Pressure She Faced on TV. Blendtx, Daily Blend, 2019.

https://blendtw.com/lisa-kudrow-speaks-out-about-the-pressure-she-faced-on-tv/

[10] A Timeline of the Weinstein Case. Alan Feuer, The New York Times, 2020.

https://www.nytimes.com/2020/02/24/nyregion/harvey-weinstein-case-sexual-assault.html

[11] How common is sexual misconduct in Hollywood?. Maria Puente and Cara Kelly, USA Today, 2018.

https://www.usatoday.com/story/life/people/2018/02/20/how-common-sexual-misconduct-hollywood/1083964001/

[12] Whaاt’s It Like to Be a Woman in Bollywood?. Vishal Arora, The Diplomat, 2017.

https://thediplomat.com/2017/03/whats-it-like-to-be-a-woman-in-bollywood/

[13] المصدر السابق