مقالات

الإسهام الحضاري المنشود من الإعلام

لقد أصبح الإعلام السمة المميزة للعصر الحديث، وأضحى تأثيره في حياتنا طاغيًا لا يستطيع معه أي فرد في أي ركن من أركان الدنيا أن يتجنّبه، فهو يصنع العقول ويحركها، يغير اتجاهات الأفراد ويوجههم إلى حيث يشاء، يخطو بالشعوب والدول ويتقدم بها إلى الأمام، تلك مهمة الإعلام الهادف القائم على منظومة استراتيجية وفق تخطيط دقيق هادف يؤدي الأهداف المنشودة ويحقق مجالات التنمية، إن الإعلام هو الذي يرسم اليوم ما يمكن أن نطلق عليها الخريطة الإدراكية الوجدانية أمام ضغوط توجهات إعلامية تسعى إلى تجريد الأفراد من هويتهم وانتماءاتهم وقيمهم ومعتقداتهم وثقافتهم الذاتية.

أهميّة الإعلام في حياة الشعوب

أظهرت نتائج الدراسات والواقع الذي نحياه الدور التأثيري الممتد لوسائل الإعلام في تشكيل وعي الشعوب، ومن ثمَّ توجيه تلك الشعوب صَوْب قيم بعينها، سواء كانت سلبية أو إيجابية.

وفي ضوء ذلك كانت وسائل الإعلام ميدانًا خصبًا للترويج لمنظومة الأفكار والقيم الغربية داخل المجتمعات الإسلامية، وقد ساعد على هذا الترويج وجود كوادر بشرية من أوساط المسلمين تأثرت بالغرب وانبهرت به، ورأت ذلك من باب (المدنية الحديثة)، فصبغوا ووجهوا الوسائل الإعلامية التي يملكونها أو يديرونها أو يعملون في قطاعاتها المتعددة وفق ما يطرحه الغرب من أطُرٍ ليبراليّةٍ شديدة التطرُّف في ليبراليّتها، فكانوا بذلك أحد أدوات الصراع القيمي، وفي المقابل حملت وسائل الإعلام الهادفة على عاتقها مسؤولية ترسيخ القيم والمبادئ، ومحاولة مواجهة الهجمة التغريبية في وسائل الإعلام المروجة للقيم الغربية في المجتمعات الإسلامية.

وتميزت رسالة الإسلام بأنها منهج شامل للحياة، رسم للإنسان معالم لنظمه الاجتماعية المختلفة، وذلك حتى تتوافق هذه النظم مع الغاية الأسمى لوجود الإنسان، وهي استخلاف الله تعالى له في الأرض وعمارتها وفق منهج الله تعالى وتحقيق عبادته وحده، وهذه الغاية لا بُدَّ أن تتوافر لها المبررات القوية والمقنعة التي تدفع بهذه الغاية وتقوي العزائم في سبيل تحقيقها في الواقع الإنساني لذلك كان لابد من صياغة هذه النظم والمعارف صياغة إسلامية تربط الجانب العلمي والواقعي بالجانب العقائدي والروحي في الإسلام.

من الإسلام وإليه

إن مقررات الإسلام هي أصل ومصدر معرفتنا العلمية والتطبيقية، ولذلك كان للإعلام مكانة هامة في الإسلام على الرغم من أنه لم يكن معروفا في وقت نزول الوحي على رسولنا صلى الله عليه وسلم، فالمتأمل للدور الملقي على عاتق الدعاة يجد أن مفهوم الإعلام يكاد يكون مطابقا لمفهوم الدعوة، فالدعوة عمل إعلامي تخاطب العقل وتستند إلى المنطق والبرهان، وتعمل على كشف الحقائق.

من المؤكد أن الحاجة إلى الإسهام الحضاري الإسلامي مُلحّة في هذا الوقت أكثر من غيره، ولعل من أهم معالم الإعلام الحضاري أن يسلّط الضوء على الخبرات الناجحة والجهود المميزة لبعض المؤسسات والبرامج والمبادرات الإعلامية في مختلف المجالات؛ إذ هي في عدد من تجلياتها تمثل لبعض النظريات الإسلامية حول الاتصال والإعلام، وكشف عن دور الإعلام في الحياة المعاصرة في المجتمعات العربية والإسلامية، وما يمثله هذا الدور من إمكانيات هائلة تستطيع أن تسهم في برامج التنمية في هذه المجتمعات، وتعين الوسائل الأخرى للتنشئة والتوجيه والتربية والتعليم في تحقيق أهداف المجتمع وطموحاته في النهوض الحضاري المنشود.

حاجتنا للإعلام الهادف

إنَّ الحاجة ماسّة اليوم لرسم سياسة ثقافية إعلامية تهدف إلى تطوير خطاب إعلامي ينطلق من جملة من المبادئ النفسية والتربوية والاجتماعية والسياسية؛ سياسة تتصف المرونة والتجدد للاستجابة للوقائع المتغيرة، والحاجات المتجددة، وتتوجه بصورة مباشرة إلى إصلاح المجتمع وتنميته، وضمان التماسك في نسيجه المجتمعي، والتخطيط الهادف إلى الإسهام الفاعل في بناء الحضارة الإنسانية، والحضور في ساحة العالم. وقد يكون تخطيطاً فكرياً ثقافياً لكنه يؤدي إلى إنجاز مجتمعي وإبداع حضاري، وعند الحديث عن رؤية إسلامية للإعلام المعاصر فإنه لا ينبغي أن ننسى ضرورة إسهام هذا الإعلام في تطوير الخطاب الإسلامي الذي يكرّس معاني الوحدة والتكامل، وروح الأخوة والتراحم والتآلف بين أبناء المجتمع، وينقل إلى الناس في المجتمعات الأخرى، مقاصد الإسلام برسالته السمحة ومضامينه الخيّرة، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. وإذا كان الإعلام هو العِلّة التي أسهمت في إفساد كثير من هذه المعاني وتشويه حقيقة المقاصد، فإن الإعلام الحضاري هو الوسيلة الناجعة لمعالجة هذه العِلّة.

إن استثمار خطابنا الإعلامي للبُعد القيمي سيمكّنه من تنظيم المجتمع أخلاقياً؛ أي إدماج المفاهيم الأخلاقية في الحياة العامة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية؛ إذ سيسهم الإعلام الحضاري في إنتاج القيم وإشاعتها في المجتمع من خلال البرامج الثقافية؛ بجميع تمثلاتها، مما سيؤثر بعد ذلك في التنشئة الاجتماعية؛ فيتأسّس الفرد على مبادئ وقيم نابعة من هوية المجتمع، فيصبح هذا الفعل مقابلاً منطقياً للتحللّ الاجتماعي الذي تتجلى مظاهره في الجوانب السياسية والاقتصادية والقانونية والتربوية والثقافية، ومع تسارع جذب المنصات الإعلامية التفاعلية وبروز أدوات مؤثرة للإعلام الجديد، يظهر جلياً أن الإعلام من أهم أدوات العصر المؤثرة والأكثر بروزاً وحضوراً، إنه منبر مفتوح على الجميع، يؤدي دوراً استراتيجياً في المجتمعات، والإسهام في مسيرة التنمية والازدهار ومواجهة التحديات، ووضع المؤثرات الإيجابية في مختلف مجالات الحياة، إن حرية التعبير تمثل اليوم واحدةً من أثمن الحقوق، لأنها تعتبر الركيزة التي تقوم عليها كل حرية أخرى، وهي أساسٌ لكرامة البشرية.

خلاصة القول

إن وعينا بأهمية الإعلام وجميع أشكال التواصل في صياغة شخصية الإنسان وتربيته، وفي تشكيل الرأي العام وتوجهاته، يفرض علينا تطوير استراتيجيات إعلامية جديدة، تسهم في حركة الإنتاج العلمي والفكري والاقتصادي، ومعالجة مشكلات الأمة وتلبية متطلبات النهوض الحضاري الذي ينبغي أن تسعى إليه، وتوقف الهدر الكبير في حياة الناس وأوقاتهم، والتوظيف العبثي لإمكانيات المجتمع ومقدراته، بإشغال المساحة الأكبر من برامج الإعلام في وسائله المختلفة في مجالات الحياة الاستهلاكية الرخيصة، وتكريس مظاهر الاستلاب والتبعية، فالمستقبل المستدام يتطلب من القائمين على وسائل الإعلام بمنظور قيادتها والتمايز المؤسسي لديها أن يكون لها تأثير إيجابي عميق على من حولها في المجتمعات العربية والإسلامية من خلال تعزيز الأداء والتحسين المستمر والابتكار المنهجي عن طريق تسخير الإبداع من أصحاب المصلحة، حيث إن المؤسسات المتميزة لديها قيادة تشكل المستقبل وتحقق ذلك بوصفها قدوة مؤثرة من خلال قيمها وأخلاقها ونظام عملها.

هل الأنمي كرتون بريء؟ – للمربين (الجزء الأول)

الجلسة الأولى في دورة حول الأنمي قدمت للأمهات والمربين ثم لليافعين عبر “لقلب حي”. إعداد وتقديم: تسنيم راجح | المصادر: https://bit.ly/3IIfthB 

الدَجَل والمسخ المعنوي

خلق الله تعالى الناس -في الأصل- على الفطرة السليمة وعلى الهيئة السويّة عقليّا ونفسيّا وبدنيّا؛ إلا عوامل متعدّدة شوّهت هذا الخَلْق، فلم يعد سليمًا. لذلك قال سبحانه في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمَت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) [أخرجه مسلم]. وشيئًا فشيئًا انتهى هذا التشوّه إلى مسخ عام قد استحكم في البشرية على تفاوت –طبعًا- بين الشعوب والجماعات والأفراد.

الانمساخ والتحوّل عن فطرة الله

تعدّدت صور هذا الانمساخ الكبير، فمنه ما مسّ الروح، كالشرك بالله، إذ كيف يترك البشر عبادة الإله الواحد إلى التوجّه لأنواع لا تنقضي من الأصنام والفراعنة والأوهام؟. ومنه مسخٌ مسَّ المفاهيم والأفكار، كالمكيافيلية في السياسة مثلًا، ومنه مسخ أخلاقي، كالفعل الجنسي القبيح الذي أصر قوم لوط عليه السلام الذين قالوا عن لوط ومن آمن به وأهله: ﴿أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: 82]

إن المسخ الاجتماعي الشامل يبدأ صغيرًا ثم يكبر، فهو ينمو بالتدريج، ويتسلّل إلى النفوس والقلوب بهدوء ماكر. وقد ضرب لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا فقال: (كيف بكم أيها الناس إذا طغى نساؤكم وفسق فتيانكم؟  قالوا: يا رسول الله، إن هذا لكائن؟ قال:  نعم، وأشد منه، كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟  قالوا: يا رسول الله، إن هذا لكائن؟ قال:  نعم، وأشد منه، كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا؟) [أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط]

كما أن من صفات هذا المسخ أنه يقلب الموازين بحيث ينعدم التمييز بين الخير والشرّ، وبين الصواب والخطأ، وهذا مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويخوّن الأمين) [أخرجه أحمد في المسند والترمذي في السنن].

مكيافيلي

مسالك التشوّه

إن المرء لا يبقى على سلوك واحد ما لم يفتّش عن الحق دومًا، فتراه يتأرجح بين الاستقامة والانحراف، بل بين الإسلام والكفر، ففي صحيح مسلم عن نبينا الكريم: (بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مسلمًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، وانظر –من هدي هذا الكلام- إلى حال المجتمعات المعاصرة اليوم، كيف فقد أكثرها البوصلة الصحيحة بشكل شبه تام. فاللامعنى أصبح –يُسمّى- فنّاً، والمقاومة تسمى إرهابا، وتعدد الخليلات مشروع بشرط عدم توثيقه بالقانون، وتدمير الأرض يسمى تنمية، وصار قتل الشعوب ممارسةً للسيادة، والتزام أحكام الشريعة تشدّد، وتحريف الدين يسمى اجتهادا، وغدَتْ السرقة ذكاءً، والاستعمار تعاونًا دوليًّا، وضياع الهوية انفتاحا… الخ.

وهذا التشوّه أصاب نظرة الناس للدين أيضا، أي فهمهم له، أما أصله من الكتاب والسنّة فمحفوظ. ألا ترى كيف يتعلّق كثير من المسلمين بمظاهر التديّن وقشوره في حين لا حياة لقلوبهم ولا إيمان، فأثمر ذلك انفصاما اجتماعيا وفشلا تربويا وتراجعا حضاريا؟ وقد خصّص المفكر الكندي آلان دونو كتاباً مستقلاً لهذا الانمساخ الكلّي، عنونه بــ” نظام التفاهة”.

يهدف هذا الانمساخ أو نظام التفاهة –بعبارة دونو- إلى استبعاد القيم الإنسانية الأصيلة من أيّ اعتبار، وحصر الاهتمام في مصالح المال والأعمال وتحقيق الشهرة… لذا كان سلاحه هو التسطيح وتعميم البلاهة. وقد نجح هذا النظام في إبعاد الناس عن الشؤون الكبرى والعامة، وإغراقهم في الهموم الفردية والاهتمامات السخيفة، ولذا يدعو دونو إلى تغيير جذريٍّ يواجه هذا النظام الذي يقتل السياسة والثقافة والروح.. ويجعل من الناس مجرّد قطيع يتشابه في كل شيء ويسهل قيادته إلى المذبح.

آلان دونو

 الانمساخ بين السابق واللاحق

إن القيامة لا تقوم قبل أن يظهر المسيح الدجّال، كما أخبرنا بذلك النبي عليه الصلاة والسلام في عدد كبير من الأحاديث الصحيحة. والدجال يمثّل المسخ مجسّدًا، ولذلك تذكره بعض الروايات باسم: المسيخ الدجال بالخاء، فهو نفسه مشوّه الخلقة ذو عين واحدة، وكأن في ذلك إشارة إلى أن أصل المسخ المعنوي في البشرية أنها ترى بعين واحدة وتسير على قدم واحدة… فالحضارة الحديثة العرجاء والعمياء تقوم على المادة فقط وتلغي الروح، وتقوم على العقل دون الشعور، وحدّها الدنيا ولا تعرف الآخرة.. وهكذا.

إن المسيحَ الدجال أيضا تجسيد واضح لانقلاب المعاني وتبدّل الموازين، ومن ثمّ فإنه الصورة المضادة للمسيح عليه السلام، لذلك تُعرّفه المسيحية –والتي تؤمن بدورها بقدوم الدجال- بأنه “نقيض المسيح Antichrist.” ونؤمن كما في الأحاديث الصحيحة أيضًا أن عيسى المسيح عليه السلام هو الذي سيقتل الدجال.

الدَّجَل يسبق ظهور الدجال، والمسخ يسبق ظهور المسيخ.. ولابد من وجود الدجاجلة الصغار الذين يمهّدون للدجال الأكبر. والمتأمل في عالم اليوم يلاحظ انتشارا مهولا للدّجَل على مختلف الأصعدة، وكثرة في الدجالين من كل نوع وصنف. وهنا لابد من ملاحظة أن للإعلام بمختلف وسائله النصيب الأكبر في نشر الدجل على مستوى العالم وبين جميع الطبقات والجماعات. وفي عصرنا وصل التلاعب الإعلامي إلى أقصاه بحجب بعض المعلومات أو تقديم معلومات مغلوطة أو الإيحاء أو تحويل انتباه المتلقي إلى جهة معينة أو استعمال أدوات الدعاية والتزييف والتأثير النفسي.. وانتقل الناس من العكوف خاشعين أمام التلفزة إلى العكوف بخشوع أكبر أمام الهواتف النقالة، في تفاصيل كثيرة تشكل اليوم موضوعا مستقلا للبحوث والدراسات.

أخيرًا نقول

 كما أن بعض البشرية يرتفع ويسمو حتى يتجاوز الملائكة في طهرها وصدقها.. فكذلك يحدث لبعضها الآخر أن تنحطّ وتتراجع إلى ما دون المرتبة الحيوانية: ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]، بل إلى ما هو أقلّ من الجماد: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 74].

إن المسخ هو خروج عن الطريق المستقيم وتوهان في سبل شتى كلها تؤدي إلى الضياع. والقرآن حين ذكر مسخ بعض الناس قديمًا على قردة وخنازير إنّما يوجه الأنظار إلى عواقب التنكّب عن دين الله تعالى في مقدور المُكلّـفين حيث هم أحرار، لكن لابد أن يكون له ثمن بفقدان شيء يقلّ أو يكثر من إنسانية الإنسان. لذلك كان المسخ المعنوي في البشرية سنّة إلهيّة ماضية إلى يوم القيامة، ولا تختص بزمن دون زمن، أو أمة دون أمّة، وتبقى حقيقة المسخ هي العبودية لغير الله تعالى، بما في ذلك عبادة الإنسان لنفسه وهواها.

فيلم Eternals ووقفةٌ مع أفلام الأبطال الخارقين

انطلق قبل عدة أيام فيلم Marvels الجديد Eternals في دور العرض الأمريكية وفي عدد من دول العالم، وكعادة أفلام الأبطال الخارقين صار الفيلم موضة بين الشباب الذين يريدون التسلي بحضوره ومعرفة شخصياته وقصصهم والقوى الخارقة التي يملكونها، إلى جاب الاستمتاع والنظر في المؤثرات البصرية المبهرة المرافقة لهم وإتقان كل مكونات الفيلم وتناسقها في العمل الترفيهي الذي أمامهم.

ولشعبية هذا النوع من الأفلام وانعكاساتها العقدية التي يغفل عنها كثير ممن يشاهدها للترفيه وجدت أن أفرد له بعض النقد لننتبه لأثره علينا ولا نستخف بقدرة هذه المدخلات التي تبدو بسيطة على التأثير في فكرنا وحياتنا من حيث لا ندرك.

الفيلم الذي يترجم عنوانه حرفياً إلى “الخالدون” يحكي قصته الخاصة لبداية الخلق، إذ يبدأ بعبارة “In The Beginning” تماماً كما يبدأ سفر التكوين -من كتب العهد القديم عند المسيحيين- ثم يحكي قصصاً تمزج بين النصرانية المحرفة، والميثولوجيا اليونانية القديمة، والميثولوجيا الإيرلندية وغيرها من الأساطير في قصة شخصياتٍ شبيهة بـ”الآلهة” والبشر وضعها كائن خارق ضخمٌ على الأرض لتحرس الكوكب أمام مخلوقات شريرة قد تدمره وتنهي وجود البشر عليه في أي لحظة.

من مقدّس إلى مسلٍّ!

إنها قصة قد تبدو بسيطة إن نظرنا إليها بعين المتلقّي المسترخي الذي يتناول البوشار وينتظر أن يرى ما يمتعه، لكنها تحتوي كثيراً من الأخطار العقدية والإشكالات الإيمانية التي لا ينبغي الاستهانة بها، فالكاتب بكل بساطة يقدِّم تخيُّله الخاص لنشأة الكون، ويطرح في إطار الترفيه تصوره عن الله والملائكة والشياطين وهدف الحياة، وينتقد منظومة الخير والشر التي يستمدها الإنسان من الله، فالشخصيات المكلّفة بحماية الأرض تتساءل في كثير من الأحيان عن مسؤولياتها وعن تماشيها مع ما تريد، كما أن الكاتب يقدم صورةً لما يمكن للإنسان العادي تحصيله إن تقرب من أنصاف الآلهة هؤلاء ورافقهم، وهو ما يشابه إلى حد كبير ما عرضته أفلام سابقة من نفس النوع -كفيلمي Thorو Hercules- لكن مع تمثيل أكبر وأخطر للخلق وهدف الوجود والإله الموجد كذلك.

thor

والإشكال في هذه الأفلام ليس في أن المشاهد قد يشرك تلك الشخصيات الخيالية بالله بشكل مباشر، فهو يعلم أنها خيال ووهم، إنما في أنها تجعل أمر الآخرة والملأ الأعلى والمعجزات والكرامات وعلامات الساعة ونهاية العالم أموراً مسلِّيةً مفتوحة للخيال والتنبؤ فضلاً عن السخرية والتسخيف، فيغيب عن قلبه أي قداسة للغيب والخوض فيه، وينسى تدريجياً أن الحديث في هذه الأمور محصور بالوحي المنزّه الذي يخبرنا بما لا يمكن أن نعلم دونه، وبذلك تختلط الأمور في ذهنه شيئاً فشيئاً بين الذي يراه بشكل متكرر ومتناقض معروض عليه في كل فيلم على حدة، والذي يقرأه في القرآن ويكرره في صلواته الخمس كل يوم، فإن كانت تلك الصلوات مُصلَّاةً على غفلة، وتلك الأفلام مشاهَدةً بتركيز وتغييب للنقد والمحاكمة وكثير من التكرار، فحين ذلك يتداخل الحق الغيبي بالأساطير لتصير كلها في ذهنه في خانة الخيال والفتنازيا لا أكثر.

ولعل تناقص هيبة الغيب في نفس من يكثر متابعة تلك المواد من أهم آثارها؛ إذ لكل منا نفس واحدة مهما حاولنا تخيل أنها مقسمة أو لا تربط الأمور ببعضها إذ تفكر فيها، فيصعب على الذهن وضع الإله ونهاية العالم وبدايته في خانة المتعة تارة وفي خانة الجد والخوف والرجاء والحب والعبودية والتسليم بعدها بدقائق قليلة، ومع هذا التناقض والاستمرار في غض الطرف عنه، تزول قداسة ذاك ويغيب عن النفس تذكر أن هذا منكر وهذا حق وهي لا تشعر.

الإنسان الخارق

يمكن عزو بدايات مفهوم البطل الخارق للفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” عام ١٨٨٣ و فكرة الإنسان المتعالي -فوق البشري- الذي يمكن لوجوده أن يبرر بقاء جنسه[i]، والذي رسم فيه الفيلسوف الملحد ما رآه أهدافاً ينبغي أن تسعى البشرية إليها بدلاً عن القيم الدينية المتجاوزة التي عرفتها الشعوب الغربية من قبل، فنيتشه الذي قال بـ”موت الإله” وضع الصورة الخارقة التي اخترع وسمى Übermensch كبديلٍ عن كل الثوابت التي كان يستمدها البشر من الإيمان، وكحماية لهم من السقوط في فراغ العدمية التي تختفي فيها كل الأرضيات التي يمكن التحاكم لها[ii] ، فكانت هذه الفكرة البشرية الخيالية لتمثل النموذجية التي ينبغي للبشرية السعي لها.  وفي عام ١٩٠٩ ترجم توماس كومون المفهوم إلى الإنكليزية ليصير باسم “Super Man” الذي ظهر لاحقاً في القصص المصورة ومن ثم الأفلام والمسلسلات بصورٍ مختلفة كثيرة.

وإن كانت فكرة نيتشة الفلسفية لا تظهر بوضوح في أفلام الأبطال الخارقين التي نرى اليوم، فإن نتائجها تتجلى فيها بلا شك. ففي هذه العوالم التي يرسم كتّاب الأفلام لا نرى أثراً لأي دعاء أو استعانة بالله أو التدين عند المصائب التي لا يوجد منقذ ولا أمل للبشرية فيها إلا في شخصٍ أو مجموعة أشخاص يشبهون البشر شكلاً ويملكون قوىً استثنائية تجعلهم قادرين على ما يحلم الناس العاديون بفعله، فمنهم من يطير ومنهم من يقرأ أفكار الآخرين ومنهم من يملك قوىً عضلية كبيرة ومنهم من يرى عبر الجدران وإلى غير ذلك مما يجعل الإنسان مستغنياً عن اللجوء للإله وباحثاً عن نجاته في بشرٍ خارق يشبهه ولا يشبهه.

هذا التمثل البشري للإله خطير عقدياً بما يدخل في ذهن المشاهد من أنه مستغنٍ عن الرب ببعض القوة والتكنولوجيا والتقدم العلمي الذي يجعله أيضاً يشبه البطل الذي يرى على الشاشة، وتجعله مثله قادرٌ على تجاوز كل المشكلات والارتقاء بجنسه بدون استحضار للغيب ولا الاستعانة بالإله، فمن تلك الشخصيات مَن قوته بدرعٍ متطورة صنعها مثل (Iron Man)، ومنهم من قوته بسيارات وطائرات ومخابر وتدريبات رياضية مكثفة خاضها كما لدى (Batman)، فما حاجة الإنسان عندها للتعبد واللجوء لمولاه؟ كيف سيستشعر ضعفه ويرضى به؟ ولم يمنع نفسه أياً من المتع الدنيوية إن كانت تلك الأمثلة التي باتت قدواتٍ تصور كل الخيرية تقضي يومها في قتال الأشرار وليلها في السُّكر والزنا والحفلات؟

ففي تلك العوالم نجد الخير والشر مبنياً على حكم البطل الخارق ومصالحه والقيم التي يختار، فهو الذي يحفظ السلام على وجه الأرض وهو الذي يقرر المبادئ التي على كل الناس التماشي معها، والقبول بها، ففي عالم الرجل الوطواط -مثلاً- يحق له التجسس بكاميرات مراقبة على كل المدينة وبدون إذن من أي سلطة لأنه الذي يحميها، وفي عالمSuperman  يحق له تحطيم أي متجر أو مقهى وهو يطير بلا انتباه ليلاحق الشرير الخطير، وفي عالم الرجل الحديدي نراه بشكل متكرر يسخر من الشرطة ورجال الحكومة الذين يعلمون أنهم لا يقدرون على مجاراة كفاءته وذكائه وحده، والغريب أننا كمشاهدين نتلقى هذه المواد بكل بساطة ولا ننتبه إلى ما تقوله وما تبني عليه في إطارها الترفيهي.

صورة من فيلم The Dark Knight (2008) تظهر كاميرات المراقبة التي وضعها البطل في كل المدنية

سحر الوهم

لعل من المشترك بين أفلام الأبطال الخارقين على اختلاف قصصها والشركات المنتجة لها هو امتلاؤها بالمؤثرات البصرية واعتمادها بشكل كبيرٍ على إتقان فريق كبير من المصممين لها، فالممثل في تلك الأفلام غالباً ما يقف أمام شاشة خضراء كبيرة يقوم بحركات بهلوانية أمام عصاً أو كاميراً يتظاهر فيها أنه يقاتل شريراً أو يتحول لشكلٍ آخر أو يستخدم قوة خاصة أو يسقط من سطح بناء دون أن يخدش، وإن كانت هذه المعلومة معروفةً لدى المتابعين  إلا أن سحر الصورة ودقتها تغيِّب عن ذهنهم حقيقة ما يفعله الممثل الواقف أمامهم، فهم وإن علموا أن الفيلم محشوٌ بالمؤثرات الخاصة إلا أنهم قد يغفلون عن المدى التي تذهب إليه تلك المؤثرات، فيتخيلون أن الممثل لديه جزء من القوة العضلية التي تظهر في اللكمة التي يمارس أو كل اللياقة البدنية الظاهرة أو حتى أنه يلبس اللباس الذي يظهر على الشاشة، بينما الحقيقة هي أن معظم الظاهر أمامنا في المنتج النهائي هو من صنع المحاكاة الحاسوبية التي يقوم الممثل بحركات متقطعة معينة يعيد المصممون ترتيبها فيه.

وهنا فإنه من الضروري التذكير للصغار والكبار الذين يكثر انبهارهم بما يشاهدون و غفلتهم عن أثره عليهم، فهم من ناحية يجهلون عدد الساعات التي قضاها فريق العمل في تجهيز كل مشهد من الفيلم، ومن ناحية أخرى لا يدركون مقدار الأموال التي أنفِقَت لنرى الفيلم بصورته النهائية التي تتناغم فيها حركات الممثل تماماً مع المحيط والمركبات التي يحلق فيها والأشعة الصادرة منه وغير ذلك، ومن آثار هذا الانبهار أن تغدو معايير الصحة البدنية عند اليافع مساوية لشكل جسد البطل الخارق الذي رآه ظاهر العضلات قادراً على رفع الأثقال والقفز والجري بشكل استثنائي، وإن لم يحدث شيء من ذلك فإن أقل ما تحدثه تلك المؤثرات هو إبهار المشاهد وتعطيل آليات تفكيره الناقد فيجد نفسه مستغرقًا في تأمل سحر الصور وبريقها المذهل، دون أن يلاحظ الإشكالات العقدية والفكرية التي تتسرب إليه خلال مشاهدتها.

في الأعلى: مشهد من فيلم Captain America: Civil War يظهر الفرق في الصورة قبل وبعد المؤثرات الخاصة.
في الأسفل: مشهد من أحد أفلام Avenges يظهر الفرق في الصورة قبل وبعد المؤثرات الخاصة. عن موقع Fame Focus

إني -وإن كنت- في هذا المقال أتحدث عن أفلام الأبطال الخارقين بشكل خاص، فإن كثيراً مما ذُكر يمكن إسقاطه على ما يسمى بأفلام الخيال العلمي أو الفنتازيا بشكل عام، ومن ذلك أفلام السحرة ومصاصي الدماء والمستذئبين وغيرها مما قد يوجه للصغار والكبار من الخيالات التي تصنع لذاتها عالماً خاصاً تحكمه قوانين يخترعها الكاتب وتحتكم شخصياته لمنظومات خير وشر خاصة بها كذلك، ولذا فإن دورنا كمؤمنين ومربين واعين أن نراقب نفوسنا أمام تلك المواد ونحدد تلقينا لها وموقفنا تجاهها لا كمشاهدين مستسلمين، إنما كمحللين ناقدين، وكذلك أن نعنى بالمقدار الذي يستهلكه أبناؤنا منها واستعدادهم لنقد محتواها وفهمه وتمييز أثره عليهم على الدوام.


[i] Arvhie Bland, Comic book superheroes: the gods of modern mythology, The Guardian, 2016.

https://www.theguardian.com/books/2016/may/27/comic-book-superheroes-the-gods-of-modern-mythology

[ii] Loeb, Paul. “Finding the Übermensch in Nietzsche’s Genealogy of Morality”. Journal of Nietzsche Studies. 42–4: 77 – via EBSCO Host.

بناء الأسرة بين الكمال وغسيل الأدمغة!

كتبت قبل عدة سنوات عن وهم الشريك المثالي في محاولة لتوضيح دوافع الزواج والعوائق المتعلقة بالاختيار الصحيح، وقد بيّنتُ أن شريك الحياة حريٌّ به أن يقيَّم من منظور الزواج المثالي والعيش المتوافق، فكل من الزوجين مكمِّل للآخر بطبيعة الحال، فالغاية السامية كانت وما زالت هي التوفيق بين الأزواج وتوسيع دائرة التفاهم لحياة ممتدة بالرضا والسعادة.

بالرغم من هذا فإن ذلك لا يعني بالضرورة وجوب وحتمية نجاح الزواج في أول تجربة لكي نتجنّب الانفصال، كما أنه لا يعني أن الزواج المثالي قد يغني عن تكرار التجربة، وبالطبع فإنه لا خلاف على هذا شرعًا، ولكن المشكلة هي في غسيل الأدمغة المستمر.

المبادئ المنسيّة

على العموم فإنه من الملاحظ أن مبادئنا أصبحت أشبه بالمثاليات والشعارات التي تظهر وقت الحاجة فقط لكنها تختلف عمّا حُفِر في عقلنا الباطن خصوصًا وتوافقه أفعالنا وألسنتنا على نحو واضحٍ عمومًا، وها أنا أجد في نفسي الحاجة الملحّة اليوم للخوض في هذه الأسباب وعواقبها التي حدت بالمجتمع إلى جملة من المشكلات المتلاحقة كتغيير مفهوم الزواج بما فيه من طبائع بشرية متغيرة إلى مؤسسة قائمة على الشراكة الوردية، وقل مثل ذلك عن أمور تالية كتحقير الطلاق ومؤسسة الزواج الموحد “مونوغرامي” وبغض تعدد الزوجات.

لنتساءل بداية: كيف زُرِع مفهوم الشريك “الوردي” في عقولنا؟

إن الأمر باختصار شديد، البداية كانت في صُنعِ تصوُّرٍ إعلاميٍّ -عبر الأفلام والمسلسلات القديمة- عن روعة هذا الشريك بمجرد ذكر الزواج، والتركيز على إحدى صفاته الأساسية وهي الحب والهيام والعطف المغرِق، وما دامت هذه الصفة موجودة ومطلوبة بطبيعة الحال لديمومة الزواج، فإن الجيل القديم (الناشئ حينها) لم يجد حرجًا في سماع الأشعار وقصص العشق والأغاني على مر السنين، على افتراض حسن النية طبعًا.

إلا أن الأمر تطور إلى قولبة هذا الحب على هيئة صور رمزية وتمثيله في كلا الجنسين، من حيث الحسن والجمال، ومن ثم تحرّكت الصور وتجسّد الحب في شريكين جميلين يعيشان قصة حب طاهرٍ يتكلّل دائمًا بالزواج والحياة السعيدة المديدة والكلام والخجل والغزل والنظرات وغيرها من الأفعال التي سحرت القلوب وأغوت العقل منذ الصغر بوجود قرين في الحياة من الإنس بَهِيُّ الطلعة لابد أن ترتبط به وتنتهي بعدها القصة لأن النتيجة محسومة، ثم يكون -كما في المثل الشهير- (عاشوا في سبات ونبات وخلّفوا صبيان وبنات).

بعد حين من الزمن –أي حين تشبّعت الأنفس فكرة الحب المرتبط بحسن المحبوب-، بدأت تُدَسُّ الخلافات في قصص جديدة بين الأحباب، ويتوجّس المشاهِد، هل ما يراه هو الحبيب أم الخائن، مع توجيه الوعي الداخلي نحو فكرة احتمال تعثر الارتباط الدائم في حال غاب التعارف قبل الزواج، لذلك كان لابد من الاختبارات لقطع الشك باليقين فلم نعد نسمع العبارة المستهلكة (أنا قصدي شريف). وهذا يعني أن الحياة السعيدة المديدة كما وثقها الإعلام المرئي والمسموع على حد سواء، مرتبطة بأحداث العشاق من إثباتات مادية وتضحيات عائلية وتنازلات أخلاقية وتبديل ديانات –وربما- محاولات الانتحار!

تدرُّج الغواية!

دعني أمرّ سريعًا على عدة أمثلة لتوضيح وإثبات ما ذكرته أعلاه من تحوير مقاصد الزواج وحصرها في البحث عن الشريك المثالي وتداعيات الحصول عليه:

غنَّى أحدهم في الثمانينات قائلاً:

ياريت تعرف شو بصرلي … لتطل قبالي شي طلة

ها العقدة صار بدها حل … وصار لازم روح أحكي فيها

وبعد مرور أكثر من عشرين عامًا، غنّت إحداهن قائلة:

خليني شوفك بالليل … الليلِ بعد الغروبِ

مش عيب “الملأى” بالليل … الليل بيستر العيوبي

أرأيت هذا التدرُّج؟

في الثمانينات، كانت المعضلة الرئيسية أمام زواج الأحباب في المسلسلات الدرامية هي الخلافات العائلية واختلاف الوسط الاجتماعي، وقد شاهدنا ذلك في كثير من المسلسلات مثل “الشهد والدموع”، “ليالي الحلمية”، و”المال والبنون”، أما الآن؛ فإنّ الزواج ذاته غير مهم بقدر ما هو مهم أن يكون الحبيب عاشقًا، حتى لو أحبّ المرء زوجة عمه مثلًا أو خيانة الحبيبة بمعاشرتها أخا الحبيب وهو المتزوج أصلًا إلا أنها تغويه لتستدرجه، كما عُرض ذلك في العديد من المسلسلات المدبلجة والعربية -للأسف-.

في أفلام الثمانينات: يحب الرجل ابنة رئيس العصابة إلا أنه شرطي، أو تحب الفتاة الفقيرة الابن الغني صاحب النسب والحسب ويحبها رغم الفقر والتشرّد، لتكون النهاية السعيدة في هذا النمط بالزواج.

لننظر الآن في أفلام اليوم: أزواج متنافرة لا تعدم كثرة العشيقات والعلاقات المحرّمة السرية أو العلنية، وقد تأتي هذه الأحداث على هامش الفيلم كجزء من الواقع المحيط وليست في الأصل الحبكة الفنية لقصة الفيلم.

أين الخلل؟

لعل تحديد الخلل المفصّل قد يحتاج لمؤلفات وشروح طويلة، إلا أن الخلل بمظهره العام في استساغة المجتمع للعبثية الأخلاقية الموجهة في تفكيك الأسر، -كما أشرت أعلاه من واقع العرض المؤسف- هو الطَّرْق المتواصل والمتزايد في الحدة، حتى إذا ما تأصّلت الفكرة في النفوس واعتادها المشاهد وأعادها في حياته إلى أن رآها طبيعيّة بوجهٍ ما، اختلفت المطرقة واختلف موضع الطَّرْق، إلى أن تأخذ عقولنا بعد حين من الزمن شكلاً غريبًا، لا يضع قِيم الزواج وأهدافه ومسؤولياته نصب الأعين مثلما يفعل للحب، وفي الوقت ذاته يرفض أمورًا عديدة في هذا الزواج، لعل أبرزها الطلاق والتعدد، وربما الحديث في حقوق الزوج ومفهوم الطاعة فيما أمر الله.

إن الطلاق يعارض النظرية المدسوسة للحياة المديدة السعيدة مع الحبيب الأول، كما أن التعدد يعارض النظرية الأخرى للقرين المخلوق لأجل المحب. والنتيجة المستقبلية أن مجتمعاتنا لن تختلف عن المجتمعات الغربية التي منعت قوانينها الطلاق والتعدد، وحينما اختلف الأزواج تعددت الخيانات واختلطت الأنسال.

إن المشكلة الأكبر ليست في نتائج غياب هذه القوانين، بل في تسهيل تعارف وتقارب الجنسين قبل الزواج (مثل الدراسة المختلطة) كوسيلة لتجنب النتائج السيئة السالف ذكرها، فكانت الطامة الكبرى بانحراف المراهقين وتعدد العلاقات الجنسية، والحمل المبكر خارج مؤسسة الزواج، وانتقال الأمراض الجنسية …إلخ. وما زالت الحلول تقترَح لتصبّ في الاتجاه ذاته، من خلال إقرار مواد تعليمية للجنس في مرحلة مبكرة لتثقيف النشء وتوعيته بالاحتياطات اللازمة لمنع الحمل وانتقال الأمراض الجنسية حال تعرفهم على الجنس الآخر.

سؤال لا بدَّ منه!

واليوم نسأل: كيف لمجتمع شرقي أصبح يقدس الحب قبل الارتباط الشرعي وينبذ الطلاق والتعدد بشكل عام، أن يختلف في كيانه عن المجتمع الغربي ومشاكله؟

الطلاق والتعدّد، أباحهما الشرع –بشروط- كأدوات إصلاح في ردء كيان المجتمع ودرء المفاسد عنه، وذلك تماشيًا مع ضوابط الدين في تنظيم حدود العلاقة بين الجنسين خارج مؤسسة الزواج ومحارم العائلة.

هذه الضوابط وجدت لتدعم أدوات بناء أفراد المجتمع وتهيئتهم لتأسيس زواج ناجح، كالتحلي بصفات الأدب والعفة والمروءة ومكارم الأخلاق، والاعتماد على النفس، والتراحم واحترام الآخرين وودهم ومعاونتهم وتقدير عونهم، والصدق ومهارات التواصل وغيرها. الأصل هو التركيز على أدوات البناء، فما أحسنت بناءه، قلَّت أعطاله. ولكن في حالة التقصير في بناء الأفراد وتعريفهم بمسؤوليات الأزواج، سينجم عن التطبيق الصارم لهذه الضوابط الدينية، اختلافات فردية في الزواج تتطلب تدخل أدوات الإصلاح. والعكس صحيح، في حالة الإخلال بضوابط الدين، قل تركيز الأفراد على أدوات البناء، وزادت فرص استخدام أدوات الإصلاح في الزواج. بمعنى آخر، تتضاءل احتمالية اختلاف زوجين تشاركا أدوات البناء ذاتها، وأي شذوذ عن هذه القاعدة، تتكفل دائما بتصحيحه أدوات الإصلاح، إما لخلق فرص جديدة بإعادة ربط الأفراد الصالحة أو تدعيم مؤسسة الزواج بفرد صالح جديد. هي منظومة متكاملة لتنمية مجتمع يعتمد على الزواج المثالي في تثبيته الترابط وخلق بيئة صالحة وصحية أخلاقيًّا لتربية لجيل القادم.

النسويات ومعضلة أميرات ديزني

يعتقد الكثيرون أن أفلام ديزني الكلاسيكية جسدت قصص الأميرات العالمية بطريقة ساحرة خلابة تظهر فيها شخصية الأميرة بشكلها الرقيق الطيب الحالم، ومن ذلك أن باكورة أفلام ديزني للأميرات (بياض الثلج) محفوظ في السجل الوطني للأفلام بعد أن اعتبرته مكتبة الكونجرس الأمريكية عملًا هامًّا يستحق الاحتفاظ به، إلا أنّ التيار النسوي لم ينظر يومًا لهذه الأفلام بنفس الطريقة التي ينظر إليها هؤلاء؛ فقد كان -وما زال- يمقتها ويعمل حثيثًا على تغييرها لتتماشى مع أجندته.

بدأت معضلة أميرات ديزني مع النسويات عندما خرجت تلك الأفلام الموجهة للأطفال لتمثّل الصفات المثالية للفتاة حتى تصبح أميرة حقيقية يتنافس عليها الأمراء للزواج بها، لكنها جسّدت صورة نمطية مرفوضة لدى النسويات عن دور المرأة في المجتمع في ذلك الوقت، ففي حين ترى أنت الأميرة فتاة رقيقة مرهفة الحس والأنوثة، فإنهم يرون فتاة كل آمالها في الحياة أن تعتمد على شاب أمير ووسيم، وبين أن ترى فتاة طيبة لا تؤذي مخلوقًا، فإنهم يرون فتاة بلا مهارات أو قدرات ومحل تقديرها فحسب جمالها الذي يتحدث عنه الجميع، وبين أن تكون فتاة تستحق تضحية فارسها الشجاع من أجلها، في حين أنهم يرونها ضعيفة مستسلمة لقدرها بأنها امرأة وتنتظر من ينقذها، لذلك ليس غريبًا أن تحارب النسويات من أجل قلب صورة الأميرة في قلوب الكثيرات لتعكس الكيفية التي يرين المرأة من خلالها -كما سأبين لاحقًا-.

أفلام أميرات ديزني بين الطبيعي والنسويّ!

في دراسة كمية أجرتها المتخصصتان في اللغويات (كارين آيزنهاور) و(كارين فاوت) عام 2016 على أفلام ديزني للأميرات، وجدتا أنه يمكن تقسيم الحقبة التي أنتجت فيها بحسب التغير الطارئ على شخصية الأميرات ودورهن في القصص. قيل إن الدراسة كانت بهدف بحث تأثير الأميرات في طريقة كلام الأطفال كل بحسب جنسه –جندر-؛ إلا أن البحث كشف عن إحصائية مثيرة للسخرية فيما يخص دور المرأة ومقارنته بدور الرجل في قصة تدور بالأصل عن المرأة.

أطلقت الدراسة على البداية مسمى الحقبة الكلاسيكية بين عامي (1937 -1959) والتي أخرجت (بياض الثلج) و(سندريلا) و(الجميلة النائمة). وجدت الدراسة أن نصيب النساء من الحوار في هذه الأفلام مساوٍ أو أكثر من نصيب الرجال لكنها أشارت إلى الدور المحدود للمرأة بالتأثير في مجريات الأحداث، إلى جانب تركيز الفيلم أكثر على صنائع الرجال في القوة والشجاعة والتصدي للأشرار والعبث المضحك. وأكثر من ذلك، فإن نسبة توجيه الرجل للمرأة في القصص (سواء كان أمرًا أو طلبًا أو نصحًا) مرتفعة جدًّا مقارنة بنسبة توجيه المرأة للرجل. وهو أمر استهجنته الدراسة في قصة تدور عن فتاة لكن يتصدر الأحداث الشيقة والمضحكة الرجل ويتحكم بمجرياتها.

بياض الثلج، من أميرات ديزني

بياض الثلج

ثم جاءت حقبة النهضة (1980-1999) عبر دور الأميرات في أفلام (الحورية الصغيرة)، (الجميلة والوحش)، (علاء الدين)، (بوكاهانتوس) و(مولان)، حيث ظهرت صفات جديدة للأميرات مثل التفكير باستقلالية والتمرّد على التوجيهات بتصرفات معاكسة وهو ما نال مباركة النقاد في حينها. لكن الدراسة أظهرت تراجع النصيب الكلامي للنساء في الحوار بدرجة كبيرة لحساب الرجال، كما ظلّت المرأة تبحث عمن يتزوّجها دون أن توجّه أحدًا أو تقود أحدًا أو حتى تخترع شيئًا.

وتشير (آيزنهاور) أن جزء من المشكلة في ذلك هو الشخصيات العاملة في هذه الأفلام غالبًا من الذكور، وأدى ذلك إلى أن تظهر أمثلة أنثوية قليلة عن طاقة النساء وقدرتهن ونفعهن في المجتمع. وفي حين توضح الدراسة نسبة تفوق 55% في إطراء النساء على مظهرهن في الأفلام الكلاسيكية وبالكاد تتجاوز نسبة 11% لقدراتهن، تراجعت نسبة إطراء مظهر النساء إلى 38% في أفلام النهضة مقابل زيادة إلى 25% لقدراتهن. وهو ما عدته الدراسة مؤشرًا جيدًا على تحسن شخصية الأميرات عن الصور السابقة.

مولان، من أميرات ديزني

مولان

أما الحقبة الأخيرة فهي الحقبة التي حُطِّمت فيها الصورة النمطية للأميرة للأبد، حقبة العصر الجديد والتي ابتدأت في 2009 بـ(الأميرة والضفدع)، مرورا ب(متشابكة) و(شجاعة) وأخيرًا (متجمّدة)، حيث إن هذه الأفلام قلبت الموازين في النص، وأظهرت نسبةً عاليةً لإطراء المرأة على قدراتها ومهاراتها وإنجازاتها بنسبة 40% وتراجع الإطراء على الشكل بنسبة 22%. الفضل في ذلك يعود إلى أن فكرة قصص الأفلام في كتابتها وإخراجها جميعها جرى تحت إشراف طاقم نسائي بالمجمل كما نشرت صحيفة واشنطن بوست في مقال تكلم عن نتائج أبحاث (آيزنهاور وفاوت) وقد أضاف إلى ذلك ما صرحت به الكاتبة (بريندا تشابمان) مسبقًا بأن شخصية الأميرة (ميريدا) في فيلم (شجاعة) قد صممت خصيصًا لتحطيم الصورة النمطية عن أميرات ديزني. (ميريدا) التي خالفت الأعراف بتصرفاتها الصبيانية ورفضت أن ينحصر دورها في الزواج والإنجاب والتربية كأمها، ونزلت ميادين الرجال لتنافسهم في الشجاعة وقوة الرمي وغيرها مما يفعله ضخام الأبدان، قد أعطت نموذجا آخر للصغار عن شخصية الأميرة الجامحة والمستقلة بقدراتها عن الرجل. ثم أتت أميرة الثلوج (إلسا) لتتوج ذلك بقيادتها وتوجيهاتها الحكيمة لقومها.

ميريدا، من أميرات ديزني

ميريدا

الأميرات والأمراء، هيّا لنسخّف القضيّة!

بعد أن تحقق الإنجاز المشار إليه، لم يكن هناك مانع من احتفال بسيط للنسويات عبر جمع كل النسخ السابقة من الأميرات والاستهزاء بقصصهن في أحد المشاهد من فيلم ديزني (رالف يكسر الإنترنت). فقد أشار كاتبا الفيلم (فيل جونستون وباميلا ريبون) عن فكرة هذا المشهد وتحدثا بأنهما أرادا تفكيك شخصيات الأميرات وابتكار مشهد نسوي تقدمي في إطار مضحك.

يبدأ المشهد بظهور الشخصية الرئيسية في الفيلم (بينولبي) والتي تطلق على نفسها أميرة لكنها لا تشبه الأميرات في شيء، تظهر في غرفة تجمع الأميرات الاثنتي عشر بفساتينهن الشهيرة، وهنا تتأهب جميع الأميرات في وقفة قتالية مع تعابير الوجه الغاضبة مستخدمات أسلحة رمزية من قصصهن، أما الأميرة (كاثرين – من فيلم الجميلة والوحش) فتحمل كتابها التي علّمت عنه أميرها لتضرب به، والأميرة (ياسمين – من فيلم علاء الدين) تحمل مصباحها دون الاستعانة بالجنّي الذي ساعد أميرها للوصول إليها، أما (سندريلا) فتمسكك بحذائها الزجاجي الذي كان يوما ما أملها الوحيد في تعرف الأمير عليها وتكسره بشكل حاد ليتحول إلى سلاح قاطع، وهنا تحاول (بينولبي) إقناع الأميرات أنها أميرة مثلهن، لينهال وابل من الأسئلة السخيفة تطرح فيه كل أميرة مقارنة عن واقعها السابق لتقابله (بينولبي) باستغراب شديد. لكن الجميع يتفق على أنها أميرة عندما يُطرَح عليها سؤال المليون كما يقال (هل يفترض الناس أن جميع مشاكلك ستحل لمجرد ظهور رجل ضخم قوي في حياتك؟) وتجيب (بينولبي) باستنكار: (نعم ما بال هؤلاء!).

ويستمر تسخيف تصرفات الأميرات السابقة خلال المشهد من تأملات الطبيعة والشدو بالغناء لبث همومهن. وبعد أن تستبدل الأميرات ملابسهن التقليدية لتشابهن (بينولبي) بملابسها العصرية، تقوم الأميرة (أورورا – الجميلة النائمة) بالارتماء على فراش حديث واصفة هذا الرقاد المريح بأنه الحب الحقيقي وكأنها تستغني عن حب من حارب الشريرة لأجلها وأيقظها من غيبوبتها.

أما الأميرة (بياض الثلج) فتلبس قميصا مطبوع عليه التفاحة المسمومة على هيئة جمجمة، وكأنها أصبحت قادرة على التلاعب بهذا الخطر الذي هدد حياتها يوما وأحوجها لإنقاذ أميرها. أي أن جميع الأميرات لم يعد يحتجن حب الرجال وتضحياتهم فهن قادرات على التكفل بأمرهن دون عون، بل أثبتن أنهن من ينقذن الرجال كما يأتي في مشهد لاحق من الفيلم نفسه، يتجلى فيه ازدراء دور الرجل المتهم بتحجيم دور المرأة سابقا. فها هو (رالف) الرجل الضخم يسقط من برج شاهق لتصيح إحدى الأميرات (رجل ضخم قوي يحتاج للإنقاذ!) فتظهر كل أميرة مهارتها في الإغاثة لينتهي (رالف) لابسًا فستان (بياض الثلج) وغائبا عن الوعي في سرير. وكأن النسويات يقلن (نم أنت أيها الرجل فلا حاجة لك بعد اليوم).

ديزني وطغيان التمركزُ الأنثوي

قد تظن أن الأمر توقف هنا، لكن يؤسفني إخبارك أن الأمر ليس كذلك! فما زالت عملية تصيّد شخصيات النساء في الأعمال الناجحة السابقة لأفلام ديزني وإظهار أدوارهن في أجزاء لاحقة بطريقة فوقية على الرجال تهمش دورهم. هن أصحاب القرار، هن محركات الأحداث، وهن من يصنعن الحلول عندما يعجز الرجال.

لنقف على سبيل المثال عند شخصية راعية الأغنام (بو-بيب) الهادئة اللطيفة في فيلم (حكاية لعبة 1995)، حيث تظهر في الأجزاء الأولى متعلقة بالشرطي (الشريف وودي)، تخشى عليه دائمًا وتعتبره حلال المشاكل، وتشجعه دائمًا وتدفعه للخير، لكنها لم تبق كذلك في الجزء الرابع من الفيلم عام 2020، حيث تنزع تنورتها وصدّارها الريفي وتظهر بالملابس الأساسية تحتها، واضعة رباطا طبيا على ذراعها وقد حولت عصاها من رعي الغنم لسلاح تحارب به.

يلتقي (وودي) بـ (بو-بيب) فيندهش من جرأتها ومهارتها، وبعد أن يعجز (وودي) في اقتحام محل خردوات لينقذ صديقه، تقوم (بو-بيب) بتنفيذ مجازفة خطيرة لإدخاله ومساعدته في حل مشكلته.

ولنقف عند مثال شخصية المرأة المطاطية في فيلم (الخارقون 2004)، حيث كانت في الجزء الأول الزوجة التي تعتني بالمنزل والأولاد وتحاول حل مشاكلهم، وتضطر حينها لخوض القتال بعد أن تجرّها غيرتها على زوجها، وتحاول طوال الوقت حماية عائلتها بينما زوجها يقارع الشرير، أما في الجزء الثاني عام 2018 فإن الصورة تنقلب إلى الضد، فتصبح هي البطلة التي تحارب الجريمة وزوجها يجالس الأطفال في المنزل ليساعدهم في واجباتهم ويتدبر أمور حياتهم المعيشية.

وبينما تتفانى المطاطية في تتبع الأشرار بحرفة وذكاء وتحل ألغازهم دون عناء، يزول غرور زوجها السيد الخارق سريعا في المنزل ليظهر مُجْهَدًا مُتعَبًا بعد ليلتين فقط، فيطلب المساعدة من العمة (إدنا) في رعاية الطفل (جاك) كي تخفف عنه عبء مسؤوليات المنزل.

وثمة مثال أخير في شخصيات ديزني النسوية، ففي فيلم عائلة (كرودز 2013) حيث الحبكة الأساسية تكمن في تعارض قوة الأب (جورج) وخياره في الاختباء في كهف بحنكة الشاب (جاي) وتطلّعه لمكان أفضل للعيش، ولم يكن هناك دور للنساء في القرار سوى الاتباع والاعتماد على قوة المجموعة للبقاء، إلا أن في الجزء الثاني عام 2020، تفشل قوة (جورج) وتنتهي حنكة (جاي) ويُختطَفُ الرجال جميعًا ويعجزون حتى عن الفرار، لتأتي عصبة نسائهن (أخوات الرعد) كما أطلقن على أنفسهن، ليقمن حرفيًّا بكل شيء من تتبع أثر الرهائن وهزيمة جيش القردة، ودحر البابون العملاق وتحرير الرجال قبل أن يصبحوا طعام موز، ويختتم الفيلم بمشهد الرجال وهم يخبزون للنساء.

ثم ماذا؟ مخاطرُ وآثار!

ربما كان هناك حاجة فعلًا للتغيير وإظهار الدور الفعال للمرأة في المجتمع، لكن لماذا حصل ذلك على حساب الصفات الحميدة الموافقة لفطرة المرأة؟ ولماذا يجب أن يكون دورها الفعال منافِسًا للرجل ومستقلًّا عنه؟ أليس جزًءا من المشكلة هو شذوذ بعض النسويات ودفعهن في هذا الاتجاه المنفصل؟ إلى أين سينتهي المطاف في هذه التغيرات التي يشاهدها الأطفال ويعالجون تصرفات الشخصيات ويستنتجون منها الفروقات بين الجنسين؟

هناك عدة دراسات تبين أن ديزني في طريقها للوصول إلى نسخة أكثر وضوحًا من الأميرة (الأندروجية– المخنثة التي تجمع بين العضلات والأنوثة)، وهي نتيجة بديهية إذا ما أخدنا في الاعتبار التطورات المستمرة على دور المرأة، فقد انحرفت لمجاراتها الرجل في كل شيء بدعوى نيل حقوق المرأة، وفي ذات الوقت صادقت على اعتراف ضمني بحقوق الجندر في تقرير مصيره الجنسي.

كما تبحث تلك الدراسات ما يطلق عليه ترميز الشذوذ في بعض شخصيات أفلام ديزني الشريرة بحيث لا يكون جنس الشخصية واضحًا أو طبعه غير متفق مع جنسه. وبالرغم من جميع هذه الدراسات فإنه ليس هناك عدد وافٍ من الدراسات التي تبحث تأثير شخصيات هذه الأفلام في هوية الطفل الجنسية. لكن من الواضح أنه لن يصعب على الولد في المستقبل القريب بعد مشاهدة فيلم ديزني أن يقول: “أريد أن أصبح قويًّا كتلك الفتاة”، أو تقول بنت: “أريد أن أصبح فاتنة مثل ذاك الشاب”.

وقد لا يبدو في ذلك مشكلة إطلاقًا لدى الغرب الداعم لحقوق الشواذ، بل هو في رأيه الحق المطلوب اليوم للأطفال في تحديد هويتهم الجنسية عند المتحررين من الدين، لكن ماذا عن أطفال أمة الإسلام التي غمرتهم منتجات ديزني في بلادنا بشخصياتها الخيالية على الملابس والألعاب والأدوات المدرسية؟

نحتاج لوقفة مطولة مع الجهود اللازمة لتوعية أطفالنا عن أفلام قيّمت بأنها صالحة لمشاهدة جميع العائلة، وربما توعية الكبار قبل الصغار.


المصادر

http://www.kareneisenhauer.org/wp-content/uploads/2017/06/Eisenhauer-Capstone-Excerpt.pdf?fbclid=IwAR0SMhZ07JuzrD4EZeF-n0BnWUKVHz8_G71ht9I2VBWGcNzi73spVbP8HAQ

https://grad.ncsu.edu/wp-content/uploads/2017/04/EisenhauerPoster17.pdf?fbclid=IwAR1NWpzLKAB-uVFgVGy7GCXLBZ6y2vjcxLuyBEo04tbfgHfR0sl8TyFnyJg

Disney Princess Movie Marathon: How to Watch These Movies in Chronological Order

https://www.washingtonpost.com/news/wonk/wp/2016/01/25/researchers-have-discovered-a-major-problem-with-the-little-mermaid-and-other-disney-movies/?fbclid=IwAR2cmzvwUIjK5VhQoSCxfq47deMmDWMRVvaKXHjSZkcJNiEkfQJqIs73vrc

The Rise of the Androgynous Princess: Examining Representations of Gender in Prince and Princess Characters of Disney Movies Released 2009–2016

Vanellope meets the Disney princesses

Disney Princesses save Wreck-It-Ralph

https://web.archive.org/web/20170312175257/http://www.marginsmagazine.com/2015/12/18/fabulously-fiendish-disney-villains-and-queer-coding/

 

فلسفة التفرّد في الإسلام

أبتدئ مقالي هذا بالسؤال الآتي: هل هناك أسمى من رسالة الإسلام لكي تصل عموم البشر وتخرجهم من الضلال إلى الهداية والنور؟

بالنسبة لنا –نحن المسلمين- فإننا لا نظن بغير ذلك. لكن هل يبرر لهذه الغاية النبيلة أن تعمّم عبر إغواء الناس بمن يعظّمونهم ويقتدون بأفعالهم وقراراتهم؟ ومن يقرأ في حادثة ابن مكتوم الأعمى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد أن الجواب “لا”، حتى إن كان ذلك يعني الوصول لأعداد غفيرة في وقت قصير ودخولهم الإسلام جميعًا، فلم تشفع غاية الرسول في دعوة أشراف مكة ليتبعهم أهلها، في دفع العتاب الرباني على عبوسه وإعراضه عمن قصده في السؤال ليهتدي إلى دين الله بنية صادقة.

ولعلّ الحكم في هذا، أن دخول هذا الدين يبدأ بتزكية النفس أولاً من الاتباع، اتباع الشهوات والهوى وما ينطوي فيهما من رجاء وابتغاء في الآخرين، فذلك جوهر تسليم الأمر كله لله تعالى، في رد الشر وجلب الخير.

هي العبودية الأمثل والأجدر للاعتناق، لأنها تحترم مشيئة الإنسان فتدعوه بمخاطبة عقله وإجابة أسئلته ومن ثم تستميل الإيمان في قلبه حتى يبلغ اليقين. إنها ليست عبودية رِقٍّ تسلب الإنسان حريته، بل عبودية رُقِيٍّ تضبط النفس البشرية وتهذبها بما يتوافق مع تكليفها.

عِبَرٌ لا بدّ منها!

نمرّ على هذه الحادثة التي خلّدها الله تعالى في كتابه العزيز، ونغفل عن ماهية تفرد كل إنسان في اختياره المكفول له حتى يلقى حسابه.

إن كل طفل يولد، يتعلّم مفتاح الحرية في كلمة (لماذا؟)، ويستمر الأطفال بممارسة هذه الحرّيّة في السؤال حتى يتوقف بعضهم في مرحلة ما، أهمّ الأسئلة بدأت بهذه الكلمة، وأعظم الاكتشافات نتجت عنها.

لماذا سقطت التفاحة؟ وكأن التفاح لم يسقط قبل ذلك من شجرته! إنه استفهام السببيّة الذي يُظهِر حرية عقلك في التفكير، ويدل على أنك لست خاضعًا لفهم من حولك، والذي يمكن أن يكون قاصرًا أو منحرفًا أو متقاعسًا ومؤدٍّ لعللٍ عديدة أخطرها أنه ليس هناك قدرة على الالتزام بمتطلبات التغيير أو حتى الرغبة في ذلك.

يمكننا أن نرى انعكاس أبعاد هذا الهدي الرباني في قصة الأعمى على ما وصلنا إليه من ضعف في هويتنا الإسلامية. ولا أقول بسبب قوة التأثير، بل هو ضعف حقيقي بدرجات متفاوتة تصل للافتتان التام.

أتباع الثقافة الغالبة

هم فئة يدينون في تصرفاتهم لما يملى عليهم بشكل غير مباشر، فيتابعونهم عبر التقليد والإجابة عن سؤال المظهر لديهم، كيف يلبسون؟ ماذا يأكلون؟ كيف يتكلمون؟ من يصادقون وينصرون؟.

يظنون أنهم عبيد لله تعالى ويدينون بحقه وعلى صراطه المستقيم فيما يفعلون لكنهم تابعون للمؤثرين حاملي لواء الثقافة المشوهة من الغرب على أنها جزء من حضارته. وأدهى من ذلك اعتقادهم أنهم أحرار في خياراتهم ومتفردين في اتخاذها.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، يا معلّمنا وقدوتنا لو كنت بيننا اليوم، فكيف نقول ونوضحُ لجنابك –حتى- أصغر خيارات المسلمين في حياتهم؟

تضع بعض الفتيات الطلاء على أظافرهن، وتخالف لون البنصر عن بقية الأصابع. تسأل إحداهن لماذا اخترت ذلك؟ فتقول: لا أعلم، قد رأيت هذا الشكل على أظافر غيري فأعجبني، ففعلت! فإن أعلمتها أن هذا الفعل يعرف أساسًا بـ(Femme Flagging)  في الثقافة الغربية بأنه كان سائدًا كإشارة بين الشاذين والشاذات لرغبتهم في ملاقاة نفس الجنس، فحينها –قد- تشعر بالخجل.

بمثال آخر، فإنك قد تتكلّم مع أحد الفتيان، فيحدّثك بفخر عن عمل قام به ثم يتبعها بحركة (Dabbing)، فتسأله لماذا اخترت هذه الحركة تحديدا فيقول: لا أعلم، حركة رائعة يفعلها الجميع. فإن أعلمته أنها إشارة رمزية لتدخين الحشيش بين مغنّي الراب، لربما شعر بالخجل.

والشعور بالخجل -على الأقل- أمر محمود؛ إذ إنّه مرتبط بالهوية الدينية ويضعها فوق الاعتبار. أما أولئك الذين ينكرون المعلومة، ويستخفّون بضررها، ويحفظون القاعدة الفقهية القائلة: “الأصل في الأشياء الإباحة” دونما تحرٍّ في البحث، فإن مفتاح الحرية لديهم يتحوّل من (لماذا)؟ إلى (لِمَ لا)؟ في كل جديدٍ طارئٍ مستحدَث.

بكل تأكيد فإن هناك فرق بين السؤالين ولو بدا ظاهرا الحرية فيهما، إلا أنّ الأول متحفِّظٌ والثاني متحرر. وبينما يتحقق الأول من الموانع والضوابط، نجدُ الثاني دافعًا للترغيب بالمنفعة واللذة كيفما اتفق. وهؤلاء “المتحررون” من الضوابط أولُ من يسارع لاتهام المحافظين بالتشدّد، وشعارهم في الحياة لكل بدعة جديدة أن “الدين يسر” وأن مضمون الرسالة الإسلامية العقدية أهم من هذه الشكليات المرمّزة. ولو أنك اقترحت عليهم جدلًا تزيين الأظافر بشعار الحزب النازي، أو حيَّيْتَهم بتحية هتلر، لرأيت الزجر والتشدد في الهوية الإنسانويَّة المستحدَثة!

حين يتحوّل التهديد الناعم إلى وحشٍ شرس!

تهديد الهوية الإسلامية هنا تحديدًا ليس في اتباع المسلم للسمت العام المتحرر وتعرضه للزلل في السلوكيات الناجمة عنه، فكل امرئ –غير معصوم- ضعيف أمام المغريات وقد يقع في الأخطاء، وإنما التهديد هنا بارتضاء التبعية وما تبطنه من قناعات قد تتعارض مع الإسلام دون التثبّت منها، بحيث يتأثر تدريجيًّا بأفكار ما بعد الحداثة التي يهمين على محتوى قنوات التواصل الاجتماعي، والتأثر بالبيئة الخصبة لترويج الاستهلاكية واللحظات الآنية والسخرية.

فوق ذلك، نرى أولئك وجوه الإعلام الافتراضي المؤثرين -ممن يرسّخ هذا الفكر- يسعون لإضفاء طابعهم الشخصي المتفرّد في كل أمر عن علم ودون علم، وفي أحيان كثيرة يصبح رأيهم بمثابة التشريع لمتابعيهم.

إن المفارقة هنا أن القول السديد عند غالبية المؤثرين يفصّل على قياس سعة قبول المتابعين، فلا أحد يريد أن يخسر متابعيه. وفي غياب المرجعية الدينية وتحت وطأة اعتناق هذا الفكر اللقيط والمضطرب ذاتيًّا، سواء من المؤثر أو المتابع، لا مناص من انتقاد الإسلام بنفس كيفية التشكيك في جزئيّات العقيدة والعبادات والمعاملات، وتغليب أجزاء على بعضها؛ وهكذا يغدو من الطبيعي الإيمان بأن الله الرحيم سيدخل الملحد الخلوق الجنة! وأن في بعض مناسك الحج مظاهر وثنية يجب أن تلغى! وأن الاقتراض مع وجود أضرار الربا تَحِلُّ للمحتاج! وغير ذلك مما يقدّمه هؤلاء المؤثرون، وكل هذا على فرض أن المؤثر الجاهل يقدِّم فكره بحسن نية، فكيف لو كان مدفوعًا لتغيير فكر المتابعين؟!.

إن المصيبة الحقيقية تكمن في أن عمل المؤثر على المنصات الافتراضية معرّضٌ دائمًا للاستغلال من قبل أجندات كثيرة تخدم مصالح الساعين لإفشال أي محاولة نهضويّة أو إصلاحية في مجتمعاتنا، وتلك المصالح التي تقتضي تغيير فكر العامة في إنشاء انطباعات بديلة، واستحسان بِدَعٍ جديدة، وتبنّي آراء غريبة …إلخ، بما يمتلكون من أساليب إعادة التوجيه وإحكام السيطرة.

وهذا الأمر مارسته الشركات الرأسمالية في الإعلانات بصفاقة قبل أن تعتمده الحكومات. إذ ما معنى أن يدعو لاعب رياضي محبيه لأكل الدجاج المقلي، ورقائق البطاطس المهدرج زيتها، وأن يشربوا المياه الغازية المحلّاة في الوقت الذي يمتنع هو عن ذلك لدواعي الصحة واللياقة؟

وفيكَ انطوى العالَم الأكبر

هناك شيء ما في فطرة الإنسان يدفعه في قرارة نفسه للاعتقاد بأنه مميز ومتفرد كبصماته. أليس عجيبًا أن نتشابه في الأسس التشريحية للأجساد ونتمايز في تفاصيل البصمات البيولوجية؟ وكأن الله تعالى يقول لك إنك متفرد لديه، فلا تظننّ نفسك نكرة بين الناس.

إنّ تَفرّد الإنسان في فلسفة الوجودية يكمن في حريته التامة في التفكير والاختيار والإرادة، دون قيود مادية أو معنوية، ولعل ذلك ما يلتبس على البعض فينزع صفة التفرّد عن العبودية لله في الإسلام، مستندين على تلقين الله الدين لعبده. لكن في ذات الوقت هذه الحرية التامة (الخيالية) تقتضي عدم التأثر بحوافز وأحكام ومنافع… إلخ مما يجعل وجودها في الإنسان يعدُّ ضربًا من الخيال، لأنه مجبول على حب الشهوات، ويُسأل عما يفعل، ويحتاج لوجود الآخرين.

إن ذلك يقودنا إلى أن حرية الإنسان تحتاج لأن تكون مقيدة بشكل أو بآخر كي تكون واقعية؛ أي أن تكون متأثرة بضوابط معيّنة سواء بتعاليم الدين أو القانون أو العرف الاجتماعي أو غير ذلك. وهنا نستطيع أن نقول: إن تفرد المرء لا يتعارض مع الحرية المقيدة إن كان من يفرض القيود ذو حرية تامة مطلقة.

يتمثل هذا التفرّد –في الإسلام- بحرية المرء في مقاومة هوى النفس. بمعنى آخر، حتى لو وحّدنا الدين على الناس جميعًا لبقي كل إنسان متفردًا في عمله الصالح وتقربه لله تعالى؛ لا يطغى عمل عبد على آخر، ولا يجزى عبد دون الآخر، ولا يؤاخذ عبد بعمل الآخر.

وهذا هو التفرّد الحقيقي القيّم بمعزل عن التفرّد الظاهري في خيارات الناس وتصرفاتها المتأثرة ببعضها البعض. وهو ما يحقِّقُه الله تعالى لكل عبد وضع دينه نصب عينيه في تفكيره وخياراته، وابتغى مرضاة ربه في عمله.

مدرسة الروابي للبنات .. لا للتنمر .. نعم للتمرد!

في الثاني عشر من هذا الشهر أطلّت علينا نتفليكس بإنتاجٍ جديد ناطق بالعربية ألا وهو “مدرسة الروابي للبنات”.

إنه مسلسل صُوِّر في الأردن بطاقم تمثيلٍ أردني، ويناقش بشكل أساسي قضية التنمّر في المدارس، من خلال تعرُّض إحدى طالبات مدرسة الروابي للبنات للتنمّر من قبل مجموعة من زميلاتها. ويتطرق المسلسل كذلك إلى قضايا مثل التحرّش وما يسمى بـ “جرائم الشرف”.

فماذا حمل لنا مسلسل نتفليكس الجديد في ثناياه؟ وهل اقتصرت رسائل المسلسل على هذه القضايا؟ وكيف تم استعراض هذه القضايا يا تُرى؟

بين “جن” و”مدرسة الروابي للبنات”

مسلسل “مدرسة الروابي للبنات” هو ثاني أعمال نتفليكس في الأردن، بعد مسلسل جن الذي صدر قبل عامين. وقد كان حينها محط جدل لعدة أسبابٍ منها ألفاظه السوقية وتصويره لنمط حياة غربي في العاصمة الأردنية عمان. أما من ناحية فنية، فقد كان العمل بقصة ضعيفة للغاية وحبكة غير واضحة مليئة بالفجوات.

فماذا عن “مدرسة الروابي للبنات”؟

على عكس “جن”، فإن مسلسل “مدرسة الروابي للبنات” يقدّم قصة محبوكة ويناقش قضية واضحة، لذا فهو أفضل نسبيًا على المستوى الفني. وقد استفاد “مدرسة الروابي للبنات” من تجربة سلفه فكان خاليًا تقريبًا من أي لفظٍ خارج، مما يزيد من تقبّل العمل عند المشاهد، وهذا يسمح بتوسيع رقعة المشاهدين كمًّا ونوعًا، وبذلك يكون المسلسل أكثر قدرة على إيصال رسائله.

فماذا كانت تلك الرسائل؟

لنعد هنا إلى ريد هاستينغز، الرئيس التنفيذي لنتفليكس ورئيس مجلس إدارتها، حيث أشار –في إحدى اللقاءات قبل عامين- إلى أن صناعة الترفيه تقوم على مشاركة أنماط الحياة (life styles) مع الآخرين. وهذا بالضبط ما قامت به نتفليكس في مسلسل “مدرسة الروابي للبنات” -وفي مسلسل جن قبله-، حيث يُسوَّق التطبيع مع نمط الحياة الغربي في كل فرصة ممكنة، بدءًا من ملابس الشخصيات ومظهرهن إلى طبيعة العلاقات بين الجنسين.

كانت طالبة الثانوية التي ليس لديها “صديق” غريبة بين زميلاتها، ورغم أن المسلسل يدور حول التنمّر إلا أنها الفتاة الوحيدة التي وُصفت بأنها بشعة أو غير جميلة، ويا للمصادفة كانت -في الوقت نفسه- هي الوحيدة المحجّبة بين بطلات المسلسل!

من يا تُرى الذي أشار إلى قلة جمال تلك المحجبة -والمتنمِّرة بالمناسبة-؟ أكنّ زميلاتها اللواتي تتنمر عليهن؟ لا، بل كانت أمها من وصفتها بذلك!

التمرّد على المجتمع!

إن كل تفصيلة في هذا المسلسل ترسم صورة قاتمة عن كل من هم أكبر عمرًا من بطلات المسلسل، بنات “مدرسة الروابي للبنات”. أمٌّ تنعت ابنتها بأنها غير جميلة، وأخرى لا تفهم ابنتها ولا تحترم خصوصيتها ولا تقف بصفها، لدرجة أن البنت تمنّت في لحظة أن تقتل أمها، ومديرة تغطّي على أفعال الطالبة المتنمّرة ابنة المسؤول المهمّ، ومُدرِّسة قديمة الطراز تعترض على كل ما يقوم به أبناء الجيل الجديد. ورجل يتحرّش بطالبة بعمر بناته أو أحفاده، وأبٌ سكير يضرب ابنته. هذا عدا عن الإخوة، والذين تم انتقاؤهم ليكونوا ضخام الجثة خشني الملامح، مزعجون وربما مريبون، وبالطبع لا يحترمون خصوصيات أخواتهم، مع والدٍ يبرر كل تصرّفاتهم.

كلها تفاصيل تجتمع لرسم صورة غاية في البشاعة عن المجتمع عمومًا والذكور خصوصًا. وهذا قد يعطى تبريرًا حتى للتنمّر، فوفق كاتبة العمل ومخرجته فإن التنمّر كان ردة فعل لما تعانيه المتنمّرات في البيئة التي يعيشن فيها. ويذكّر هذا بخطاب المظلومية الذي تستخدمه -بل وترتكز عليه- الحركات النسويّة والأقلّيات.

وعندما تطرّق المسلسل للتحرش ولما يسمى بـ “جرائم الشرف”، عُرضا وكأنهما مجرّد جزء من مكونات تعزز بشاعة المجتمع ككل، بل إنه تم استخدام قضية “جرائم الشرف” للتطبيع مع نمط الحياة الغربي، فصار من الطبيعي أن تذهب المراهقة مع “صديقها” إلى مزرعته النائية الخالية من البشر، وأن يتراشقا الماء في بركة السباحة وغيره، بل هذه هي الجنّة على حد تعبير هذه الفتاة المراهِقة، وتمّ تصوير ذلك على أنه غاية الجمال والرومنسية والنقاء والبراءة!

الخطاب الذي يستخدمه المسلسل باختزال الصورة إلى مجتمع سيئٍ ومراهقات مضطَهدات يعطي لهؤلاء المراهقات المبرّر والدافع للتمرد، خصوصًا أن التمرد هو الطابع العام للمسلسل الذي نعيش أحداثه برفقة بطلته طالبة مدرسة الروابي للبنات والتي تمّ التنمّر عليها، فلم يتعاطف معها أو يتفهّمْها أحد من أفراد المجتمع سواء والدتها أو حتى معالِجَتُها النفسية أو غيرهم، أما الوالد فكان سلبيًا ضعيف الشخصية، ويكتفي بإعداد الطعام للعائلة في مقابل الأم العاملة، في لمحة أخرى من الخطاب النسويّ. فتقرّر هذه الطالبة المضطهَدة خوض رحلة الانتقام برفقة زميلتاها اللتان تم التنمّر عليهما.

ليس من العجيب إذن أن الدعوة للتمرد تصبغ المسلسل ككل، ويتمّ تعزيزها من خلال بعض التفاصيل كالأغاني المستخدمة في الخلفيّة، أغاني شبابٍ كاره للمجتمع، تتلاءم مع أجواء المسلسل، من كلماتها: “هسافر بعيد ولا سلطة تقول لي أعيد وأزيد” و”قوانين بدها تكسير”.

أما ما غنّته صديقتان من بطلات المسلسل فكان من كلماته: “وخالتي التي ترتدي الخمار قالت لي غني براحتك بس حتروحي النار.. بس أنا أبويا ماقلّيش.. فأنا هعمل الصح وأشرب حشيش”!

هذا هو أحدث مسلسلٍ ناطق بالعربية أنتجته لنا نتفليكس، مسلسلٌ بنمط حياة غربي، يصبغ المجتمع بالسواد ويدعو إلى التمرّد، ويوجّه كل هذا إلى من؟ إلى فتياتٍ مراهقات في مرحلة حسّاسة أصلًا من حياتهن، يرسمن خلالها شخصياتهن وتصوراتهن عن الحياة.

تحديات وعقبات في وجه الإعلام الإسلامي

في عالمٍ غدا قريةً صغيرة لا بدّ من الوقوف على أساليب التأثير وبرمجة وعي الجماهير وضبطها، وهنا تظهر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة ضمن آليات التوجيه والسيطرة، فقد غدا الإعلام سلطةً حقيقيّة ذات آثار المجتمع والحياة وقوةً ناعمة تتنافس في استثمارها وتطويرها أمم الأرض كلها لتحقيق مصالحها وفرض رؤيتها على الشعوب، وفي هذا المعترك الجديد تتبادر إلى الذهن أسئلة عن موقع المسلمين من هذه من هذه الخريطة وعن التحديات والعقبات التي تواجه هذا الإعلام وسبل التغلب عليها، وعن سبل التقدم والنهوض به وفق معطيات الواقع ومتطلبات العصر خصوصًا أن الإسلام دين عالمي يعتمد التبليغ والإعلام ركنًا أصيلًا في دعوته.

يعاني الإعلام الإسلامي اليوم في جانبيه النظري والعملي من إشكالات تشوب بعض عناصره تؤدي إلى انحرافه في بعض الأحيان عن القيام بدوره الحقيقي المنشود خاصةً في ظلِّ ما تعيشه المجتمعات اليوم من تحديات، فالموجود من إعلام يتحدث باسم الإسلام أو يحاول أن يلتزم بقيم الإسلام ويقوم بالوظيفة الإعلامية الإسلامية هو في حقيقة الأمر إعلامٌ يحتاج إلى إصلاح في مؤسساته وترشيد في رسالته وتأهيل لهيئاته من خلال إعداد الإعلاميين القادرين على القيام بدورهم الإعلامي، ويتطلب ذلك إعدادهم فكريًّا ولغويًّا وثقافيًّا وتخصصيًّا وفنيًّا وخلقيًّا إلى جانب السعي لتجاوز الإشكالات العديدة التي تحيط بهذا المجال.

إشكالات وعقبات

من أهم التحديات التي تواجه الإعلام الإسلامي أن وعي المسلمين المؤثرين بأهمية ودور الإعلام جاء متأخّرًا إلى حد ما، ولم يواكب التطور التقني والمهني للطوفان الإعلامي المعاصر، بل إن بدايات ما يوصف بأنه “إعلام إسلامي” لم تواكبها دراسات نظرية تأصيلية ولا برامج تدريبية عملية، وغلب عليها الطابع الشخصي، وقلة المنتجين والمقدّمين والمعديّن المتخصّصين في هذا المجال، فكان الاعتماد في كثير من الأحيان على أشخاص لا خبرة إعلامية كبيرة لهم، وقد ظهر ذلك على مستوى نقص الكوادر الإعلامية والخطة الشمولية التي تستوعب كل متطلبات المجتمع الإعلامية، واقتصرت البدايات الأولى على الإعلام الوعظي والتربوي كأشبه ما يكون بخطب الجمعة ودروس المساجد مع الفارق في وسيلة الاتصال الجماهيري كالفضائيات والإنترنت. أما الإعلام الهادف الشمولي المنضبط بمقاصد الإسلام ومبادئه فمازال يسير بخطوات متعثرة خاصة في المجال الترفيهي.

إلى جانب هذه العقبات التأسيسية ظهرت العديد من الإشكالات والتحديات التي تواجه الإعلام الإسلامي كالقيود التي تضعها الأنظمة الحاكمة، وعقبات التمويل واقتصاره في غالب الأحيان على المؤسسات الخيرية، وغياب الخطط والاستراتيجيات المتكاملة التي تتبناها مجموعات مهنية متعددة المهام تطرح بدورها الجهود الفردية والرؤى الأحادية، كما يواجه الإعلام الإسلامي ندرة في البحوث والدراسات المتعلقة بحيثياته، ومشكلة في التنسيق بين العلماء والدعاة وبين رجال التربية والمثقفين ليأتي مشروع الإعلام الإسلامي متكاملًا في موضوعه يلبي احتياجات ورغبات كل الشرائح المستهدفة دينيًّا وتربويًّا وتثقيفيًّا وترفيهيًّا، وأن تُصاغ الرسائل الإعلامية في قوالب فنية متنوعة ومشوقة وجذابة بدلا من أن تصب في أنماط جامدة ومكررة تفتقر إلى الجاذبية والتشويق، مع ضرورة مراعاة الضوابط الشرعية والاجتماعية العامة وعدم تجاوزها.

ومن أبرز التحديات التي واجهها الإعلام الإسلامي إشكالية التصنيف والانطباعات الأوَّليَّة، وهي إشكالية يكون غالبها قريب الصلة من التعامل مع المصطلح، فيقف الانطباع السابق حول الصحيفة أو القناة أو الموقع وتصنيفه في الدائرة الإسلامية عقبةً أمام تلقي المحتوى وتوقعات الجمهور منه؛ وهذا أسهم في انصراف قطاع كبير من الجمهور بسبب تلك الانطباعات والتصنيفات السابقة.

إشكالات التمويل والجمهور

تعدّ إشكالات التمويل من الإشكالات الكبيرة في هذا المجال، وهنا تضطر القناة أو المؤسسة الإعلامية ذات الخطاب الإسلامي أمام خيارين:

الأول: يتمثل في الحصول على التمويل من مصادر مالية لها شروطها ورؤاها المسبقة مثل الدول والهيئات الكبرى والقوى العالمية، وهو خيار يضمن الاستقرار المالي والفني والتقني للمؤسسة، لكنه يجعل المحتوى مرهونًا بتصورات وتوجهات المموِّل؛ فيحرفه قليلًا أو كثيرًا عن الأهداف التي يمكن أن يرسمها القائمون على الوسيلة الإعلامية، وهذا يؤثر بصورة كبيرة على استقلالية المؤسسة.

الثاني: الاستقلالية والاعتماد على التمويل الذاتي من جيوب المؤمنين بالفكرة والمقتنعين بالرسالة، وهو خيار وإن نجح في تحقيق الاستقلالية بجدارة إلا أنه يضع كلًّا من المحتوى والمؤسسة في حرج مهني بالغ، فتعجز عن الوفاء بالالتزامات المالية للتطوير ومواكبة التنافسية في عالم لا يرحم الضعفاء والصغار.

إلى جانب ذلك فقد كان من المشكلات الواضحة في تنظيم هذا الإعلام وتأسيسه عدم تحديد طبيعة الجمهور المستهدف، أهو ذلك الجمهور الذي يؤمن بفكرة ورأي أو مذهب معيّن أم أن الجمهور هو عموم الأمة بمختلف تنوعاته، وهذا يصنع خطابًا مزدوجًا داخل المؤسسة نفسها فيُظهر تناقضاتٍ على صفحاتها وعبر شاشاتها، فلا هي بالتي حافظت على جمهورها الذي التزم بفكرة معينة ولا هي وصلت إلى عموم الجمهور، فتغدو كمن راوح مكانه عند منتصف الطريق فلم يبلغ ولم يتوقف.[1]

إن عرض سلبيات الإعلام الإسلامي وإشكالياته لا يعني إخفاقه في أداء المهمة الموكلة إليه، فقد أثبت وجوده في الساحة الإعلامية بقوة لكنه يعاني من عثرات كبيرة، وهو في النهاية جهد بشري فيه خير كثير، ووجود الخلل في مؤسساته لا يعني أنه مستسلم لها، فهو في سعي دائم نحو التخلص منها وتطوير أدائه، ولا ننسى أن الوقت عامل مهم في ذلك.

طريق النهوض بالإعلام

في سياق البحث عن تطوير الإعلام الإسلامي لا بد أن نعمل على إيجاده وجودًا فعليًّا وفاعلًا معًا، فالإعلام الإسلامي اليوم -للأسف- منفعل لا فاعل، ولا يتصدى لما يحاك للأمة من قبل أعدائها بالقدر الكافي الوافي، و”إن من الأدبيات المتفق عليها أن المسلمين اليوم -وفي هذه الانعطافة من تاريخهم- يواجهون غزوًا واحتلالًا ثقافيًّا وفكريًّا وحضاريًّا واقتصاديًّا بشِعًا شمل كل جوانب حياتهم؛ لذا فإن مهمة الإعلام الإسلامي تتجاوز التثقيف والتوعية وفتح القنوات المعرفية أمام أجيال المسلمين إلى التحفز ووضع الخطط المناسبة في التصدي للغزو الفكري والثقافي والأخلاقي الذي يداهم الأمة الإسلامية، وسط شيوع وسائل الإعلام العابرة للقارات التي تؤثر في المجتمعات وتنقل أفكار وفلسفات وأخلاقيات شعوب العالم إلى كل مكان” [2]

إن الفكرة السليمة والأسلوب المناسب والوسيلة الجديدة عوامل ثلاثة أجمع خبراء الإعلام على أنها تمثل أركان المعادلة الصحيحة لصناعة إعلام هادف قادر على اجتذاب الناس وتغيير الوعي، وينبغي التعامل مع هذه الأركان بصفتها كلًّا لا أجزاء متناثرة، فالفكرة لا تنفصل عن الأسلوب، والوسيلة لا بد لها أن تتماشى مع الفكرة، والغاية لا تبرر الوسيلة.[3]

ولتحقيق ذلك لا بد من تعاضد مبادئ أربعة في الإعلام بكل أجهزته وتقنياته ووسائله وأساليبه للمحافظة عليها بعينها، وخلاصتها: الحرص على الحقائق المدعمة بالأرقام والإحصائيات، و التجرد من الذاتية والتحلّي بالموضوعية في عرض الحقائق، والصدق والأمانة في جمع البيانات من مصادرها الأصلية، والتعبير الصادق عن الجمهور الذي يوجه إليه الإعلام.

إن أي إعلام لا ينطلق من هذه المبادئ فإنه يفقد اسم الإعلام الذي يخدم الحق وينشد الحقيقة[4]، وأحقُّ من يجب عليه التحلي بهذه المبادئ المهنية هو الإعلام الإسلامي؛ وذلك لسمو رسالته وعالميتها وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه.

ثمة مبادئ كثيرة يجب أن يتصف بها الإعلام الإسلامي للتأثير الصحيح، لعل أهمها إيجادُ مرجعيةٍ موحدة للأحكام الشرعية يرجع إليها كلُّ من يريد أن يتعرف على الأحكام في نبعها الصافي؛ والاعتراف بأن الإنسان الذي نخاطبه إعلاميًّا يختلف كل الاختلاف عن الإنسان الذي نزلت عليه الدعوة، وهو ما يقتضي أن يكون لدى القائمين على الأداة الإعلامية ملكة الجمع بين الإسلام في أصالته وبين الواقع في معاصرته، وأن نضع نصب أعيننا دور الإعلام الديني في إدارة عجلة الإصلاح بإثارة الحوافز الدينية، ودور الدين في عملية الإصلاح المجتمعي اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، ودور الإعلام الإسلامي في فض الاشتباك بين الدين والسياسة والتأكيد على أن الدين لا يمثل عقبة أمام التقدّم.

نريد إعلامًا إسلاميًّا يقوم على قاعدة الحلال والحرام وأن الأصل في الأشياء الإباحة، تلك حقيقة لا يجب أن تغيب عن ذهن الإعلامي المسلم وهو يضطلع برسالته التي أوكل بها، إعلامًا لا يبدأ من نقطة الصفر، بل يبني على ما سبقه من تجارب ليمثل الدعوة الإسلامية في وجهها المشرق معتمدًا على مصادره الخاصة به ليحرر الإعلام الحالي ويخلصه من التبعية والتسييس.[5]

بناء المتخصصين

ثمة ضرورة ملحّة لإعداد كوادر بشرية تتقن العمل الإعلاميّ إلى جانب التمكّن في العلم الشرعي بصفة مستمرة، وهذا بطبيعة الحال من أوليات العمل الإعلامي على النطاق الدولي، ولا شك أن العالم الإسلامي يمتلك من الخبرات والقدرات ما يكفي لذلك إذا أحسن الاختيار ووضعت الشروط الموضوعية له، ولكن لا بد أن يكون إعداد الكوادر.

صحيح أن إعداد الكوادر مرتبط بإنشاء بنوك المعلومات ومراكز البحوث والدراسات وما شابه ذلك من معطيات الحضارة الحديثة حتى يستطيع الإعلام الإسلامي أن يواجه التحدي ويواكب العصر[6]، إلا أن هذا يجب ألّا يمنع الراغبين بتطوير أدواتهم الإنتاجية والإعلامية بشكل فردي، بل إن العصر يسهّل ذلك، فإن كان العمل الجماعيّ على نطاق واسع أشبه بالمستحيل، فلا بأس بالعمل ضمن خلايا صغيرة ومواقع وقنوات متعددة في عالم الفضاء الافتراضي للإسهام في بناء الوعي السليم وتحقيق خطوات النهضة.

إنَّ مسيرة الإعلام الإسلامي محفوفة بالمخاطر وأمامها عقبات كثيرة، إلا أن سمو الهدف يخفف السعي وإن مشى الإنسان في طريق مؤلم وشاق مليء بالمخاطر، فبجهود الصالحين وعمل المخلصين من أبناء الأمَّة وملازمة الرقي والإبداع وصناعة الأفكار الجميلة والرائعة يتحسن الحال ويصلح الوضع، وترتقي المنظومات الإعلاميَّة الإسلامية بكينونتها الفكريَّة[7]، بإذن الله وفضله.


[1]  ينظر: عادل الأنصاري: الإعلام الإسلامي إشكاليات الواقع والمصطلح، https://mugtama.com/hot-files/item/64836-2017-12-09-07-31-32.html

[2] ينظر: خالد سعد النجار: الإعلام الإسلامي بين الواقع والمأمول، على الرابط الآتي:  http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=204601

[3]  ينظر: إسلام فرحات: التشريعات والمال أهم أزمات العالم الإسلامي، على الرابط الآتي:  https://islamonline.net/17152

[4] ينظر: فايزة الصاعدي: أهداف التربية الإسلامية، ص: 33.

[5]  ينظر: محمد عمارة: الإعلام الإسلامي والتحديات المستقبلية، ص: 115- 118.

[6] ينظر: مفيد أحمد السالم: الإعلام الإسلامي، ص: 138.

[7] ينظر: علي عبد الفتاح كنعان: إدارة المؤسسات الإعلامية، رقم 24، بعنوان “الإعلام الإسلامي مشكلات في خط المواجهة”

المجتمع الغربي والتغيرات اللاهثة

أنهيت منذ فترة مطالعة رواية “فوضى الأحاسيس” للروائي النمساوي الشهير “ستيفان زيفايج”، وقد أعجبتني وأعجبني بناؤها الفني والأدبي البسيط والعميق، لكنني لن أتعرض لها هنا من الناحية الفنية؛ لأن ما لفت نظري فيها هو جانب فكري يتعلق بطبيعة عمليات التغيير المجتمعي بشكل عام وفي الغرب بصورة خاصة.

نشرت الرواية في ثلاثينات القرن العشرين، أي من حوالي 90 عامًا، وهي تتعرض ضمن أحداثها لقصة أستاذ أكاديمي في الأدب الإنجليزي يعاني من الشذوذ الجنسي، وما تفرع عن ذلك من طبيعة رفض المجتمع الأوروبي له في ذلك الوقت، وكيف أن ذلك البروفيسور المرموق الذي له وجاهة كبيرة في المجتمع آنذاك كان يضطر إلى الاندساس داخل مناطق نائية مطيَّنة تفوح منها رائحة النتن والعفونة في مدينة “برلين” الألمانية ليمارس شذوذه مع أفراد قذرين مخنثين غير متقبّلين في المجتمع.

واللافت للنظر هنا أن تجد أوصافًا لفعل الشذوذ داخل الرواية من قبيل: “رغبات شاذة، احتقار، اشمئزاز، نفور، شخص منبوذ، رذيلة مخزية، ضرب من الجنون، ملطخة بالقرف، مسممة بالخوف، الرفاق المشبوهون، عالم الرذيلة، المغامرات المخزية، ميوله المنحرفة، شعور خانق بالخزي والعار والخوف من الذات، العادات المشبوهة، فتيان فاسقين، التلوث بالرجس والقذارة، مخلوقات شبحية ودنيوية نتنة”… كل هذه وغيرها كانت الأوصاف الحرفية للرواية عن الشذوذ الجنسي وممارسيه والحالة التي تتلبسهم حال ممارسته.

تعرض الرواية كيف أن حياة البروفيسور تحولت في الرواية إلى جحيم نفسي حقيقي بسبب ممارساته المنحرفة وعدم تقبل من حوله لها، كان يتعرض لعمليات ابتزاز وتهديد تخلف وراءها أحيانًا هلعًا ورعبًا بلا حدود، فضلاً عن سخرية الآخرين منه ومن ممارساته المشبوهة. لم يكن ينام في الليل إلا قليلاً بفعل سوء حالته النفسية التي سببتها حالة التناقض التي يعيشها، بل ربما ناداه داعيه الداخلي مساءً فتسلل من المنزل تاركًا زوجته الحسناء ومغادرًا بالأيام ليخوض مغامرة دنسة جديدة، ليعود بعدها وقد علت جسده وملابسه جميع مظاهر الانحراف والقذارة.

لم يلفت نظري تدوين “زيفايج” هذه الممارسة القبيحة التي كان غارقًا فيها هذا البروفيسور، فهذا مما قد يوجد في كل مجتمع بنسبة ما، وربما يكون الكاتب أراد تسليط الضوء على هذا الشخص من باب الاستثناء الذي يلتفت إليه الأديب في كتاباته، فالفن بالأصالة تدوين لحالة من الاستثناء، والحياة العادية لا تلفت نظر المبدع لتدوينها، وإنما اللافت لنظره هو الغريب، الغريب في حاله أو طبعه أو شخصه، أو حتى الغريب في موقفه الطارئ الذي لا يسير وفق العادة اليومية المطردة. ومن هنا قد تكتسب بعض الأعمال الأدبية والفنية صفة الملالة والسأم حينما تلتفت فقط إلى ما يلتفت إليه الناس يوميًا، وتشير بأصابعها إلى ما يعتاد الناس الإشارة إليه. أما الإبداع فيهتم بما لا يهتم به الآخرون، ويركز على جوانب مظلمة من الحقائق لا يلتفت إليها الناس، أو على الأقل يعبر عما يعتاده الناس لكن بأسلوب لم يعهدوه أو يعتادوا رؤيته أو سماعه. ومن هنا يكتسب صفة الجدة والابتكار، “فالفن تدوين للاستثناء” كما قلنا.

كيف عرض زيفايج للشذوذ وحياة المجتمع الأوروبي؟

إلا أن الفاصل بين أديب وآخر يكمن في كيفية تدوين هذا الاستثناء وعرضه؛ فـ”زيفايج” استعرض القبح الكامن في هذا الاستثناء، ونجح في خلق صورة مستبشعة ومنفرة عنه. لكن الأعمال الأدبية المعاصرة تروج لهذا السلوك وتجعله اختيارًا مقبولاً ومتاحًا، بل ومحببًا في أحيان كثيرة. وإني لأتوقع لو كتب هذه الرواية الروائي العربي “فلان” لاستبدل جميع الألفاظ الآنفة الذكر، وحالة الفصام التي أتعبت ذلك البروفيسور المريض والتي كان يعيشها بين حالته وسط طلبته صباحًا في الجامعة ومساءً بين الأراذل في المواخير والمشارب ليجعل منها حالة تحفزه لمزيد من الإبداع والتميز المهني والحياتي والأكاديمي!!

ما لفت نظري في هذه الرواية هو تصور المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت لهذه الرذيلة واستنكاره لها ووصفها على لسان هذا الكاتب الكبير بأقذع الأوصاف وأقساها، ولن تخطئ عينك حالة الإدانة التامة التي سببتها هذه الأوصاف لهذا الفعل الشنيع في الجزء الأخير من الرواية.

أوروبا في هذه الفترة كانت تدين الشذوذ، وتراه فعلا مستقبحا مخالفا للفطرة السوية، ولا يمارس هذا الفعل منهم سوى الحقراء والمنبوذين، الذين خصصوا لأنفسهم أقذر الأماكن وأبعدها عن العمران ليمارسوا أفعالهم بعيدا عن أعين الناس الذين يرونهم مرضى أو كائنات متدنية. ومن كانت تراوده نفسه من أهل المدينة ليلطخ سمعته بهذا الفعل الشائن كان عليه أن يتكبد عناء الانتقال إلى هذا المكان القذر ليدنس حياته برجسه خُفية ودون أن يعلم به أحد. والويل له إن انكشف سره وافتضحت حقيقته! هذا ما كان عليه هذا الوضع في أوروبا وقتها.

التطبيع مع الانحراف

حين طالعت هذه الأوصاف السابقة في الرواية قفز في ذهني فورًا الصورة الحالية لهذه الممارسة المنحرفة في الآداب والفنون الغربية المعاصرة، كيف حدث هذا التحول الرهيب في المجتمع الغربي -ويجري على قدم وساق في المجتمع العربي بالمناسبة- تجاه تقبّل الشذوذ بدءًا من تغيير التسمية الصادمة للأذن “الشذوذ الجنسي” بوصف آخر مهذب ومستساغ “المِثلية الجنسية”، ومرورًا بعرضه علانية وبفخر في الإعلام والأعمال الفنية والأدبية، وانتهاءً بإعلانه رسميًا في كثير من دول العالم الغربي والأوربي بديلاً أو طريقًا موازيًا للزواج الطبيعي، واستخدامه ورقة سياسية أحيانًا من قبل الساسة والحكام.

فبات من الطبيعي جدا أن تطالع يوميا في صفحات الجرائد والمجلات زواج امرأتين أو رجلين داخل كنيسة، زواجًا رسميا معلنا وموثقا من قبل الدولة، بل ومع التطور اليومي تطالع إعلان بعض رجال الدين والقساوسة لشذوذهم الجنسي وفخرهم بذلك! وبات طبيعيا أيضا أن يقتحم عليك منزلك مشهد أو عدة مشاهد في عمل درامي يقبِّل فيه رجلان ذوا لحية كثيفة ومكتملا الرجولة بعضهما البعض، ليستبدل الصورة النمطية القديمة عن الشاذ جنسيًا في الدراما بأنه شخص مخنث يتمايل بضحكات رقيعة، في إدانة واضحة لفعله. فالآن يمكنك أن تكون رجلا شهما ومسؤولا وعلى أعلى درجات الاحترام وقوة الشكيمة في العمل، وشاذًّا في نفس الوقت بلا غرابة أو تأنيب ضمير!!

الفاصل بين هذه الأوصاف المستقبحة لهذا الفعل الشائن في الرواية وبين الواقع الحالي المبيح والمروج هو 90 عامًا فقط (وقت نشر الرواية)! 90 عامًا تحولت فيها البشاعة والانتكاس الفطري إلى واقع طبيعي يحظى بالقبول المجتمعي!! وهذا أمر مرعب في حد ذاته. منذ مهد التاريخ البشري لم يحدث هذا الغزو البشع للكرة الأرضية والإغراق الرهيب بالمحتويات الشاذة والمنحرفة على هذا النحو الذي يقع الآن.

إلا أن رقم 90 هذا يعد رقمًا كبيرًا نسبيًا، فطوال هذه الأعوام التي تقترب من قرن من الزمان لم يشهد العالم هذا التسابق المحموم على النشر اللاهث للشذوذ إلا في آخر 15 أو 20 عامًا على الأكثر، ولنا أن نتخيل أن آلافًا أو عشرات أو مئات الآلاف من السنوات من عمر البشرية لم تتغير خلالها هذه الصورة الفطرية السوية في نفوس البشر حتى وإن مارس بعضهم الشذوذ، لكن عقدا أو عقدين من الزمان كانا كافيين في تشويه وإتلاف هذه الفطرة وإحداث تدهور حاد في التصورات المستقرة سلفًا. فماذا يحدث؟!

الطفرة الكونية التي يعيشها العالم الآن في مجالات السياسة والإعلام أحدثت حالة من اللهاث المتعجل نحو التطبيع مع الانحراف. والعلمانية والإلحاد اللذان سيطرا على المجتمع الغربي وبدأتا تغزوان المجتمع العربي والإسلامي صارتا المتحكم الرئيس فيما يعرض على الشعوب في الإعلام والدراما، بل نصَّبتا نفسيهما مهندس الأخلاق الكوني للعالم، فتقرران ما يناسب البشر وما لا يناسبهم من الأخلاق والمعتقدات بناءً على المتطلبات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والفكرية للإلحاد والعلمنة.

حتى الرسوم المتحركة الخاصة بالأطفال لم تسلم من ذلك، فالمحتوى الغربي المرسِّخ لقبول الشذوذ وزرع فكرته في عقول الناشئة، سواء بالإشارة أو بالمباشرة، صار أكثر وأكبر كثافة من أن يحصى. وهذا يتطلب حالة من التحفز والانتباه المضاعف لأخذ الأهبة والتدرّع بمختلف وسائل المقاومة.

الفنّ وسيلة لإفساد الفطرة

لم تعد الدراما والفنون الروائية والقصصية الغربية مجرد أداة ترفيهية بريئة كما كانت أول نشأتها، بل صارت سلاحا حربيا كئيبا ربما يفوق في تأثيره مفعول القنابل والمجنزرات والآليات المعقدة، سلاح فكري انتكاسي ضد الفطرة والقيم والأخلاق، وبكل أسف تمكن الطرف المناوئ من حيازة أسباب التفوق فيه، ولم نتمكن نحن حتى هذه اللحظة من الهجوم واستخدام أساليبه بذات البراعة التي يقاتلنا بها، وكان جل ما نفعل هو الصراخ من الألم والاستكانة بزاوية رد الفعل. ولا ننكر أن هناك جهدًا فكريا نخبويًا يصاغ على صفحات الكتب وقنوات الأثير، إلا أنه غير كاف في مواجهة هذا السيل الجارف من الدراما القبيحة، فطبيعة الشعوب البعيدة عن حالة النخبوية الثقافية لا تتأثر بالأطروحات الفكرية المصبوبة في المؤلفات العلمية بقدر ما تتأثر بالدراما البسيطة التي تنفذ إلى العقل اللا واعي، وربما يتجاوز تأثير فيلم أو مسلسل واحد العديد من الكتب والمحاضرات التي يتلقاها الإنسان البسيط في عمر مديد؛ لأن الأول يحفر في قلبه وعقله الباطن، والثاني يخاطب عقله وتفكيره.

ما العمل؟

إننا مطالبون -وبسرعة لا تحتمل التأجيل أو التقاعس- بإعداد مشروع درامي أخلاقي وقيمي يواجه المشروع الإعلامي الغربي المتضحة معالمه التخريبية المنحرفة، ولم يعد ذلك من رفاهية الأعمال أو الأفكار والمشروعات، بل بات أمرًا ملحًا كعلاج “الغرغرينا” التي ما لم يتخذ الطبيب قرارا صارما وسريعا فسوف تنتشر في الجسد المنهك كله، ولن يغني حينها العلاج ولا البتر. مشروع إعلامي قادر -ولو نسبيًا- على المنافسة، فكثير من التجارب السابقة في الدراما والرسوم المتحركة القيمية والأخلاقية كانت ساذجة وعلى مستوى فقير مهنيًا وتفتقد لعناصر الإبهار والقصة والجودة، فكانت تكرارًا لما سبقها في الأسلوب والمعالجة المباشرة المفتقدة للحبكة، وطغا عليها الخطاب الوعظي النصائحي، لذا كانت مثار سخرية واستهزاء لا محط اهتمام وشغف.