image_print

العقل بين الاستخدام والعمى

أسرَّت إليّ بحالة الحيرة التي تعيشها منذ شهور ليست بالقليلة، تكتمها عمن حولها، لكن حيرتها تكاد تنال من روحها. كانت تحب الحيرة التي تقود إلى السؤال، الذي تقود إجاباته لمعرفة الله أكثر، لكنها اليوم وأمام الإجابات الجاهزة والمُعدّة سلفاً باتت تخاف أن تقودها الحيرة إلى الضياع التام.

هذا العقل الذي وهبنا الله إياه كيف نستخدمه، وكيف لا نسمح له بأن يجرفنا في تيارات الإبهار ومحاولات حرفه عن وظيفته.

في بيئة تجسد حالة العالم كله ولكن بشكل مصغّر، ينقسم الناس فيها ما بين ملحد لا يؤمن بالله، له مجموعة من القيم يؤمن بها، وبين مسلم بالهوية لا يكاد يعرف عن الإسلام إلا مسمّاه، وقد بات يتخبط بين جهل وتشويه وضلالات. كانت تفكّر بجديّة في موقعها من ذلك كله، بهويتها وانتمائها، نصفها يميل لشقّ العلم الذي زعم الملحدون أنهم ملّاكه، وأقنعوا الناس بذلك، ونصف يميل لشقّ الدين الذي تبارى المسلمون المنسلخون عن هويتهم في تشويه صورته، ولكن الخيط الرفيع الذي يشعرها بالانتماء إليه هو إيمانها الفطري، وإدراكها أن هؤلاء لا يمثلون الدين الحق، كانت تحتاج إلى قوة أو ركن شديد تأوي إليه لترى المشهد بوضوح، وهي مع كل خطوة تخشى السقوط.

كنت أفهمها تماماً، ففكرة الضياع المطلق مرعبة، ونحن في خطوات التساؤل كنا نسير وكأننا على خيط رفيع بين هاويتين، نخشى زلة القدم المُهلكة، ولذلك كان إيماننا الفطري هو حبل نجاتنا الذي نتمسك به ليعيدنا، وكي لا يسمح لنا أن ننجرف، وليهبنا القوة من أجل استعادة النفس، والقدرة لاحقاً على المواجهة، وبالتالي فنحن بحاجة لتحصين نفس مستمر، وتمسكٍ بما لا تزل معه الأقدام أبداً. كنت أذكرها بمعنى التمسك في الحديث: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم”.

وبماذا يمكن أن نصنف أنفسنا؟ أنكون من المتمسكين بحبل نجاتهم أم الغارقين؟ وهل فهمنا التمسك بشكل صحيح، أم أن منا من قطع الحبال وهو يشدها فكان من المتنطعين؟

وبالنظر إلى موقعنا الحقيقي على هذه الأرض فلن نختلف على أن الله تعالى قد اختارنا نحن البشر دوناً عن الخلائق كلها لنخوض هذا الامتحان الصّعب، ورزقنا العقل الذي فتح لنا أبواب العلم، وسخّر لخدمتنا الكون بأسره، وأوكل إلينا عمارته والقيام على شؤونه، قال تعالى: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون” ]البقرة:30[.

لقد وهبنا الله العقل وميزنا به عن سائر خلقه لنستخدمه في عمارة الأرض فهو ركيزة قوة، لكن الإنسان استعمل سلاح العقل وسلاح العلم ليزيد سلطته ومكانته، ويسيطر على هذه الأرض فيفسد فيها ويسفك الدماء، فيحول القوة إلى وسيلة للظلم والاستعباد، وليجعل من وسائل قوته البناءة وسائل لشقائه وضياعه، وفي هذه الجزئية ميّز القرآن بين أصحاب العقول الذين سماهم “أولو الألباب” وبين الفئة الأخرى التي لا تستخدم العقل في الوجهة الصحيحة ولا تستخدمه، قال تعالى: “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” [الأعراف: 179].

ووصف الله تعالى هذه الحالة بعمى القلوب، قال تعالى: “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” ]الحج: 46[.
وهنا تحديداً يكمن الفرق بين صاحب العقل المؤمن الذي يستخدم عقله في سبيل الحق وصلاح البشرية، وبين من لا يستخدم عقله إلا ليكون عبداً لأهوائه، فيفسد في الأرض بدلاً من إصلاحها وهو لا يرتدع حتى يرى عذابه الذي يصور لنا القرآن الكريم في آياته حالة الندم على ضياع العقل وفساده، قال تعالى:  “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ” ]الملك: 10[.

صاحب العقل الذي يوجه أدواته ووسائله وقدراته ليواجه المفسدين والمتكبرين والمتجبرين، ولينصر المستضعفين ويرتفع بهم من قاع المذلة والمهانة إلى ما وهبه الإسلام من كرامة، وهو إن فعل وأخذ بسنن الله والتزم طريق هدايته وحدود العمل ضمن تشريعه كان من الوارثين المستحقين لإرث هذه الأرض.

ولنا في قصة فرعون نموذجاً واضحاً للاستخدام السيئ للعقل والوسائل والأدوات، ولنا في قصص القرآن عبرة ندرك من خلالها كيف تسقط دولة الظلم مهما علا شأنها بالعلم والقوة، مادامت لا ترتكز على ركيزة الإيمان، قال تعالى: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنّ على الذين اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” [سورة القصص: 4-5].

لقد ورث المستضعفون الأرض في النهاية، وكانوا أئمة فيها، وذلك لأنهم تمسكوا بحبل الله، وطوعوا ما سخره لهم من أجل الحق لا من أجل أهوائهم.

وليس بالضرورة أن يستخدم التائه عن الله أدواته المسخّرة له في الأرض ليبطش ويظلم ويسفك الدماء، فقد يكون من أصحاب العلم والأخلاق، لكنه في النهاية يحيا في عالم علمه وأخلاقه، لا يستند فيها على إيمان يبصره الطريق، وهذا اختياره الذي لا يجبره أحد على أن يغيره، ولأنهم لم يُفتنوا بعقولهم إلى حد الزيغ عن الطريق، ولأنهم أيقنوا بأن العقل سيظل تائهاً بلا وجهة ما لم يضئ مصباح الإيمان فيه كان لهم إرث الأرض فضل من الله عليهم ومنة.

منهج العلماء المسلمين في الوصول للحقيقة

يُجمع العقلاء على أن الحقيقة العلمية في أي مجال تمثل قمة المقدسات الفكرية التي يسعى العقل السليم إلى بلوغها بعد أن يشق إليها سبيلاً من البحث والطلب، وينبغي لهذا السبيل أن يكون مبيناً على مجموعة من الإدراكات الصادقة لأن العلم لا يتولد إلا عن علم مثله. ولذلك سعى علماء المسلمين إلى وضع منهج علمي فريد للوصول إلى الحقيقة وهو منهج يصلح لاستخدامه في شتى العلوم ويتلخص في القاعدة التالية: “إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل”.

وهذه قاعدة جليلة تدل على أن موضوع البحث لا يخلو دائماً من أن يكون: إما خبراً منقولاً فيجب البحث في تحقيق النسبة بينه وبين مصدره والتحقق من عدالة ناقله وعندها تنبثق عن هذا الخبر حقيقة علمية معينة، أو يكون ادعاءً يتجه البحث فيه إلى الأدلة العلمية المنسجمة معه والتي من شأنها أن تكشف عن مدى صدق هذا الادعاء، ولكل دعوى نوع من الأدلة العلمية التي يناسبها ولا يستبدل به غيره.

وقد وضع علماء المسلمين في سبيل تحقيق الخبر فنوناً خاصة لم يعثر عليها التاريخ إلا في المكتبة الإسلامية، وهي: فن مصطلح الحديث وفن الجرح والتعديل وتراجم الرجال، حيث تتكامل هذه الفنون مع بعضها لوضع ميزان دقيق يتضح فيه الخبر الصحيح الذي يورث اليقين من غيره، ومن البديهي أن كل ما يتعلق بالعقائد لا يقبل فيه إلا ما يفيد اليقين التام. وصنفت لذلك المؤلفات التي تستعرض سير الرجال الذين ترد أسماؤهم في أي سند من الأسانيد ترجمةً وجرحاً وتعديلاً، ثم تصنيف الخبر إلى متواتر وآحاد بأنواعه الشهيرة في كتب هذا الفن (الصحيح والحسن والضعيف والموضوع).

أما منهجهم للتحقق من صحة الدعاوى فيختلف حسب اختلاف نوع الادعاء، فما كان متعلقاً بموجود مادي فلا بد من الاعتماد فيه على براهين مادية قائمة على الحواس الخمس أي التجربة والمشاهدة، أما ما كان متعلقاً بأمر تجريدي أو غير خاضعٍ لشيء من الحواس الظاهرة فأدلته إما أن يكون منصوصاً عليها نصاً واضحاً في الكتاب أو السنة المتواترة أو الصحيحة التي تورث اليقين، وقد أفاد منهجهم في التحقق من صحة الأخبار إلى العلم اليقيني بأن القرآن هو اللفظ الموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم والواصل إلينا عن طريق التواتر وكذلك ما تواتر من سنته. مع التنبيه إلى أن النصوص القطعية الثابتة في الكتاب لم تفد اليقين بمضمونها إلا بعد اجتيازها لمرحلتين من البحث والنظر، الأولى: التحقيق في سند القرآن واتصاله من محمد صلى الله عليه وسلم إلينا، والثانية: التحقيق في صحة إخباره هو بأن القرآن من عند الله سبحانه، وهنا يركز البحث على حقيقة الوحي في حياته.

وأما ما لا نص عليه من الكتاب أو السنة الصحيحة فينحصر السبيل إلى معرفة الحق فيه بالنظر العقلي وحده، ويتحقق ذلك بمسلكين:

1-  دلالة الالتزام: وهو أن يطرد الترابط بين شيئين بحيث كلما ذكر الأول تصور العقل الآخر وإنما يتم ذلك بعد إجراء عملية استقراء تام لهما يتم فيها تتبع الحالات والظروف المختلفة كلها لوجود هذين الشيئين فنجدهما متلازمين دائماً، مثل: دلالة المآذن في بلدة على إسلام أهلها، ودلالة الصنعة على وجود صانع أو كما يعبر عنه عند علماء الكلام: لزوم حاجة الحادث إلى محدث.

وعرفت الدلالة بملازمتها الدائمة لملزوماتها وتكرر ذلك دون تخلف وتم على ذلك الاستقراء، فتكونت من هذه المقارنة الدائمة رابطة دلالة سارية بينهما، مع أن الدال ليس علة للمدلول. وفائدة هذه البرهان أن العقل السليم يتوصل من خلال التأمل فيها إلى الإيمان بها ولو لم يجدها ماثلةً أمام عينيه، فمن أوشك على دخول بلدة وقيل له إن أهلها جميعهم مسلمون لا يمكنه أن يصدق ما قيل له إذا تأمل بيوتها من بعيد فلم ير إلا صلبان الكنائس مع أنه لم يلتق بأحد من أهلها ويسألهم عن اعتقادهم، ومن يدعِ أن منبع نشأة الفكر والعقل عند الإنسان إنما هو شعوره بالحاجة إلى الغذاء لا يصدق في دعواه هذه، لأن التأمل في سائر الحيوانات التي تشترك مع الإنسان في الشعور بالحاجة إلى الغذاء لم يؤد إلى تمتعها بشيء من التفكير والعقل.

ولا يورث هذا التلازم اليقين دائماً إذ الأمر فيه منوط بمدى وضوح التلازم واستغنائه عن برهان آخر يدل عليه، وأقوى صوره من حيث الدلالة وقوة البرهان ما يسمى عند العلماء: دلالة الالتزام بالمعنى الأخص وهو أن يكون تصور الملزوم كافياً في تصور اللزوم والجزم به، كدلالة الأنين على المرض، ودلالة اللفظ المنبعث في الظلام على وجود كائن حي، فإن قوة اللزوم بينهما تجعل العقل يتصور أحدهما بمجرد تصور الآخر دون الحاجة إلى التفكر في الرابطة بينهما.

والصورة الأدنى من حيث قوة البرهان هي اللزوم البين بالمعنى الأعم: وهو توقف إدراك اللزوم بين الشيئين على تصور كلٍ منهما والنظر فيه ملياً، كدلالة الشيء الممكن على أنه حادث فالعقل لا يفهم لزوم الممكنات لصفة الحدوث إلا بعد إمعان النظر في معنى الإمكان وأنه الشيء الذي لا يحيل العقل وجوده ولا عدمه وإنما ترجَّح فيه جانب الوجود لمرجح طارئ، ثم أمعن النظر في معنى الحدوث وتصور الصلة بينه وبين كل الكائنات التي من شأنها أن توجد بتأثير غيرها.

2- القياس الأصولي: وهو منهج قائم على استخراج علة الشيء أو سببه، ثم تلمسه فيما يشبهه من الأشياء المجهولة حتى إذا استيقن الباحث اشتراك كلٍ من المعلوم والمجهول في علة واحدة قاس الثاني على الأول في حكمه المنبثق عنه من تأثير تلك العلة. ويعتمد على مسلمتين عقليتين أحدهما: أن لكل معلول علة ولكل أثر مؤثر، والثانية: قانون التناسق والنظام في العالم الذي يجعل مظاهر الكون الجزئية المختلفة ترتبط بعلل كلية من شأنها أن تثبت التناسق والانسجام فيما بينها. ولا بد في عملية القياس من الاستقراء التام إذ هو الذي يبصر الباحث بحقيقة العلة وبواسطته يمكن إدراك العلاقات الثابتة الكلية بين الأشياء المتناثرة.

ومثاله: أن تبصر من بعيد مساكن يعيش فيها الناس فتستيقن من ذلك وجود الماء في ذلك المكان، لأنك تعلم مسبقاً وبالاستقراء التام أن من أهم أسباب صلاحية المكان لعيش الإنسان توافر الماء فيه لعلية الماء في إمكان الحياة.

وقد اشترط علماء المسلمين لصحة القياس في القضايا العقدية اليقينية أن تكون العلة مؤثرة في المعلول وأن تكون منضبطة واضحة غير مضطربة، كسببية المطر للإنبات والنار للإحراق، بقطع النظر عن البحث في حقيقة هذه السببية وتحليلها على ضوء الإيمان بالمسبب الحقيقي لها وهو الله جل جلاله.

ومثال استخدام القياس للوصول إلى الحقيقة: دلالة كل ما فيه مظهر الصنعة والتدبير على وجود صانع ومدبر له، فالعقل يستحضر بسرعة خاطفة سائر ما رآه وما تعلمه من وجود صانع ومبدع لكل صنعة متقنة واستحالة حدوثها بدون محدث، وعندئذ يقيس هذا الكون بما فيه على ما ثبت لديه من قبل فجزم بوجوب صانع متقن خبير له واستحالة حدوثه من غير محدث.