image_print

برهنة الشريعة بين الإجماع والقياس

في مقالنا السابق أشرنا إلى الأساس المتين الذي يمنحنا اليقين بالقرآن والسنة مصادر للتشريع والمعرفة، ويتفرع عن هذين المصدرين وطرق النظر إليهما آليات معرفية أخرى.

حجية الإجماع

بالنظر إلى الأدلة النقلية والعقلية استطاع العقل التوصل إلى نتيجة قطعية ألا وهي “لا يمكن للحق أن يرتفع عن المسلمين جميعا في أي عصرٍ كان لذلك فإجماعهم على حكمٍ معين يعني قطعيته بلا ريب”.

وقد فهم القارئ الكريم أن المقصود بهذا الكلام الآن هو الإجماع، ولكن المشكلة في هذا المصدر هو سوء استعمال كثير من الأفراد والجماعات له حتى أخرجوه عن مسماه وعلة صحته، ولفهم هذه النقطة الحساسة وجب علينا الرجوع قليلا بالمقدمات إلى البداية.

لو سألنا سؤالا: هل يمكن للحق أن يرتفع عن أهل الأرض جميعًا؟ فالمجيب عن السؤال إما أن يقول: نعم يمكن ارتفاعه عن الناس جميعا فيقال له “فقد لزمك أن يرتفع الحق عن مقولتك هذه أيضا إذ أنها مقولة واحدٍ من الناس الذين حكمتَ على مقولاتهم جميعا بالارتفاع فإن ارتفع الحق عن مقولتك التصق بالمقولة النقيضة لها وهي عدم ارتفاع الحق على الناس جميعا”

فإن أقررنا بعدم ارتفاع الحق عن الناس جميعا انتقلنا إلى المقدمة التي تليها فنقول: أليس الحق في المجال الديني “وحده دون بقية المجالات العلمية” يكون في الدين الصحيح؟ فإن قال المجيب “لا يكون في الدين الصحيح” قلنا فلماذا حكمت على الدين بالصحة ما دام الحق مع غيره لا معه؟ فإن قال “نعم، فالحق مع الدين الصحيح” قلنا: إن سبق للعقل أن برهن على أن الإسلام هو الدين الصحيح ألا يعني ذلك أن الحق في المسائل الدينية يكون موجودا في حملة هذا الدين وهم المسلمون؟ إذ سيكون على الأقل في واحد منهم إذ لا يمكن أن يغيب عنهم جميعا فيرتفع الحق عنهم وهم حملة الدين الصحيح الذي لا يكون الحق دينيا إلا فيه “وأريد التركيز على المجال الديني، أما المجالات العلمية الخارجة عن الدين فقد يكون الحق عند غير المسلمين ويكون المسلمون جميعا غير عالمين به أو جاهلين به أو على خطأ في تصوراتهم له وهذا جائزٌ عقلا وملاحظٌ واقعا في عددٍ من المجالات”.

فإن تبيّن ما سبق علمنا أن المسلمين لو اجتمعوا جميعا على مسألة دينية في عصرٍ معين فتلك المسألة تكون صحيحة بلا ريب، ويعضد هذا قول الله {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء: 115] وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وبناءً على ما سبق نجد أن الشرط في وصف القضية بالمجمع عليها أن تكون في مجال الدين أولا، وثانيا يكون الإجماع عليها من قِبِل المسلمين جميعا.

وهنا قد أنتقد تعريف كثيرٍ من العلماء للإجماع بأنه إجماع علماء عصرٍ ما على مسألة ما، وذلك لأن تضييق الدائرة من المسلمين جميعا إلى العلماء وحدهم ليس عليها أي دليل بل هي مناقضة للأصل الذي بُنيت عليه حجية الإجماع.

فالله قال {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] ولم يقل ويتبع غير سبيل العلماء أو غير سبيل علماء المؤمنين ومن المعلوم أن الله ليس إنسان ليسهو فلا يدقق في كلامه وإنما هو الإله التام الذي لا يقول عبارة إلا وهو يعلم معناها جيدا.

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ولم يقل (لا يجتمع علماء أمتي على ضلالة).

وأما الاستدلال العقلي الذي بنينا عليه حجية الإجماع فكان مبنيا على أساس عدم خروج الحق عن المسلمين جميعا لا عن علماء المسلمين حصرًا! وقد يقال هنا: لكن المسلمين الذين لا يملكون الأدوات الفقهية لا يحق لهم الإفتاء أصلا ليؤخذ كلامهم بعين الاعتبار في الدين؟

إلا أننا نقول: ليست المشكلة في أخذ أقوالهم وهم فرادى وإنما المصيبة أعمق من ذلك بكثير ويمكن تلخيص مشاكلها في محاور عديدة.

محاذير في الإجماع المعيّن

من جملة المحاور التي ينبغي الإشارة إليها في تعميم الإجماع هو أن قصر الإجماع على العلماء يجعل كل فريق أو حزب ديني متعصب لطائفته يحصر علماء الأمة في عدد من الشيوخ الموافقين له ثم يعتبر اتفاقهم على المسألة المعينة إجماعا وذلك بعد تعرية كل العلماء المخالفين له عن وصف العالم ما لم يُكفّرهم أساسا.

وقد فعل ذلك الجهمية والمعتزلة في زمن الإمام أحمد بن حنبل، حتى قال رحمه الله ورضي عنه: “من ادعى الإجماع فقد كذب” وذلك لأنهم كانوا يحصرون العلماء في طائفتهم ويستغلون سيف السلطان الذي سخروه لصالحهم ثم يقتلون أو يسجنون أو يُسكتون من خالفهم وبعد الانتهاء من كل ذلك يدعون الإجماع في المسألة، ويلاحظ اليوم أن عددًا من الجماعات يفعلون ذلك، فيُقصون بقية الأمة ثم يتخذون إجماع مشايخ طريقتهم وطائفتهم إجماعا ملزما لبقية الأمة.

إلى جانب ذلك فقد يسيء الناس تقدير العلم وأهله فيرفعون من لا يستحقه ويضعون من قدر أهله فيصنفون العالم الحقيقي مع من لا ينال صفة العالم أساسًا، ويصنفون غير العالم مع العلماء.

وقد يكون السبب في هذه التصنيفات جهل المصنفين أنفسهم بالعلم وأهله أو استغلال نفوذهم عند السلطان أو شهرتهم بين الناس أو حتى الخداع ببعض المظاهر كطول العمر واللحية والقميص الفاخر الذي ينزل عليه خمار الرأس والنظر إلى الأسفل لإظهار السّمت وإجابة السائل بالمختصر المخلّ لإظهار الهيبة، ناهيك عن استعانتهم بتزكية بعضهم لبعض أو الانخراط في حزب معين يحميه ويرفعه وبذلك يُصنّف مع العلماء وهو من الذين لم يتمكنوا في أي فن إسلامي.

في المقابل قد يصل الفرد لمرتبة العالم ولكن الناس لا يسمعون بوجوده إما لعدم شهرته أو لعدم وجود أصحاب المؤهلات العلمية الكافية التي تستطيع معرفة قيمته العلمية أو إقصائه وتهميشه حتى مع العلم بقوته حسدا وغيرة وخوفا على أن ينافسهم على عرشهم أو بسبب مخالفته لهم في توجهات فكرية أو سياسية أو حتى من أجل بعض الآراء الفقهية فضلا عن العقائدية.

وبناء على كل ما سبق كيف يمكن لنا عمليا أن نتأكد من أن المجمعين على المسألة في ذاك العصر المعين هم كل علماء المسلمين؟ وهل يمكن إحصاء آرائهم جميعا وقد يبلغ عددهم في العصر الواحد آلافًا؟

ثم لو حدث وأجمع كل العلماء على مسألة معينة ألا يكون إجماعهم عليها وعدم اختلافهم فيها دليلا على أنها من أوضح المسائل الشرعية كالشهادتين ووجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج وبقية المسائل التي يعرفها كل المسلمون علماء وعواما؟ فنعود للنتيجة الأولى نفسها عندئذ.

وهذه المسألة الواضحة التي يعرفها كل الناس ألا يكون مصدرها التشريعي الأول هو القرآن والسنة؟ إذ لا يمكن الاتفاق على مسألة لم يفصِل فيها القرآن والسنة لأن العقول لا تجتمع جميعا على قولٍ خفي وإنما تجتمع على القول الواضح الجلي.

مصدرية القياس

أما مصدر القياس فيمكن القول بأنه مصدر عقليٌّ محض وهو مستعملٌ في كل مجالات المعرفة سواء النقلية أم الحسية أم العقلية، لكننا لو دخلنا لمجال أصول الفقه فإننا نجد أن الأحكام الفقهية إما أن تكون أحكاما تعبدية وإما أن تكون أحكاما معللة، وببعض من التفصيل، فإن الحكم التعبدي هو الحُكم الذي لم يبين الشارِع علته في التحريم أو الكراهة أو الجواز أو الاستحباب أو الوجوب فيؤخذ كما هو، كعدد ركعات الصلاة.

أما الحكم المعلل فهو ما ذُكرت علة تحريمه في النصوص الشرعية وقال بعض الأصوليون “أو كانت علته واضحة يمكن استنباطها” وأميل إلى أن المعلل هو ما ذُكرت علته نصا لأن الإنسان قد يخطئ في استنباطه، وحتى ولو أصاب فقد يستنبط الحكمة من تحريمه لا العلة وفرقٌ بينهما فالحكمة موجودة حتى في الأحكام التعبدية سواء علمناها أم جهلناها ولا يقاس عليها أما العلة فهي منصوص عليها وترتبط بها القاعدة الفقهية “الحكم المعلل يدور مع علته وجودا وعدما”.

ولذلك كان القياس صالحا في الأحكام المعللة لا التعبدية كما أنه يكون في القضايا العامة التي يتفق عليها ولا يكون في المسائل الجزئية المختلف فيها.

أي أنه يكون في القدر المشترك لا القدر المتفرق، ومثال ذلك قياس السُكْر باستعمال البنزين على الخمر في كليّة السُّكر ولا نقيس بينهما في لون المادة أو وظائفها الأخرى من غير السُّكر، فلا نحرّم كل ما كان من عنب أو شعير قياسا على الخمر لأن علة التحريم في الخمر ليست مادة الصنع وإنما الإسكار، ولا نحرّم البنزين وقودا للسيارات لأن علة التحريم في جانب الإسكار هو الإسكار نفسه، أما في غير ذلك المجال فله أحكامه المنفصلة.

التأصيل المعرفي لمصادر الشريعة الإسلامية

تعتمد مصادر التشريع الإسلامي في الأصل على مصداقية القرآن والسنة وتحكيمهما في كل تفاصيل الأحكام الدينية وترد إليها التعاملات الدنيوية، إلا أن المراد بيانه دور العقل المهم في هذه العملية، حيث يبرهن على مصداقية النقل وصحة ثبوته ثم مطابقة دلالته لمناط الاستدلال المستخرج منه.

الاستهداء بالقرآن

أما العقل فله في الاستدلال طريقان: الاستدلال المباشر وغير المباشر، وينقسم الاستدلال المباشر إلى ثلاثة طرق، الاستدلال بالقياس والتمثيل والاستقراء، كما أن الاستدلال غير المباشر له ثلاثة طرق أيضًا، حيث الاستدلال بـالنقيض وعكس النقيض والعكس المستوي.

إن المسلم يعتنق الإسلام لاقتناعه بصحته عقلًا إذ لابد من مقدمة تسبق النتيجة –أي صحة الإسلام- حتى لا تكون النتيجة مجرد دعوى لا برهان عليها.

وطبعا فإنه من غير المعقول أن يكون البرهان على صحة الإسلام هو الجانب النقلي منه إذ أن ذلك يُعدّ استدلالًا بالدّور فيكون النقل استدلاًلا على صحة نفسه فلزم أن يكون النقل مقدمة ونتيجة في آن واحد وذلك ممتنع لعلة التناقض.

وبما أن العقل هو الذي يبرهن على صحة الإسلام فإنه يكون من حيث ترتيب المقدمات والنتائج سابقًا للنقل، ولكن بما أن العقل حكم على المنقول الإسلامي بالصحة بعد النظر إلى الحجج العقلية الواردة في هذا المنقول فإن هذا الخبر الذي حُكِمَ عليه بالصّدق المطلق يصبح حُجّة على العقل الذي حكم عليه بذلك.

وعندها لا يمكن للعقل أن يطعن في صحة أي جزئية فيه كأن يقول: (أخطأ الله في هذا الموضع) لأنه بذلك يناقض حكمه الأول إذ أن الجزئية السالبة تنقض الكلّية الموجبة، ولذلك صار لزاما على العقل الإيمان بكل ما قاله الله عز وجل.

السنة النبوية وضرورة الاعتراف

من جملة ما أنزل الله في قرآنه قوله: {فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} [النساء: 59]

وبعد أن جعَل العقلُ القرآنَ حكمًا عليه ومصدرا أولا في التشريع صار لزاما عليه أن يُدخل في مصادر التشريع ما أُمِر به في القرآن، وهو ردّ النزاع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا مما يعني إدخال سنّته في مصادر التشريع، وبذلك تكون أهم مصادره هي “القرآن والسنة”.

إلا أننا نتساءل .. ما هي السنة؟

السنة هي كل ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو وصفٍ أو تقرير، وقد حكم العقل على صحة ثبوت القرآن عن الله عز وجل من البداية، فبقي أن يعرف العقل طريقةً للوصول إلى السنة الصحيحة حتى يميز بينها وبين الضعيفة أو المكذوبة.

هنا توصّل العقل إلى شروطٍ لصحة الحديث من حيث الثبوت ثلاثة منها تدرُس الأسانيد وهي:

“اتصال السند، وعدالة الراوي: أي ترجيح صدقه ونزاهته وعدم كذبه، وضبطُه والضبط نوعان ضبطُ حفظٍ وضبطُ كتابةٍ وذلك لضمان عدم خطئه ولو بحسن قصد” واثنان منها تدرسُ المتون وهي “الخلو من الشذوذ أو العلل” وهذه الشروط كلها عقليّةٌ محضة إذ لا يوجد في القرآن ولا السنة اشتراطها لصحة المنقول كما لم يكن ممكنا أن تكون السنة حكما على ثبوت القواعد والقواعد حكما على ثبوت السنة في آن واحد فهذا دور سبقي ممتنع كما سبق بيانه.

وبناءً على ما سبق نعلم جيدا أن قواعد علم الحديث التي بها نميز بين الصحيح والضعيف والمكذوب قواعد عقلية، وليس الأمر مقتصرا على ذلك فحسب وإنما شرطان منهما يناقشان المتن مباشرة، أما شرط الشذوذ فعند مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ويمكن الاعتماد على السند فيه.

أما العلل فجلّها علل عقلية تمسّ المتن نفسه فيُحكم عليه بالنكارة إن كان ظنيا مخالفا للعقل للقطعي.

والعقل القطعي لا يحكم على القضية بالاستحالة إلا إن كانت مركبة من قضيتين متناقضتين قد توفرت فيهما وحدات التناقض الثمانية (الاتحاد في: الموضوع والمحمول والكل والجزء والمكان والزمان والقوة والفعل والشرط والإضافة، أو كان مناقضا لقضية واجبة الصحة، وليس كل حديث يستعصي فهمه على القارئ يرميه بحجة مخالفة العقل، فيجب التفريق بين العقل الذي يعمل وِفقَ قواعد وأصول متسلسلة في مقدماتها ونتائجها وبين العقل المعتمد على الهوى المحض، فقال الله {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71].

سبيل للإيضاح

نضرب هنا الآتي مثلاً، فإنه لا يقال: هذا الحديث ضعيف لأني لم أقتنع بالقصة التي وردت فيه.

وإنما على المعترض أن يبيّن وجه الاستحالة في القصة، فليست كل قصة مخالفة لما تعوّد الناس عليه تكون مستحيلة بالضرورة إذ أن باب الممكنات العقلية أوسع من باب المشاهدات الحسيّة، وليس عدم العلم بالشيء يعني العلم بعدمه.

فهناك من أنكر قصة الإسراء والمعراج لمجرد أنها تبدو غير مألوفة لديه ولم يتعود البشر على مشاهدة مثلها، ولكن لو عرضناها على العقل لوجدناها ممكنة لذاتها إذ إنها غير مركبة من نقيضين ولا هي مناقضة لقضية واجبة الصحة، بل هي مؤيدة لذلك إذ أن العقل أثبت وجود الخالق التام الذي يقدر على كل شيء وبما أنها من الممكنات لذاته فما المانع من أن يرجح الله وجودها على عدمه إن هو أراد ذلك؟ فيكون العقل هنا حجة على من ينكر الحادثة لأن المنكر يتهم الله من غير أن يشعر بالعجز عن نقل نبيه إليه وإعادته لمكانه في ليلة واحدة.

فهنا لا يصح أن يوصف المتن بأنه مخالف للعقل أصلا، ومن ثم إذا أردنا فهم دلالات النص وجدنا أنفسنا بحاجة إلى قواعدَ وأصولٍ توصل العقل إليها لغرض فهم المنقول ومعرفة دلالته، وهذا العلم يُصطلح عليه باسم “أصول الفقه”.

معظم قواعد هذا العلم عقلية ولغوية ومنها ما استُقرئ من مجموع النصوص النقلية بعد استعمال العقل آلةً لفهمها، لذلك اختلفت العقول في بعض قواعده فتأسست مذاهب فقهية كلٌّ منهم يريد الوصول إلى مراد الله ورسوله فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد.

إلى أين تصل بنا مغامرة العقل الفيزيائي؟

هي المدارات المبهمة، التي سقطنا في أعماق متاهات المبهمة فجأة، فبعد الإعلانات العلمية الكبرى من كوبرنيكوس وغاليلو والنظرات المعرفية المنهجية التي أطلقها بيكون وديكارت واستمر بها لوك حتى دخلنا مرحلة جديدة تنزع إلى العودة لأزمنة ما قبل الانفجار العقلي والعلمي الحديثين، على حد وصف الفيلسوف الألماني نيتشه “العائد الأبدي”، فهي تكرر صورة من شكلها الماضي في الحاضر والمستقبل، وبالرغم من أن قول نيتشه يصب في تأويل الوجود والكون إلى أنه يرتقي لتفسير حركة التاريخ فيم هو قائم من صراع حاد حول مرجعية البُنى العلمية التي قَدِمت في إعطاء صورة مطلقة صدقتها كل المؤسسات العلمية والدينية حول شكلية الوجود الكوني.

لحد الآن؛ كل ما وردنا من تفسيرات فيزيائية حول الوجود الأول وطرق تكوّنه انطلق من أزمة برهنة علمية وانتهى إلى مواقف فلسفية وفي أحيان كثيرة تتخفى وراء معاني لغوية، تنشد التعميم لا التجزيء، بخلاف ما يريد العلم أن يصل إليه؛ أي تفتيت المشكلة وإدراك أجزائها ثم تركيبها على نحو الكشف الكلّي لها مضيفا لها الأحكام العامة والخاصة لتشكيل نتائج واضحة غير مبهمة أو غامضة.

النموذج الفيزيائي التطوّري لتفسير الكون

حريٌّ –بنا- أن نتساءل بدئيًا وبصدق قبل تسليمنا المطلق والمتراخي بشدة حول ماهية النموذج الذي اعتمده الفيزيائيون في استوضاع مجال للمقارنة الرياضية؟ وبشكل أكثر وضوحًا ما الذي يجعلنا نُسلم بدقة الكون محل مجال البحث والإثبات؟

تقول الأصول العلمية لنظرية “الانفجار العظيم” –مثلاً- إن السؤال القديم لا يزال مطروحًا وهو ذلك المتعلق بالمادة والدائرية المحدودة والانكماش الحاصل لهذا الكون، ويذهب منظرو هذا الموقف إلى إقراره بالسؤال الحقيقي حول “المادة اللامتناهية في كتلتها وعمل الزمن عليها” فهل هي محدودة الكتلة ولها منطلق زمني؟ وفي إجابتهم على هذا يتصورون أن الكون دائري الشكل بطريقة واسعة لأن به مادة محدودة، فلو كان سطحيا لتصوره العقل على أنه لا متناهٍ زمنيًّا، وكتلته غير محدودة، لكن دائريته هي التي تفرض السرعة القصوى لحركة الأجرام السماوية بسرعة الضوء. وعلى هذا النحو -حسب اعتقادهم- فإن هناك مادة أولية نشأ منها هذا الكون، وبداية زمنية محددة.

وانغمست النظرية التطورية -مجالها الفيزياء الكونية- في أن الكون انطلق من الذروة الأولية، حيث إن كتلتها كانت بالغة الكبر والضخامة بشكل لا يمكن تصوره، وانفجار هذه الذرة الأولية بالموازاة مع حركتها في الزمن جعل منها ذات خاصية تمددية فتكوّنت في هذا الإطار المجرّات الكونية، فيعاد الاعتبار للتحسن الكوني لتطور تلك الذرة الأولى في مجريات الزمن على مدار ملايين السنين.
ولا تكاد نظرية الخلق المتجدد تغادر المجال النظري لسابقتيها غير أنها تضيف رأيها الخاص في تفسير التمدد، إذ أن حالة الكون من قدامتها لا تشبه حالته الراهنة بحيث يكون قد مر على فناء وإعادة خلق متجدد بطريقة مستمرة وهكذا إلى ما لا نهاية، وتعرض أيضا رأيها حول العناصر وكيفية تركُّبِها وحركتها الميكانيكية.

جدل الحسم المعرفي

على قدر ما قدمت هذه الأنظار مبرراتها حول الزمن، المادة، التطور، إلا أنها أسست لتيه جديد فنقلتنا من ميتافيزيقا عقلانية ودينية فرضتها الثقافة اليونانية والكلاسيكية إلى ميتافيزياء باسم العلم الفلسفي أو التفلسف بطريقة علمية.

هذه النتائج لحد الساعة لم تحدد المفاهيم اللازمة للمركبات الفيزيائية التي استعانت بها (الزمن، المادة..)، ولم تعط أي حل يمكن أن يتصوره العقل حول الحالة البدئية والحالية المستقرة للكون وحركة الزمن الطارئة عليه.

فما تم تقريضه عبر تقدم حركة العلم الحديث -الرؤى الكلاسيكية- والذي اتُّهِم غالبا بالأسطورة والخرافة وعدم العلمية واقتضاء القدرة اللازمة للبرهنة على صحة نفسه، ها هو ذا يعيدنا العلم الحديث إلى نفس المتاهة والمغامرة وهي التعدد المبهم حول ما يدور حولنا في هذا الكون الشاسع. فقد يتوارى أهل المذاهب الوضعية والعلمية والابستيمولوجية وراء لغة علمية ومنطقية دقيقة لكنهم في أقصى الأحوال لن يتمكنوا من إعطاء صورة دقيقة ونافية لما سبقها من تصورات من علم الكونيات الفلسفي –الكوسموس- ومركباته الأساسية.

فهذه الوضعية للمواقف العلمية توحي بأن علماء الفيزياء المعاصرة نقلوا تصورات الإنسان حول طبيعة العقل من المعنى المثالي الفلسفي إلى تقوُّل مادي رياضي تعود له منجزات الخلق والتفسير سواء تعلق هذا الفهم بتصور آينشتاين للوحدوية الإلهية أو بالتعددية النافية للخلق الأصلي كما عند دوكنز وهوكينغ.

الرضوخ للتصورات السابقة

إن مجمل ما يُشار له في هذا المخاض أن هذا الصراع كان قائمًا في أزمنة قديمة جدا حول طبيعة الله وأصل الخلق وتطور الكون، وبقي رهين نفس المقولات حتى مع التقدم العلمي الحالي بما أنه لم يغادر مجال الإبهام وعدم الإجابة عن التساؤل الإنساني حول ماهية الكون.

وحالما وجدنا هذه المفارقات المطروحة على مستوى محدودية العلم المعاصر في الكشف عن حجب صورة ووضعية التفلسف الكوني –الكوسموس- فإنه من الجلي إعادة طرح مشكلة التصور العقلي والمطابقة الواقعية؛ فالعقل بدوره يعيش في أوهام الصياغة الرياضية لفروض لم تخضع للتجربة ولا للبرهنة المادية ولا حتى لسياق يمكن للعقل ذاته تحديد دقة التصور حوله. فكأن الذي يُراجع ما تم إدراجه حول قراءات العلماء الذين انتهوا في معظمهم للقول بأن العقل هو الظاهرة الوحيدة التي يمكن التعامل معها ماديا وعلميا في سياقات الوجود؛ يصل إلى نتيجة مفادها أن هذه التأوّلات ما هي إلا منطلقات فلسفية تعيدنا للطرح الأول الذي ناقشه أفلاطون وأرسطو وغيرهم.

لم يستطع لحد الراهن هؤلاء العلماء الخروج عن منطق التصور الفلسفي والديني ووجدوا أنفسهم ضائعين في هذه المدارات تحت عباءة فرضيات وصيغ جديدة بطريقة علمية ولكن في الأخير لا يقتنع القارئ لها بصدقيتها ولا بواقعيتها ولا بقوة طرحها وإمكانية دخولها إلى عالم الحقائق الصورية، وطالما كان البشر على هذه الحال فإنه لا يزال للفلسفة والدين حيّزهما ومجالهما في تقرير الإثباتات والكشوفات العلمية، بل إن بقاء الدين مطلب ملح لعودة المناقشة من جديد في إيضاح جدوى المعارف الإنسانية وتبيين حدودها البشرية.

مغالطات الحداثيين في تناول موضوعات الوحي كمصدر للمعرفة

كثيرًا ما تؤدي الانتقائيّة إلى الوقوع في فخّ التّشتّت وفوضى الوعي، فالبناء العقليّ السّليم يقتضي الانطلاق من مصادر معرفيّة سليمة هي بمثابة المشترك العقليّ بين البشر، كما يقول كانط: “العقل هو أعدل الأمور قسمة بين النّاس”.

والعقل مقيّد بمدخلاته ومصادر معرفته، ولكنّنا نجد أنفسنا في واقع فكريّ هجين بين محاولات رفض ماضي الذّات ومحاولات استنساخ حاضر الآخر.

هذا الواقع يستدعي طرح تساؤل حول (الهويّة) المعرفيّة، والدّينيّة، والفكريّة، والاجتماعيّة، والسّياسيّة، للإنسان العربيّ، وأسباب ضياعها أو تحوّلها لهويّة هجينة محيّرة تكبل الإنتاج والإبداع والنّهوض.

وعلى الرّغم من أهميّة البحث عن إجابة سؤال الهويّة، إلّا أنّ موضوع هذا المقال هو من متعلّقات هذا التساؤل بشكل مباشر، وغير مباشر. وهو الحداثة الغربيّة وأثرها في الفكر العربيّ الذي لا بدّ أن يكون أثرًا مشوّهًا بسبب اختلاف البيئة، والمنهج، والغايات.

ومن أهمّ مستندات الحداثة فكرة مفادها أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه غير مفتقر ولا محتاج لسواه لتدبير أمور نفسه ومجتمعه.
وهي فكرة يؤدي انتقالها إلى الفكر العربيّ -الإسلاميّ خاصّة- إلى الكفر بخالق الكون، ورفض سيادته وقيوميّته عليه. والقراءة النّصيّة في كتب الحداثيين العرب توصلنا إلى محاولات تفنيد فكرة مركزيّة الله، وحصرها في الإنسان من خلال الطّعن بأمرين هما: ذات الوجود الإلهيّ، ووسيلة تواصل الخالق مع الخلق، وهي المعروفة لدينا بالوحي.

ومغالطات الحداثيين العرب بتقليد المنهج الحداثيّ الغربيّ في رفض فكرة الوحي كمصدر معرفيّ ضروريّ للإنسان، هي مجال حديث هذا المقال. على أنّنا لا نغفل عن ذكر جهودٍ عربيّة فكريّة تناولت المنهج الحداثيّ بالنّقد والتّمحيص، وساهمت في محاولة لتأسيس فكر حداثيّ عربيّ أو إسلاميّ منضبط، مع المحافظة على ذات فكريّة مستقلّة تتصل بالماضي بمقدار ما يحتاجه الحاضر، وتأخذ في طريق استقلالها شروطها التّاريخية والقيميّة بعيدًا عن التّبعيّة والماديّة، كما فعل المفكر طه عبد الرّحمن في كتابه “روح الحداثة: المدخل إلى حداثة إسلاميّة”، فجعل مقوّمات الحداثة ثلاثة أمور هي: الرّشد والنّقد، والشّمول. بحيث تفتعل كلّ أمّة حداثتها الخاصّة دون دعوة إلى القطيعة مع التّراث، وإنّما دعوة إلى مبادئ وأسس خاصّة ينبغي تطبيقها للنّهوض بالحضارة الإنسانيّة.

“إنّ علاقة الفرد بتراثه ليست علاقة نظريّة جامدة، ولا علاقة اختياريّة، بل وجدانيّة اضطراريّة. دون أن يقصد من ذلك قبولًا غير منضبط للمنقول، أو رفضًا تامًّا لمنهجيّات نقد التّراث.” [1]

ظهر مفهوم الحداثة بعد مرحلة تاريخيّة مرّت بها مجتمعات إنسانيّة غربيّة اصيبت بظروف بيئيّة لعبت السّلطة الدّينيّة، والسّلطة السّياسيّة دور البطل فيها، وبعد هذه المرحلة تبلورالمفهوم ليطلق على أيّ حركة تدعو إلى الاستنارة الفكريّة، والخروج من الماضي، والنّظر إلى الحاضر بأدوات عقليّة فرديّة.

يشير المسيري إلى مفهوم الحداثة، فيقول: “ثمة ما يشبه الإجماع على أنّ الحداثة مرتبطة تمامًا بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه لا يحتاج إلّا إلى عقله، سواء في دراسة الواقع، أو إدارة المجتمع أو للتّمييز بين الصّالح والطّالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر، مصدر المعنى والقيمة، والتّكنولوجيا هي الآلية الأساسيّة في محاولة تسخير الطّبيعة وإعادة صياغتها ليحقّق الإنسان سعادته ومنفعته، والعقل هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المعرفة.” [2]

كما نجد في مبحث مفهوم الحداثة دلالات فلسفيّة واجتماعيّة مرتبطة بالفعل، فليست الحداثة مفهوم نظريّ، أو آلة فكريّة مجرّدة، بل تؤثر في الفرد بما يغيّر قناعاته وبالضّرورة تغيّر سلوكه أو تبنّيه من جديد.

أمّا مفهوم الوحي فهو واسع ويتفرّع عنه مسائل عديدة، ما يهمّنا هنا هو المفهوم نفسه، فهو وسيلة اختارها الله خالق الكون ليتواصل بها مع البشر، ويعلّمهم بأمور توقّفت عنها عقولهم كإجابة سؤال النّشأة والغاية والمصير. فالمعرفة القادمة من الذّات الإلهيّة الخارجة عن ماهية الكون هي أعلى درجات المعرفة، فمن أدرى بالمخلوقات من الخالق؟

مع التّنبيه إلى استغناء الإله عن الوسائل والطّرق، فمن لوازم الإيمان بأنّه إله، ومن موجبات إلوهيّته أنّه فعّال لما يريد ولا يُسأل عمّا يفعل.

لم تنعكس الحداثة الغربيّة في الفكر العربيّ على استشكال مفهوم الوحي وحسب، بل تعدّت إلى رفض النّظرة الدّينيّة لأصل الوجود وشكّكت في حقيقة وجود الذّات الإلهيّة، وبعثة الأنبياء، والخوض في طبيعتهم البشريّة وإمكانيّة ادّعاء الوحي وهيئاته، والتّشكيك في حجيّة السّنّة، والمطالبات بإعادة قراءة وتفسير النّص المقدّس بما يتناسب مع الواقع الحاليّ مع ضرورة إهمال كل التّفاسير السّابقة إلى آخره من المسائل الدينيّة في الفكر العربيّ، والتي صادمت فكر الحداثة الغربيّة.

لكن حار دليلنا مع كمّ الأفكار المتناقضة بين مفكري الحداثة العرب، وطريقة تناولهم الذّاتيّة لكلّ مسألة من مسائل الدّين غير المتوافقة مع فكرهم الحداثيّ المُقلّد، فبين محاولات التّوفيق ومحاولات الانسلاخ، تضيع المبادئ ويضيع المعيار النّقديّ، وقد يتحوّل إلى مصالح ذاتيّة فرديّة، منطلقها في النّقد الجهل والهوى والرّغبة الجامحة في هدم الموروث، والخروج عن طبيعة التّفكير السّائدة!

“فترى أحدهم  ينعى تعطيل العقلانيّة والبرهانيّة في تاريخ الفكر العربيّ لصالح عرفانيّة الغزالي التي أفضت إلى غيبوبة العقل برأيه، ثمّ تراه في سياق آخر يستدعي نصًّا صوفيًّا للنّفري مشيدًا بشعريّته العالية ورؤيته الكونيّة، ويراه مثالًا للنّصّ الإبداعيّ العالي الذي تواطأت المؤسّسة الدّينيّة الثّقافيّة على تغييبه.” [3]

جاء تعريف نظريّة المعرفة في المعجم الفلسفيّ على أنّها: البحث في طبيعة المعرفة وأصلها وقيمتها ووسائلها وحدودها. فمكوّنات المعرفة داخلة في التّعريف نفسه، وأهمّها هي الوسائل أو المصادر. وقد اتّفق عقلاء الحضارات على أنّ هذه المصادر لا تخرج عن ثلاث؛ العقل، والخبر، والحس. وأنّها تشكّل في وعي الإنسان تكاملًا معرفيًّا موزونًا لا يشوبه النّقص المعرفيّ الدّنيويّ. ومع ذلك استعلى بعض الحداثيين عن الوحي، واستشكل بعضهم متعلّقاته مع محاولات لنزع قداسة النّصّ والتّشكيك في مصدره، وننطلق الآن في سرد بعض هذه الإشكالات، ثمّ بيان المغالطات التي وقع بها الحداثيون العرب في هذا السّياق.

يحتجّ المشروع الحداثيّ على العقل الإسلاميّ بأنّه محكوم بنظام معرفيّ واحد متمثل باللّاهوت أو الوحي، والجهود الفكريّة في تاريخ الفكر الإسلاميّ ما هي إلّا مجرد “نضالات من أجل الحقيقة”، وهذا ما يقوله محمد أركون، عرّاب الفكر الحداثيّ المعاصر.

يقول أركون: “العقل الدّينيّ ينشط داخل إطار المعرفة الجاهزة، ويقوم باستخراج المعرفة الصّحيحة اعتمادًا على النّصوص الدّينيّة، ولذا فإنّه يبقى عقلًا تابعًا لا مستقلًّا، فليس بمقدوره أن يقدّم مشكلة مشروعيّة المرور أو الانتقال من مرحلة الوحي (النّصّ المقدّس) إلى مرحلة المعارف المنجزة طبقًا للمنهجيّات الأصوليّة.” [أركون، 1989]

ومغالطة هذا القول تكمن في أمرين؛ أولهما أنّه ممتلئ بالألفاظ المشحونة التي توهم القارئ صحّة الكلام، وتتضمّن في دلالتها معنى سلبيّ يستحضره الذّهن تلقائيًّا عند قراءتها، وتعكس الجانب الشّخصيّ للكاتب أو المتحدّث. والأمر الثّاني هو أن كلام أركون منطلق من افتراض مبنيّ على استقراء ذاتيّ لجهود المفكرين والعلماء المسلمين من قبل ومن بعد، وهذا ما يسمّى في علم المنطق بمغالطة التعميم المتسرّع بحيث يفترض الطّرف الأوّل فرضيّة ثمّ يعمّمها على كلّ عيّنات وكلام الطّرف الثّاني دون برهان منطقيّ صائب بل مجرد استقراء ناقص.

فالموروث الإسلاميّ منطلق من تكامل مصادر المعرفة بين العقل والخبر والحسّ، والفِرق الإسلاميّة تتفاضل فيما بينها بمناهج المعرفة التي بنيت عليها مواقفها من المسائل الدّينيّة، فنجد ابن تيمية مثلًا يتحدّث في منع تعارض العقل مع النّقل، ولا حاكم ولا محكوم بين مصادر المعرفة، بل هو تكامل تامّ.

ويغفل الحداثيّون عن أنّ محلّ نقاش الفرق الإسلاميّة بين بعضها، هو كيفيّة التّعامل مع النصّ القرآني بين تأويل وتفويض، وليس التّقديم المطلق للنّصّ على العقل، أو إغفال مصدريّة الثّانية، وتحكيم الأوّل بالمطلق.

ولو شئنا أن نغالط لقلنا إنّ الحداثيين يقعون بمثل هذا -أي الاحتكام لنظام معرفيّ واحد- فالعقل عندهم هو بمثابة الوحي عندنا، وهو نظامهم المعرفيّ الوحيد! ولكنّنا نستعلي عن مثل هذه الأساليب، ولا نوافق قولهم من أساسه.

وللحداثيين اعتراض آخر على الوحي يتمثّل في أنسنة النّصّ، وإقصاء الإله عن توجيه الإنسان، وجعله محور الوجود وسيّده وواضع المبادئ والقيم له، فيرجع الأمر كلّه للإنسان لا للإله.

يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه نقد الخطاب الدّينيّ: “ولعلّنا الآن أصبحنا في موقف يسمح لنا بالقول إنّ النّصوصّ الدّينيّة نصوصًا لغويّة، شأنها شأن أيّة نصوص أخرى في الثّقافة، وأنّ أصلها الإلهيّ لا يعني أَّنّها في درسها وتحليلها تحتاج لمنهجيّات ذات طبيعة خاصّة تتناسب مع طبيعتها الإلهيّة الخاصّة.” [4]

وهذا القول هو محور مشروع الأنسنة التي يتبنّاه بعض الحداثيين، وثمة أمثلة أخرى ومقالات عديدة تدور كلّها حول نفس الفكرة (فصل النّصّ عن مصدره) وإعادة قراءته على صورة واقعيّة مع تهميش لأدوات الفهم الخاصّة وجهود المفسّرين المتوارثة. وهذا القول في رأيي ينطوي على عنصر الاستعلاء النّخبويّ المضمر الذي يلازم المفكر الحداثيّ، والغريب ما نراه اليوم ممّن يتصدّر منصّات الإعلام والثّقافة، فيستعلي عن الدّين وحالة التّديّن ويربأ بنفسه وعقله عنه، كأنّ من شرط النّخبويّة الطّعن في المقدّس!

ومغالطة تبنّي هذا الرّأي تكمن في تهوين الرّأي الذي تتمّ محاورته، بادّعاء بنائه على نحو يصير من اليسير نقده، وإمكانيّة عدم صدقه، بحيث يصير قائله كغيره من النّاس ليس لقوله أيّ حجّة. وهو ما يُعرف بمغالطة رجل القشّ، الغلط هنا يكمن في أمر دقيق غفل عنه الحداثيّون؛ إذ إن تسلسل الأفكار المنطقيّة المختصّة بذات الإله تُلزم الإنسان بالتّسليم والطّاعة لأوامره إذا ثبت صدق حاملها، وهذا متحقّق في النّصّ المقدّس الذي بين أيدينا وهو القرآن، فلِمَ هذا الخوض في تفاصيل الأفكار الدّينيّة وترك أصولها؟ فالأصل في النّقد هو النّظر إلى أصل الفكرة، وليس الخوض فيما يلزم عنها مع عدم تقرير أصلها، أهو خلاف أم نقطة اتّفاق، فإنّ إقرارهم بوجود الله والصّفات اللازمة له كإله واحد للكون، وأنّهم يؤمنون بالقرآن كلامًا له، يبطل قولهم ومطالبتهم بالأنسنة بالضّرورة.

فهو شبيه بالتّناقض كمن يقول أنا أؤمن بإله، لكن أؤمن بمحدوديّة قدرته أيضًا، وهذا باطل بالضّرورة العقليّة، فلازم الإله القدرة والإرادة المطلقة.

وفي النّهاية تقلّب الفكر العربيّ بالحداثة الغربيّة، ومرّ بأطوار كثيرة ظلّ الثّابت في كلّ طور منها؛ هو الدّعوة إلى الأنسنة والعقلنة، والمتّتبع لنصوص الحداثيين، يجدها في معظم الدّعاوي تفتقد للمنطق والبناء العقليّ السّليم في أصول الأفكار وفروعها، وما تقدّم من نماذج قليلة هو على سبيل الذّكر لا الحصر، وليس الغاية من هذا كلّه الإقصاء، وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة دون الآخرين، بل هي دعوة إلى الخروج من النّزعة الاستعلائيّة والاختزاليّة للحداثة، والنّظر إليها كفلسفة قابلة للنّقد، وعدم قراءة النّصوص الحداثيّة قراءة سطحيّة لا تستبطن منظومتها الغربيّة ولا المعرفيّة.


[1] طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ص 16

[2] عبدالوهاب المسيري، دراساتمعرفية في الحداثة الغربية، القاهرة،دار الشروق،٢٠٠٦،ص٣٤

[3]  وليد سيف، الشاهد والمشهود، الأردن، الأهلية للنشر والتوزيع، ٢٠١٦،ص٢١١

[4] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني ،ص٢٠٦

دور اللغة في التغيير

بين وابل الترغيب والترهيب الذي ينهال يومياً على الناس، يحذرهم من العذاب أو يحفزهم للجنة، وبين المطويات التي تطبع بمئات الآلاف، والرسائل المطولة التي تُرسل ولا يقرأها المُرسِل ولا المستقبل، يقف جيل الناشئة مشدوهاً أمام الآيات والأحاديث التي تُعرض عليه، وكأنها تُقال بلغة مختلفة مع أنه يفهمها. وكأن الحاجة إلى ترجمان باتت ماسّة اليوم، رغم أن الجيل يفهم الأغاني والمسلسلات بكل لغات العالم، لكنه يقف عاجزاً أمام لغة لم تعد تصل إليه، لأن القيم تتلاشى في زمن صعب، ومعاني المفردات تضيع.

ولأن الكلمات تغدو محصورة ومحاصرة ومضيق عليها في أطر وموضوعات بعينها يريدها الإعلام ويصفّق لها المجتمع ويستجيب، يغدو ضرورياً البحث عن مخرج لأزمة التغييب، كما يغدو واجباً إنسانياً وأخلاقياً وحضارياً إعادة الدين للإنسان، فحياة العبث والاتكاء على فراغ لن تنتج إلا مزيداً من العبثية والوحشية والضياع، وسيغيب الرادع الذي يصنع من الإنسان إنساناً.

أزمة هوية
كثرت الهويات وتناطحت فيما بينها، حتى تلاشى الوجه الحقيقي لهوية المسلم، وبات يأخذ تعريفات ومسميات لهويته من الآخرين، ومهما جد أو اجتهد في تركيب صورة ومعنى لهويته فلن يفلح، لأن الصور المستوردة لن تقدم حقيقة كالصورة النابعة من الصميم.

صورة المسلم باتت مشوهة ما بين معاني الإرهاب ومسمياته المختلطة، وبين سمة داعش ومنهجها التي قدمت أكثر الصور تشويهاً للإسلام، فبات الملاذ الأوحد للمسلم أن يتخلى عن هويته ويرفع هويات الآخرين لعله بذلك يقف على أرضية صلبة. بينما كان بالإمكان إعادة بناء الهوية المنطلقة من الفهم الواعي للقرآن والسنة، وحملها دستور حياة لا مجال فيه للتخلي.

قال تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” [الأنعام: 162، 163].

أزمة إدراك
هي أزمة إدراك للسبب الحقيقي من الخلق، ومن وجود الإنسان في الحياة، الأمر الذي إن استطاع كل إنسان إدراك حقيقته ومعناه سيتغير مفهوم العبادات من طقوس إلى حياة، وسيؤمن هذا الإنسان بدوره كخليفة في الأرض، فيعبر من خلال إدراكه هذا كل مرحلة بوعي مختلف، ورغبة حقيقية بأن يمضي قدماً للأمام، قال تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” [البقرة: 30].

أزمة لغة وفهم: فإهمال اللغة وقصرها على جوانب معينة، وترك تداول لغة القرآن، والتهاون في فهم معانيه أدى إلى تراجع ملحوظ في استخدامات اللغة عند الجيل الجديد، كما أدى تدريجياً لفقدان القدرة على التعبير عن النفس، وبالتالي غياب أو انعدام التواصل الصحيح بين البشر، نتيجة عدم الفهم الصحيح.

قال تعالى: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب” [ص: 30].

أزمة تربية وتعليم: إن التهاون في استخدام اللغة، وفي استبدالها بالأدنى، وتهميش أثرها ودورها ضمن جميع المراحل التي يمر بها الإنسان، والمحطات التعليمية والتربوية التي يقف عندها أدى لوجود فجوة واضحة أدت وتؤدي إلى نتائج وخيمة، مما أخلى الساحة لمن يقوم بتأويل الآيات والأحاديث على هواه، ولتتحول اللغة إلى أداة في يد العابثين يحتلون بها عقولنا ويحكمون القيد من خلالها.

قال تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون” [يوسف: 2] .

فغاية القرآن العقل، والعقل أساس الوعي، ووعاء النهضة، وعمود الفهم والانطلاق لإعمار الكون بالخير، ومن عقم فهمه للقرآن أغلق على قلبه فبات سجناً لكل وباء، وبالعكس، حين تتفتح المعاني في الآيات، تفتح معها مغاليق القلوب والعقول، فينعكس ذلك سلوكاً مستقيماً، وعملاً صالحاً، وحينها سيُفهم تماماً ماذا أراد الله لأهل الخير من خير، وماذا أعد للخارجين عن القوانين والسنن من جزاء وعقاب بسبب اختياراتهم. إننا نحتاج أن نفهم على الله أولاً، لنفهم أنفسنا، ثم لنغير واقعنا ونؤثر فيه.

“لازم المذهب”.. هل يجوز التكفير بالتأويل؟

 

لازم القول هو ما يترتب على القول بشيء ما من أمور تترتب عليه، وصاحب القول أو الرأي إما أن يلتزم لازم قوله أو يسكت عنه، فإن التزمه فلا خلاف في أنه يُحاسب عليه ويُعد مذهباً له، لكن العلماء اختلفوا فيما لو سكت عن لوازم قوله.

وكان لهذا الاختلاف وقْع خطير على الفكر الكلامي الإسلامي، حيث كان بعض العلماء يكفّر أو يفسّق أو يبدّع البعض الآخر على لازم قوله دون أن يكون الآخر قد التزم هذا القول، ودون أن يحقق مدى لزوم ذلك اللازم، وقد نبه كثير من العلماء على خطورة التكفير بما يُؤول إليه الكلام، ومنهم ابن حزم الظاهري الذي قال: “وأما من كفّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه؛ فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ فر من الكفر…”.

وقال ابن رشد: “ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرّحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر، وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم”.

 

مذاهب العلماء في لازم المذهب
تتنوع مذاهب العلماء في اعتبار أن لازم المذهب مذهب، وهي تتلخص في ثلاثة مذاهب نوجزها كما يلي:

المذهب الأول: وهو رأي الأغلبية، حيث يرون عدم اعتباره مذهباً وعدم التعويل عليه في إطلاق الإحكام ونقل الأقوال، ودون التفريق بين القريب والبعيد.

قال ابن الوزير اليماني: “إن التكفير بالإلزام، ومآل المذهب رأي محض، لم يرد به السمع لا تواتراً، ولا إجماعاً، والفرض أن أدلة التكفير والتفسيق لا تكون إلا سمعية؛ فانهدّت القاعدة، وبقي التكفير به على غير أساس”.

وعلى هذا القول أكثر المتكلمين والمحدثين، ومنهم ابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، ونعمان الآلوسي، والشاطبي في الاعتصام ونقله عن شيوخه.

المذهب الثاني: التفريق بين اللازم القريب (البيّن) واللازم البعيد (الخفي)؛ فاعتُبر الأول قولا لصاحبه والثاني ليس قولاً، وهو قول طائفة من المالكية، كمحمد بن عرفة الدسوقي المالكي.

الطاهر بن عاشور

الطاهر بن عاشور

المذهب الثالث: اعتبار لازم المذهب مذهباً، وهو قول الطاهر بن عاشور في تفسيره حيث قال: “وفي هذه الآية دليل على أن لازم القول يعتبر قولاً، وأن لازم المذهب مذهب”، واستدل بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، ومحل الشاهد أن الكفار أنكروا البعث والجزاء؛ فكان من لوازمه اعتبار خلق السموات والأرض من الباطل، مع أن الله قد ذكر ذلك؛ فقال: {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وحاسبهم عليه؛ فلو لم يكن لازم المذهب مذهب لما اعتبره الله وحاسبهم عليه، حسب رأي ابن عاشور.

 

المناقشة والترجيح
يبدو أن القول الثالث وهو أن لازم المذهب مذهب؛ هو قول شاذ لِما يترتب عليه من النتائج الخطيرة؛ إذ يلزم منه تكفير الفِرق الإسلامية لبعضها لأدنى لازم من لوازم الأقوال، وهو منهج خطير إذ كفّر البعضُ المعتزلة لقولهم إن المعدوم شيء لأن لازم قولهم هذا أن العالم قديم، وكفّر آخرون بعض الحنابلة ممن قالوا إن آيات الصفات تُحمل على حقيقتها بالنسبة إلى الله لأن لازم هذا القول التجسيم والتشبيه لله بخلقه.

وكذلك فإن بعض العلماء لم يحتاطوا في تكفير المسلمين؛ وألفوا في ذلك كتباً، فقد كفّر البعض القائلين بإنكار الجوهر الفرد؛ لأنه يعتقد أن لازم ذلك نفي مقدورية الله على إحصاء أجزاء العالم وعلمه بكمية أجزائه، مع أن الخلاف حول إثبات الجوهر الفرد مشهور.

وأما ما استدل فيه ابن عاشور على أن لازم المذهب مذهب من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فهو استدلال ضعيف؛ لأن الكفار كانوا يعتقدون ويقولون بأن خلق السموات والأرض من الباطل، ودليل ذلك أن الله أسند ذلك إليهم، وأما الظن فهو تكذيب من الله لهم.

ونستطيع أن نقول أيضا إن هذا القول قياسٌ للغائب على الشاهد، فالإنسان ضعيف ليس له إلا الظاهر؛ فهو لا يعلم ما في صدر صاحب القول ومدى تبنيه للوازمه إلا إذا صرح بذلك هو، أما الله فله العلم الكامل؛ فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؛ فلعله عَلِم أنهم تبنوا هذا القول.

والخلاصة أن القول بأن “لازم المذهب مذهب” فيه هدم للفكر الإسلامي من أساسه؛ ولذلك فهو قول شاذ مخالف لرأي جمهور الأمة.

وأما مذهب التفصيل الذي اعتبر أن اللازم القريب مذهب، وأن اللازم البعيد ليس بمذهب؛ ففيه إشكال قد يُستغل في إطلاق أحكام في غير محلها، وهو كيفية معرفة اللازم القريب من البعيد أو الضابط الذي يضبط القرب والبعد، وكيف يمكننا أن نعرف أن هذا اللازم قريب أم بعيد.

وسبب هذا التساؤل أننا وجدنا بعض العلماء قد اختلفوا في اعتبار لازم من اللوازم قريباً أو بعيداً، وإلا لو كان هناك ضابط معين للتفريق بينهما لم يختلف العلماء، وأرى أن مذهب التفصيل قولاً فضفاضاً لا ينضبط، بل قد يستغله أي شخص ويعتبر أن لازم قول من الأقوال قريب، وهو في الحقيقة بعيد كل البعد، وربما لم يخطر في بال صاحبه أصلا.

ولذلك أرجّح أن لازم المذهب ليس مذهبا مطلقا إلا إن سُئل صاحبه عنه والتزمه، أو صرح هو بالتزامه؛ فيكون مذهبا له، وهذا كما سبق هو قول الأكثرين من العلماء من المتكلمين والمحدثين، وهذا أسلم وأقرب إلى روح أهل العلم في التثبت في نقل القول، وأعتق لرقاب ودماء المسلمين من التكفير. وقد قال الصنعاني “ولهذا تقرر عند المحققين أن لازم المذهب ليس بمذهب”.


أهم المراجع:
الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، دار الجيل، بيروت، ط: الثَّانية، 1416هـ، 1996م، تحقيق: محمَّد إبراهيم نصر، وعبد الرَّحمن عميرة.

بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد، مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، ط: الرابعة، 1395ه، 1975م.

العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، مؤسَّسة الرِّسالة، ط: الثَّالثة، 1415ه، 1994م، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.

إجابة السائل شرح بغية الآمل، الصنعاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: الأولى، 1986، تحقيق: القاضي حسين بن أحمد السياغي وحسن محمد مقبولي الأهدل.

التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، 1997م.

منهج المعرفة عند ابن حزم

يعد الإمام الأندلسي ابن حزم الظاهري (المتوفى عام 1064م) من من أكبر علماء الأندلس وأكثرهم تأليفا، فكان بارعاً في علم الكلام والفلسفة والأدب والأنساب والفقه، كما كان وزيرا للدولة الأموية في الأندلس، واشتهر في التجديد الفقهي ومباحث مقارنة الأديان.

ويرى ابن حزم أن الوصول إلى معرفة الحق لا بد أن يتم من خلال أحد مصدرين:
1- أوائل العقول، أو البدهيات العقلية: وهي مما يعلمها جميع الناس حتى الصبي الصغير الذي إن أعطيته تمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سر، وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء، وكذلك علمه بأنه لا يجتمع المتضادان فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود علماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً.

2- أوائل الحس أو الكيفيات الحسية: كالعلم بأن الأحمر مخالف للأخضر، وكالفرق بين الخشن والأملس واللزج، والحار والبارد، وكالفرق بين الحلو والحامض والمر والمالح. وكالفرق بين الصوت الحاد والغليظ والرقيق والمطرب والمفزع.

فهذه الأوائل العقلية منها والحسية؛ يجدها المرء في نفسه حال التمييز، فهي بمنزلة الضرورة.

ويترتب على هذين القسمين ما يلي:
1- المقدمات التجريبية الراجعة إلى ما صححته المشاهد والتجارب، وهي ضرورية بموجبها، وباتساقها مع الأوائل.

2- المقدمات الإخبارية: وتضم القضايا التاريخية والدينية التي تم التحقق من صدقها ولها ضرورتها الخاصة وتتسق مع ما سبق.

3- النتائج اللازمة بالاستدلال المنطقي الصحيح عن مقدمات القسمين الأول والثاني، وهي ضرورية ضرورة منطقية.

فهذه المقدمات لاشك فيها ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلاً إلا مجنون، وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم وصغارهم في أقطار الأرض إلا من غالط حسه وكابر عقله.

وعليه فقضايا قسمي الأوائل الحسية والعقلية، ومن ثم المقدمات المتسقة معها من تجريبية وإخبارية (شفوية ونصية)، والنتائج اللازمة عنها جميعاً تستغرق كل موضوعات المعرفة البشرية.

والشاهد من التمهيد الذي ذكرنا، أن ما رجع إلى مقدمة من المقدمات المذكورة فهو حق كما أن تلك المقدمة حق لا فرق بينهما في أنهما حق، والخبر الشفوي والنصي يمكن أن يرجع هذه المقدمات، وبالتالي فهو من مصادر المعرفة إن كان صادقاً.

وقبل النظر في صدق أخبار الأنبياء، نرجع مجدداً إلى ابن حزم الذي يحدثنا عن أن النبوة من الضرورات المعرفية للبشرية لتستقيم حياتها، فهو يرى أن العلوم والصناعات لا يمكن البتة أن يهتدي أحد إليها بطبعه دون تعليم، كالطب ومعرفة الطبائع والأمراض وسببها على كثرة اختلافها ووجود العلاج لها بالعقاقير، وأن الإنسانية حتى تصل إلى معرفة ذلك تحتاج إلى تجارب تستغرق عشرات الآلاف من السنين، لأن ذلك يتطلب مشاهدة كل مريض في العالم وهذا يقطع دونه قواطع الموت والانشغال بشؤون الحياة والممات، ومثل ذلك الكثير من المعارف التي حصلت عليها البشرية، فلا سبيل إلى اختراع هذه المعارف بدون هداية، وهو بذلك لا يعني أن هذه المعارف غير مصنفة بالكتب، بل يقصد ابتداء معرفة هيئتها الأولى وتعلمها كابتداء الأمراض وأنواعها وقوى العقاقير والمعاناة بها وابتداء معرفة الصناعات، فهي لم تكن إلا بوحي من الله تعالى، ليخلص من ذلك إلى القول أنه “لا بد من إنسان واحد فأكثر، علّمهم الله تعالى ابتداءً كل هذا دون معلم، لكن بوحي حققه عنده، وهذه صفة النبوة، فإذن لابد من نبي أو أنبياء ضرورة فقد صح وجود النبوة والنبي في العالم بلا شك”.

وبعد هذه المقدمة، فإن النبي الذي يرسله الله تعالى إلى البشر، فلا بد له من آيات “معجزات”، يكون مدعاة للتصديق به، وحتى تتميز هذه الآيات عن غيرها من مظاهر السحر وفعل العجائب، لا بد أن تكون معجزات الرسل خاصة بهم، ولا يقدر عليها أحد غيرهم وهي كالتالي:

1- اختراع الجوهر من العدم: كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.

2- قلب الأعيان وإحالة الطبائع: كقلب العصا حية، وإحياء الموتى.

3- إحالة الأعراض التي لا تزول إلا بفساد حاملها: كسواد الزنجي فهذا لا يقدر عليه أحد دون الله.

4- إحالة الذاتيات: كمن سقى مريضاً شيئا يضره فيبرأ (أي يشفى).

يمكننا الآن القول: إن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام هو نبي مرسل من الله، وقد أتى بآيات معجزات مؤيدات لرسالته من الله سبحانه وتعالى، وأنه جاء بأخبار صادقة متمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وأن ذلك تم من خلال الوحي، وأن الله سبحانه وتعالى عصمه كما عصم غيره من الأنبياء في جانب التبليغ مطلقاً فلا يقع منهم خطأ ولا سهو.

مذكرات بحّار.. إبحار أندلسي في مغارات العقل

أبو بكر غاييغو، كاتب أسباني متميز، اعتنق الإسلام بعد رحلة طويلة ومثيرة في البحث عن الحقيقة، ابتدأها في سن السابعة عشرة عندما قرأ كتابه الأول في نقد الكاثوليكية، فالتحق بكليتي الحقوق والتاريخ في جامعة سَراقسطة، وسرعان ما وجد نفسه -تحت تأثير المد اليساري- في أحضان الشيوعية، ولكن الحس الجمالي الذي يفيض من أعماقه دفعه للفرار من طغيان الجنرال “فرانكو” إلى باريس لدراسة الأدب والفلسفة في السوربون، حيث قُدر له أن يلتقي بأحد أقطاب البوذية فأسلم له العقل والروح، وترجم معظم كتبه إلى الأسبانية، ثم لم يلبث أن تابع رحلاته في أنحاء أوربا، ليلتقي بزوجته في وارسو عاصمة بولندا ويعود بها إلى موطنه، بيد أن أسئلة كثيرة ظلت معلقة في ذهنه دون إجابة، ليعود مجدداً إلى المسيحية بعد أن طعّمها ببوذية الزن “Zen”.

لم يجد صاحبنا في المذهب الجديد سوى المزيد من المتاهات الصوفية الأسطورية، حتى عجزت مرشدته الروحية عن الإجابة على أسئلته العميقة مما اضطرها إلى مواجهته بالقمع، فاتخذ قراره الصارم باعتزال مجتمعه الذي اغترب عنه، ومنع ولديه من متابعة الدراسة في المدارس الرسمية ليتولى تعليمهما بنفسه، حتى وصل به الحال إلى التفكير جدياً باللجوء إلى إحدى قبائل الهنود الحمر في أمريكا بحثا عن عقيدة تروي ظمأه للمعرفة!

ولكن يد العناية الإلهية مهدت له الطريق نحو غايته، ففي رحله عائلية قام بها إلى غرناطة وجد نفسه بالصدفة أمام المسجد الكبير ليفتح له باب اكتشاف دين لم يخطر بباله من قبل، فكان قراره الحاسم باعتناق الإسلام مع زوجته وولديه، ثم هجرته إلى الشرق ليقيم في إسطنبول بضع سنوات، قبل أن يحط رحاله في دمشق مع مطلع الألفية الجديدة، ويبدأ مشروعه الفكري في علّية داره الدمشقي- الأندلسي، حيث التقيته غير مرة قبل نحو عشر سنوات، مبحراً معه في تأملاته النقدية لكل من الحضارة الغربية والركود الإسلامي على حد سواء، وقد استوقفني كتابه الصغير “مذكرات بحار” طويلاً، لما وجدت فيه من عمق الطرح وروعة الأسلوب والإيجاز البليغ.

البدء بتجريد العقل
يأتي الفصل الأول تحت عنوان “أفكار ومعتقدات”، ويتعرض المؤلف فيه لقضية مهمة في نظرية المعرفة، إذ يبين أن الأفكار لا تزيد عن كونها مجرد خواطر يتبناها الفكر كعناصر قابلة للتبديل حسب الظروف، وهي تحتمل درجات مختلفة من الحقيقة، فتتفاوت بين الخرافة والحقيقة العلمية. أما المعتقدات فلا تلتمع في الذهن بهذه السرعة، كما أنها لا تُبنى بفعل تفكيرنا الخاص أو بناء على خواطرنا وتبريراتنا، بل تمثل محيط الحياة الذي نعيش فيه والقاعدة الأساسية التي تقوم عليها قراراتنا.

لذا فإن الرجل المثقف الأبيض- على سبيل المثال- قد يكرر على أسماعنا الكثير من المواعظ في نبذ العنصرية تجاه السود وضرورة المساواة، بينما تجده يثور غضبا إذا ما تقدم شاب أسود لخطبة ابنته، فنبذُ العنصرية عنده لا يعدو أن يكون مجرد فكرة أو خاطرة قد يطول دفاعه عنها، دون أن تمسّ قاعدة معتقداته الراسخة في أعماقه.

وقد أدرك الإمام الغزالي هذا التمييز بعد رحلته الفكرية الشاقة، إذ وجد أن المبادئ الأولى (الضرورات العقلية) لا تحتاج إلى أي سند عقلي للبرهنة عليها، وأن تجريد هذه المبادئ- والتي أسماها بالنور الذي يقذفه الله في الصدر- عن الأفكار والخواطر التي نكتسبها من التربية والبيئة هو الكفيل بإنقاذ العقل من عجزه عن الوصول إلى الحقيقة، وهذا هو بالضبط المنهج الذي اعتمد عليه ديكارت فيما بعد.

ويبدو أن بعض الأنبياء خاضوا بأنفسهم هذه التجربة قبل أن يوحى إليهم، إذ نشأ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في مجتمعات وثنية، إلا أنهما قاما بإعادة قراءة هذا الموروث في سن النضج، فبدأ إبراهيم عليه السلام بطرح الأسئلة على قومه، واعتكف محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء فترات طويلة للتأمل. ولعل الأفكار والخواطر تراكمت تحت تأثير ظروف معينة في كل من أور ومكة لتحل محل المعتقدات التي لم تتفق مع فطرتهما السليمة، تمهيدا لنزول الوحي على النبيين بالحقيقة الجلية.

ومن هنا تأتي ضرورة مراجعة المعتقدات الموروثة بعرضها على المبادئ الأولى (البديهيات) التي يتفق عليها جميع الناس، وهو ما يقوم به الوحي في حثه العقلَ على إعادة البناء، لذا نرى أن البيئة التي تطبق تعاليم الإسلام تكاد تخلو من التناقض بين الأفكار والمعتقدات، لأن معتقداتها مبنية في الأصل على الفطرة، فالمسلم ذو البشرة البيضاء الذي ينشأ منذ طفولته على نبذ العنصرية لن يكون مضطرا لمجاهدة نفسه إزاء أي تناقض قد يطرأ بين ما يقوله أو يؤمن به، إذ لا يستبطن أصلا في كيانه أي موقف تجاه السود يخشى من ظهوره أو التفكير فيه.

تشويه الحقائق
في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان “حضارة وبربرية”، ينتقد الكاتب ظاهرة التنميط التي يستخدمها الطرف الأقوى غالبا لقلب المفاهيم وتغيير مجرى الأمور لصالحه، فتقسيم العالم مثلا إلى عالمين، متحضر ونامٍ، يختزل الكثير من الحقائق التي تحكي واحدةً من أبشع صور الاستغلال في التاريخ، ويضرب مثلا طريفا لهذه الظاهرة عندما يفترض أن الكلاب تمكنوا في عصر ما من السيطرة على مملكة الحيوانات، ثم يسهب في سرد تفاصيل الثقافة التي سيعممها الكلاب لإثبات أنهم الفصيلة الأفضل من بين جميع المخلوقات، وأن أعداءهم القطط هم الأسوأ على الإطلاق، إذ ستزرع وسائل الإعلام في عقول العامة حقيقة البربرية التي تتمثل في اصطياد الفئران والعصافير، وذلك الجهل التام الذي يعنيه أكل أشواك السمك في مقابل الطبق المتحضر والعلمي الذي يتألف من عظام فخذ البقرة اللذيذ!

وتتجسد هذه المهزلة على نحو أكثر خفاء في حياتنا نحن البشر عندما يميل الأقوى لتعميم قيمه المطلقة على الطرف الأضعف، وللمزيد من التوضيح يسرد الكاتب حوارا شائقا بين “جاهول” المتعطش للمعرفة، والحكيم “فطرونيوس”، يميز فيه الأخير بين المعوز الذي يعيش حياة كريمة بالرغم من قلة متاعه وبين الفقير الذي لا يجد شيئا، ويبين أن الإسلام قد تمكن في بعض مراحله من القضاء واقعيا على الفقر، بينما يفترش مئات المشردين الجرائد في شارع “ماركت ستريت” الراقي في سان فرانسيسكو للنوم إلى جانب ناطحات السحاب.

أما التجسيد المعولم لهذه الظاهرة فنجده في انتشار القيم الغربية وثقافتها في كل الأمم بالرغم من تناقضها مع ظروف البيئة ومستلزمات الحياة، فالملابس العربية القديمة -على سبيل المثال- كانت قد صُممت بما يتناسب مع مناخ المنطقة الحار والجاف، بينما تفرض العولمة اليوم على الجميع ارتداء زي موحد، والأمر نفسه يمتد ليشمل كافة مظاهر الحياة، إذ بات على الجميع أن تُنمط تفاصيل حياتهم اليومية كي لا يبقوا خارج هذه “الحضارة”، تماما كما تفعل القطط التي تضطر للعيش في مجتمع يحكمه الكلاب!

شامان من روسيا

شامان من روسيا

بين العقل والوحي
يستعرض المؤلف في الفصل الثالث “نبوة وشامانية” تاريخ الصراع بين الأسطورة والوحي، وبين الشامان -أي الساحر في العصور الغابرة- والنبي، ثم يقرن الساحر بالفيلسوف الذي يدعي العقلانية، إذ يسعى كلاهما للسيطرة على الكون، سواء بالخرافة والوهم أو بالعلم، بينما يستمد النبي معرفته من خالق الكون نفسه.

الشامان- الساحر أو الفيلسوف- يؤلّه نفسه، ويقود العالم لتقديسه، فهو الغاية وبيده الوسيلة، وعلى البقية أن يطيعوا أمره ويكفوا عن طرح الأسئلة، وأن يقنعوا بوسائل الترفيه والإلهاء التي يضخها إليهم باستمرار، وقد يكون مدركاً للحقيقة التي يخفيها عن الناس، إلا أنه غير مستعد للتنازل عن لذة السيطرة.

النبي في المقابل لا يدعي لنفسه شيئا، بل هو وسيط بين الإله والبشر، قد يتعرض للإهانة والأذى، ومع ذلك ينسحب راضيا من المشهد ليُبرز الإله الذي لا يُعبد سواه، فهو لا يُخفي الأرواح ليدعي القدرة الخارقة، ولا يحتكر العلم للسيطرة على الناس، بل يبذل قصارى جهده لإيصال الرسالة إلى الناس بكل تواضع، كما أنه لا يستخدم المخدرات والرقصات الصوفية، ولا يخفي أياً من الممارسات والأسرار للوصول إلى المعرفة، ولا يتكبر على أتباعه أو يحتكر لنفسه زياً أو مظهراً يميزه عن غيره. الصلاة عنده ركوع وسجود وتجريد للقلب عن كل ما سوى الله، يستوي فيها الصغير والكبير، الغني والفقير، ولا تستدعي قربانا ولا نيرانا، ولا هلوسات تدخل الرهبة في القلوب.

وبهذا التأمل الوجداني الشفيف يُبحر كاتبنا الأندلسي في جداول المعرفة، ليجمع أصنافا شتى من التوابل لتكوين وجبة فكرية ممتعة، ويقدم للقارئ العربي خلاصة تجربته في طبق شهي يرضي كافة الأذواق، ويدفع العقل لإعادة التفكير في الكثير من الأفكار الخاطئة.

العلم.. مرشد حكيم أم دليل أعمى؟

هل تستطيع أن تتخيل عالمنا هذا من دون رقائق الذرة؟ باستثناء عشاق رقائق الذرة فسيكون الجواب غالبا: نعم الأمر سهل وممكن! لكن هل تنطبق هذه الإجابة المتساهلة على كل ما جاءت به البشرية من منتوجات أو اختراعات؟

من عجائب العلم أن مسيرته تحكمها الصدفة البحتة! الكثير من الحقائق المهمة التي تقوم عليها الآن تطبيقات عديدة جاءت بمحض الصدفة كاكتشاف البنسلين مثلا أو أشعة إكس أو النشاط الإشعاعي أو اكتشاف الكهرباء الساكنة أو تقطير النفط  أو اخترع الميكروويف أو البلاستيك أو حتى رقائق الذرة! ربما يسهل بالفعل تخيل عالم من دون رقائق ذرة، لكن الأمر سيكون أكثر تعقيدا لو بدأنا باستبعاد كل ما توصلت إليه الاكتشافات والجهود العملية من قائمة حياتنا، ومن ثم استبدالها بحقائق وتطبيقات جديدة كان من الممكن التوصل إليها في نسخة أخرى من هذا العالم!

ماذا لو لم يكن ألكسندر فليمنج قد نسي تغطية الوعاء الحاوي على البكتريا في مخبره في مساء ذلك اليوم، ماذا لو لم تكن طبقة العفن تلك قد تشكلت لتؤدي إلى اكتشاف البنسلين أول صاد حيوي وما تبعه من ثورة في عالم الطب والقضاء على الأمراض الجرثومية التي أهلكت البشرية لأمد طويل!

ماذا لو لم يضع الألماني ويلهلم رونتجن يده أمام أنبوبة أشعة كاثود ليكتشف أن عظامه تظهر على شاشة الفلورسنت؟ ماذا كان ليكون مصير كل المرضى الذين ساهمت أشعة إكس بوضع تشخيص لأمراضهم! ماذا عن التصوير الطبقي المحوري؟ وهل كان ليكون له وجود أساسا لو لم يمد رونتجن يده بالصدفة إلى المكان الصحيح في عتمة تلك الغرفة؟

نيوتن

ماذا لو لم تكن السماء متلبدة بالغيوم في ذلك اليوم الذي قرر فيه هنري بيركل دراسة ظاهرة التفسفر فترك ألواح التصوير بجانب أملاح اليورانيوم بانتظار يوم مشمس ليستكمل التجربة؟ هل كانت لتكون هناك مفاعلات نووية؟ هل كان ليكون هناك وقود نووي؟ هل كانت كارثة هيروشيما وناكازاكي لتحدث؟ هل كانت ستنتهي الحرب العالمية الثانية أساسا لو كان ذلك اليوم مشمسا؟

بل ماذا لو لم يولد نيوتن؟ ماذا لو كانت أمه قد تعثرت في أثناء نزولها درج البناء فأجهضته قبل أن يولد ويكبر وتسقط على رأسه تلك التفاحة؟ بل ماذا لو ولد وكبر ولم تسقط على رأسه التفاحة؟ ماذا لو كانت قد قرر في ذلك اليوم التمدد على الأريكة عوضا عن الاستلقاء تحت شجرة تفاح؟  كيف كان مصير فيزياء العالم ليكون دون نظريات نيوتن الثورية وتطبيقاتها؟

ماذا لو كان والد أينشتاين سكّيرا مدمنا على المخدرات فنشأ طفله العبقري في فقر مدقع دون أن تتاح له فرصة الذهاب إلى المدرسة؟ ماذا لو عاش ألبرت أينشتاين ومات أميّا لا يعرف قراءة أسماء المحلات التجارية في شوارع ألمانيا؟ كيف سيكون شكل العلم والعالم الآن بدون النظرية النسبية وتطبيقاتها؟

ماذا لو كان نيكولا تيسلا قد ابتلع عملة معدنية في عمر الثالثة ثم اختنق بها ومات؟ كيف كان سيبدو شكل العالم الآن من دون اتصالات لاسلكية؟

ثم دعونا الآن نعكس الآية فنسأل أسئلة مضادة: ماذا عن الاحتمالات اللانهائية من الاكتشافات والاختراعات التي كان من الممكن أن تحصل ولم تحصل لأن صدفة اكتشافها أو التفكير فيها لم يتح لها الحدوث لسبب أو لآخر؟ ماذا عن العقول العبقرية هائلة العدد التي عاشت وماتت في شتى بقاع الأرض دون أن تتهيأ لها الظروف لتقدم عبقريتها للعالم على هيئة اكتشافات أو اختراعات جديدة؟ فنحن لم نتحدث حتى الآن إلا عن علماء عاشوا وماتوا منذ حقبة قريبة لتقريب الصورة للأذهان لكن الأمر ينطبق على عمر البشرية بسائرها وعلى كل بقاعها وكل شعوبها منذ بدء الخليقة وحتى الآن، منذ اكتشاف النار واختراع الأبجدية واكتشاف خصائص المعادن واختراع وتصنيع الورق واكتشاف الكهرباء واستغلال طاقة الرياح واختراع معدات الإبحار ووضع أسس الرياضيات وتجارب الكيمياء الأولى وغير ذلك من حلقات هذه السلسلة الطويلة من الاكتشافات والاختراعات التي سارت وتطورت وتقدمت بمحض الصدفة البحتة حتى أخذ عالمنا هذا شكله الحالي الذي هو عليه الآن، شكله الذي لا يمكننا أن نتخيل غيره، حتى أن كل شطحاتنا في أفلام الخيال العلمي تدور في فلك تصورنا الحالي عن العالم وتستند إليه!

إن عقولنا التي نعتقد بقدرتها الجبارة على الانعتاق من كل المسلمات لتفكر بحرية مطلقة بعيدا عن أية أفكار مسبقة أو أي إيمان أعمى هي في الحقيقة مقيدة بلا انفكاك بشكل العالم الحالي، بمعطيات العلم الحالية، بما عرفته وعاشته وألفته من تجلياتهما، بما أنتجته الصدفة العشواء في هذه الرحلة غير المحسوبة نحو المستقبل المجهول.

إن عقولنا التي نعتقد بحريتها وقدرتها الجبارة على التوصل إلى الحقائق، والتي نسمو بها أو نعتقد أننا نسمو بها عن أية تحيزات هي منحازة في الحقيقة إلى ما عاشته وألفته في من الحقائق المختلفة وتطبيقاتها في هذه النسخة الواحدة من العالم، هي غيرُ قادرةٍ في الحقيقة رغم ذكائها الوقاد على التفكر بأي احتمالات أخرى من بين احتمالات لا نهائية لشكل العالم وهيئته ومآلات تطوره المختلفة لو سارت أحداثه على غير النحو الذي سارت عليه أو لو حدث في وقت ما تغير في هذه السلسلة من الأحداث في عمر العالم ومسيرة العلم المرافقة له!

وبينما نظن أن عقولنا حرة حرية مطلقة غير مقيدة بأي إيمان أعمى، قادرة على الوصول إلى حقيقة هذا الكون وجوهره بعيدا عن أية مسلمات نجد أنفسنا في الحقيقة مع قليل من التفكير غارقين في الإيمان بالمسلمات حتى غرتنا! مسلمات توصلت إليها رحلة عشوائية من تطور العلم، رحلة محكومة بصدف متعاقبة لا يملك أي منطق مفهوم وفق حدود إدراكنا سلطة عليها! رحلة يقودها دليل أعمى نمسك بعباءته من الخلف مؤمنين إيمانا مطلقا بأنه سيقودنا إلى الحقيقة الأصيلة لهذا الكون المليء بالأسرار! في حين أننا في عالم آخر أو بالأحرى في نسخة أخرى من هذا العالم أنتجتها صدف أخرى كنا لنؤمن ربما بما لا نملك الآن أي فكرة عنه! بما لا ندري ربما بوجوده! كان ليكون لدينا تصور مختلف عن هذا العالم! كنا لنستخرج الطاقة مثلا من ريش الدجاج! كنا لنتواصل عن بعد مثلا عبر شبكات أنابيب تحت أرضية مملوءة بغاز الميثان؟ كنا لنكتشف إشعاعات مختلفة أو أطيافا جديدة من الضوء بحساسات لا نملكها الآن في هذه النسخة من العالم! كنا لنتعالج بحقن كبسولات حرارية إلى مواضع الالتهاب في جسدنا عن طريق الوريد! كنا لنلتقط موجات بأجهزة جديدة توصلنا إلى اختراعها مع سلسلة مختلفة من المصادفات! كنا لأوجدنا مادة مختلفة عن البلاستيك أو الزجاج في صنع ألعاب الأطفال أو إكساء النوافذ، كنا لنتنقل بواسطة آليات على شكل كرات أو مثلثات تحول صمغ الشجر إلى طاقة! كنا لنكتشف علاقات جديدة بين الكواكب تحكمها قوانين غير الجاذبية التي كانت ستبقى أمرا خارج نطاق بحثنا! كنا لندرس الفضاء مثلا بواسطة أسهم بحجم أصابع اليد تطلقها مسرعات هائلة القدرة! وكنا وكنا وكنا…

في عالم آخر كان العالم ليأخذ شكلا آخر مختلفا تماما تعجز عن تخيله عقولنا التي نعتقد بقدرتها اللامحدودة! وكان العلم ليأخذ سبيلا آخر يوصلنا إلى قناعات جديدة غير التي نملكها الآن ونعتقد بصحتها المطلقة لأنها أتت حسب زعمنا عن طريق دليلنا الموثوق “العلم”، وكأنَّ العلم لا يسلك إلا طريقا واحدا مستقيما يقود مباشرة إلى الحقائق النهائية لكوننا المليء بالأسرار.. وكأننا وقد سلكنا هذا الطريق بمحض الصدفة من بين طرق كثيرة لسنا حيثما نحن في مركز متاهة عملاقة من حيث تظن عقولنا المغرورة المخدوعة أن الخريطة في أيدينا هي الخريطة الوحيدة الصحيحة وأن العلم هو مرشدنا الحكيم الذي علينا أن نتبعه دون تفكير، بل إن العلم في الحقيقة مرشدنا الأعمى الذي يتلمس طريقه في ظلام هذا الكون الواسع كيفما اتفق، وعلينا كي لا نضل ونحن نتبع خطواته أن نبقى مفتوحي العينين على آخرهما!

“وعلّم آدم الأسماء كلها”.. لم تكن مجرد أسماء

“وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟”.

كثيرا ما يطرح القرآن أسئلة كبرى ثم يجيب عليها، وهي أسئلة متعلقة بالفلك والبحر والخلق والزمن والنجوم والفلسفة. وما كان محمد صلى الله عليه وسلم ليكلف نفسه عناء الإجابة على هذه الأسئلة الشائكة المتنوعة لو كان هو مؤلف القرآن، لأنها أكبر من الحالة المعرفية والفلسفية التي كانت سائدة في تلك المنطقة الصحراوية المعزولة من العالم، ولذا فإن ورود هذه الأسئلة الكبرى مع إجاباتها بين دفتي القرآن ليس إلا دلالة قطعية على صحة الرسالة.

أحد هذه الأسئلة الكبرى التي طرحها القرآن جاء على لسان الملائكة حين أعلنوا استغرابهم وحيرتهم من خلق الله عز وجل لآدم: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟”، فيجيبهم الله عز وجل بأنه يعلم ما لا يعلمون، ثم يعلم آدم أسماء الأشياء كلها ويعرضهم على الملائكة ليفشلوا في هذا الامتحان البسيط، فينبئهم آدم بأسماء الأشياء التي علمه إياها ربه، فيقول لهم الله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون؟ ينتهي عجب الملائكة هنا وتنتهي القصة!

هكذا! بهذه البساطة! لطالما تساءلت وأنا أقرأ هذه الآيات عن سبب انتهاء القصة بهذه الطريقة، عن العلة التي تجعل معرفة آدم لأسماء الأشياء أمرا يمنع الفساد في الأرض، بل ويحقق عكس ذلك، العمران والبناء والتحسين!

لطالما مررت على هذه الآية أخفي في سري سؤالا صغيرا، كيف تكون هذه الحجة كافية لإسكات الملائكة، لإقناعهم بأن خلق آدم كان شيئا مختلفا سيحدث في ملكوت الله فرقا كبيرا، الأسماء! وما علاقة الأسماء؟ وما الروعة في أن أعرف مثلا اسم التفاحة والجدار والسماء والنملة! هل هذا أمر صعب حقا؟ هل هذا الأمر جدير بأن يكون الحجة التي تنهي حيرة الملائكة واستغرابهم؟

ولكي نجيب على هذا السؤال دعونا أولا نعمل مخيلاتنا قليلا لنتخيل عالما لا نطلق فيه أسماء على الأشياء ، تماما كما تعيش الكائنات غير العاقلة على هذه الأرض، أو ربما كما تعيش الملائكة! تخيلوا أننا نرى هذا الكون المعقد حولنا دون أن نكون قادرين على تسمية أي شيء فيه مهما كان صغيرا أو كبيرا ابتداء بحبة الرمل وانتهاء بالشمس! ألن يجعل ذلك تفاعلنا مع هذه الحياة تفاعلا آنيا تماما كتفاعل الحيوانات مع محيطها. فالسنجاب الموجود أمامنا الآن، نراه يقفز بين الأشجار، نرى لونه وفروه الناعم وعيونه الزئبقية، نعايش هذه التجربة بكل عمقها الممكن وتأثيرها على حواسنا، وبعد ثوان يختفي السنجاب الذي ليس له اسم، ويختفي معه كل شيء متعلق بهذه التجربة، كل ما التقطته الحواس أو شعرت به الجوارح. لن يخلف هذا الحدث في ذواكرنا إلا طيفا لا اسم له. إنها تجربة انتهت في ثوان، لن نستطيع نخبر بها أحدا، لأننا سنضطر في كل مرة نريد ذكر السنجاب فيها إلى الكثير من الشرح الذي لن يكون مجديا طالما أننا لا نملك حتى اسما لأي تفصيل نريد أن نقوله! سنكون وسيكون كل من حولنا كائنات متفاعلة بشكل آني مع كل شيء، تسيطر علينا الدهشة أمام كل جديد، تتحكم بنا الطبيعة دون أن نقدر على تطويعها طالما أننا لا نراكم أي خبرة ذات أهمية في عقولنا وطالما أننا لا نستطيع تطوير ذلك وتبادله مع الآخرين. ستكون حياتنا بدائية للغاية!

لكننا في عالم يوجد فيه اسم لكل شيء ستعني التفاحة لنا بمجرد قراءة اسمها أو نطقه أو سماعه ثمرة فاكهة كروية ذات لون أحمر أو أخضر أو أصفر لشجرة تزهر في الربيع زهرا أبيض وتطرح في الخريف الثمار، ولهذه الثمار طعم حلو أحيانا وحامض أحيانا أخرى ، يمكن أن تقضمها الأسنان فتصدر صوتا مميزا ويتطاير عصيرها على الوجه، فيها بذور مرة ومنها تصنع عصائر ومربيات. وهذا ما يعرفه أي شخص عادي، ولكن اذكر  كلمة “تفاحة” أمام عالم نباتات مثلا وسترى أن هذه الكلمة الصغيرة ستستدعي في ذهنه معلومات قد تملأ عدة صفحات عن شكل زهرة التفاح وعدد بتلاتها وعدة الأخبية التي تقبع فيها البذور في الثمرة وطريقة التكاثر والتركيب الكيميائي لقشرة التفاحة وطول سلاسل الكربون المشكلة لسكاكرها ووو إلخ من المعلومات المفصلة.

كان كافيا جدا أن نقول تفاحة لكي يفهم من هذا الاسم كل ذلك، كل هذا الكم الهائل من المعلومات الذي نستطيع تضخيمه قدر ما نريد  ثم نقله كله دفعة واحدة إلى أي شخص في العالم بمجرد لفظ “اسم” التفاحة!

تظنون المثال بسيطا، طيب فلنأخذ مثالا آخر. إن ذكر اسم LIGO  قد لا يعني غالبا لأي قارئ منا أي معنى، مجرد أحرف مصطفة بشكل عشوائي لها نغمة معينة عند نطقها، لكن جرب أن تذكر هذا الاسم أمام أي عالم او باحث فيزياء وسيخطر في باله فورا أن هذا الاسم هو في الحقيقة اختصار لعبارة Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory المرصد الضخم المؤلف من بنائين توأم ضخمين أحدهما واقع في ستانفورد والآخر في ليفينغستون بالولايات المتحدة الأمريكية، وكل منهما يتألف من ذراعين بطول 4000 متر على شكل أنابيب مفرغة من الهواء معزولة عن الوسط الخارجي بماصات للاهتزازات يمر فيها ليزر من أصفى أشعة الليزر في العالم لينعكس على مرآة عملاقة في نهاية الذراعين، حيث سمح هذا المرصد عام 2015 لأول مرة في تاريخ البشرية بالتقاط الأمواج الثقالية -التي تحدث عنها أينشتاين في نظريته عن النسبية- بنسبة انحراف في موجة الليزر بمقدار 10 مرفوعا للقوة 22 السالبة.

أرأيتم كيف استطاع الإنسان اختصار مفهوم ضخم لجهاز غاية في التعقيد بكلمة واحدة فقط، بمجرد اسم من أربعة أحرف؟ هل يا ترى كان اخترع شيء كهذا سيكون ممكنا لو لم يكن الإنسان مسبقا يعرف أشياء الليزر والمرايا والموجات الثقالية وكل ما يمت إلى مكونات هذا الجهاز بصلة؟ هل يمكن أن يقدر أي عالم مهما اختلفت جنسيته على أن يساهم في إنجاز كهذا لو لم يكن متفقا مع كل من يعمل معه على هذه الأسماء التي تخفي خلف بساطتها مفاهيما معقدة؟

أعتقد أن هذا الأمر صار واضحا الآن بما فيه الكفاية، فلولا قدرتنا على إطلاق أسماء على الأشياء منذ فجر الإنسانية الأول لما تمكنا من تبادل خبراتنا الانسانية وتطويرها عبر كل العصور والسنوات وبين كل الحضارات والشعوب ولما حصل هذا التراكم المعرفي الهائل الذي مكننا من الوصول إلى لما وصلنا إليه من تطور!

نحن البشر لدينا القدرة على حجز أشياء ملموسة ومفاهيم معقدة وظواهر طبيعية بأسماء بسيطة قدر الإمكان، لكنها تنطوي رغم بساطتها على كل ما يمت إلى مسمياتها من خواص وتفرعات بصلة، وذلك ابتداء بالذرة وما دونها وانتهاء بالمجرات شاسعة البعد.

وليست الأمور الملموسة والظواهر الطبيعية فقط هي الخاضعة لقدرتنا على التسمية والاصطلاح، بل تتجاوز قدرتنا ذلك إلى إطلاق الأسماء حتى المشاعر والانفعالات والمفاهيم الفكرية المجردة، تلك التي لا ندرك كنهها تحديدا لكنها تملك لدى كل البشر دلالة واحدة متفق عليها تمكنهم من استخدامها في إثراء هذا التراكم المعرفي الإنساني.

إن اسما كالحزن مثلا لا نفهم بالضبط جوهره لكننا نعرف تماما كيف يجعلنا نشعر، وبذلك نستطيع مشاركته مع الآخرين والتعاطف معهم لدى إحساسهم به. كذلك لو قلنا “التفهم” أو “الذكاء” أو “الاقتصاد” سيختلف الأمر قليلا لو بدأنا باستخدام مصطلحات  كالإبستمولوجيا والميتافيزيقا!

والأمر مماثل في حالة التفاحة وليغو LIGO، فمن السهل إذن التعرف على كلمة تفاحة وما تشير إليه على أرض الواقع، لكن من الصعب ان يذكر أمامنا اسم مرصد LIGO  مثلا دون أن نبدي جهلنا الواضح بدلالة هذا الاسم، لذا لا تعد عملية التعلم في حقيقتها إلا إضافة المزيد من الأسماء الى ذخيرتنا اللغوية، لا كأحرف وأصوات فقط، بل كمفاهيم معقدة وحقائق تراكمية يستغرق أساتذة الجامعات وقتا طويلا لشرحها لطلابهم، كما يستغرق العلماء والباحثون واللغويون الكثير من الوقت ليختاروها أو يضيفوها إلى معاجم اللغات لتدل على الأشياء أو المفاهيم الجديدة التي توصل إليها البشر، وكل ما تفعله البشرية منذ بدء الخليقة حتى الآن هو إطلاق المزيد من الأسماء على المزيد من الأشياء، ومع كل اسم جديد يزداد يقين الملائكة بحكمة الله سبحانه وتعالى من خلق الإنسان وتتكشف إجابة هذا السؤال الكبير، فالإنسان مخلوق قادر على الإعمار، يستطيع التعلم والتعليم وتطوير الخبرات لتطويع الطبيعة، مخلوق ستكون مهمته مذ حمل الأمانة بناء هذه الأرض، وقد بدأت مهمته تلك مذ خلق الله سبحانه وتعالى سيدنا آدم ثم علمه الأسماء!

تتبدى هنا روعة الإجابة على هذا السؤال في النص القرآني، إجابة فلسفية غاية في العمق والإقناع ما كان ليتأتى لرجل أمي أن يتوصل إليها من تلقاء نفسه في هذه الصحراء المعزولة عن كل حضارات العالم المتطورة آنذاك! عن كل تراثه المعرفي وجدالاته الفلسفية وسفسطته! فسبحان الله الذي أنزل القرآن بالحق وخلق آدم أبو الإنسانية ثم علمه الأسماء كلها! سبحانه لا إله إلا هو!