منهج العلماء المسلمين في الوصول للحقيقة
يُجمع العقلاء على أن الحقيقة العلمية في أي مجال تمثل قمة المقدسات الفكرية التي يسعى العقل السليم إلى بلوغها بعد أن يشق إليها سبيلاً من البحث والطلب، وينبغي لهذا السبيل أن يكون مبيناً على مجموعة من الإدراكات الصادقة لأن العلم لا يتولد إلا عن علم مثله. ولذلك سعى علماء المسلمين إلى وضع منهج علمي فريد للوصول إلى الحقيقة وهو منهج يصلح لاستخدامه في شتى العلوم ويتلخص في القاعدة التالية: “إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل”.
وهذه قاعدة جليلة تدل على أن موضوع البحث لا يخلو دائماً من أن يكون: إما خبراً منقولاً فيجب البحث في تحقيق النسبة بينه وبين مصدره والتحقق من عدالة ناقله وعندها تنبثق عن هذا الخبر حقيقة علمية معينة، أو يكون ادعاءً يتجه البحث فيه إلى الأدلة العلمية المنسجمة معه والتي من شأنها أن تكشف عن مدى صدق هذا الادعاء، ولكل دعوى نوع من الأدلة العلمية التي يناسبها ولا يستبدل به غيره.
وقد وضع علماء المسلمين في سبيل تحقيق الخبر فنوناً خاصة لم يعثر عليها التاريخ إلا في المكتبة الإسلامية، وهي: فن مصطلح الحديث وفن الجرح والتعديل وتراجم الرجال، حيث تتكامل هذه الفنون مع بعضها لوضع ميزان دقيق يتضح فيه الخبر الصحيح الذي يورث اليقين من غيره، ومن البديهي أن كل ما يتعلق بالعقائد لا يقبل فيه إلا ما يفيد اليقين التام. وصنفت لذلك المؤلفات التي تستعرض سير الرجال الذين ترد أسماؤهم في أي سند من الأسانيد ترجمةً وجرحاً وتعديلاً، ثم تصنيف الخبر إلى متواتر وآحاد بأنواعه الشهيرة في كتب هذا الفن (الصحيح والحسن والضعيف والموضوع).
أما منهجهم للتحقق من صحة الدعاوى فيختلف حسب اختلاف نوع الادعاء، فما كان متعلقاً بموجود مادي فلا بد من الاعتماد فيه على براهين مادية قائمة على الحواس الخمس أي التجربة والمشاهدة، أما ما كان متعلقاً بأمر تجريدي أو غير خاضعٍ لشيء من الحواس الظاهرة فأدلته إما أن يكون منصوصاً عليها نصاً واضحاً في الكتاب أو السنة المتواترة أو الصحيحة التي تورث اليقين، وقد أفاد منهجهم في التحقق من صحة الأخبار إلى العلم اليقيني بأن القرآن هو اللفظ الموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم والواصل إلينا عن طريق التواتر وكذلك ما تواتر من سنته. مع التنبيه إلى أن النصوص القطعية الثابتة في الكتاب لم تفد اليقين بمضمونها إلا بعد اجتيازها لمرحلتين من البحث والنظر، الأولى: التحقيق في سند القرآن واتصاله من محمد صلى الله عليه وسلم إلينا، والثانية: التحقيق في صحة إخباره هو بأن القرآن من عند الله سبحانه، وهنا يركز البحث على حقيقة الوحي في حياته.
وأما ما لا نص عليه من الكتاب أو السنة الصحيحة فينحصر السبيل إلى معرفة الحق فيه بالنظر العقلي وحده، ويتحقق ذلك بمسلكين:
1- دلالة الالتزام: وهو أن يطرد الترابط بين شيئين بحيث كلما ذكر الأول تصور العقل الآخر وإنما يتم ذلك بعد إجراء عملية استقراء تام لهما يتم فيها تتبع الحالات والظروف المختلفة كلها لوجود هذين الشيئين فنجدهما متلازمين دائماً، مثل: دلالة المآذن في بلدة على إسلام أهلها، ودلالة الصنعة على وجود صانع أو كما يعبر عنه عند علماء الكلام: لزوم حاجة الحادث إلى محدث.
وعرفت الدلالة بملازمتها الدائمة لملزوماتها وتكرر ذلك دون تخلف وتم على ذلك الاستقراء، فتكونت من هذه المقارنة الدائمة رابطة دلالة سارية بينهما، مع أن الدال ليس علة للمدلول. وفائدة هذه البرهان أن العقل السليم يتوصل من خلال التأمل فيها إلى الإيمان بها ولو لم يجدها ماثلةً أمام عينيه، فمن أوشك على دخول بلدة وقيل له إن أهلها جميعهم مسلمون لا يمكنه أن يصدق ما قيل له إذا تأمل بيوتها من بعيد فلم ير إلا صلبان الكنائس مع أنه لم يلتق بأحد من أهلها ويسألهم عن اعتقادهم، ومن يدعِ أن منبع نشأة الفكر والعقل عند الإنسان إنما هو شعوره بالحاجة إلى الغذاء لا يصدق في دعواه هذه، لأن التأمل في سائر الحيوانات التي تشترك مع الإنسان في الشعور بالحاجة إلى الغذاء لم يؤد إلى تمتعها بشيء من التفكير والعقل.
ولا يورث هذا التلازم اليقين دائماً إذ الأمر فيه منوط بمدى وضوح التلازم واستغنائه عن برهان آخر يدل عليه، وأقوى صوره من حيث الدلالة وقوة البرهان ما يسمى عند العلماء: دلالة الالتزام بالمعنى الأخص وهو أن يكون تصور الملزوم كافياً في تصور اللزوم والجزم به، كدلالة الأنين على المرض، ودلالة اللفظ المنبعث في الظلام على وجود كائن حي، فإن قوة اللزوم بينهما تجعل العقل يتصور أحدهما بمجرد تصور الآخر دون الحاجة إلى التفكر في الرابطة بينهما.
والصورة الأدنى من حيث قوة البرهان هي اللزوم البين بالمعنى الأعم: وهو توقف إدراك اللزوم بين الشيئين على تصور كلٍ منهما والنظر فيه ملياً، كدلالة الشيء الممكن على أنه حادث فالعقل لا يفهم لزوم الممكنات لصفة الحدوث إلا بعد إمعان النظر في معنى الإمكان وأنه الشيء الذي لا يحيل العقل وجوده ولا عدمه وإنما ترجَّح فيه جانب الوجود لمرجح طارئ، ثم أمعن النظر في معنى الحدوث وتصور الصلة بينه وبين كل الكائنات التي من شأنها أن توجد بتأثير غيرها.
2- القياس الأصولي: وهو منهج قائم على استخراج علة الشيء أو سببه، ثم تلمسه فيما يشبهه من الأشياء المجهولة حتى إذا استيقن الباحث اشتراك كلٍ من المعلوم والمجهول في علة واحدة قاس الثاني على الأول في حكمه المنبثق عنه من تأثير تلك العلة. ويعتمد على مسلمتين عقليتين أحدهما: أن لكل معلول علة ولكل أثر مؤثر، والثانية: قانون التناسق والنظام في العالم الذي يجعل مظاهر الكون الجزئية المختلفة ترتبط بعلل كلية من شأنها أن تثبت التناسق والانسجام فيما بينها. ولا بد في عملية القياس من الاستقراء التام إذ هو الذي يبصر الباحث بحقيقة العلة وبواسطته يمكن إدراك العلاقات الثابتة الكلية بين الأشياء المتناثرة.
ومثاله: أن تبصر من بعيد مساكن يعيش فيها الناس فتستيقن من ذلك وجود الماء في ذلك المكان، لأنك تعلم مسبقاً وبالاستقراء التام أن من أهم أسباب صلاحية المكان لعيش الإنسان توافر الماء فيه لعلية الماء في إمكان الحياة.
وقد اشترط علماء المسلمين لصحة القياس في القضايا العقدية اليقينية أن تكون العلة مؤثرة في المعلول وأن تكون منضبطة واضحة غير مضطربة، كسببية المطر للإنبات والنار للإحراق، بقطع النظر عن البحث في حقيقة هذه السببية وتحليلها على ضوء الإيمان بالمسبب الحقيقي لها وهو الله جل جلاله.
ومثال استخدام القياس للوصول إلى الحقيقة: دلالة كل ما فيه مظهر الصنعة والتدبير على وجود صانع ومدبر له، فالعقل يستحضر بسرعة خاطفة سائر ما رآه وما تعلمه من وجود صانع ومبدع لكل صنعة متقنة واستحالة حدوثها بدون محدث، وعندئذ يقيس هذا الكون بما فيه على ما ثبت لديه من قبل فجزم بوجوب صانع متقن خبير له واستحالة حدوثه من غير محدث.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!