ما بعد العالمانية بين الغرب والشرق

عندما سقطت هيبة الكنسية في الغرب تزامنًا مع تمدّد أفكار عصر التنوير، نشأت بذرة العالمانية في الأوساط الغربية. وعلى الرغم من قوة سلطانها في بداياتها، إلا أنه فشلت في تحقيق (العالمانية الشاملة)، لأن الجموع الغربية لم تتخلّ عن الدين بشكل كُلي. كما أن الحصاد المُر للعالمانية في الغرب أدى إلى اعتراف بعض علماء الاجتماع بفشلها في الانفصال الكامل عن الدين، ومن ثم نرى أنّ الغرب يمر بحقبة جديدة تسمى (ما بعد العالمانية)، وهو مصطلح يعبر عن مدى طغيان السلطان الديني على المستوى الثقافي وحضور الدين بين الناس، على الرغم من الفصل الرسمي والهيكلي بين المؤسسات الدينية والدولة.

أين أخطأت العالمانية؟

إن حلم العالمانية الشاملة لم يتحقق في الغرب لأنه كان حلما كبيرا، ولكنه اختزل سبل تحقيقه بفصل سلطة الكنيسة عن التشريع والتقنين. وحين عُزِل الدين عن التحكّم في تفاصيل الحياة، لم تنفصل الجماهير عن الدين بشكل شامل؛ إذ يعَدُّ الدين -بالنسبة لكثيرين- المرجعية الأخلاقية، وسبيل الإشباع الروحي، ونوعًا من احترام الورث الثقافي من الآباء.

ومن هنا، لم يمتلك كل إنسان الجرأة حتى يخرج من التدين إلى العالمانية تماشيا مع دأب عصره، واكتفى الكثيرون بتغيير مذهبهم إلى المذهب البروتستانتيّ، أو أي مذهب مسيحي أكثر انفتاحا من المذهب الذي كانوا عليه.

وعلى الرغم من محاولة إقصاء الدين عن الحياة، إلا أن العالمانية خلفت تعددية دينية في الغرب بعدما احتكرت الديانة المسيحية المشهد وحدها لقرون طويلة، وبدأت الديانات الوثنية القديمة تلج إلى أوروبا وأمريكا كالبوذية والهندوسية عن طريق ممارسات رياضية كاليوغا، وبدأ الدين الإسلامي يدخل الغرب تزامنا مع انتشار هجرة المسلمين للبلاد، وبدأت حركة العصر الجديد تتفشى بكل ما فيها من عقائد باطنية، وبدأت الديانات الصينية مثل (الكونفوشيوسية) تنتشر مع فعاليّات مختلفة، كتدريبات الفنون القتالية والكونغ فو، وبدأ التراث الصوفي الفلسفي يتنشر على الرغم من تنوع مصادره بين (القبالاه اليهودية) وكتب أعلام التصوف العربي من النصارى والمسلمين.

فالعالمانية توهمت أن انتشار الدين يبدأ من السلطة السياسية وتوجهها العقدي، في حين أن الدين ينتشر بفعل الهيمنة الثقافية للعصر، وبسبب هذا التوهم، نجح الغرب في فصل المسيحية عن سلطان التشريع أملا في فصل الدين عن الحياة، ثم وجد نفسه أمام عدد لا محدود من الأديان الأخرى، وكلها تنتشر عن طريق التبادل الثقافي لا القوّة السياسية!

ما بعد العالمانية في الوطن العربي

بعد سقوط الدولة العثمانية، بدأت العالمانية تغزو الوطن العربي بأسره انطلاقًا من السيطرة على الحكم والسياسات، ثم بالسيطرة على وسائل الإعلام ومناهج التعليم، وعزز الغزو الفرنسي والإنجليزي لبعض الدول العربية سهولة انتشار العالمانية في تلك البلاد، ولكن على مدار مئة عام، أثبتت التجربة أن حلم فصل الدين الإسلامي عن الشعوب العربية هو من المحال. إذ أن الشعوب العربية لم تتخلَّ عن الدين بشكل كامل رغم عِظَم جهود تهميش الدين عن الحياة على مدار مئة سنة.

وكما فشلت الدول الغربية في تحقيق حلم (العالمانية الشاملة)، فإن الفشل في السيناريو العربي كان أكبر. وعلى الرغم من ذلك، يتجاهل العلمانيون العرب الحديث حول الحصاد المر للعالمانية في الغرب وحقبة (ما بعد العالمانية) ولا يذكرون العالمانية إلا في زمن طفولتها وسطوتها – عصر التنوير في الغرب – مع تمام السكوت عن مآلاتها ونتائجها غير المُرضية، بل يعمون أعينهم عن الحصاد النكد احتفالا بلحظة الولادة، والغفلة عن ضنك الحاضر بالعيش في أمجاد الماضي!

ولكن السيناريو العربي لا يفرق كثيرا عن الغربي؛ إذ إن العالمانية لم تنجح في بسط شموليتها لأن الجماهير المسلمة لم تتخلّ عن الدين، بل إن تمسك العربي بالإسلام يفوق تمسك الغربي بالمسيحية بمراحل عدة. وفي هذه النقطة، علِم أعداء الدين أن حلم بتر الإسلام عن الحياة بشكل شامل لن يلقى أي قبول. فلا سبيل إلا بحرب المكر والتدليس حتى يتم إقصاء الإسلام بشكل تدريجي دون أن يشعر أحد.

إن العرب –على عكس الغرب– يعيشون حقبة (ما بعد العالمانية) دون أن تمر البلاد بالعالمانية أصلا، إذ إن مرور المسلمون العرب بالعالمانية شيءٌ من المحال لنفور الشعوب من المبدأ، فلا سبيل لعلمنة الدول المسلمة إلا باختراع نسخة محرفة من الدين يرتضيها الحكم العالماني. ويتم ذلك بالسبل الآتية:

  • إطلاق مصطلح (إسلاميون) على كل من ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية: على الرغم من أن تطبيق الشرع من مسلمات الدين وهي من المقاصد الأولى لسورة المائدة، وأن الجدال حول المسألة لم يشهد في تاريخ الأمة برمته. إلا أن إطلاق الألقاب والمصطلحات على أهل الدين يوهم المستمع أن هناك دين ما “معتدل” وها ما يعرفه أغلب الناس، وهناك فئة قليلة من الناس لها فهم متشدد للدين، وهذه الفئة المتشددة تحاول أن تفرض رأيها على الآخر بالإكراه. حتى يشعر السامع أن هناك نسختين من الدين، نسخة تقبلها العامة ونسخة لا يؤمن بها إلا قلة، فيؤثر اختيار النسخة الرائجة والمرضي عنها من باب السلامة من تهم التشدد والازدراء، وتماشيا مع الغالبية العظمى.
  • إحياء الجدل المذهبي بين العلماء ودعاة الدين: إذ إن المسائل المتشابهة في العقيدة والفقه الإسلامي لم تخلُ من الاختلاف والجدال، حتى شهد تراث الكتب الإسلامية آلاف الكتب في المسائل الخلافية. وعلى الرغم من أن واجب الوقت وفقه الأولويات يستدعي السكوت عن الفرعيات وإلمام الجمع على المحكمات، إلا أن أعداء الدين يشعلون الفتن بين أهل العلم بإعادة إحياء الجدل، حتى تصرف الطاقات في الخلافات الداخلية بين أهل العلم بالدين.

ومن هنا، يقف المرء أمام المشهد الديني وكأنه أمام حلبة صراع لا يكاد يتفق فيها على شيء، فيتوهم أنه لا سبيل لوحدة أبناء اللسان الواحد والأرض الواحدة إلا بالانتماء للوطن، وأن وحدة الناس انطلاقا من وحدة عقيدتهم ضربٌ من المحال. فيتم استبدال الانتماء للأمة الإسلامية بالانتماء إلى (الوطن) أو (العروبة) أو حتى (الإنسانية). وهو الخروج من مرجعية الدين إلى مرجعية الأرض أو اللغة أو العرق، فيقع المسلم تحت سطوة العالمانية دون أن يشعر.

  • ادعاء أن عملية تفسير نصوص الدين هي عملية بشرية محضة. ومن هنا، يتم تقديس النص الديني من قرآن وسنة والاعتراف بربانيّته. ولكن يتم تهميش جهود المفسرين بحجة أن عملية فهم النص هي عملية بشرية تقبل الصواب أو الخطأ. ومن هذا المبدأ يتم التعامل مع النص بشيء من التفكيكية، وأن لكل قارئ للنص فهم خاص به، وأن عدد المعاني والأفهام هي بعدد من قرأوا النص على حسب نظرية (موت المؤلف). ومن هنا، يتم إعادة تشكيل النص الديني على حسب الميل العام من (عالمانية، ليبرالية، نسوية، ماركسية، ..إلخ). فيتم تحريف النص لا من حيث تحريف الكلم عن مواضعه، بل بتحريف معانيه ودلالاته، واختراع نسخ عديدة من الدين تابعة للأهواء وللذوق العام، وسفح معنى وجود دين واحد حق، وتحويل القرآن من كتاب مقدس إلى أسفار عدة.

جاك دريدا (أحد رواد المدرسة التفكيكية)

واجب الوقت

إن التحدي الذي قامت له جهود أعداء الدين الإسلامي لا يكمن في بتر الدين عن الحياة. إذ إن دعاوي الإلحاد والردة الكاملة نجحت في الغرب أضعاف ما نجحت في الوطن العربي، بل إن نجاح دعاوى الإلحاد لم تلفح في الوطن العربي إلا بعدما أفلحت في الغرب، ولذلك فهي تستهدف ضعاف القلوب والعقول وحديثي السن ممن ينبهرون للغرب وينبطحون له.

ولكن من يعادي الإسلام يعلم يقينا أن الغالبية لن ترتد عن دينها مهما يحدث. فمن هنا، تكن خطة المتآمرين الأساسية لا في نشر الإلحاد، وإنما في سيطرة العالمانية بتحريف الدين عن طريق الإعلام المضلِل، وهندسة مناهج التعليم، ودفن مصادر كلمة الحق، وإلهاء أهل العلم عمّا قد ينفع قومهم.

فعلى الداعية والمصلح أن يفهم أنه لا يخاطب نفرا من أبناء الجلدة والدين الذين يتفقون حول المحكمات، بل يخاطب من يعانون من قراءة مشوهة لأسس الدين ومركزياته الكبرى. وأن الوصول إلى الجماهير في هذه الأيام يحتاج إلى من يمتلك العلم، والخبرة، والحكمة، مع الفهم العميق للواقع. لأن الوصول للناس يعني أن نعيد تعريف الأسس والأصول بوضوح لا يلوثه تضليل ولا تشويه، حتى تبرز جماليّة الدين من تحت أنقاض جهود تشويهه؛ إذ إن من استوعب الواقع وراقب ملامح تشكله بين ماضيه وحاضره، هو الأقدر على التأثير في العامة بأقل الجهود، وأبسط الوسائل..




كيف صارت العلمانية الطريق إلى موت الإنسان؟

ليس من المبالغة القول: إن المفهوم الأكثر مركزية واستمرارًا في الدين –أي دين- هو الإيمان، وأن التجارِب العلمانية مهما حاولت قياس هذا المفهوم أو عقلنته فإنها تفشل بذلك، فتجربة التديّن تنبع عن الإيمان، وقد يضعف التدين إلا أن ذلك لا يعني غياب الإيمان أو موته، وبهذا فإن الواقعية الحضارية التي يبنيها الإنسان المؤمن وتنسَب إلى الدين نابعة من الإيمان من ناحية وتتعزّز به في ناحية أخرى.

هذا الأمر يدفعنا لأن ننظر إلى الدين والتدين والإيمان بوصف ذلك كله جهة واحدة لا يمكن وقوع الانفكاك فيها، فهي متداخلة لا يمكن لأي جزء منها أن يكون منفصلاً في نطاقه ووجوده عن الأخرى، وهذا ما تريد العلمانية -بمختلف توصيفاتها- ترسيخه، أي الفصل التام بين أجزاء الدين، مما يغيّر من طبيعة الدين ويغيّر من جهة النظر في فحوى وجوده.

بلوى التقليد العلماني

يقف مثقفون تقليديون ومن معهم موقف سلامة موسى وغيره موقفًا يضرب باجتهادات القدامى وتاريخهم عرض الحائط، ولهذا لن يقبل المسلم العلمانية المحضة خاصة أن الذين ينادون بها يعتنقون أفكاراً تعارض كل مسلماته وكتبهم تتعارض  مع القرآن الكريم جملة وتفصيلًا وليس بينها وبين الإسلام سوى الخير والإحسان؛ إضافة إلى احتقار دعاتها وتشكيكهم في كل ما هو ديني، والدين بالنسبة للمسلم هو الأصل وهو سر القوة؛ وحين يصرح في أنه يرفض هذه العلمانية، لا يعني ذلك أنه ينكر أن العلمانية غيرت أوروبا، وإنما كونه  ضد من اجتزأ أفكارهم وعزلها عن السياق ورمى شعبه بها من فوق.

على المسلم أن يقف موقف د. علي شريعتي الذي وصف حال المنافحين عن العلمانية المنسلخة عن التاريخ والواقع الإسلامي، حيث “يقال: إن كل من يريد أن يصير متحضراً عليه أن يستهلك الحضارة التي يصنعها الغربيون، وإذا أراد أن يرفضها فليظل وحشياً وبدائيًا، ويقول السيد موريس تورز إنه لا يوجد شعب باسم الجزائر، ذلك أنه يريد أن يتجاهل تمامًا حضارة شمال إفريقيا العظيمة، وكل ما كان لدى الغرب هو (أغاني رولان) في ذلك الوقت كان المكان الوحيد المتحضر في أوربا هو إسبانيا أو الأندلس” [العودة إلى الذات، ص: 37]

علي شريعتي

إن المسلم المقتنع بهويته يفتخر بتاريخه التليد، ويرفض إسقاط النظريات عليه من السماء بدعاوى تناسبها مع الكل، فالنظريات ليست قمصانًا جاهزة تتناسب مع مختلف الشعوب، فحتى في القمصان هناك أحجام، وما يناسب هذا ليس مما يناسب ذاك، وبالتالي فالعلمانية التي تناسب أوربا ليس بالضرورة أن تناسب العالم، فلكل شعب خصوصياته.

وما يقال عن العلمانية يقال عن “تعليمات صندوق النقد الدولي “، والتي تنحصر في إزالة التعريفات الجمركية على الواردات وفرض سياسات تقشفية حادة، ورغم أن هذه التعليمات توصف غالبًا بالإصلاحات إلا أنها أدّت إلى خراب عدة دول إلا أن هناك من يدافع عنها ويراها حلًّا لكل مشاكل الدول الضعيفة.

ثم ليس بالضرورة أن نقلد أوربا حتى نكون مثلها، فنحن نمتلك نماذج إسلامية هي خير من أوروبا وأقصد الأندلس في العصور الذهبية؛ كما يوجد نموذج عالمي استطاع بناء تفوقه بالاستناد على تراثه الخصب دون الحاجة لاتباع أوربا وهو اليابان؛ زد على ذلك، أن العلمانية لا تطبق في الدول المتقدمة فقط، بل تعتمدها دول متخلّفة كالهندوراس وتوغو وغيرها، وتبنتها من قبل حكومات شديدة التطرف والعنف كالفاشية والنازية والستالينية والماوية في الصين، إلا أنّ العلمانية لم تنقذ هذه الدول من الفقر والتطرف، فلماذا؟

ولعل الجواب بسيط وواضح، فالعَلمانية ليست المنتَج الكامل، وليست المقولة الخالدة التي تسقى بماء الشباب الدائم الذي تحكي عنه الأساطير، وليست الدواء لكل داء؛ وشعار “العَلمانية هي الحل ” كذبة اعتادت الأفواه ترديدها كما تُردد الببغاوات الكلمات والجمل، دون إدراكٍ للمعنى.

 ما هكذا تورد الإبل!.

يجب على المنظّرين أن يدركوا أنّنا لسنا فئران تجارب أو دمًى خشبية، وأن الشعوب العربية ليست قاصرةً حتى تحتاج لمن يوجهها، فهي تمتلك إرادتها وتعرف طريقها جيداً، حتى وإن بدت تائهة، فما هي إلا مسألة وقت فقط وستستعيد زمام المبادرة علميًّا وعمليًّا وأخلاقيًّا، والشعوب العربية تعرف ما يصلح لها وما لها لا يفعل؛ وعلى المثقف والسياسي أن يترفع عن كونه “حْرْكي قلم”، لأن هؤلاء يدسون الأفكار الخاطئة التي لا علاقة لها بالحياة، وبالمشاعر وبمتاعب الشعوب كما يقول مالك بن نبي، [من أجل التغيير، ص: 15].

وبالجملة، فثمة ثلاثة أمور مهمة يجب التنبّه لها:

أوّلها: أن للمسلمين ذكريات سيئة مع العلمانية، ولعل الجميع يتذكر المرارة التي أذاقها الرئيس التونسي بورقيبة للمسلمين في تونس، بعد أن أنزل العلمانية الفرنسية  أو اللائكية كما هي صافية؛ حيث إن لائكية فرنسا، تأثرت كثيرًا بالأوضاع الاجتماعية والسياسية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ولهذا كانت لها مواقف واضحة من الدين، فحرّم على الناس الحجاب وأغلق دور القرآن وراقب المساجد بل وأراد إلغاء الصوم، في عام 1961م  دعا العمال إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج ولأسباب أخرى، وطلب من العلّامة ابن عاشور أن يفتي في الإذاعة بما يوافق ذلك، حيث ترقب النّاس ظهوره من خلال البث، فما كان من الشيخ العلّامة إلا أن قرأ آية الصيام وبيّن فرضه، ثم قال: ” صدق الله وكذب بورقيبة” [ينظر: موقع الإسلام ويب: الطاهر بن عاشور: العالم الشجاع].

الحبيب بورقيبة رسخ العلمانية في تونس

الحبيب بورقيبة

وما فعله حكّام تركيا في بدء تأسيس الجمهورية هو نسخة طبق الأصل عمّا قام به بورقيبة، وكلاهما تحدثا باسم الدين ودعيا إليه ولكن بطريقة ومنهج خاص، وأباحوا للسياسي التدخل في الشأن الديني مع أنهم حرموا على  الشيخ التدخل في الشأن السياسي، وهذه العقلية مستمرة إلى اليوم ولن تنتهي، فقبل رمضان هذا العام، خرج أحد دعاة العلمانية المدعو “أحمد عصيد” في المغرب في فيديو، يحذر الناس من الصوم كونه سيسبب لهم في الإصابة بفيروس كورونا، وذلك لأن الصوم يؤدي إلى تيبس الحلق وفيروس كرونا ينشط في الحلق الناشف -رغم أن الدراسات لم تتحدث عن الأمر- ولكن أهل التنوير هذا حالهم، يتهافتون على كل ما قد يعكر على المسلم صفاءه، ولو بالكذب على الطب وأهله، بل على كل علوم الدنيا، التي يستبيحون حرمتها نصرة لأفكارهم.

أما الثاني فهو أن مجموعة من أسس العلمانية مطبقة في العالم العربي والكثير من أفكار العلمانية أصبحت مسلمات لدى العديد من المسلمين، وهذا خطير للغاية، حتى أن المرء بات لا يمكنه تخيل حياته دونها، رغم تأكيد المرء تشبثه بدينه وتاريخه، وهو صادق كل الصدق وليس بإمكاننا تكذيبه، ولكننا نحذّر، كما حذرنا الشيخ سفر الحوالي في كتابه:” المسلمون والحضارة الغربية”: “يجب أن نحذر تسرب العلمانية الى مجتمعاتنا ونحن لا نشعر، العلمانية التي تعتمد المنهج التدريجي البطيء والتغيير القيمي بعيد المدى، ويراهنون على أن الجيل التالي سيكون جيلاً يضع شهواته فوق كل اعتبار”.

ولو قال القائل أن ما نتبعه جزء فقط، قلنا إن العلمانية لا يمكننا أن نفهمها انطلاقا من الجزء الصغير، وإنما انطلاقًا من شكلها الشامل والعام، والذي يختلف تمام الاختلاف عن الجزء، وفي هذا  يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: “يوجد في تصورنا علمانيتان لا علمانية واحدة، الأولى جزئية ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص” [العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج1، ص: 16]

أما الثالث: فهو أن أوربا رغم دخولها عالم الغنى والرفاهية المادية والقوة السياسية والصناعية والعسكرية، ورغم أنها حلت  الكثير من مشاكلها السياسية والاقتصادية، ولكنها في الوقت التي بنت فيه هذا البنيان هدمت جوهر الإنسان.

نعم، اختفت مصطلحات “الإكليروس، والسيد، والإقطاع، ودولة الكنيسة” إلا أنه ظهر مكانها مصطلحات جديدة، تشير إلى نتيجة عملية علمنة العالم الإنسي، منها:” أزمة الإنسان في العصر الحديث، وثمن التقدم، وهيمنة النماذج المادية والكمية والآلية والاغتراب وأزمة المعنى، وتفشي النسبية المعرفية والأخلاقية، وتآكل الأسرة، وتراجع المساحة الفردية والخصوصية، والتشييء والتسليع” [عبد الوهاب المسيري، عين على العلمانية، ص: 33]، وبالتالي نعيد التأكيد على أن شعار “العلمانية هي الحل” كذبة وشعار زائف، ولما أعلنت العلمانية في نهاية تشكلها –أي القرن التاسع عشر- عن اختفاء السماء، كما أشار كارل ماركس، وموت الإله، كما وصّف نيتشه رؤاه في الحالة الأوروبية، فإنها أعلنت ذلك دون أن تدرك أنها بشّرت  بـ” موت الإنسان”، كما أشار إلى ذلك ميشيل فوكو بقوله: “فالإنسان اختراع يبين لنا علم الآثار بيسر وسهولة حداثة عهده ووشكان نهايته” [ميشيل فوكو، الألفاظ والأشياء، ص397 :]

لا بد من العودة للدين

يتجاهل العلمانيون العرب حقيقة ما يدور في ساحة الفكر، وأقصد دعاوى تجاوز العلمانية أو ما يسمى “ما بعد العلمانية post-secularism” والتي يتزعمها الفيلسوف الألماني هابرماس سليل مدرسة فرانكفورت، وهابرماس كما هو معروف لدى الجميع كان من المدافعين الشرسين عن العلمانية، وواحد ممن قالوا بأفول نجم الدين في زمن العلم (ماركس ونيتشه وغيرهم)، ولكنه اليوم يرى بأن القول باختفاء الدين من الحياة العامة يقف على أرجل من قصب.

وبإرادة الفيلسوف الباحث عن الحقيقة بدأ هابرماس تصحيح نظرته حول الدين وحول دور الدين في المجتمع، وهكذا تصالح الاثنين فنجد أنه في سنة 2001 يلقي محاضرة بعنوان ” الدين والمعرفة “، وبعدها بسنة واحدة يكتب كتابا بعنوان “الدين والعقلانية”، في 2005 شارك في مؤتمر دولس حول ” الفلسفة والدين “…الخ.

لم يتراجع هابرماس عن كونه شخصاً علمانيا ولكنه بات الآن يعي دور الدين وجمالية الدين ويصعب عليه التحدث تحييده كما كان يحلو سابقًا، وفي نفس الصدد يتحدث الدكتور التونسي فتحي المسكيني وهو أحد المنادين بالعلمانية عن دور الدين فيقول: “إنّ الحداثة الأخلاقية قد علمنت القيم لكنّها قامت بذلك على حساب الفضائل. وإنّ تأسيس قيم من دون فضائل هو إخفاق فلسفي لعصر إنسانوي وفردانيّ يزعم أنّه أرسى العقلانية العلمانية بوصفها منقذًا أخلاقيًّا من عصور مسحورة. فإذا بالعالم المنزوع السحر -أي الذي صار نصًّا معلمنًا من دون أيّ حاجة إلى إنقاذ- قد أخذ يعبّر أكثر فأكثر عن حاجة روحية جعلت عودة الديني ليس فقط ممكنًا، بل مطلبًا مثيرًا لأجيال ما بعد الحداثة[1].


[1]  ينظر الرابط الآتي: http://www.siironline.org/alabwab/derasat(01)/076.htm




الثقوب السوداء في الفكر العلماني العربي

ما إن استقرت العلمانية في مؤسسات ودول وممارسات حتى تحولت إلى سردية كبرى أسوة بالحداثة التي ولّدتها. ومع الوقت، وبسبب المعارك الفكرية والأيديولوجية التي خاضتها ونجمت عنها، أصبحت شبيهة بالأيديولوجيات التي وعدت البشر بالتحرر منها، إذ سرعان ما أصبحت ديناً جديداً، أي عقيدة متماسكة وصلبة ومغلقة، وبدا أن مهمة الفكر النقدي تتمثل في تفكيكها أسوة بالسرديات الكبرى القومية والأممية والدينية.

رغم هذا الأمر، إلا أن العلماني العربي حين يفكّر بالعلمانية فإنه لا ينظر إليها منطلقًا من خصوصيته الثقافية، وإنما بوصف العلمانيّة بشارة تحلُّ مشكلات التخلّف التي تعاني منها بلاده، -وإن كانت مشكلة التخلف مرتبطة بمجموعة كبيرة من الإشكالات كالفساد والجهل وغياب الوازع الديني- ولذا فإنه يراها نهاية ما يصبو إليه، ومن ثم يتمحور حولها مدافعًا عنها ومواجهًا في الوقت ذاته للدين وما يرتبط به بوصفه السبب في التخلف.

لماذا تغلغلت العلمانية في الفكر العربي؟

يستعير علمانيّو العرب المثقفون -في كثير من الأحيان- الموضوعات والمناهج التي لا تساعدهم أو تمكّنهم من حلّ الإشكال الثقافي العربي، ومن ثم فإنهم حين يقصدون ما يسمّى بـ (فعل التنوير) فإنهم يطلبون النسخة الأكثر تطرّفًا من بينها، وذلك لأن الهدف في إبداء الاختلاف أكثر من الرغبة في  حل المشكلة؛ فامتلاك تصور للحداثة أو أن تظهر بوصفك تنويرياً أو علمانياً أهم عند المثقف من أن يحل مشكلة الثقافة العربية مع العلمنة أو التنوير.

ومن ثمَّ كان التطرف العلماني العربي ضد كل ما هو إسلامي بدرجة أولى، علامة فارقة، بالرغم من أنك تراهم –في غالبيتهم- متصالحون مع  كل الأديان،  إلا أن هذا التسامح أو التصالح حين يصل إلى الإسلام يتحوّل إلى قدح وسخرية.

إن السمة الأساسية للعلمانية العربية انسلاخها عن واقع المجتمعات التي تحيط بها؛ إذ إن علاقة العالم العربي والاسلامي بالعَلمانية قديمة للغاية، فتعود للقرن التاسع عشر؛ ومن ثم فإن مثقفي هذه الأيام ليس أول من نادى بها أو اعتبرها دواءً لكل داء، فقد سبقهم كثيرون ممن هم أعلم وأفصح قولاً وأكثر كتابة وأغزر نشرا وأعلى مراتبةً.

دعا مفكّرون قدامى وجدد، إلى الانسلاخ من كل ما له علاقة بالشرق كان ذلك يعني الارتماء في أحضان الغرب؛ فلا غضاضة في الأمر، بل هو شرف أن ننتمي إلى الغرب الجميل، وفي هذا الصدد يقول: سلامة موسى: “[…] لأن الشعب المصري لا يزال في سُحنته ونزعته أوربياً، فهو أقرب في هيئة الوجه ونزعة الفكر الإنجليزي والإيطالي، فلماذا لا نصطنع جميعاً الثقافة والحضارة الأوربيتين، ونخلع عنا ما تقمّصناه من ثياب آسيا، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طوال حياتي سراً وجهراً، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب” [اليوم والغد، ص: 8-9].

كما دعا الأديب المصري طه حسين إلى ضرورة الانصياع للغرب والسير على منواله، وإلا فإننا سنعاقَب بما نستحق، يقول: “التزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع، ولو هممنا الآن بأن نعود أدرجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا لذلك سبيلاً، ولوجدنا أمامنا عقاباً لا تُجتاز ولا تُذَلَّل تقيمها أوروبا لأننا عاهدناها” [مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين، ص:36].

طه حسين نموذج للعلماني العربي

طه حسين

إن المطلوب-إذًا-  عند سلامة موسى وطه حسين وجُلّ العلمانيين ليس تطبيق مبادئ العلمانية من حقوق وحريات الخ، ولو كان ذلك؛ لما احتقر سلامة موسى وطه حسين ماضي الناس، -فالعلمانية ترفض ذلك نظريًّا على الأقل-، أم أنها علمانية حسب الطلب والمزاج؟

بالتالي فإن الغاية لكل دعوة علمانية اتباع الغرب في كل تفصيلة صغيرة كانت أم كبيرة، ولهذا يقول سلامة موسى “لغرامي بالحضارة الغربية الأوربية فإني أحث بني وطني أن يلبسوا القبعة؛ لأنها تبعث على العقلية الأوربية” [سلامة موسى، ص: 135- 136].

تفرض العلمانية تصوّرًا خاصًا بها للحياة وللإنسان وحتى للدين وكذلك القطيعة النهائية مع كل تاريخ هو لنا، سواءً كان ما في هذا التاريخ خيراً أو شراً، فليس الخير عند هؤلاء سوى خير أوربا، والشر والجهل ما دونها من الثقافات ولو كانت هذه الثقافة ثقافة الأجداد من جانب آخر، وذهب سلامة موسى إلى أبعد الحدود -وعاد بخفي حنين- فرأى في احتفاظنا بتاريخنا مهلكة، ومرضًا عضالاً لا يرتجي المسقوم منه شفاء، أو كما قال: “إن هذا الاعتقاد بأننا شرقيون قد بات عندنا كالمرض” [المصدر السابق، ص: 235].

ثقوب سوداء

مشاعر التبعية أو الانبطاح والشعور بالدونية التي يتميّز العلماني العربي بها يمكن تسميتها بـ “الثقوب السوداء للعلماني العربي” وبالطبع فإن العزة والفخر والشهامة يجب أن تكون أهم ما يتميز به المسلم المتبع لدينه ورسوله، بل هي أهم ما جاء به الإسلام، ولا نستغرب من نيتشه أن يقول: “أن تكون مسلماً يعني أن تكون رجلاً” [كتاب عدو المسيح، نيتشه] ولا نستغرب فهم ديورانت لطبيعة الأثر الذي يبعثه الإسلام في النفوس، فقال: “وقد كان له –أي القرآن الكريم- أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي والثقافي، وحرّر عقولهم من كثير الخرافات والأوهام، وبعث في نفوس الأذلاء والمساكين منهم والعبيد الكرامة والعزة” [ول ديورانت، قصة الحضارة، م4/ ج2، ص: 69].

ويل ديورانت

ما لم يدركه سلامة موسى ومن لف لفيفه، أن المرض الحقيقي الذي يهدد جسم الانسان أي إنسان؛ هو التبعية التي ينادي بها ويدافع عنها تحت تسميات كثيرة، إن الانسلاخ من الذات ومحاولة تقليد مشية الآخر واقتلاع الانسان من جذوره وتربته، مؤذن بالخراب، فالإنسان كالنبتة إذا أخرجته من تربته ذبل، وتربة كل أمّة هي ماضيها العتيد؛ تاريخ أجدادها وإنجازاتهم العظيمة، بل إن أخطاءهم التي لا تغتفر جزء من هذا الماضي الذي يجب فهمه وتجاوز ما فيه من أخطاء،  وهذا الأمر متفق عليه من قبل الباحثين ولا نجد من يعارض إلا من هم على شاكلة سلامة موسى غير المتخصصين، فالإنسان ما زال بخير ما لم تتسرب دعاوي كهذه الدعاوى إلى وجدانه، وما دام محتفظًا بهويته رافضا بيعها سعيًا لنيل رضى الغير.

لم يستطع هؤلاء أن يخلق من طين تاريخهم نموذجا إنسانية تكون له الريادة فطالبوا بنسخ تجربة الغرب  زاعمين أن يحمل في يديه لهم ولكل الشعوب الحضارة والتقدم، لكنهم واهمون؛ وفي هذا الصدد يورد الدكتور علي شريعتي في كتابه” العودة إلى الذات” أن: “التغرُّب -من الغرب- يحقّق لهم القيادة والنخبوية، وهذا يقتضي منهم أن يتنازلوا عن ذواتهم ويذوبوا في غيرهم، ويتنازلوا عن هوياتهم وتاريخهم وكل مقومات إنسانيتهم، ويأخذوا مقابل ذلك المال، ولكن العدو أذكى من أن يعطيهم المال، إنه يعود فيسترده منهم ببضائعه ومنتجاته التي سلبت عقولهم  وأعمت أبصارهم” [علي شريعتي، العودة للذات، ص: 144].




كيف فضح إبراهيم السكران تتلمذ الحداثيين العرب على المستشرقين؟

في كتابه “التأويل الحداثي للتراث” يضع الأستاذ إبراهيم السكران بين يدي القارئ وثيقة متقنة في نقد الاستشراق والأجواء التي رافقت نشوءه في الغرب، ثم يعمد إلى عقد مقارنات بين ما جاء به المستشرقون وما توصل إليه الحداثيون العرب، ليخلص إلى وصف الحداثيين العرب بـ”الشرّاح”، وهو لفظ لا يخلو من تهكم.

وهو في سرده لأقوال الحداثيين العرب وتبيان حالة الانبهار التي كانت واضحة في كتبهم، على اختلاف مشاربهم، يأخذ بيد القارئ ليوصله بنفسه إلى أن النتاج الحداثي العربي ودعوات إعادة قراءة التراث في مجملها إن لم يكن كلّها صورة مكررة لما جاء به المستشرقون، وتلقفها الحداثي العربي.

يقع الكتاب في حوالي 448 صفحة، بوّبه في أربعة أبواب، جعل الأول توطئة للحديث عن الأجواء التي سبقت الحالة التأويلية التي سلكها الحداثيون العرب، مبينًا أن الخطة التي كان من المفترض أن يسير عليها “الشرّاح”، إعادة قراءة التراث بمعنى إعادة صياغة العلوم الإسلامية بالمناهج الإنسانية الحديثة، إلا أن المسار انحرف عن غايته لينصبّ على قراءة الموروث الفلسفي الغربي وتبني نظرياته برمتها.

وهو إذ يعرض في كتابه للكثير من اقتباسات عرّابي التراث الفلسفي الغربي، فهو يعرض في مقابلها منابعها الرئيسية في كتب المستشرقين ويسبكها في النص سبكًا متقنًا، ومع أن الكاتب أسرف بإيراد النقولات والأسماء، إلا أن مهارة السبك ووضوح الفكرة والغاية حالت دون ملل القارئ. 

يخلُص الكاتب إلى أن المشاريع التأويلية للتراث مستمدة من أعمال المستشرقين استمداد المقلّد الذي لم يأت بجديد، بل تجاوز الأوائل في نسف الكليّات، فكان من الطبيعي جدًا أن يتبنى الحداثيون العرب موقف الحداثيين الغربيين ويخلصوا إلى إحدى نتيجتين:

  • التوفيد: بمعنى رد التراث الإسلامي إلى كونه اقتراضا من حضارات سابقة كتابية أو فارسية، وهذا كلّه إنما يخضع للهوى بلا دليل يدعم فرضيتهم.
  • التسييس: أي ردّ التراث الإسلامي إلى كونه حصيلة صراع سياسي، فرض أجوائه على كل مجالات العلوم الإسلامية في العقيدة والفقه وعلوم الحديث.

وقد أسهب الكاتب في شرح هاتين النتيجتين “التوفيد والتسييس” وأفرد لهما بابين في كتابه.

ويتحدث الكاتب عن تألق علم “الفيلولوجيا” في القرن التاسع عشر في الأوساط الغربية، وتوظيفهم لأدوات هذا العلم في دراسة الشرق وثقافته، بل إن المستشرق غولدزيهر يرى أن دراسة الشعوب الشرقية وثقافتها بأداة فيلولوجية هي مهمة المستشرق الرئيسية.

ويتساءل عن السبب الذي جعل المستشرقين منكبين على الأداة الفيلولوجية في دراسة الشرق، إذ يعيد السبب إلى ضيق الوقت، فالمستشرق يتفرغ لتعلم لغة أجنبية ودراسة المخطوطات ما يأخذ منه وقتًا وجهدًا كبيرين.

جعل السكران التعاطي مع العلوم الإسلامية في قسمين:

  • المحور الموضوعي: وهو تحليل أفراد مسائل العلم واحدة واحدة، وهو مجال اهتمام طالب العلم الشرعي.
  • المحور التاريخي: وهو مراقبة سير وتطورات هذا العلم، وهو مجال اهتمام المثقف العام الذي يهتم بنشأة علم ما، والمراحل التي مرّ بها.

واعتبر الكاتب أن أهم مؤسسي ومنظري “التاريخ الثقافي”: بوركهارت، ديلتاي، رودي بارت، ألفرد فون كريمر، وواردنبرج.

جورجي زيدان

ثم يسهب الكاتب في الحديث عمّا سمّاه البرامج العربية الشاملة لتاريخ التراث، والتي يرى أن رائدها اللبناني جورجي زيدان الذي لا يخفي اقتباساته عن المستشرقين، ومن بعده المصري أحمد أمين في سلسلته الشهيرة  “فجر الإسلام” التي يرى السكران أنها كادت أن تكون إضافة رصينة في “تأريخ التراث”، لولا الحالة الانهزامية التي تلبّست أحمد أمين في نقوله عن المستشرقين[1]، ويؤخذ على الكاتب تطرقه لحياة أحمد أمين الدينية الخاصة، والتي نقلها ابنه جلال أمين، وعن الجدوى من ذكرها في معرض نقد منهجية أحمد أمين.

ثم ينتقل إلى الحديث عن مرحلة ما بعد جرجي زيدان وأحمد أمين، في مرحلة السبعينات والثمانينات، والتي كانت مشروعات يسارية جاء أصحابها من خلفيات ماركسية أشهرهم: الطيب تيزيني، حسين مروة، أدونيس، حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري.

أمّا روّاد القراءات الحديثة الجزئية، التي أخذت حقلًا محددًا فهم: محمد أركون، فهمي جدعان، عبد المجيد الشرفي، عبد المجيد الصغير، ووائل حلّاق.

ويعرّج الكاتب في الفصل الأخير من الباب الأول للحديث عن التطورات التي طرأت على الاستشراق في مرحلته الأخيرة، أي في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي برزت فيها مدرستا “انثربولوجيا الإسلام”، والتي تهتم بدراسة المجتمعات المسلمة المعاصرة بتوظيف بعض النماذج التفسيرية في العلوم الاجتماعية، و”مدرسة المراجعين الشكوكيين” التي تقوم أساسًا على الشك في كل المصادر الإسلامية، والبحث في مصادر تاريخية أخرى رافقت الحقبة الزمنية لظهور الإسلام، مما يدفعنا للعجب من هذا المنهج الذي يرفض الأخذ بالمصادر التاريخية الإسلامية، في حين أنه يقبل بالمصادر اليهودية أو النصرانية، (مدرسة المراجعين في حقيقتها هي مستوى من المزايدة في الشكيّة على دراسات المستشرقين الفيلولوجيين).[2]

ثم يعرض الكاتب لمجموعة من الآراء التي تتناقلها أوساط مدرسة المراجعين، والتي تدعو للعجب من الجرأة التي يتمتع بها أصحاب المدرسة حين يطرحون آراءهم الشاذة، مثل “إنكار وجود النبي محمد صلى الله عليه وسلم تاريخيًا، وأن مكة ليست في الحجاز وإنما في الأردن، والقرآن من بنات أفكار الحجاج”، معتمدين في ذلك على لعبة التشابهات اللغوية.[3]

تقنية التوفيد
تتلخص فكرة التوفيد في نسب كل العلوم الإسلامية لحضارات وأديان سابقة على ظهور الإسلام، وهو ما يعرف “بالنظرية الإرجاعية”، وأن المسلمين أعجز من أن يأتوا بمثل تلك العلوم.

كارل بروكلمان

ولم يقتصر الأمر على عزو العلوم الإسلامية في كلّياتها إلى من سبق، بل أرجعوا العلوم الحقلية أيضًا، حتى وصل الأمر إلى الادعاء بأن كل مسألة في الفقه الإسلامي يلمس فيها القارئ أعمدة اليونان، فالمستشرق بروكلمان يرجع الشعائر الدينية الإسلامية للاقتباس من أهل الكتاب، وحتى حين عجز عن التبرير لاختلاف كيفية الصوم الإسلامي عن المسيحي، برّر قوله بأنه لا يدري ممن اقتبس النبي محمد فريضة الصوم، هل من الفرق الغنوصية أم المانيين؟

إن القارئ لهذه السياسة الإرجاعية يلمس تكلفًا واضحًا وسمجًا في عملية الإرجاع، فقد وصل الغلو ببعض المستشرقين إلى أن أرجع بعض المواقف العاطفية التي مرّ بها الصحابة إلى أصول نصرانية، على اعتبار أن تلك المشاعر الرقيقة لا تتناسب مع مزاج العرب الغزاة، وهو ما يمثل ذروة التطرف لدى المستشرقين، وقد أسهب الكاتب في هذا الفصل بذكر أمثلة عن هذه السياسة التكلّفيّة، التي لا تخضع لأية معايير منهجية.

 يعرّج بعدها على فصل أفرده للحديث عن إعادة التصنيع العربي للتراث، وقاد تلك التعميمات المستهلكة -كما يصفها- محمد الجابري الذي قال إن علوم الكتاب والسنة في عصر الصحابة إنما هي صادرة عن الموروث الجاهلي.

أمّا أحمد أمين فقد جعل عقيدة السلف في إثبات الصفات الإلهية الاختيارية نظرية مستوردة من اللاهوت اليهودي، وغيرها.

تقنية التسييس
من الأقسام المهمة في الكتاب، والتي يرصد فيها الكاتب الأداة التفسيرية الثانية عند المستشرقين وشرّاحهم الحداثيين العرب، وهو افتعال خلفيات وأغراض سياسية خلف العلوم الإسلامية التي فرضتها المعطيات الموضوعية في التراث الإسلامي.[4]

وهم في هذه التّهم يجرّدون علماء المسلمين من وازعهم الأخلاقي والديني، ويجعلونهم ورقة سهلة في يد الحكّام، يوجّهونهم حيث يريدون من غير أن يخرج أحد عن طوقهم، مع أن المنطق يرفض مثل هذا الطرح، إلا أن تلك النظريات راجت بين أواسط الحداثيين العرب، وتشرّبتها كتبهم ومؤتمراتهم.

ولربما كان الفصل الثالث من هذا الباب من أمتع الفصول حين أورد عدة مسائل وضعها تحت عنوان “مناقشات”، وإنّ القارئ ليتمنى أن يطول النقاش فيها أكثر، على أن غاية الكتاب لم تكن مناقشة تلك المسائل بشكل تفصيلي.[5]

استشراقيات المحنة
وهو الفصل الأخير من الكتاب، والذي أفرده للحديث عن محنة الإمام أحمد بن حنبل، والأطوار التاريخية التي تناولت قضية الإمام من جهة، وقضية المعتزلة من جهة أخرى، حيث أرجع التعامل الاستشراقي مع المعتزلة إلى عدة أطوار:

  • تعامل المستشرقين مع المعتزلة بوصفهم نسخة تجسدهم في تاريخ التراث، حتى شاع بين أوساطهم مساواتهم بين الليبرالية والمعتزلة.
  • مرحلة وولتر باتون المستشرق الكندي، الذي طرح رسالته للدكتوراه بعنوان “أحمد بن حنبل والمحنة”، الكتاب الذي صار له ثقله بين أوساطهم، والذي كان المحرك الأساسي لتغيير النظرة السابقة التي صورت الفكر الاعتزالي فكرًا يوازي الحرية الليبرالية، حيث كشفت عن الطرق التفتيشية التي فرضتها السلطة الحاكمة آنذاك.
  • تشييع المحنة: مصطلح أطلقه الفرنسي سوردل، والذي تبنى نظرية “المحرك الأساسي لحكم المأمون كان خلفيته الشيعية”، والتي مهدت لنظرية الألماني فان إس.
  • جوزيف فان إس: يعتبر المبرئ لسياسة المعتزلة، والذي قدم نظرية تقوم على أركان ثلاثة، تبرئة المعتزلة من عار المحنة، التشكيك في بسالة الإمام أحمد، تسييس محركات المحنة.

وأخيرًا يعرض الكاتب للمستورد العربي لنظرية فان إس، التي نقلها عنه تلميذه رضوان السيد، وتلقفها عنه فهمي جدعان، وإني هنا أحيل القارئ لقراءة هذا الفصل من الكتاب كاملًا ليدرك الحالة الانهزامية، والاستلاب الواضح الذي يصطبغ به جدعان في تناوله لقضية المحنة.


[1] التأويل الحداثي للتراث، ص 55.

[2] المصدر السابق، ص 118.

[3]المصدر السابق، ص 120-121-122-123.

[4] المصدر السابق، ص197.

[5] المصدر السابق، ناقش فيها عدة مسائل، مثل تسييس حديث شدّ الرحال، تسييس الظاهرية وغيرها من المسائل، ص 198.




 تطور الكيمياء الحيوية يهدم نظرية داروين

أدى التطور الهائل لعلم الكيمياء الحيوية منذ أواسط القرن الماضي وحتى اليوم، إلى تغير جذري في معرفة العلم والطب بما يجري في جسم الإنسان، وبالذات في مقومات الحياة، فقد تبين للعلماء وبوضوح قاطع لا لبس فيه أن حياة أي كائن حي، قائمة على عدد يصعب حصره من الآلات والأجهزة التي تعمل بشكل متكامل ومتزامن، لو توقف أي منها عن العمل لكان لها تأثيرات قد تكون مميتة على حياة الكائن الحي، وهذه الآلات ليست مصنوعة من معادن وأخشاب وغيرها من المواد التي نعرفها، ولكنها مصنوعة من جزيئات كيميائية، تقوم بكل ما يخطر وما لا يخطر على بال من أعمال، وتتحكم بكل ما يجري في الكائن الحي من مهام، تحمل المواد  وتنقلها ثم تفرغ حمولتها في المكان المناسب، وتنسخ الخلايا وتعطيها شكلها ولونها وتنقل صفات الكائن الحي لذريته وتدافع عنه ضد الأعداء، وتولد التيار الكهربائي وتنقله وترسله إلى الأماكن المطلوبة وتقطعه عندما تنتهي مهمته، ولو عددنا لما فرغنا، ولكن باختصار نقول إن الجزيئات الكيميائية هي آلات تتحكم تماما بكل ما يجري في خلايا الكائن الحي من أعمال.

تشارلز داروين

لقد كان هذا التغير في المعرفة أحد المعاول الكبرى التي ساهمت مع غيرها في هدم نظرية التطور التي وضع أسسها تشارلز داروين، ولكن كيف؟

تقوم نظرية داروين على أسس ثلاثة: الأول أن الكائنات لها أصل مشترك، والثاني أن الاختلاف والتنوع والتعقيد الذي نراه في الكائنات هو نتيجة طفرات عشوائية كانت تحدث للكائنات على مر الملايين من السنين، وأن تراكم هذه الطفرات كان يؤدي إلى تغيرات في الكائنات الحية، وهنا يأتي دور الأساس الثالث، وهو الاصطفاء الطبيعي، الذي ينتقي من الكائنات ما تؤدي طفراته المتراكمة إلى تحسن في نوعه، فيبقى ويتكاثر وينقل صفاته المحسنة الجديدة إلى ذريته، في حين ينقرض الكائن الأضعف أو ذو الصفات الأدنى، وقد كان اكتشاف العمليات البيولوجية المتسلسلة والمعقدة، والتي لا تكاد تحصى، والموجودة في الخلايا الحية، أحد أهم عوامل انهيار مبدأ تراكم الطفرات، وبالتالي انهيار النظرية من أساسها، وسنستعرض بعد قليل إحدى هذه العمليات بالتفصيل، ولكن بعد أن نذكر مثالاً نشرح فيه المقصود بالعمليات المتسلسلة.

العمليات المتسلسلة المعقدة
إن تصنيع أي آلة معقدة مثل السيارة على سبيل المثال يحتاج إلى مصانع متقدمة، تحتوي على خطوط إنتاج، تعمل بدقة شديدة، وبخطوات متعاقبة، تدخل المواد من أوله معادن ولدائن وقماشاً وجلداً وأسلاك، وتخرج من آخره سيارة متكاملة جاهزة للعمل، وأهم ما يلاحظه من يتأمل خط الإنتاج  هو أنه يتألف من مراحل أو محطات متعددة متوالية، وأن كل محطة يتم فيها عمل يعتمد على ما تم في المحطة السابقة، ويعتمد عليه العمل الذي يتم في المحطة اللاحقة، وبتعبير آخر كل مرحلة هي نتيجة لما قبلها وتوطئة لما بعدها، وأن المواد التي تصنع منها السيارة موزعة على المحطات، كل مادة في المحطة المناسبة، وكل مادة ذات مواصفات دقيقة محددة معروفة مسبقاً، فمثلاً في المراحل الأولى للتصنيع نرى على خط الإنتاج هيكل السيارة المعدني مجرداً، وفي مرحلة لاحقة يتم معالجته فنرى عليه ثقوبا وفتحات وتفاصيل مجهزة للمراحل اللاحقة، هناك فتحات للأضواء، وثقوب لكل سلك أو أنبوب سيعبر من المحرك إلى مقصورة الركاب، وأماكن مخصصة محفورة بدقة شديدة لكل صمام أو زر أو غير ذلك، وكلما مشت السيارة على خط الإنتاج كلما أخذت أجزاؤها بالتكامل، حتى يتم التصنيع، وبدهي أن هذا لا يتم إلا إذا كان هناك تصميم لكل أجزاء السيارة، من أكبر قطعة في هيكلها إلى أصغر دارة كهربائية في محركها، وإن هذا التصميم قد تم تجهيزه مسبقا وبدقة شديدة وبشكل كامل قبل إنشاء خط الإنتاج، ومن البدهي أن مدير فريق التصميم يعلم تماما كيف ستخرج السيارة في نهاية خط الإنتاج قبل أن يبدأ الإنتاج،  ولو حصل خلل أو خطأ في خط الإنتاج لما اكتمل التصنيع، فخط الإنتاج يكون عادة مبرمجاً بحيث لا يتحرك إلى أية مرحلة قبل أن تنتهي المرحلة السابقة لها، ولو فرضنا جدلاً أنه تحرك وتجاوز إحدى المراحل، فستخرج السيارة غير مكتملة أو فيها خلل يمنع من استخدامها.

إن خطوط الإنتاج الصناعية هي مثال تقريبي لنوع من العمليات المتسلسلة المعقدة، التي ينعتها العلماء بمصطلح (تعقيد غير قابل للاختزال)، أي لا يعمل إلا إذا كان مكتملا من أوله إلى آخره ولا يمكن أن نحذف منه أية مرحل من مراحله، لأن حذف مرحلة واحدة يعطله تماما ويعادل حذفه كله.

مايكل بيهي

خطوط الإنتاج الحيوية
يحتوي جسم الكائن الحي على ما لا يكاد يحصى من خطوط الإنتاج التي تعمل على مدار الساعة، أبطالها هي الجزيئات الكيميائية، ومنتجاتها أكثر تعقيدا وإتقانا من أكثر السيارات تقدما، وتزيد عليها أن منتجات الكائنات الحية هي جزء من منظومة لا محدودة من الآلات التي تعمل معا بتفاعل وتناغم مدهشين لتحافظ على حياة الكائن الحي، بينما السيارة آلة مفردة مستقلة.

ولنضرب لذلك مثالا بعملية تخثر الدم، مع الإشارة إلى أن معظم المادة العلمية سنقتبسها من كتاب “صندوق داروين الأسود” للبروفيسور المتخصص في الكيمياء مايكل بيهي.

 كلنا يعرف أن الدم الذي ينزف من أي جرح يصيب الإنسان ما يلبث أن يتخثر فيسد الجرح، ولكن الذي لا يعلمه الكثيرون أن هذا التخثر يتم عبر سلسلة معقدة من العمليات،  أي عبر خط إنتاج محكم دقيق مشابه لخط الإنتاج الصناعي من حيث المبدأ، إذ يمر بمراحل متوالية متسلسلة تؤدي كل منها إلى ما بعدها حتى يتم الإنتاج على أكمل وجه، وبشكل دقيق محكم، ولو حصل أي خلل في تسلسل هذه العمليات فإن ذلك سيؤدي إلى هلاك الكائن الحي، إما بسبب النزيف حتى الموت، أو بسبب تشكل تخثرات كبيرة تسد مجرى الدم،  فهو كما سنرى ينطبق عليه تعريف (تعقيد غير قابل للاختزال).

ولتبسيط شرح هذه العمليات المعقدة يمكن تقسيمها إلى مراحل:

الخثرة الأولية
الصفائح الدموية هي جسيمات بروتينية موجودة في السائل الذي يحتوي مكونات الدم ويسمى “بلازما الدم”، جنبا إلى جنب مع بقية مكوناته الأخرى مثل الكريات الحمراء والبيضاء وغيرها، وهي تجري في العروق بانسيابية وسلاسة، ولكن عندما يحدث جرح في جسم الإنسان، تأتي رسالة استغاثة من جدار الشريان أو الوريد المجروح إلى تلك الصفائح، فتقوم فورا بإعلان حالة الطوارئ، وهذه الرسالة يحملها بروتين اسمه كولاجين Collagen  وهو موجود خارج الأوعية الدموية، وبمجرد أن يحصل الجرح، يتم الاتصال بينه وبين الصفائح المجاورة للجرح، فيقوم بتحفيزها ويحولها إلى صفائح ذات سطوح لزجة، ثم تندفع نحو المكان المجروح، وتلتصق ببعضها عبر هذه السطوح اللاصقة لتشكل ما يمكن اعتباره سدادة مؤقتة، أو سدادة طوارئ، تتوضع على الجرح وتسده لتحد من النزيف.

تكوين شبكة تقوية للخثرة الأولية
تكون السدادة التي تكونها الصفائح الدموية هشة طرية، فتقوم بعمل مؤقت وتحتاج لتقوية حتى يكون وقف النزيف محكما،  وهذه التقوية تتكون بطريقة عجيبة مذهلة، وبالتوازي مع المرحلة الأولى، ويقوم بتنفيذها بروتينات وأنزيمات تسمى عوامل التخثر، وظيفتها هي التحكم بتخثر الدم وبسيولته، وكلها موجودة أيضاً في بلازما الدم، وتعمل معاً بطريقة تسلسلية مدهشة، لتصل في نهاية المطاف إلى الحصول على مادة تسمى فايبرين Fibrin، وهذه المادة هي عبارة عن ألياف دقيقة ذات أطراف لزجة أو لاصقة تتدافع وتتكاثف ناحية الجرح، ثم يلتصق بعضها ببعض بشكل هندسي متناسق متداخل، لتشكل شبكة أشبه ما تكون بشبكة الصياد، تحيط بالسدادة الأولية التي شكلتها الصفائح الدموية حول الجرح، فتضغط عليها وعلى ما يحيط بها من كريات الدم، لتشكل مع السدادة الأولى والكريات المحبوسة خثرة دموية قوية تسد الجرح وتوقف النزيف.

ولكن كيف يحدث ذلك؟
إن مفتاح هذه العملية كلها هي مادة موجودة في بلاسما الدم اسمها فايبرينوجين Fibrinogin، وتشكل هذه المادة ما يتراوح من 2-3% من البلازما، وتكون في الحالة العادية ذائبة في الدم كما يذوب الملح في ماء البحر، ولكن عندما يحدث جرح في الوعاء الدموي، يتم إعلان حالة الطوارئ، فتندفع مادة تسمى ثرومبين إلى جزيئات الفايبرينوجين الموجودة في موقع الجرح، وتنزع عنها بعض البروتينات، لتتحول من فايبريجين إلى فايبرين، وتندفع جزيئات الفايبرين إلى الجرح لتشكل الشبكة التي ذكرناها آنفا.

ولكن من أين جاء مركب الــثرومبين؟ هل كان موجوداً في الدم أصلاً؟ إذ لو كان في الأصل فعالاً لقام بتحويل الـفايبريجين إلى ليفين ولتشكلت خثرات دموية داخل العروق، دون أن يكن هناك جرح، فتسدها وتمنع جريان الدم فيموت الكائن الحي، والجواب نعم موجود ولكن بصيغة كامنة غير فاعلة تسمى بروثرومبين.

 وحتى يتحول مركب البروثرومبين إلى ثرومبين يحتاج إلى ما يحفزه، والمركب الذي يحفزه يحتاج أيضاً إلى ما يحفزه، وهكذا، والسؤال هنا هو:  أين تبدأ هذه السلسلة من التفاعلات المتتالية والتي تنتهي بتشكل الفايبرين؟

خطوط الإنتاج العجيبة
الجواب هو أن انطلاق هذه السلسلة يبدأ بتمزق نسيج الوعاء الدموي، وختامها يتم بالتئام الجرح، وتكون المركبات والبروتينات والأنزيمات المشاركة فيها كامنة في الدم تنتظر الإشارة ليبدأ مسلسل تحفيزها، وهذه الإشارة تنطلق من جدار الوعاء الدموي، الذي تحوي طبقته الداخلية على مادة تسمى العامل النسيجي Tissue Factor وهو مركب  يوجد في طبقة رقيقة جدا تبطن الجدار الداخلي للوعاء الدموي، فإذا ما تمزق جدار الوعاء، ينطلق العامل النسيجي، معلناً حالة الطوارئ، ومؤذناً ببداية عملية التخثر، فهو الذي  يُحفز بداية العملية التي تنتهي بتشكل الثرومبين، الذي يحفز الفايبربنوجين ليتشكل الفايبرين كما سبق وذكرنا آنفاً.

وما بين إطلاق العامل النسيجي، وصولاً إلى تشكيل الفايبرين، هناك سلسلة معقدة متسلسلة من العمليات، يجد القارئ الكريم مخططا مبسطاً لها في الشكل المرفق، وهو مختصر جداً للتبسيط، ولا يهمنا هنا أسماء المركبات، فهي كأسماء فريق كرة القدم، لا يهم من يمرر الكرة من أول الهجمة لآخرها، ولكن المهم أن يتحقق الهدف وتسكن الكرة الشباك. 

وهذه العملية المعقدة، تتم عبر خطين من خطوط الإنتاج: 
خط الإنتاج الأول: ويسمى المسار الخارجي، لأنه يبدأ خارج الوعاء الدموي، حيث يقوم العامل النسيجي المذكور أعلاه بتحفيز عامل برثرومبين ليتحول إلى ثرومبين، بكمية قليلة، ولكنها مؤثرة جداً، فهي تقوم  وبشكل عاجل بتحويل بعض جزيئات الفايبرينوجين الموجودة في بلازما الدم، إلى فايبرين، ليقوم بتشكيل شبكة أولية تحيط بالسدادة التي سبق أن شكلتها الصفائح الدموية لتقويتها، ولكن هذه الشبكة أيضاً غير كافية، ولا بد من تقويتها، لأن تشكيل شبكة متينة تعمل كخثرة دموية تحتاج لملايين الجزيئات من الفايبرين، وهنا يأتي دور آخر يقوم به عامل ثرومبين، عبر خط إنتاج آخر.

خط الإنتاج الثاني: بالإضافة لما يقوم به عامل ثرومبين عبر الخط الأول، يقوم أيضاً بتحفيز المزيد من عوامل وأنزيمات التخثر الكامنة في الدم، والتي تقوم بدورها بتحفيز المزيد من مركب البروثرومبين ليتحول إلى مزيد من مركب ثرومبين، أي إننا هنا في دائرة مغلقة، ثرومبين.. يفعل عوامل تخثر… فتفعل بروثرومبين… ومن ثم ثرومبين، وكأن ثرومبين يستعين بأصدقائه من عوامل التخثر لإنتاج المزيد منه!

 وهذا بدوره يقوم بتحويل المزيد من الفايبرينوجين إلى فايبرين، فتتقوى الشبكة ويصبح لدينا خثرة دموية متينة قوية تمنع تسرب الدم خارج الوعاء الدموي، وهذا المسار يسمى المسار الداخلي، لأنه يتم كله داخل الوعاء الدموي، ويلاحظ أن المسارين الداخلي والخارجي يلتقيان معا في مسار مشترك كما هو واضح من المخطط المرفق.

توقف العملية
في النهاية، يأتي دور ثالث يقوم به مركب ثرومبين، فهو يقوم أيضاً بتحفيز مادة اسمها بلاسمينوجين موجودة في بلاسما الدم، لتتحول إلى بلاسمين، وهذه الأخيرة هي مادة مثبطة للتخثر، تعمل على إيقاف تشكل المزيد من الفايبرين بعد أن تكتمل الشبكة وتقوى، لأن عدم توقف عملية التخثر وتشكل كميات زائدة عن الحاجة من الفايبرين تشكل خطرا على حياة الكائن الحي، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى انسداد الوعاء الدموي، فتقوم مادة البلاسمين، بتحفيز سلسلة من العمليات، ينتج عنها أنزيمات وعوامل مضادة للتخثر، تقوم بتثبيط العملية ومن ثم إيقافها تماما، ثم بعد ذلك يتم العمل ببطء على إذابة الشبكة أو الخثرة، عن طريق سلسلة أخرى من المحفزات، والمدهش أن سرعة إذابة الخثرة وامتصاصها ضمن مجرى الدم تعادل سرعة التئام الجرح، فلا يشعر الجريح إلا وقد التأم الجرح وفي الوقت نفسه اختفت الخثرة التي كنت تسده. 

الخلاصة
الذي يهمنا من ذلك كله هو الطبيعة التسلسلية المحكمة لهذه العملية، وهي مثلها كمثل خط إنتاج السيارة الذي رأيناه آنفاً، ينطبق عليها وصف التعقيد غير القابل للاختزال، فلو حذفنا منها أية مرحلة من مراحلها لما تمت العملية برمتها، ولما تخثر الدم، ذلك أن كل مرحلة منها تعتمد تماماً على التي قبلها، ولا بد لتتم كل مرحلة من وجود المركب الذي يقوم بها ولكن بشكل كامن، ومن وجود المركب الذي يحفزه أيضاً، وأن يتم التحفيز في الوقت المناسب تماماً، فكيف تطورت هذه العملية عبر الطفرات المتراكمة؟ وكيف اتفق أن توجد كل هذه المركبات في صيغها الكامنة، وأن تتفعل الأنزيمات أو المحفزات اللازمة لعملها في الوقت المناسب والمكان المناسب؟ علما أن هناك أكثر من خمسين مركبا وبروتينا وأنزيماً يشاركون في عملة تخثر الدم، ولم نذكرهم جميعا للاختصار وعدم الإطالة على القراء الكرام.

إن من يزعم أن عملية تخثر الدم وأمثالها نشأت نتيجة تراكم الطفرات العشوائية، هو كمن يزعم أن جماعة مروا بكومة ضخمة من الخردة والمواد المختلفة، فعبثوا بها وصفوا وركبوا بعضاً منها ثم مضوا، وإذا الذي حصلوا عليه هو الجزء الأول من خط إنتاج سيارة، ثم جاء من بعدهم جماعة أخرى، فعبثوا بكمية أخرى من المواد وصفوها إلى جانب سابقتها ثم مضوا، وإذا بنا نحصل على الجزء الثاني من خط التصنيع، ثم تتابعت الجماعات، كل جماعة تعبث فتحصل على مرحلة جديدة، وبعد أزمان ودهور من تتابع الجماعات، حصلنا على خط كامل لإنتاج السيارات، يعمل بدقة وإتقان وينتج سيارات كاملة قابلة للاستخدام، علماً  أن كل الجماعات التي مرت لم يكن لديها تصميم مسبق لما سيكون عليه هذا الخط عندما ينتهي “بشكل كامل”، ولم تكن تعلم ماذا ستفعل الجماعة التي بعدها.

لم يتمكن الدراونة حتى الآن من إثبات أن عملية تخثر الدم ناتجة عن آليات التطور، وكل ما يقولونه هو تلك العبارة التي لا يملون من تردادها دون دليل أو إثبات: إن تراكم الطفرات الجينية على مر عصور طويلة كفيل بأن ينتج عنه تطور أي نظام معقد معروف.

نحن يا سادة في عصر العلم، عصر التجربة والبرهان والدليل، فعليكم أن تثبتوا لنا بالدليل والبرهان والتجربة العلمية الموثقة، كيف تطور نظام تخثر الدم، وأن تثبتوا لنا أن أسلافنا لم يكن لديهم هذا النظام، أو كان لديهم نظام بدائي ثم تطور حتى وصل إلى ما وصل إليه، وسنتبنى نظريتكم إن أثبتم ذلك بالدليل العلمي القاطع.




ماذا تقول الأحافير الحية عن نظرية التطور؟

تخرج الدكتور كارل ويرنر من كلية الطب قبل أن يكمل الثالثة والعشرين من عمره، فقد ظهرت علامت نبوغه وتفوقه على أقرانه منذ أيام شبابه، وكان تخرجه المبكر إيذاناً بحياة مهنية ناجحة في مجال الطب الذي يحلم به كل شاب، ولكن حواراً قصيراً دار بينه وبين زميل له في الجامعة قلب حياته رأساً على عقب، وهاكم طرفاً من الحوار كما يرويه الدكتور كارل نفسه:

كارل ويرنر

الزميل: ما رأيك بنظرية التطور؟
كارل: أنا أؤمن بها.
الزميل: وما تقول في مشكلة الفجوات التي يعاني منها سجل الأحافير؟ ألا يشكك ذلك في النظرية؟
كارل: لم أسمع أن هناك مشاكل في سجل الأحافير.
الزميل: كيف يمكن أن تبدأ الحياة على الأرض إذا كان من المستحيل تشكل البروتين بشكل تلقائي طبيعي؟
ويعلق الدكتور كارل على السؤال الأخير فيقول: أدركت ههنا أن أمامي سؤالاً من صلب اختصاصي وليس عندي جواب له، فنظرية االتطور تنص أن الخلية الحية الأولى تشكلت بشكل طبيعي تلقائي، في حين أن البروتين لا يمكن أن يتشكل بشكل تلقائي أو طبيعي بسبب تعقيده الشديد الذي درسته في كلية الطب، فكيف نشأت الحياة إذن؟
ويتابع الدكتور كارل: وقبل أن أجيب عن سؤال زميلي الأخير، تحداني قائلاً: “أتحداك أن تثبت نظرية التطور” فأجبته على الفور: “هذا جنون، لقد تم إثباتها”.

ورغم إجابة كارل القطعية، المبنية على ما شاع في زمانه، غير أن أسئلة زميلة كانت بمثابة طلقات تنبيه تركت في نفسه وتفكيره أثرا كبيراً، وانتهى الحوار وهو يقول لنفسه: “حقاً، كيف تكون هذه النظرية صحيحة إذا لم تتمكن من حل هذه الإشكالات الأساسية؟”

كانت هذه الأسئلة نقطة تحول في حياة الدكتور كارل وارنر، وقد دفعه التفكير فيها، وهو النابغة الباحث عن الحقيقة، إلى أن يمضي ثلاثين سنة بعد ذاك الحوار في البحث عن إجابات شافية لتلك الأسئلة، بدأها بالقراءة النهمة لكل فروع العلم المتعلقة بنظرية التطور، الأحياء والفيزياء والكيمياء الحيوية والجينات والوراثة والأحافير والتاريخ الطبيعي، ولكن ثمانية عشر عاما من القراءة والمطالعة لم تشبع نهمه، ولم تشف شغفه العلمي، وأراد أن يصل إلى الحقيقة رأي العين، وأن يلمسها بحواسه كلها، فقرر أن يقوم برحلة حول العالم، استغرقت اثنتي عشرة سنة من عمره، ليصل بنفسه إلى الحقائق القاطعة المتعلقة بهذه النظرية، وهكذا فقد استغرق بحثه عن الحقيقة ثلاثة عقود، ووضع ما وصل إليه من حقائق ساطعة قاطعة في سلسلة من الكتب والأفلام الوثائقية.

أهداف الرحلة ومنهجها
قبل أن يبدأ رحلته، كان عليه أن يضع أهدافاً محددة، وخطة واضحة المعالم، ويحدد بالضبط عن ماذا يبحث، وأين وكيف؟ وقد شرح ذلك فقال: تقول نظرية التطور إن الأحياء من حيوان ونبات تتغير مع مرور الزمن، وتتحول إلى أنواع جديدة مختلفة تماماً عن أصولها  الأولى القديمة، ويتم ذلك بواسطة الطفرات العشوائية، وتقول لنا النظرية أيضاً إن هذه الأنواع المتغيرة عبر ملايين السنين، وبسبب صراع البقاء، والاصطفاء الطبيعي، تتعرض أسلافها التي لم تتعرض للطفرات ولم تتغير إلى الانقراض، ولكن لو نظرنا إلى الموضوع بشكل معاكس نستطيع أن نتنبأ بأن نظرية التطور لو كانت غير صحيحة، فإن الأحياء والنباتات لن تتغير مع الزمن، وسنجد على الأرض الكثير من الأحياء التي كانت تعيش قبل ملايين السنين، موجودة اليوم على الأرض دون أن تتغير، لأنها لم تتعرض لآليات التطور، فما علينا لنثبت عدم صحة النظرية إلا أن نثبت وجود أحافير قديمة لأحياء ما زالت تعيش بيننا اليوم، وهذا ما قرر الدكتور كارل ويرنر أن يكتشفه بنفسه وعل الطبيعة.

وهكذا شرع الدكتور كارل ويرنر في رحلة  علمية طويلة، طاف خلالها على معظم مواقع الأحافير في العالم، وهي تلك التي عثر العلماء فيها على أحافير المخلوقات القديمة المتحجرة، ليوثق بالتصوير ماتحتويه من أحافير، وزار كذلك جميع متاحف التاريخ الطبيعي الشهيرة في العالم، وأجرى عشرات المقابلات مع كبار علماء الجيولوجيا والأحافير والتطور، ووثقها كلها بالتصوير المرئي، ليصل فيها إلى إجابات شافية عن حقيقة التطور، وكان من أهم أهدافه أن يثبت وجود أحافير لكائنات عاشت قبل عشرات الملايين من السنين، وما زالت تعيش حتى اليوم، ليكون ذلك أحد الأدلة القاطعة على بطلان نظرية التطور، وحتى يكون بحثه مركزاً وقابلاً للتنفيذ، ركز بحثه  على الطبقات التي تحتوي أحافير الديناصورات، فقام بالتنقيب في تلك الطبقات عما حوته من كائنات مع الديناصورات، فوصل إلى نتائج مذهلة.

وخلاصة تلك النتائج أنه في عصر الديناصورات كانت تعيش آلاف الكائنات التي لم تنقرض حتى اليوم، أي التي لم يطرأ عليها أي تطور خلال هذه الملايين من السنين، علماً أن حقبة وجود الديناصورات على الأرض تشمل ثلاثة عصور جيولوجية، يسميها العلماء عصر الترياسيك، وعصر الجوراسيك، وعصر الكريتاسيوس، ويبدأ العصر الترياسي قبل 245 مليون سنة، وينتهي قبل 208 مليون سنة، ليبدأ عصر الجوراسيك الذي ينتهي قبل 144 مليون سنة، هي بداية عصر الكريتاسيوس، وهذاالأخير ينتهي قبل 65 مليون سنة، أي إن العصور الثلاثة التي ظهرت فيها الديناصورات على سطح الأرض تغطي مسافة زمنية مقدارها 180 مليون سنة.
وجدير بالذكر، أن زوجة الدكتور ويرنر رافقته في رحلته، وكانت كاميرتها هي من صورت ووثقت كل ما وصل إليه من من نتائج.

تخطي العقبات
لم تكن رحلة الدكتور ويرنر سهلة ميسرة، فهو كان كالسابح عكس التيار، تيار يعتبر أن نظرية التطور حقيقة مسلم بها، وعليه أن يثبت العكس، ومشكلته كانت أن المعلومات التي يبحث عنها كانت في مواقع التنقيب عن الأحافير، وفي متاحف التاريخ الطبيعي، وقد كان في بداية بحثه يسأل العلماء والمنقبين في مواقع الحفريات: “هل عثرتم في طبقات الديناصورات على أحافير لمخلوقات معاصرة موجودة في زماننا؟”، فكان المسؤولون عن مواقع الحفريات يرفضون الإجابة عن هذا السؤال، بل إن بعضهم رفض إجراء المقابلة مع الدكتور ويرنر عندما اطلع على الأسئلة، ولكن أمرا حدث بالمصادفة أثناء حوار مع أحد العلماء وهو الدكتور ويليم كليمنس من جامعة كاليفورنيا، جعل الدكتور ويرنر يغير من طريقته في طرح الأسئلة.

كان الدكتور كليمنس أحد المعارضين لنظرية تقول إن الديناصورات قد انقرضت بسبب اصطدام كويكب ضخم أو نيزك بالأرض أدى تغيرات مناخية وكوارث طبيعية نتج عنها انقراض الديناصورات، وكان مما قاله أثناء حواره مع الدكتور ورينر: “كيف يمكن لنيزك أن يؤدي لانقراض الديناصورات من على سطح الأرض ولا يؤدي لانقراض ما سواها من الفراشات والضفادع والنحل وزواحف السلمندر التي كانت تعيش أيام الديناصورات؟”.
كان لهذا الكلام رنين خاص في سمع الدكتور ويرنر، ضفادع وفراشات وسلمندر في عصر الديناصورات! كانت هذه المرة الأولى التي يقول له أحد العلماء إن هناك كائنات من هذا النوع كانت موجودة في تلك الحقب، ومنذ ذلك الحوار قرر أن يغير صيغة السؤال حتى يحظى بالإجابات، فأصبح السؤال: “يقول بعض العلماء ومنهم الدكتور كليمنس مثلاً، إن الظروف المناخية الناتجة عن اصطدام  النيازك بالأرض لم تكن هي السبب الذي أدى لانقراض الديناصورات، فقد كانت هناك كائنات أخرى موجودة آنذاك ومعرضة لهذه الظروف ولكنها لم تنقرض، مثل الفراشات والضفادع، فهل عثرتم في موقع الحفر الذي تعملون فيه على أحافير لمثل هذه الكائنات، التي تبدو شبيهة بالكائنات المعاصرة؟”.

وقد أدى هذا التغيير في صيغة السؤال إلى نتائج مختلفة تماماً، وذلك لأنه يستند على قول عالم، ولأنه لا يوحي بأن السائل يشكك في نظرية التطور، وذلك لأن السؤال هنا عن أحافير لكائنات تبدو شبيهة بالكائنات المعاصرة، وليس عن أحافير لكائنات معاصرة.

العقبة التالية التي واجهت الدكتور ويرنر هي مشكلة أسماء الكائنات التي يعثر العلماء على أحافيرها، وسبب ذلك أن العلماء عندما يبحثون عن الأحافير في طبقات الديناصورات لم يكونوا يتوقعون إطلاقاً أن يجدوا أحافير لمخلوقات تعيش حتى يومنا هذا، لذلك فقد كانوا يعطون الكائنات التي يجدون أحافيرها أسماء علمية جديدة، وهذه الأسماء كانت كثيراً ما تختلف من موقع حفر لآخر، ومن متحف لآخر، ومن عالم لآخر، وفي أحيان كثيرة يأتي عالم فيدرس أحفورة جعلوها من نوع معين، فيرى أنها من نوع آخر، فيغير اسمها، لذلك وجد الدكتور ويرنر أنه لا يستطيع أن يثق بالأسماء التي وضعها العلماء للأحافير، فيقول “بما أن الصورة تساوي الآلاف من الكلمات، فإني اعتمدت في كتابي على الصور المرئية، لا على الأسماء الموضوعة، وأترك للقارئ أن يحكم بعد أن يرى صور الأحافير والقديمة، وصور الكائنات الجديدة؟ هل هذه الصور دليل على التطور أم دليل على بطلانه” [كتاب التجربة الكبرى، ص 28].

النتائج
وضع الدكتور وارنر خلاصة بحثه هذا في الجزء الثاني من سلسلة كتبه التي أصدرها بعد مطالعات وقراءات ورحلات وأبحاث استمرت ثلاثة عقود، وكان عنوان هذا الجزء: “الأحافير الحية” Living Fossils  وقد اتبع في عمله التوثيقي منهجاً علمياً فريداً اعتمد فيه على الصور فقط، فوضع في كتابه هذا صوراً موثقة لأكثر من ثمانين أحفورة لمخلوقات من مملكة الحيوان، وأكثر من ثلاثين أحفورة من مملكة النبات، ووثق عمله بطريقة غاية في الدقة والمنهجية والموضوعية، فكتب أسفل صورة كل أحفورة، الاسم الذي وضعه العلماء للكائن الذي يمثلها، واسم الكائن الذي يتطابق معها والذي يعيش اليوم على سطح الأرض، والطبقة الديناصورية التي وجد فيها الأحفورة، واسم الديناصور الذي كان يعيش في تلك الحقبة، وصورة أحفورة ذلك الديناصور، وأخيراً وضع بجانب الأحفورة صورة الكائن الحي الذي يعيش اليوم، والذي يطابق تماماً تلك الأحفورة، مما يثبت أن الكائن الذي تمثله الأحفورة لم يتطور منذ عصر الديناصورات وحتى يومنا هذا.

والمدهش في نتائج بحث الدكتور ويرنر، أن الأحافير التي وجدها في عصر الديناصورات شديدة التنوع، وتغطي معظم فصائل الأحياء والنبات المعروفة التي تعيش اليوم، ابتداء باللافقاريات وانتهاء بالثديات، وهاكم ملخص لأهم الأحافير الحية التي وجدها في عصور الديناصورات:
من الحيوانات البحرية: نجم البحر والإسفنج والمرجان والسلطعون والروبيان واللوبستر وجراد البحر والمحار وغيرها، بالإضافة إلى العديد من أنواع الأسماك.
ومن البرمائيات: السلمندر والضفدع والتمساح.
ومن الزواحف: أنواع من السحالي والأفاعي والسلاحف.
ومن الطيور: الببغاء والبشروش (فلامينغو) والبوم والبطريق والغاق (طائر مائي) والقطرس.
ومن الثديات: القنفذ وآكل النمل والسمور (القندس) والخلد، وأنواع أخرى من الثديات، وهناك أحافير كثيرة مكتشفة حديثاً لثديات ما تزال تحت البحث.
ومن النبات: العديد من أنواع الطحالب وأنواع السرخسيات، والعديد من أنواع الورود والأزهار، مثل زهر الخشخاش والزنبق واللوتس، ومن الأشجار شجرة الساسفراس، وشجرة الحور، وشجرة الجحليق، وشجرة البلوط، وغيرها.

أمام كل هذه الحقائق الملموسة، والأحافير الحية، يخلص الدكتور ويرنر إلى أن معظم فصائل المخلوقات التي كانت موجودة في عصور الديناصورات، لم يطرأ عليها تغيرات تدل على أنها تعرضت للتطور الداروني، والذي حدث أن بعضها قد انقرض، بينما استمر البعض الآخر في الوجود والتناسل حتى يومنا هذا، دون تغيرات ملموسة عليها، وهذا بلا جدال يتنافي مع نظرية التطور، لأن بقاء المخلوقات كل هذه الملايين من السنين، دون أن تتأثر ببيئتها، ودون أن يطرأ عليها أي طفرات، ودون أن تعمل بها آليات التطور الداروني، أمر لا تستطيع نظرية التطور تبريره إطلاقاً، وهي التي  تزعم أنه خلال تلك السنين نفسها، تحولت لعض الكائنات تحولاً جذرياً، فأصبحت السمكة زرافة، والضفدع تمساحا، والدب حوتاً، وغير ذلك مما يزعمون.

إن الأحافير الحية التي أثبت الدكتور ويرنر وجودها بالأدلة القاطعة، وبأعداد ضخمة، هي أحد المسامير الأخيرة التي دقها العلم الحديث في نعش نظرية دارون.




اللاإنجاب.. الدعوة إلى الانقراض الطوعي

تزايدَت في الآونة الأخيرة –على سبيل المثال- أنشطة حركة “VHEMT” والتي تختصر جملة: (حركة الانقراض الطوعي للبشر)[1] الداعية إلى إيقاف ما سمَّوه “جريمة الإنجاب”، وامتدَّ التأثُّر بها إلى شباب بعض الدول العربية تحت عناوين متعددة اشتهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كحملة “شباب ضد الإنجاب” ومجموعة “مغاربة لا إنجابيون” ومجموعات أخرى تحمل نفس الفكرة، لتجتمع هذه المبادرات في صفحة واحدة سُمِّيت “ضدّ التناسل”[2] على موقع “فيسبوك”، حيث أصبح لها حضور واضح بين متابعيها المؤمنين بالظلم في إنجاب الأطفال في هذا العالم.

يذكر أحد مديري الصفحة “أن إعلان إطلاق الحملة كان اختباراً لوقع الفلسفة اللاّ إنجابيّة على وعي المتلقي العربي. وأن المتابعة الكبيرة لصفحتهم كانت على عكس توقعاتهم”، مرجعًا ذلك إلى “ما يمر به العالم من حروب وأزمات وكوارث طبيعية فجعل اليأس يتسرّب لشباب المنطقة”، واصفاً دعوتهم والجهود التي يبذلونها بـ”الدعوة الأخلاقيّة بعيداً عن أي تصنيفات أخرى”[3].

بدايات فلسفة اللاتناسل
أولى إشارات هذه الدعوة تأتينا من اليونان القديمة في صورة مسرحيات أو أشعار ناقمة على الحياة، وربما ضمن شذرات ألقاها بعض الفلاسفة كأرسطو، وقد كان لبعض الفلاسفة في التاريخ الإسلامي آراء تميل إلى نصرة هذه الفلسفة كالشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري (363 هـ – 449 هـ) بدعواه لعدم الإنجاب، ولعل بيته الشعري الشهير:

هذا ما جناه أبي عليَّ *** وما جنيتُ على أحد

يوضِّح ذلك، ليؤيدها فلاسفة العصور الحديثة كالفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، والروائي الروماني إميل سيوران كما في كتابه “مثالب الولادة”، وديفيد بينتار صاحب كتاب “الأفضل أن لا تكون” وآخرون كثيرون.

الإعلام والدعوة لعدم الإنجاب
إنه من المثير حقًّا أن النقاش حول هذه الأفكار كان –إلى مدة ليست ببعيدة- محصوراً بين الأكاديميين في أروقة الجامعات ومراكز البحث، إلا أن الإعلام تكفَّل بإخراج هذه الأفكار من حيز الدوائر الفلسفية والأكاديمية وأدخلها في صميم التأثير في التجمعات الشعبية والجماهيرية، فأنتِجَت في أزمنة متفاوتةٍ العديد من المسلسلات والأفلام والأغاني العالمية، كفيلم “ليون lion” عام 2016، وفيلم “التوت البري” عام 1975 ومسلسل (True Detective) أو (محقق فَذ) والتي تدور حول هذه القضية وتؤيدها وتدعو لها.

إن الفكرة الأهم التي سعى المسلسل آنف الذكر لإثباتها وتبنّاها في كل حلقاته ضرورة “إيقاف الإنجاب” ضمن إطار دراميٍّ مشوِّق، فيكشف توالي الأحداث في المسلسل تناقض شخصيتي “رستن” وزميله في التحقيق “هارت”، فتصرفات “رستن” متطرفة في نظر المجتمع، على خلاف “هارت” الذي يقف على الناحية الأخرى تماماً، وبعد التعمُّق في المتابعة نجد أن المحرك الحقيقي الذي لتشاؤم (روستن) تجاه ذاته والعالم فَقدُه لطفلته الصغيرة في حادث مأساوي أنهى زواجه وغيَّر حياته وفكره، لتتحوَّل رغبته في الانتقام لموت ابنته إلى هوَس فكري في إثبات أنه يجب على البشرية أن تكف عن الإنجاب وأن تسعى إلى الانقراض الطوعي قبل أن تكون النهاية كارثية بالأسلحة النووية أو الكوارث الطبيعية.

حجج فلسفة “اللاإنجاب”
تتنوَّع الحجج التي تسوقها الفلسفة اللاتناسليّة، فثمة أسباب مادية مباشرة، كالحروب مثلاً، فمن الذي يرغب يوماً في أن يستخرَجَ ولده مُهشّما من تحتُ الرّكام كما هو الحال في حلب أو غزّة، أو أن يراه قد أسقطَ العلاج الكيماويّ شعرَه وأنحلَ جسمَه وما زال ينتظرُ موتَه المحتّم، أو أن يراه متشوِّه الجثة في انفجارٍ لا يُعرَف مدبّرُه؟[4].

ومن الحجج أيضا الفقر وعدم كفاية الموارد الطبيعية، فالاستمرار في الإنجاب سيسبب ازدحامًا سكانيًّا هائلًا، وبحسب التقديرات إذا استمر ارتفاع في المواليد في قارة إفريقيا على ذات الوتيرة الحالية فإن عدد سكانها سيقترب من ملياري إنسان تقريباً في عام 2050م، إلا أن القارّة السمراء لن تنتج من الطعام في عام 2025 ما يزيد عن حاجة 25% من عدد سكانها[5].

ومن الحجج أن “اللاإنجاب” أفضل للبيئة، فتقليل عدد البشر يخفف من انبعاثات سياراتهم وآلاتهم واحتياجاتهم التي تؤثر في الغلاف الجوي، كما يحتجُّ ديفيد بينتار -رئيس قسم الفلسفة بجامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا- بأن “الإنجاب في ذاته قرار لا واعٍ وأنه نتيجة تابعة لممارسة الجنس، ولذا فإنه من العبَثِ الإتيان بأفراد جدد لهذا الوجود، وإن أخذ بعض الأشخاص هذا القرار بشكل واعٍ، فإنهم يفعلون ذلك لأسباب ليس من ضمنها مصلحة الطفل نفسه، وأن إنجابه سيكون شيئًا جيدًا بالنسبة إليه لا بالنسبة للطفل نفسه”[6]، وعليه فإنه يرى أن الإنجاب منحصر في مصلحة أبويه لا مصلحته هو، وعلى ذلك فإن الندم على عدم الإنجاب ليس ندماً على عدم تحقق مصلحة الابن بل لعدم تحقق مصلحة الأبوين.

مغالطات وتوهمات
إن الاستنادات التي يقدمها دعاة “الانقراض الطوعي للبشرية” ليست حقائق مطلقة، بل هي عوارض نسبية ناتجة عن أمور أخرى، فلا الفقر أو الحروب أو الكوارث الطبيعية ذات وجود موضوعي مطلق، ولا هي في حال وجودها مستمرة بذاتها، فالحروب تقوم على التنافس وتهدف إلى السيطرة والسلطة والتحكم بالموارد المالية والثروات الطبيعية وتعمل في سبيل ذلك على إخضاع الأطراف الأخرى بشتى الوسائل.

وكذلك الفقر والأمراض، فهي تابعة لأسباب تتقدم عليها، ومن ثمَّ، فإن الأجدر –برأيي- البحث عن حلول لإصلاح الأحوال الاقتصادية والسياسية إيقاف السيطرة على ثروات الآخرين والتعاون معهم لإنشاء عالم خالٍ من الطغيان قوي بالمرحمة التي تسود أركانه، إذ إن الدعوة لإيقاف الإنجاب لن تحل هذه المشكلات البتة.

مغالطة “اللامعنى في الوجود”
لقد بات من القطعيّ أن الفلسفة العدمية تنظرُ إلى الحياة بتشاؤم مفرط وتُلْبِس تأويلاتها السوداوية كل أمر ذي قيمة جوهرية، فليس من الغريب أن نرى العدميين يفكرون في قضية التناسل والإنجاب على نحو تشاؤميٍّ مفرِط، فـ”الحياة بلا معنى” خاصةً وأن الدعاوى التي تُساق لتسويغ الدعوة إلى إيقاف الإنجاب ذات وجاهة عاطفية محرجة!

فلنفترض أن الإنسان تخلَّص من كل الآلام، فإن ألم التفكير في الوجود وتناقضاته يملأ حياة الناس، وهذه دعاية لا بأس بها يشهرها دعاة “اللاتناسل” في الترويج لرؤاهم، فالبحث عن معنى الوجود وحيثياته وغاياته بحد ذاته يولِّد لديهم القهر والعذاب، وليست أحوال الناس ولا الحروب أشدَّ ما يقض مضجعهم، بل محض الوجود وإن كانوا في جنة النعيم.

حسنٌ، فلنفرض أن الحياة وهمٌ لا معنىً لها، ولنسأل: أهذا الذي تدَّعون حقيقة لا تقبل الجدل أم أنها مشاعر مكبوتة يتم التنفيس عنها بتخليطات نثرية وشعرية؟

إن لم تكن مقولتهم هذه –الأساسية في دعوتهم- حقيقةً، فإن الإصرار عليها أحد أكبر الأخطاء التي يتصف به دعاة “اللاتناسل”، وذلك –بطبيعة الحال- تعامل سمِج مع حقيقة المعنى في قضية الوجود الإنساني باعتبارها أمراً ثنويًّا زائفاً لا يستحق إلا المحو كما يمحى الخطأ الإملائي عن بياض الصفحة.

إنهم بذلك يصادرون حقّ من يبحث عن معنى الحياة في الوجود، بل لعلهم إن نجحت دعواهم فإنهم سيجبرون أولئك الذين وجدوا المعنى على أن لا يتكاثروا ويوصلوا ما تعلموه لأولادهم.

مغالطة “ممانعة الانتحار” و”الدعوة الاختيارية للانقراض”
يكرر دعاة “اللاتناسل” أنهم لا يحبذون الانتحار ولا يدعون إليه، وأن جل ما يهمهم إيقاف التكاثر لينقرض الجنس البشري تدريجيًّا.

أليست هذه دعوة للانتحار المقلوب، أو قل أليس هذا انتحارًا بطيئاً!؟

وبطبيعة الحال فإن الاعتراض على هذه المغالطة من قِبَلِ مناهضٍ للتناسل ستثير تشاؤمه، لأنه سيعد الكلام ههنا تقوُّلاً على ما يظن أنها قناعته، ذلك أن اللاتناسليين يطالبون بعدم التكاثر فحسب، وفي سبيل ذلك يسيلون أحبار الطابعات ويُعمِلون عقول المفكرين والمخرجين والمصورين لإنتاج الأفلام والمسلسلات التي تدعم فكرتهم، لتغيير قناعة الناس سلميًّا وذاتيًّا.

حسنٌ، إن هذا كذب لا يمكن الاعتماد عليه.

فلو أن اتحادًا من جماعات “اللاتناسل” استطاع تكوين حكومات في عدة بلدان، وسَلَّمت لهم تلك البلاد بعدم الإنجاب، إلا أن ثلَّة هنا وهناك من النساء والرجال رفضوا ذلك، فماذا سيقول لهم “اللاتناسليون” حينها؟

بطبيعة الحال إنهم أمام خيارين: استخدام القسر والعنف لتنفيذ فلسفتهم، فتصبح دعوتهم إيديولوجيا كريهة تنتهج الوحشية لتستمر، أو السماح للناس بالإنجاب وذلك أيضًا يثبت أن واقع فلسفتهم لا يتوافق مع عموم البشر.

الوهم الأكبر: “لا داعي لاستمرار الحياة”
إنّ الاستمرار في الوجود عبر التكاثر أمرٌ أكثر تعقيداً من الحجج التي يسوقها المتشائمون أو تلك التي يقدمها المدافعون عن فطرة الاستمرار؛ إذ إن دوامَ الحياة قضيّة ذات أبعاد مختلفة لا يمكن اختزالها بالتشاؤم أو التفاؤل، ففي هذا الكوكب عشرات من الأيديولوجيات والدعوات الفكرية التي تمتلك كلٌّ منها مئات الملايين من المؤمنين بها، والذين يسعون لأن يجسِّدوا دعواهم على الوجه الأتم والمثال الأكمل، فكما أن اللا تناسليين يظهرون نموذجهم المثالي بالتوقف عن الإنجاب، فإن العلماء يرون في استمرار الحياة استمرارا للعلم، وكذلك يرى الطيبون في الإنجاب استمراراً للتعامل الحسن مع الناس، وعلى مثل ذلك يمكن التشقيق بمئات الأمثلة، وبالمثل فإن الأشرار يرون في استمرار الحياة استمراراً للقوة والسيطرة… إلخ بحسب المواقع التي يشغلونها

“العدم خير من الوجود”
يقدم لنا اللاتناسليون هذا الكلام باعتباره حقيقة مطلقة، على أيِّ حال، كيف يمكن لنا أن نعرف أن العدم خير من الوجود؟

إن المشكلة في هذه المغالطة أن القائل نفسه لا يعرف العدم، ولا يدركه أصلاً، ولا يمكن لامرئ أن يصفه أو يظهر حقيقته بشكل محسوس، فالعدم هو العدم، اللا وجود.

إن المطلوب مني ومن كل إنسان موجود أن يتمثل أفضل الطموحات وأن يحدد لنفسه أسمى الأخلاق والتعاملات الإنسانية وأن يعيش عليها ولها، وحينها سيتحقق له ولكل إنسان أن (الوجود خير من العدم) فعند ذلك يتحقق المعنى مقابل تلاشي اللامعنى.


الهوامش:

[1] ينبغي التنبه إلى أن الفلسفة اللاإنجابية تنقسم إلى قسمين رئيسين، أولهما: الدعوة إلى الاكتفاء بإنجاب طفل واحد لدواع أمنية واقتصادية وإحصائية، وثانيهما: الدعوة إلى التوقف عن الإنجاب مطلقاً، وهذه الأخيرة التي يهدف المقال التوقف عندها.

[2] https://www.facebook.com/AntinatalismInArabic

يذكر أن محمود ماهر عبد الهادي مدير لهذه الصفحة ولغيرها من الفعاليات التي تدعو إلى التوقف عن الإنجاب، وله لقاءات عديدة على وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة يدعو فيها لدعم حملة (ضد التناسل)

[3] ينظر المقال المنشور على شبكة رصيف 22، بعنوان “ضد التناسل”حملة عربية تهدف لانقراض البشرية، على الرابط الآتي: https://raseef22.com/life/2017/08/22/%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%B3%D9%84-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%87%D8%AF%D9%81-%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D9%84/

[4] ينظر مقال: “عن الإتيان بطفل إلى العالم”، د. همام يحيى، على مدونات الجزيرة عبر الرابط الآتي:

http://blogs.aljazeera.net/blogs/2016/10/24/%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%B7%D9%81%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85

[5] ينظر مقال عمار منلا حسن، على موقع حبر، بعنوان هل تجد الفلسفة اللاإنجابية فرصة في مجتمعاتنا، على الرابط الآتي: https://www.7iber.com/society/about-antinatalism/

وفيه ذكر الكثير من احتجاجات اللا تناسليين

[6] نقلاً عن مقال الفلسفة اللاإنجابية، لماذا لم يعد العالم بحاجة إلى مزيد من الأولاد، عبد الرحمن أبو الفتوح، منشور على موقع ساسة بوست

https://www.sasapost.com/antinatalists/




الموقف من الحداثة.. بين الاستلاب والاستيعاب

خواطر على هامش كتاب “الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية” للدكتور محمد عادل شريح
إن الموقف من الفكر الغربي والحضارة الغربية يبقى من أهم الأسئلة المطروحة على المستوى النظري بين رافض قطعي لها ولمنتجاتها، ومتبن لها كليا، وبين الموقف المعتدل القائل بأخذ ما يناسبنا وينسجم مع مجتمعنا ومبادئنا. وهذا الأكثر شيوعا والذي ينتمي إليه العدد الأكبر من المفكرين والباحثين لأنه يعتبر موقفا وسطيا يتيح لصاحبه مجالا أكبر للمرواغة والمناورة.

لكن قبل أن يعطي المؤلف رأيه في هذا الفكر ومنتجاته الحضارية، يقدم دراسة معمقة لأهم أسسه ومرتكزاته، وهي: الإنسانوية، العقلانية، الطبيعية، التأليه الطبيعي، التقدمية، الوضعية، والمادية.

وعند البحث عن معاني هذه المصطلحات، يستنتج توافقا نظريا وعمليا بينها، وملخصها التركيز على الإنسان وإعطائه المركزية والسيادة على كل شيء، باعتباره قادرا على وضع معاييره الخاصة، واعتبار العقل المصدر الجديد للحقائق، ونفي كل أشكال الميتافيزيقيا (الدين والغيب)، واعتبار الطبيعة المادية هي الوجود كله، وإعطاء معنى آخر للألوهية، وهي أن الإله موجود مع إنكار تدخله في شؤون الحياة، وأن الحياة تسير تلقائيا نحو الأمام، والإقرار بأولية المادة في الوجود و ثانوية أي شكل آخر للوجود.

يستعرض كتاب “الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربية” أهم المبادئ الأساسية المكونة للحداثة الغربية وانعكاسها على الثقافة العربية، حيث يرى المؤلف أن الموقف من الفكر الغربي الحديث يكتسب أهميته من حيث حضوره في فكرنا لا شعوريا. وعلى الرغم مما يثيره هذا الأمر من الجدل، فما زالت هناك الكثير من الجوانب التي تستحق البحث فيه حتى اليوم؛ لأننا لو ألقينا نظرة على الساحة الثقافية العربية وما أنتجته على مدار قرنين حتى يومنا هذا لوجدناها مشبعة بروح الغرب وثقافته إلى درجة كبيرة.

من خلال هذا السرد السريع نستنتج أن الفكر المادي الغربي منظومة متكاملة لا يمكن الأخذ ببعضها دون الولوج فيها، وهي تمتاز بعدم التجانس الحضاري مع غيرها، أي أنها تفرض منطق الهيمنة والإلغاء في تعاملها مع الآخر، وذلك بشكل يخالف السيرورة التاريخية للحضارات.

لذلك، يجب علينا قبل إصدار موقف منها أن نستعيد عافيتنا الفكرية، وأن نخرج من دائرة التبعية المفروضة علينا، ثم نصدر حكمنا انطلاقا من منظومتنا الفكرية الخاصة التي تكرس المبدأ الإلهي أصلا للوجود والمعرفة والاجتماع، والتي نستنتج من خلالها أن الفكر الغربي ومنطلقاته النظرية يقعان على النقيض من حقائقنا الكونية الكبرى، لكنها لا تشكل نقضا لرؤيتنا الأكثر شمولا للحركة والتاريخ.

إن الفكر الغربي بقيمه المادية وبنتائجه المشاهدة حاليا ما هو إلا مؤشر للانحطاط، وهذه حقيقة لا يستطيع إدراكها إلا من تحرر من أسر عبودية الأشياء لأن قيمة حضارة ما تقاس بما توفره من شروط تحقق غاية الوجود الإنساني على مستوى الفرد والجماعة.

لكن الفكر الغربي يمثل واقعا مفروضا سواء قبلناه أو رفضناه، لذلك يجب استيعاب هذا الفكر عبر إدراك مذاهبه وعقائده استنادا إلى منطلقاته الفكرية، ولا يعني ذلك إقراره أو التصديق على مبادئه، بل فهم مبررات وجوده والأسباب التي أدت إليه، على الرغم من كل ما يحمله من تناقض مع أبسط حقائق الوجود والفطرة الإنسانية، فضلا عن مشاركة المثقفين في الغرب الذين باتوا يدركون مخاطر هذه الحضارة، سعيا إلى تقديم حلول للأزمات المعرفية والأخلاقية والروحية التي أنتجتها الحضارة الغربية.

أعتقد أن استيعاب هذه الحضارة بالشكل الموصوف أعلاه هو الذي سيقود إلى إلغاء معادلة الأستاذ والتلميذ، فهذه المعادلة تحولت إلى عقدة نقص وعقبة أمام الإبداع الفكري الحر، ما سيحول الموقف من رفض سلبي عاجز ومكابر إلى رفض بناء ومؤشر لرؤية حضارية لها خصوصية مستمدة من إدراك معنى خاتمية الرسالة المحمدية والعقيدة الإسلامية.