image_print

هل الاكتئاب مرض أم ضعف في الإيمان أم خلل في السلوك؟

من أشد الأمور إيلاما وأقساها على نفس أي مريض بمرض عقلي -أو نفسي كما يسميه البعض- هو نظرة مَن حوله له ولمرضه، فبدلًا من التعاطف والدعم والتفهّم، يواجه قدرا رهيبا من الاتهام بالكفر أو قلة الإيمان، أو الاستسلام والتواني عن السعي للعلاج.

وهذه النظرة المؤلمة تأتي من الصديق والعدو، في المجتمعات الشرقية والغربية، وهي نتيجة لطبقات متراكمة من عدم المعرفة وسوء الفهم لطبيعة المرض العقلي -أو النفسي-، وتعود كذلك إلى الميل لإنكار المجهول وتجنب مواجهته.

في بيان ماهية المرض النفسي والعقلي

لأوضح لكم الأمر، فلنفترض أنك تجلس في مقهى تستمتع فيه بشرب مشروب منعش، فيمر أمامك ثلاثة أشخاص يعرجون، فإنه يمكنك بمجرد النظر إليهم معرفة أن أحد هؤلاء الأشخاص قد أصيب بشوكة صغيرة تؤلمه وتسبب ألما في رجله، والعرج سيزول خلال ساعات إن شاء الله، بينما الشخص الثاني يعرج بسبب إصابة بالغة، وليس من المتوقع أن تشفى قبل بضعة أسابيع، هذا مع ضرورة الحرص على اتباع تعليمات الأطباء. أما الشخص الثالث فهو مصاب بعاهة مستديمة في رجله. كما تلاحظ فإنه بالرغم أنه يبدو ظاهريا أن سبب عرجتهم واحد، إلا أن ذلك أبعد ما يكون عن الصحة.

قد يبدو لك من المناسب أن تطلب من الشخص الأول أن يتناسى الألم ويحاول المشي بشكل طبيعي، وقد تفكر في قول نفس الشيء للشخص الثاني، أما الشخص الثالث المصاب بعاهة مستديمة، فإنه من غير المنطقي أن تطالبه بتناسي مرضه والجري سريعًا، أو أن تطالبه بالتقدم لوظيفة تطلب لياقة بدنية عالية.

والآن لنتخيل أنك قابلت ثلاثة أشخاص مكتئبين، الأول حزين لأنه فقد جهاز هاتفه المحمول\الجوال (الموبايل)، والثاني حزين لأنه فقد أباه، أما الثالث فهو مصاب بمرض الاكتئاب.

سرعان ما ينسى الأول حزنه بمجرد أن يشتري جهازا جديدا أو يجد جهازه المفقود، أما الثاني فلا شك سيحزن لبضعة أسابيع، ولكنه سرعان ما ينسى الأمر كذلك، وربما يحزن بعض الشيء كلما تذكر أباه، ولكن الحزن لن يؤثر بشكل مزمن على قدرته على الاستمتاع بالحياة وعلى العطاء. أما الشخص الثالث فهو مصاب “بمرض الاكتئاب”. وهو مرض كأي مرض، منه ما يمكن معالجته ومنه المزمن الذي لم يتوصل العلم لعلاجه بعد.

إن كان من المناسب أن تطلب ممن فقد هاتفه المحمول أو والده أن يحاول نسيان الأمر، فإنه من السذاجة أن تطلب من مريض الاكتئاب أن ينسى الأمر ويعيش وكأن شيئا لم يكن. فما أشبه ذلك بمطالبة المشلول بأن ينسى شلله ويقوم بالجري!

يحسب بعض الناس أن الإيمان بالله، والذكاء، والحب، والتفكير الإيجابي يحمي صاحبه من الأمراض العقلية، أو يكون كافيا لعلاجه إن أصيب بمرض عقلي. صحيح أن هناك الكثير من حالات الاضطراب النفسي التي يمكن علاجها بالروحانيات والحب والتفكير الإيجابي، تماما كما أن هناك الكثير من حالات العجز البدني التي قد يفيد معها العلاج الفيزيائي (أو الطبيعي). ولكن هناك أيضا الكثير من الحالات التي هي عبارة عن إعاقة بدنية مستديمة نتيجة لضمور أعضاء معينة كبعض الأعصاب، أو إعاقة عقلية نتيجة لتعطل بعض وظائف المخ.

ولكن ماذا عن العلاج بالقرآن والرجوع إلى الله؟

أليس ذلك كفيلا بعلاج كل أمراض النفس؟

سأقول لك، هل ترى أنه من المناسب أن تطلب من شخص مشلول أن يلجأ للعلاج بالقرآن، أم أنك ستطلب منه أن يلجأ لطبيب يعالج أعصابه أو عضلاته؟ كذلك المصاب بمرض عقلي، إنه يحتاج لأخصائي أمراض عقلية لعلاجه. أعتقد أن من أهم الأسباب وراء الالتباس في فهم حقيقة المرض النفسي هو “تشابه الأسماء”. فقد يبدو بديهيا أن علاج الأمراض “النفسية” يكون بعلاج “النفس” بالقرآن والروحانيات والنظرة الإيجابية للعالم ومشاكله. وهذا صحيح ولا شك لمن عنده مشكلة نفسية مؤقتة. ولكن هناك عدد كبير من حالات المرض النفسي التي من الأكثر دقة أن يتم وصفها بأنها “مرض عقلي” أو “مرض مخي” أو “مرض عصبي” (بدلًا من أمراض نفسية).

ربما هذا الوصف يجعل الناس أكثر تفهما لحقيقة هذه الأمراض. ففي الحقيقة أن الكثير من الأمراض العقلية نشأت بسبب اضطراب في وظائف العقل أو المخ، وليس عن سوء فهم للأولويات في الحياة، أو للارتباط بالشيطان والبعد عن الله.

صحيح أن هناك حالات تحدث معها المعجزات ويتم فيها الشفاء بقدرة الله من أمراض مستعصية – عضوية وعقلية-، وذلك بوسائل لا يستطيع البشر إدراكها كقراءة القرآن أو شرب ماء زمزم أو غير ذلك، ولكن تبقى هذه الحالات استثناءً عن الأصل الذي نحاسب به البشر ونطالبهم بالسعي له.

حذرًا من الوقوع في الخطأ

أظنك تتفق معي على أنه من الظلم أن نتهم من أصابه الشلل (أو الإعاقة من أي نوع) بالكفر أو ضعف الإيمان، لمجرد أنه قرر أن يتعايش مع إعاقته بالقبول والتسليم، وقرر التوقف عن البحث عن علاج لما لا يمكن علاجه.

أظنك تتفق معي أنه إن كانت الإعاقة دائمة، فأفضل ما يقوم به المعاق أن يركز جهده على تعلم العيش مع الإعاقة والتكيف معها، بدلا من التعلق بآمال وهمية في الشفاء من إعاقة دائمة أبدية، وهذا لا يمنع من تجربة وسائل جديدة للعلاج إن ظهرت، ولكن يجب أن يكون التركيز وغالبية الاهتمام والتفكير منصرفا للتكيف مع الوضع الحالي.

من المؤسف فعلا أنه لا يزال هناك من ينظر للمريض العقلي على أنه مذنب. ويتم اتهامه بأنه لبعده عن الله وبنظرته السلبية للحياة وبتقاعسه عن مساعدة نفسه، تسبّب في تعاستها.

لقد عشت أكثر من 20 سنة أعاني بصمت من الاكتئاب ولم يشعر أحد ممن حولي بمعاناتي. فقد كانت الأدوية كفيلة بعلاج الخلل (إلى حد كبير) في كيمياء مخي. ولكن منذ عدة سنوات بدأت حالتي بالتدهور ولم تعد الأدوية تفيد نفعا. فلجأت للجلسات الكهربائية، ولكنها كذلك لم تفِد. فاضطررت لترك عملي، وأصبحت أعيش وأولادي على الإعانات المادية من الآخرين. ولا يستطيع تصور الإحساس بالفقر إلا الفقير، ولا يستطيع إحساس من وجد نفسه فجأة فقيرا إلا من مر بهذه التجربة المريرة المؤلمة جدا، وهكذا “ارحموا عزيز قوم ذل”.

نصحني الكثير من المعالجين بإعلام أصدقائي وأقاربي بحالتي. وكان من المفترض أن هؤلاء المعارف سيقدمون الدعم المناسب ويتفهمون حالتي. ولكن ما حدث معي (ومع كثير من المرضى النفسيين الآخرين) هو أنني تلقيت قدرا كبيرا من النصائح الساذجة. وبالرغم أنني على يقين بأنها كلها نابعة من حب وإخلاص وحرص على فائدتي، إلا أنها كانت ضارة وأتت بنتائج عكسية على حالتي العقلية. لقد سببت لي في المزيد من الإحساس بالعجز والذنب.

الإحساس المبالغ فيه بالذنب من الأعراض الشائعة المصاحبة للاكتئاب. وكانت ردود فعل من حولي تزيد من هذه المشكلة (الموجودة بسبب مرض الاكتئاب) وتزيد من إحساسي بالذنب. فكلما سمعت نصيحة بممارسة الرياضة أو قراءة القرآن أو الخروج من المنزل أو غير ذلك، عندما أسمع هذه النصائح ولا أستطيع تنفيذها لعجز عقلي عن الاستجابة لتأثيراتها الإيجابية، يزيد إحساسي بالذنب وكرهي لنفسي ورغبتي في عقاب نفسي.

أرجو أن أكون قد استطعت أن أوضح لك أن (الاكتئاب المرضي المزمن) هو ليس مجرد حالة حزن مؤقتة لسبب مؤقت، وأن هذا الاكتئاب المرضي لا يمكن علاجه بمجرد الرجوع إلى الله أو ممارسة الرياضة أو النظرة الإيجابية للحياة.

ولكن ما هو الاكتئاب المرضي إذًا؟

للإجابة على هذا السؤال، أحب أن أسألك، هل فكرت يوما إن كان ما تراه يوميا وبشكل متكرر من ألوان هي نفس الألوان التي يراها الضفدع أو الغزال أو السمكة أو الشخص المصاب بمرض عمى الألوان؟

ما تعودت أنت على رؤيته بشكل متكرر وبدون أن تتساءل عن صحته أو حقيقته، أراه أنا بشكل مختلف تماما. وقد أثبتت الدراسات الحديثة وجود اختلافات واضحة بين وظائف وقدرات المخ السليم والمخ المصاب بالاكتئاب. عقلك “السليم” يرى في المواقف السعيدة والإنجازات المختلفة أسبابا للسعادة والرضا عن النفس والرغبة في مزيد من العطاء والعمل. ولكن عقلي “المريض” يرى كل هذه الأمور بشكل مختلف تماما.

 فكما أن الشخص المصاب بعمى الألوان يجد صعوبة في التمييز بين بعض الألوان أو يعجز عن رؤية بعضها، فأنا كذلك لا يستطيع عقلي ترجمة الأمور بنفس الشكل الذي يترجمها به عقلك.

نعم، هذه هي الحقيقة المرة!!! أنت تحاسبني بناءً على افتراضية أن عقلي لديه نفس القدرات التي يتمتع بها عقلك. وقد أبدو لك طبيعيًّا ولست مصابا بأي قصور في الذكاء، ولكن هناك أجزاء من عقلي لا تعمل كمثيلاتها عندك، فلتعتبرني ضفدعا أو شخصا مصابا بعمى الألوان أو مصابا بخلل عصبي خفي لا تستطيع أنت أن تراه.

عقلي لا يرى السعادة سعادة، ولا الحب حبّا، إنه لا يستجيب لهرمونات السعادة بالشكل الذي يستجيب لها عقلك، عندها ستدرك أنه ليس من العدل أن تنتظر مني أن أفهم أو أدرك أي سبب للسعادة. المشكلة الأعظم أنني (في كثير من الأحيان) لا أستطيع إدراك أنني مختلف. وبالتالي لا أدرك أن نصائحك غير المناسبة لحالتي ينبغي تجاهلها لكيلا تؤثر عليّ سلبًا، بل أحس بالذنب لتقصيري وعجزي عن تنفيذ نصائحك، وأحس أنني مقصر وكسول ولا أقوم بما يلزم من خطوات إيجابية لعلاج نفسي، بل يقودني عقلي المريض أن أؤذي نفسي وأفكر في الانتحار لأعاقب نفسي على أخطائها الفادحة (النابعة من إحساسي المرضي والمبالغ فيه بالذنب).

قال يوما أحد الحكماء ما معناه: كلنا عباقرة، ولكن إن قمت بتقييم قدرات السمكة بقدرتها على تسلق الأشجار، فستعتبرها عاجزة وغبية.

السؤال الآخر الذي قد يخطر ببالك لماذا لا أتجاوب معك عندما تدعوني للخروج أو للقيام بأي نشاط؟

في الحقيقة أن عقلي يصعب عليه الاستمتاع بأي نشاط، كما أنني أجد صعوبة شديدة للبدء بأي نشاط، وربما تحس أنت أحيانًا بأنك تحتاج إلى بعض المجهود لتدفع نفسك للبدء في ممارسة بعض الأنشطة. أما أنا فأنا أحتاج إلى مليون ضعف لما تحتاجه أنت من المجهود. ثم أحتاج لكثير من المجهود لأحاول أن أستمتع ولو قليلا بممارسة نشاط ما أو حتى بتناول طعام ما. ولكن من الغريب أنني أحب أن تتصل بي وتدعوني لزيارتك أو تشرفني بزيارتك لي. ولكني يا للأسف لا أستطيع قبول الدعوة في كل مرة، فتمر عليّ أيام أكون فيها بحال جيدة نسبيا، وأخرى أكون فيها بحال سيئة، وأخرى أكون فيها بحالة سيئة جدا.

في هذه الحال الأخيرة ربما لا أستطيع حتى الرد على اتصالك الهاتفي. وبالرغم من ذلك أكون مقدرا وشاكرا لك اتصالك، ولكنني لا أستطيع الحديث والتواصل معك من شدة الإحساس بالاكتئاب والحزن والألم النابع من اختلال في كيمياء مخي. ففي هذه الأيام يبدو كل ما في العالم مختلفا تماما، ولا يمكن لأي إنسان طبيعي يتمتع بصحة عقله أن يرى العالم بالشكل الذي أراه أنا به.

ثم ماذا؟

ولعلك بعد هذا الشرح المطول جدا والعميق بعض الشيء للاكتئاب ولمشاعري وظروفي، لعلك الآن تتساءل وتستعجب كيف أدّعي الجنون وفي ذات الوقت أستطيع توضيح الأمور بهذا الشكل التفصيلي الدقيق!؟ أو ربما تقول هذا كلام شخص مريض فعلًا ولكن ليس بالاكتئاب، وإنما بعدم النضج وبالطفولة المتأخرة، وبالحاجة الطفولية للاهتمام.

لا ألومك في تحليلك هذا. ولكن أحب أن أوضح لك أنه من عجائب مرض الاكتئاب أن المريض قد يكون ناجحا -بل ربما متفوقا- في بعض نواحي الحياة -رغم مرضه العقلي-، وكأن قدراته العقلية تركزت في ناحية ما فأبدع فيها، وخبت في ناحية أخرى فأثرت على إحساسه بالسعادة والحياة.

والأعجب من ذلك أن تفوقه قد يكون في فهم النفس البشرية وتنميتها. فقد يكون لديه الكثير من الفهم والدراية بخبايا النفس البشرية وبعلوم التنمية البشرية، بل قد يستطيع أن يدرس هذه العلوم ويقدم المساعدة للأخرين ويأخذ بأيديهم لتحقيق السعادة في الدنيا والعمل للآخرة.

ولكن ومع كل هذا، يعجز عقله عن تطبيق ذلك على حياته الشخصية، قد يبدو لك الموضوع وكأنه نوع من النفاق، فالاضطراب العقلي يمكن أن يظهر للبعض في شكل شخصية منافقة أو كاذبة أو مستجدية (طالبة) للاهتمام، وذلك نظرا للاضطراب والتناقض الحاصل في بعض وظائف المخ.

يحضرني في هذا الصدد الممثل الأمريكي الكوميدي الشهير (روبن ويليامز) الذي مات منتحرا بعد معاناة طويلة مع الاكتئاب -فيما نُشِر عنه-، وأول ما يخطر ببالك، كيف يكون ممثلا كوميديا ويعاني من الاكتئاب؟! لقد عاش يقدم للكثيرين الابتسامة والسعادة، بينما كان يتألم في صمت لوحده -فيما أظن-.

أرجو أن يساهم هذا المقال في التخفيف من الإحساس بالعار لدى المرضى أمثالي. والتخفيف من الإحساس بالعار لدى أقارب المرضى ومعارفهم، ولا أظنني أستطيع -مهما حاولت- وصف بشاعة الصدمة وشدة الألم الذي أصابني من ردة فعل أحد الأقارب عندما صارحته بمرضي، فقال لي: “ليتك لم تخبرني”. وطلب مني ألّا أذكر هذا الأمر لأي من المعارف المشتركين بيننا. لن أحدد لكم طبيعة القرابة لكيلا تتعرفوا عليه أو عليّ، ولأجنّبه العار الذي سيلحق به عندما يعرف معارفه بأن له قريب مصاب بمرض عقلي. ولنفس السبب فلن أوقع على هذا المقال باسمي الحقيقي، لأجنب أقاربي العار في حال انتشار هذا المقال بين الناس المحيطين بي.

أرجو أن يساهم هذا المقال في إيضاح أن المرض العقلي ليس نتيجة لبعد المرء عن ربه أو لتقصيره في الاهتمام بممارسة الرياضة أو لعدم فهمه لأولويات الحياة وسبل الوصول للسعادة، وإنما هو اختلال كيميائي في مكونات المخ، ويحتاج إلى علاج طبي مثله مثل أي مرض أخر.

لا أستطيع أن أنهي هذا المقال الطويل دون التعبير عن عميق امتناني وشكري لزوجتي الحبيبة التي قدمت لي كل الدعم. وربما كانت الشخص الوحيد الذي لم يقدم لي نصيحة واحدة. نعم، هذا هو كل ما أريده “عدم تقديم النصائح”. زوجتي “تحسن الاستماع” لما أقول لها. ولكنها “لا تحاول تقديم الحلول”. هذا هو كل ما أنتظره منك “مجرد الاستماع” والدعاء. أرجو منك ألا تصر على محاولة تقديم النصح لأن ذلك يزيد حالتي سوءا. أرجو منك أن تساعدني بالطريقة التي تفيدني؛ حسن الاستماع والدعاء.

قصيدة “مُفكِّرنا الحداثيّ والسلف”

هذه القصيدة من وحي أكبر المعارك المثارة في الفكر العربي الحديث؛ معركة الحداثة والتراث، أو الجديد والقديم. تلك المعركة التي استهلكت كثيرًا من قوانا في آخر قرنين من الزمن. نصب فيها الاتجاه الحداثيّ -بشقَّيه التغريبيّ والعربيّ- حربًا شعواء على التراث العربي الإسلامي، دون وجه حق، ودون أدنى فهم لهذا التراث، ودون وقفة لمناقشة بسيطة حول ماهية ومبرر ما يدور. ومن وحي هذه المعركة نُظمت هذه القصيدة؛ لعلَّها تنفع في تلخيص الصراع والرد الفكري الملائم للأدب الشِّعريّ.

عجبًا مُفكِّرَنا في أمرِك العَجِبِ تغتالُ أسلافًا مِن أمَّةِ العَرَبِ
عاركتَ “حدَّثَنَا”، رافضتَ “أخبرَنَا” عاديتَ “عنعَنَةً” في مِثلِ ذِيْ الرَّكبِ
ناكفتَ جاحظَنا، حاربتَ عامودًا للشِّعرِ يَضبطُهُ من مَسخِ مُنتسِبِ
لاعنتَ أزمانًا الحقُّ يَحدُوْها ورَميتَ أعلامًا بالزُّورِ والكَذبِ
قد صارَ عالِمُنا في عُرفِك السَّاريْ عِيًّا أغرَّ الفِكرِ صِنوًا لمُلتَغَبِ
واصمتَ فقهاءً بالفهمِ قد شرحُوْا لُبَّ كتابِ اللهِ وجليلَ ذا الخَطبِ
وغريبُ صاحبِنا في كَدِّهِ التَّعِبِ تقديسُ أسلافٍ مِن أمَّةِ الغربِ
فيعيبُ تعليقًا للعُرْبِ أمرَهُمُوْ بالماضيْ أسلافًا دفنَ ثَرَىْ التُّربِ
ويُنقِّبُ الداعِيْ للنقضِ مُبتنِيًا بآثارِ إنسانٍ في أواخِرِ الحِقَبِ
يونانُ، رُومانُ، آشورُ، فِينيقُ أيَّانَ مُرساها بالفخرِ والرُّحبِ
لكنْ “بُخاريْ” القومِ يا ويل ما سطرَ من مِعوَلٍ نَقِبِ
إنْ كنتَ مُخلِفَهُ ذاك الزمانَ وَرَاكَ فإنَّ فُولتيرَ قد ضُمَّ في الحسْبِ
عُذرًا مُفكِّرَنا مِن جُودِ أقراحٍ؛ إنَّ الزمانَ يُقاسُ بالوقتِ لا النَّسَبِ
والفكرُ أعدلُهُ ما قامَ بالحقِّ ما إنْ تُناطِحْهُ كالطَّودِ يَنتصبِ
السُّقمُ في الرأيِ كالسُّقمِ في النَّفسِ ذاك عياهُ الحُمقُ وتلك في العَطَبِ

الهوة المتسعة.. هل من سبيل لتضييقها؟

أقرأ لبعض الأقلام المتسامية وأرى بصرها الممتد نحو السماء، المتطلعة إلى الأفق البعيد تريد أن تصله وتؤكد إمكانية قطعه رغم المسافات البعيدة والجبال الصخرية التي تعوق المسير لها، فبلوغ ما كان عليه الأجيال الأولى هي الغاية وغلق المنافذ الذي يتسرب من خلالها دخان التأويل والشك والقلق ونفاذ الطاقة هو الأصل والمطلوب.

ثم أنظر للجهة المقابلة فأسمع صخبًا وهرولة وقطعا للمسافات للوصول إلى عالم رمادي ليست تظلله سماء صافية ولا ينبع من تحته ماء زلال، هنالك حيث يكون المباح ما جربه الناس ووجدوه حسب أذواقهم ممكنا، نافعا أو مريحا لهم، والانتقال من منطقتنا الخصبة التي تنبح علينا فيها الذئاب لمنطقة توافق عليها الناس هو الأولى والأنفع، وهذان طريقان متغايران تكاد تراهما في كل باب من أبواب السير، خاصة تلك التي تغيرت كثيرًا وعلاها ركام الأحداث حتى طمس أصلها فما تكاد ترى وما يكاد يعرفها من أهل العصر إلا قليل..

حذار من ضياعِ الطريق

إنّ أبين مثال له، طريق الاتباع لما جاء به صاحب الرسالة وطريق من يؤول أو يعرض المتن على قلبه أو يجادل لسبب أو لآخر. وكذلك ما يخص المرأة من قضايا ما بين من يغلق عليها الباب فلا ترى ولا يسمع لها حسًا، وطريق من لم يعد يرى فرقا جوهريا بينها وبين صاحبها، مادامت أقدامها مغروسة مثله في واقع تساوت فيه الأعمال والتحديات المفروضة على كليهما.

لدينا طريق من يغلق عينيه على واقع -نشأت فيه أجيال متتابعة ولم تعرف غيره وترى الحديث عن غيره ضربًا من الخبال أو التشدد في غير محله- وطريق من لا ينظر خلفه، لا يتوقف حتى ليبحث إن كان في سيره سيصل إلى غاية أم أنه يسلك ما سلكه الآخرون ويمضي لأنه يريد ولأنه لا يرى بأسًا ولأن أبناء حضارة البنيان قد تواضعوا على ذلك..

هنا ينشطر القلب الذي يعرف أن له أصلا يرجع إليه ونورا يريد أن يستبقيه مضيئا، هنا تتنازعه المشاعر من هم وغيرة لأن صاحبه يريد ألا يخالف ما يظنه صوابا لكنه يشفق على المبتعدين أو الساخرين أو الجاهلين. يريدهم أن يعودوا معه، ليس لأنه وحده على حق، بل لأن هناك أمر يجمعهم مكتوب في السطور ومحفوظ في الصدور..

كيف نغلق الهوة المتسعة؟

نستطيع إن أردنا معًا أن نجعل منه عالمنا البرّاق، الذي تشرق في جوانبه المنارات يتبعها الحيارى المنهكين.. نستطيع لو أردنا أن ننسج معا ثوبًا يليق بنا، نزينه بما شئنا من هنا وهناك لكن خيوطه من هنا.. من أرضنا، من فقهنا وفهمنا وواقعنا الذي لا يشبه واقعهم.

ليس المؤلم أن الهوة في كل يوم تزداد حتى يكاد ينفصل العاَلَمَين، بل أن تضم صغارا كانوا بالأمس خضر القلوب لا يعرفون غير ما يقدم لهم، فماذا قدمنا لهم غير مزيد من الصرخات والأسى تدفعهم للحاق بمن سبقوا، من اختاروا الركض بعيدا عنا، مروا على المنتصف مرورا سريعًا ثم تجاوزوه إلى الضفة الأخرى بحماس يشعله الصخب المتسارع وطبول المتعة المؤقتة وفرح الإنجاز السريع.

ولا يعني وجود الهوة أنه لا جسر يصل بين الطريقين، فأهل الصدق والإخلاص ما زالوا ببنون الجسور يوما بعد يوم، لكن بعضها واه يتساقط في الفجوات ويضحك منه أولئك المغادرون..

فالمشكلة هنا إذن تلك الفجوة الكبيرة التي تحتاج لتضييقها جهودًا مضنية تتكاتف فيها الأيدي لتقيم على ضفتها بناء متكامل الأركان تشرق جوانبه بالنور الهادي، ينظر إليه البعيدون فيعجبون كيف تركوا مكانهم هناك، وكيف لم ينتبهوا إلى أنهم قد تجاوزوا وتعدّوا على حدود ليست لهم، فيقررون أنهم لابد عائدون كي يتدثروا بدفء النور ويلتحموا به.

قلبك قلبك!

إن أشرف ما في الإنسان قلبه، فإنه العالم بالله العامل له، الساعي إليه، المقرب المكاشف، بما عنده، وإنما الجوارح أتباع وخدام له يستخدمها القلب استخدام الملوك للعبيد إما في الخير أو الشر. ومن عرف قلبه عرف ربه، وإن أكثر الناس جاهلون بقلوبهم ونفوسهم، فمعرفة القلب وصفاته أصل الدين وأساس طريق السالكين.

المعلوم أن القلب بأصل فطرته قابل للهدى، وبما وضع فيه من الشهوة والهوى، مائل عن ذلك، والتطارد فيه بين جندي الملائكة والشياطين دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما، فيتمكن، ويستوطن، ويكون اجتياز الثاني اختلاساً، ولا يطرد جند الشياطين من القلب إلا ذكر الله تعالى، فإنه لا قرار له مع الذكر.

إن مثل القلب كمثل حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن، ويملكه ويستولي عليه، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرف الحراسة أصلاً، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد، وهي كثيرة، إلا أننا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق.

أثناء رحلة للعلاج.. مواجع من الذكريات

ما سمعته في مكتب الأخصائية فتح لي أبوابًا من تساؤلات لم أفكر يوما في طرقها، هل أنا حقًّا متلاعبة؟ وكيف وصلت لهذا الدرجة؟ وما هي الأسباب؟.

انتقل تصفّحي على الشبكة من البحث على قصص درامية أملًا في الحصول على جرعات من الحب الزائف، إلى البحث عن تفسيرٍ منطقيٍّ لتصرّفاتي، إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ فالمعرفة لوحدها لم تكن يومًا كافية.

هكذا بدأت

ألم يكن كفّار قريش يعلمون بوجود الله ومع ذلك تمسّكوا بعقيدة أجدادهم؟ ألم يجبلنا الله ويشهدنا على الإيمان بوجوده؟

قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] كنت بحاجة إلى بناء جسر من الوعي حول ما أدمنتُ عليه، ومجاهدة نفسي ومحاولة الثبات على كلّ قرار اتخذته.

بدأت بمراقبة تصرفاتي والاعتراف بكذبي للطرف المقابل في كل مرة أختلق فيها شيئًا، كان الهدف هو تدريب نفسي على الصدق ومواجهة الكذب، لم أتردد في سؤال الله العون وتطهير لساني من الكذب ورزقي الصدق.

هل كان الأمر سهلًا؟

 بالطبع لا، لم يكن سهلًا البتة. أو ليس جهاد النفس هو ما نحياه منذ لحظة بلوغنا حتى نفسنا الأخير!

لم يحتمل البعض اعترافاتي وشعروا أنهم صادقوا وهمًا لا شخصًا حقيقيًّا، لقد هجرني أحبة، وسمعت بعضهم يتمنّى موتي ليرتاحوا من الاستفهامات التي تملأ رؤوسهم جرّاء حماقاتي التي يرونها أو تصرفاتي التي لم تكن مفهومة لهم.

ربّما تسرعت في قرار الاعتراف وهذه من الجوانب التي أراها سيئة بخصوص التواصل المكتوب في المواقع والصفحات الافتراضية -عن بعد-، حيث إنها لا تدع لنا مساحة كافية للتفكير ومراجعة مشاعرنا وتصرفاتنا، ولو كانت كل أحاديثي وجها لوجه لما لوصل الأمر إلى الحدّ!

تلك الرسائل التي كنت أتلقاها كانت كالأكسجين بالنسبة لي، يكفيني تأخر أحدهم في الرد لتجدني أفقد السيطرة عن نفسي وأشعر بأنني منبوذة وأنني عالة على العالم.

مخاطر المشاعر السلبية

هذا التركيز على المشاعر وحالة التمحور على الذات ليس بالأمر الهين، ففكرة أن تفسر كل ما يقع حولك بناء على ما تشعر به، لا على معطيات وأسباب معينة وحقيقية، لهو أمر كارثي بكل المعايير!

إذًا أنا وأنت وكل إنسان بحاجة إلى الصدق، ولكنني كنت حينها ما زلت أريد جرعات متزايدة من التعاطف، فما السبيل؟

الحلّ كان في عدم اختلاق أكاذيب وبدلًا من ذلك عيش آلام واقعية، وقد بدأت حينها في التركيز أكثر على كل صعوبة في حياتي وتضخيمها لأقصى الحدود. حتى تعثري في سلالم البيت وعدم اهتمام أهلي بي ووصف شعوري بالحزن الشديد بسبب ضحك إخوتي على الأمر!

شعرت دومًا بتأنيب الضمير حول ما أفعله، وكرهت نفسي كرهًا شديدًا لدرجة تحاشي التمعّن في انعكاسي على المرآة، أصبحت أعاقب نفسي على أفعله من أخطاء إما بالضرب أو السب أو إيذاء النفس. وهذا ما فتح لي باب شرور من نوع آخر وهو جلد الذات.

  صارت جروح جسدي شيئًا عاديًّا بعد كل مرة أشعر فيها بالسوء تجاه نفسي، وقد أخذت فكرة إيذاء النفس من الأفلام الدرامية، فقد كان التأمل في الدم وهو يتدفق يشعرني بالراحة، لكن الأمر لا يتعلق بحبي لمشاهدة الدماء وهي تسيل بقدر شعوري بالهدوء بعد تدفق هرمون الأندروفين المسؤول عن تسكين الألم.

وهنا أود أن ألفت نظرك إلى أمر مهم جدّا وهو فكرة تقبّل حقيقة الألم الذي يؤكد ضعفك و بشريتك وحاجتك إلى طلب العون من الله عز وجل ومن تتوسّم فيهم خيرًا من عباده، وأن القوّة في فهم نفسك ومراعاة تقلّباتها بأشكالها فتحسن إليها كثيرًا و تشدّ عليها أحيانًا، فالأمر يشبه تعاملك مع الطفل تمامًا، إذا أصاب تكافئه وإذا أخطأ تصوّبه.

خلاصة، وفسحة للتفكير

إن كنت ممن يعاني من اضطراب المشاعر السلبية، فخذ على نفسك بعد الجلوس في مكان هادئ، أن تحاورها حول التالي، ما الصفات الإيجابية التي تمتلكها، وما مدى قدرتك على أن تتقبل مواجهة أحدهم لك بعيب فيك؟ -دون الالتفات لمكانته في قلبك أو مكانتك عنده- وابحث عن صفاتك السلبية في ذاتك أو استشر صادقًا يجيبك عن ذلك.

لكن تمهّل.. حاول قبل كل شيءٍ أن تتقبّل حقيقة أنك بشر غير كامل، وأنك مخلوق لتجاهد ما فيك من نقص، وأنه يجب عليك العمل على التخلص من صفة سلبية كل أسبوع أو شهر بحسب شخصيتك، وألّا تمل من المحاولة، وقبل ذلك كله أن تسأل الله العون دائمًا وأبدًا.

عندما يرتدي التقهقرُ قناعَ التحضّر (مقال بالمقلوب)

لن تجد في هذا المقال سردًا متكاملًا، ولا تدبيجًا لمقدمة وعرضٍ متناسق وخاتمة، بل سترى فيه رسائل مقلوبة، أو قل، رسائل متضمنة، رجعيّة بطريقة ما، ترتدي قناع التحضّر..

أبدأها بالرسائل التي أوجهها إلى شبيهاتي، إلى بنات حوّاء بعمومهن.

عزيزتي المرأة

  • عزيزتي المرأة، أنت غير مسؤولة عن بيتك، ومهامك تقومين بها تفضّلًا منك، حتى مهمّة رعاية الأطفال بإمكانك المضي قدمًا فيها أو التراجع، حرصًا منّا على حقوقك.
  • عزيزتي المرأة، أنت قويّة وقادرة على العيش لوحدك، ويمكن أنت تفتحي بلدان دون الحاجة لمن يكملك فأنت لست ناقصة.
  • عزيزتي المرأة، يجب أن تحملي بيدك شعار الندّية والتنافس، وإثبات الرأي ولو على نتيجة تتشكّل من أنقاض حياة كانت عامرة.
  • عزيزتي المرأة، خفضُ جناحك عند خلاف ما كسبًا للقلوب وحفاظًا على طيب النفوس ازدراءٌ لكرامتك وحقّك الطبيعي في إثبات وجودك ورأيك.
  • عزيزتي المرأة، تقدير جهود الطرف الآخر ليس ضروريًا، وماذا يعني أن يغيب عن بيته ويحفر الصخر ويتحمّل كافة الأمزجة على اختلاف أنواعها كي يؤمّن حياة كريمة؟ أليس هذا واجبه!
  • عزيزتي المرأة، اهتمامك بنفسك وبعقلك وبروحك من أجل تطوير نفسك والارتقاء بمهمّة التربية التي هي ليست مسؤوليتك أصلًا، يجعل منك امرأة مستكينة، أنت حرّة وليس لأحد عندك أي حقّ، وبإمكانك أن تجلسي دون أيّ تطوير على أي صعيد، وفي إضاعة وقتك في سفاسف الأمور.
  • عزيزتي المرأة، الحياءُ خلقٌ ولّى، وتحلّيك بالحياء إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على تخلّفك وأنّ طبعتك من زمن الأبيض والأسود.
  • عزيزتي المرأة، لك حقوق فلا تتنازلي عنها، والواجبات أمر قيد النقاش.

أمّا أنت أيها الرّجل

  • أيها الرجل، سيقولون لك إنّ القوامة هي تسيير المركب ووفق مسار سليم واحتواء أهل بيتك بالرحمة والإحسان، إيّاك أن تصدّقهم، أنت قوّام، والقوامة تعني تسلّطك وظلمك لمن هم تحت جناحك.
  • أيها الرجل، إلى متى ستتولّى دور القويّ الذي لا يهزم، وبإمكانك أن تكون ناعمًا تتصدّر شاشات التيك توك، وأنت تقدّم محتوى تافهًا، تحت مسمّى الحضارة الناعمة.
  • أيها الرجل، احتواؤك لأهل بيتك ضعفٌ وخنوع، وكلمتك الطيّبة رقّةٌ لا حاجة لها، لأنّ البيوت تقوم على النظم العسكرية.
  • أيها الرجل، كلمة شكرًا وتقدير الجهود المبذولة عيب بحقّك، فالرجل رجلٌ بعدم لطفه وسماحته ودماثة أخلاقه.
  • أيها الرجل، امنح أهل بيتك مساحة حريّة ولا تقف في وجه الاختلاط وتجاوز الحدود الذي لا طائل منه، وإلا سنعتبرك متخلّفًا غير قادر على التأقلم مع معطيات هذا العصر.
  • أيها الرجل، لك حقوق فلا تتنازل عنها، والواجبات أمرٌ قيد النقاش.

اقلبوا الصورة فالنور بيّن

عزيزتي المرأة، أيها الرجل.

هل اتبعتم ما يملونه عليكم؟ مبارك عليكم، لقد وصلتم إلى الهاوية..

خسرتم ما حباكم الله به من حدود طبيعية لحياة كريمة هانئة أنزل اللهُ تعالى قواعدها وفق حكمته بمن خلق وتركيبهم النفسي، ووصلتم إلى قاع التقهقر بقناع التحضّر.

(فويل للمصلّين! وهناك من يقف هنا!)

عزيزتي المرأة، أيّها الرجل

يخرج كلّ فترة أحدٌ ما ويدلي بتصريحات ترسم الحدود وتقدم وعيًا بالحقوق قبل الواجبات، ويرسمُ حضارة من ورق، تطيرُ مع أوّل نسمة صيف.

وهناك من يقول لا بأس!

حسنًا يا سادة، إنّ البأس كلّ البأس فيما سنذكره..

تخيّل أن طبيبًا ما خرج على العلن وقال للناس إنّ تناولَ دواء (الليفوثيروكسين) مفيد لمرضى الغدّة الدرقية.

حقيقةً إنّ الطبيب لم يخطئ ولكنّه قدّم معلومة قد تنقذ عشرات الأشخاص الذين يعانون من خمول الغدّة الدرقية، بينما سيودي بحياة المئات الذين يعانون من فرط نشاط الغدّة الدرقية.

لا ينكرُ أحدٌ حسن نية الطبيب، ولكنّ حسن النيّة دون فطنة وحسن تصرّف داء مميت.

وكذلك شأن من يقف على قوله تعالى: (فويل للمصلّين) وينهي تلاوته دون أن يُفهم السامعين أنّ الويل للمصلّين (الذين هم عن صلاتهم ساهون)..

المعلومات المقتطعة، سمٌّ سينهش الأمّة، والتعميم لغّة الجهّال.

عزيزتي المرأة التي تبغي صلاح الحال، ويا أيها الرجل الذي يبغي صلاح الحال..

عندما ينوّرونكم بحقوقكم، تذكّروا أنّ لكلّ حالة خصوصيتها، فلا تشخّصوا أمراضكم الاجتماعية عند أطباء وسائل التواصل الاجتماعي، حاملين بيدكم لافتة معلومات هزيلة دون حجّة وبرهان.

فربّما تمّ اقتطاع معلومة ما دون تبيين، فأودوا بأمان بيوت تحت ذريعة (هذا ما قاله زيد من الناس، وزيد من الناس على درجة أكاديمية من العلم).

وكذلك ما ينقل على لسان رجل علم دون لقاء مباشر يتمّ فيه تشخيص واضح لكلّ حالة على حدة.

وإنّما التعميم لغة الجاهلين.

عندما كان قدوتي “غيفارا”

لعلها الأنسب لبداية المقال، إنها تلك الآية التي تهز الكيان كلما استذكرتها وتوقفت عندها: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}:[الحج :46]. لأبدأ من تلك الحادثة التي جعلتني أعيد النظر في سيرة الثوريّ “غيفارا”، ذات يوم بينما أنا جالسة بين الحضور في إحدى المحاضرات، رفعت يدي لطرح سؤال تبادر إلى ذهني، قلت -وأنا أحمل كتاب “أحلامي لا تعرف حدودًا” الذي يلخّص حياة الثوري غيفارا- لماذا لا يكتبون عن الرسول صلى الله عليه وسلم (في تلك اللحظة استثقلت الصلاة عليه) كما يكتبون عن تشي غيفارا؟ أريد أن أقرأ كتابًا يتحدث عن سيرته بموضوعيّة كبيرة كهذا الكتاب، فقد مللت من العاطفة التي تشوب كل ما له علاقة في حياتنا الإيمانية واليومية.

أتدري ما المضحك المبكي في الأمر؟ لقد كنت في ذلك السؤال، وفي تلك الأيام أكثر الناس عاطفة، وكان انحيازي لتوجهات كثيرة واضحًا جدّا، وهنا مكمن الخلل!.

على طريق الضياع والرجوع

 أود هنا أن أخط للقارئ أول قاعدة في فهم إلحاد بعض الشباب: كلما زاد تمجيد المرء للعقلانية، وارتفع صراخه بضرورة التفكير منطقيًّا، فاعلم أنه قد انحرف في تفكيره وضاع في متاهة التخبط وعشوائية اللاعقلانية.

أّمّا القاعدة الثانية، فهي أن كثيرًا ممن يميل عن طريق الإيمان لأي سبب كان، لا يريد البحث عن إجابات مطمْئنةٍ، بقدر ما يتلذذ بشهوة الظهور وتسليط الأضواء على نفسه ولو كان ذلك مضرًّا له في الحقيقة.

وهكذا كنتُ، حيث ظننتُ نفسي لمدة طويلة، أنني أذكى من غيري بطرح تساؤلات كهذه وسط المحاضرات!

نظرت إليّ الدكتورة في حنوّ ثم قالت: “توجد العديد من المؤلفات الموضوعية يا وفاء لكنك لم تصادفيها فقط، ولأكن صريحة معك لا يمكن لمن تعلق قلبه بحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب عنه دون تدخّل شيء من العاطفة”

وهنا أودّ أن أخطّ للقارئ ملمحًا مهمًّا في طريق تحوّلي: وهو أنني في رحلة انتكاس فطرتي لم أجد يومًا من هو أشفق عليّ وأرحم بي من نفسي كأصحاب الدعوة الرّبانية وأهل الدعوة إلى الخير، فلم يكن هناك مقابل لإصغائهم لي، لم يعرضوا عليّ الالتحاق بدورات باهظة الثمن ولا شراء أحد الكتب الأغلى مبيعًا.

في تلك الفترة واجهت شبهات كثيرة وبحثت عن إجاباتها في المكان الخطأ، فقد تجنبت المواقع الإسلامية لاقتناعي بأن معلوماتها عاطفية، ومنحازة وهذا غريب حقًّا، ألسنا نأخذ المعلومات العلمية من المواقع الخاصة بها، والمعلومات الطبية من مصادر الطب، وهكذا فإن القضية لا تتعلّق بالفهم بقدر ما تتعلّق بالغشاء الذي ران على قلبي فأعمى بصيرتي.

أصبحت أميل أكثر إلى متابعة من يدعون بأصحاب الفكر التنويري أمثال محمد شحرور، وصاحب اليسار الإسلامي حسن حنفي وصالون علمانيون، إذ لم أكن شخصًا يريد إعلان العداوة على الدين، لكنني نصبت شراع البحث في المستنقع الخطأ لجهلٍ في نفسي.

بالكاد أستطيع نسيان قهقهة أحدهم عندما قلت في أحد المحاضرات في تردد: “أشعر بأن الله غير موجود وفي نفس الوقت خائفة مما قد أجده بعد وفاتي!” ردّ عليَّ باستهزاء قائلًا: “غريب! كيف تخافين العقاب وأنت تشكين في وجود الله!”

في ذلك اليوم قررت أن أثبت على مسار التشكيك، فلم أعد أخشى طرح الأسئلة ورمي الشبهات بل وجدت متعة في ذلك خاصة عند طرحها على طرف لا يحمل الزاد العلمي الكافي للرد، وهنا صرتُ أكثر ميلًا لصحبة الفئات المتمردة من ملحدين ونسويات وكل ما له صلة بالمتعة والسخط على الحياة والمجتمع وحقيقة الوجود.

محمد شحرور

العودة إلى دفء الإيمان

كانت أيامًا قاسية، لقد عشت تلك الفترة حالةً من الشك في ديني ومعتقداتي، وغلبت عليّ السوداوية التي لا مثيل لها في مختلف أمور حياتي، خاصة بعد اهتمامي بمطالعة معظم ما وُضع على رف الأدب الروسي وتيار العدمية الذي جعلني أكنّ ضغينة لجميع أشكال الحياة. أليس هذا الرّائج؟ حالة العمق واللامبالاة!

 كرهت كل مظاهر البهجة وسادت عليّ تلك النظرة التي مفادها أن الحياة مأساة أجبرنا على عيش أدوارها حتى النهاية سواء أحببنا ذلك أم كرهنا ولنا أن ننهيها متى شئنا!

هل ألوم ذلك الشاب على استهزائه بسؤالي؟ بالطبع لا! فلطالما كان التلاوُم طبع الجبناء.

وإذا لخّصت أسباب اضطراب بوصلة إيماني، لوجدتها تقف عند ثلاثة أسباب: الغفلة عن تدبر أسماء الله عز وجل و صفاته، واتباع تريندات الشبهات الفكرية الرائجة دون وعي، الخضوع للإسقاطات النفسية، فتجدني أسقط تجاربي لشخصية على حقائق كبرى، وفوق كل ذلك يمكن أن ألخص هذه الأسباب في كلمتين: (الجهل والهوى).

يسّر الله لي الاهتداء لبعض المواقع التي غسلت موادها عن قلبي ران خبائث الشك، وكان أهل الدعوة سندًا لي يقفون معي في تفكيك الشبهات وردّها..

لقد كان أهم ما تعلّمته أن الدين ليس شيئًا ثانويًّا في حياة الإنسان، بل هو جوهرها ومبدأ القيمة فيها، إلا أننا نغفل عن ذلك ونبتعد عن فهم الدين وأصوله، ونلاحق مشاهير الشبهات لنأخذ عنهم وساوس الشيطان.

 ما حدث قد حدث، ولكن على المرء أن يحسن الإصغاء ويفهم الطرف المقابل قبل أي رد، في المقابل فإنه يجب على الباحث عن الحق ألّا يجعل أخطاء الغير وجهلهم سببا في تجاوز البحث عن الحقائق الكبرى وترك السعي نحو سبيل الحق.

والآن يا قارئ هذه السطور.. دعني أهمس في أذنك كلمات:

بالرغم من رياح الشك التي هاجمتني، إلا أنه لم يغب عن قلبي يوماً حقيقة أن لي خالقًا أعظم من كل ما يحيط بي مهما حاولت التنكّر لذلك، بل كنت أقول في سرّي كل ليلة قبل النوم: “يا من خلقتني أعلم أنك موجود فسخّر لي سُبل معرفتك والوصول إليك” وحاشاه أن يردّ دعائي فهو خالقي ومولاي عزّ وجلّ.

اللهم أرنا الحق حقاًّ ورازقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

أحداث خيالية في المستقبل القريب

المشهد الأول

جلس حسن في صالة منزله وهو يحل ربطة عنقه السوداء بعد عودته من دفن والده الحاج تامر. ضم يديه تحت ذقنه وهو ينظر للأرض غير مصدق أنه قد فقد أباه ولم يعد له وجود في حياته. أخذ نفَسًا عميقًا وعاد ليفرد راحتيه مخفيًا وجهه خلفهما وهو يزفر كما لو أنه يلفظ جاثومًا على صدره.

– هوّن عليك يا حبيبي.

رفع حسن رأسه ليجد زوجته نانسي تقف أمامه وتطالعه برأفة، فوقف على قدميه وعانقها قائلًا بصوت منكسر:

– لقد رحل ولم يتسنّ لي أن أودّعه.

تنحنحت نانسي مع ابتسامة متردّدة:

– إن أردت يمكنك أن تستخدم أليكسا.

عقد حسن حاجبيه ونظر مباشرة لعينيها:

– تعلمين أنني لا أحب المشاعر الكاذبة أليكسا فقط لإدارة شؤون المنزل والإنترنت، وليس لإدارة شؤون حياتي الشخصية.

لوّحت نانسي بيدها وقالت:

– لولا أليكسا لما استطعتُ تجاوز وفاة أمي، أتعلم.. ما زلت ألجأ إليها من وقت لآخر. حقيقة أشعر أنني فعلت الصواب عندما أقنعت أمي بإعطاء أمازون تصريحًا لتكوين شخصيتها الرقمية.

هز حسن رأسه قائلا:

– أنت حرة في حياتك ومشاعرك.

عقّبت نانسي سائلة:

– وماذا عن حياة ابننا تامر الصغير؟

ضغط حسن على أسنانه ويقول:

– لولا تامر الصغير لما وافق أبي أبدًا على تكوين شخصيته الرقمية. ألست أنت من لمّح له أن حفيده يفتقده دائمًا في رحلات الصيد ويريد أن يسمع قصصه كل يوم؟

أجابته نانسي وهي تهز كتفيها:

– حسنًا، يجب أن نعتبر أنفسنا محظوظين أنه قد فعل، أليس كذلك؟

أراد حسن أن يقول شيئا، لكن تامر الصغير دخل مسرعا للصالة قائلًا لأمه:

– ماما… ماما… لقد كنت مؤدّبًا خلال الدفن.. هل يمكن أن يحكي لي جدو تامر حكاية؟

ابتسمت نانسي لابنها وهي تنظر خلسة لأبيه قائلة:

– ليس الآن يا تيمو، ربما بعد العشاء.

علا صوت تامر الصغير:

– أرجوك ماما.. حكاية واحدة فقط أرجوك!

نظرت نانسي لزوجها حسن وكأنها تطلب موافقته، فأشاح بوجهه وأشار بيده أن دعيه يفعل، فهزت برأسها لتامر الصغير الذي صاح فرِحًا:

– هييه!

قفز تامر الصغير على الأريكة بجوار أليكسا -أحدث نسخة من أمازون-، وأمرها:

– أليكسا! تجسيد الحاج تامر!

صدر صوت من الجهاز:

– حسنًا، تجسيد الحاج تامر، هل أستخدم العمر الافتراضي ذي الستين عامًا؟

أجاب تامر الصغير:

– نعم.

على الفور خفت الإنارة في الصالة قليلًا، ثم انبثقت أطياف من زوايا محددة في الغرفة لتتقاطع على الأريكة المقابلة لتامر الصغير فتكونت صورة ثلاثية الأبعاد (هولوغرام) للحاج تامر وهو يرتدي ملابس الصيادين رابطًا شعره الأبيض الضعيف على طريقة لاعبه المفضل قديمًا جاريث بيل. ابتسمت الصورة الافتراضية للطفل فصاح مجدّدًا:

– جدو تامر!

صدر صوت مشابه لصوت الجد الميت:

– آه حفيدي تيمو، كيف حالك يا ولد؟

تامر الصغير:

– بخير بخير.. هل ستحكي لي حكاية؟

صدرت ضحكة مشابهة لضحكة المرحوم مع سعال خفيف خفق لها قلب حسن وتحركت الصورة وكأنها حية، متقمصة تفاصيل شخصية الحاج تامر، وأسلوبه في الكلام وحتى طبائعه وتعابير وجهه. رفع الجد يده موجها إصبعه للصغير:

– قبل أن أفعل، هل أكلت عشاءك كله؟

تامر الصغير:

– نعم نعم… احكِ لي حكاية سمكة التونة العنيدة مرة أخرى.

صورة الجد:

– أوه، تلك السمكة، كانت أفضل صيد لي بالرغم من كل شيء.

وأخذت أليكسا تسرد الحكاية بصوت وصورة الجد، مستخدمة الذكاء الاصطناعي في تحليل أسئلة تامر الصغير والإجابة عليها بما يتوافق مع شخصية الجد الراحل. أما حسن فقد أخذ يراقب ابنه وهو في قمة التفاعل والسعادة مع صورة الهولوغرام، فتارة يصفق بيده وتارة يفتح فمه منبهرًا ببطولة جده. أخذ حسن يهز رأسه ببطء وكأنه يرى خطبًا عظيمًا. اقتربت نانسي منه وهمست:

– ما خطبك؟

أجابها حسن:

– ألا ترين كيف أنهُ سعيد في حين أن جده قد فارق الحياة ودفن قبل قليل، أليس من المفترض في الارتباط العاطفي أن يكون متعلّقًا بأشخاص حقيقيين؟

صمتت نانسي قليلًا وقالت ببرود:

– حسنًا، لكن على الأقل هو سعيد الآن، هل ستكون سعيدًا إن رأيته حزينًا؟

رفع حسن أحد حاجبيه ومط شفتيه قبل أن يقول:

– أتعلمين، تامر الصغير لا يشبهك فقط بالشكل، بل أيضا بطريقة التفكير!

قطّبت نانسي حاجبيها وقالت:

– وأنت لا تشبه والدك فقط بالشكل، بل بطريقة التفكير أيضًا!

قام حسن من مقعده غاضبًا، فسألته نانسي:

– إلى أين؟

أجابها:

– لدي عمل في مكتبي، لا أريد أن يزعجني أحد.

نادته نانسي وهو يبتعد:

– ماذا عن العشاء؟

سمعت صوته وهو يصعد الدرج للدور الأعلى:

– لا رغبة لي في الأكل

بعد ساعات قليلة في المكتب – المشهد الثاني

كان حسن منشغلًا في عمله متناسيًا وفاة والده حين دخل عليه تامر الصغير محتضنًا دمية محشوة. تنبّه حسن لوقوف ابنه عند الباب وقال في نفسه (ليس الآن، هل هو كثير أن يطلب ألّا يزعجه أحد!). أراد أن يتجاهله محاولًا التركيز فقط على إنجاز ما طلبه مديره لكنه نظر إليه على أية حال وسأله:

– ماذا يا تامر، أليس من المفترض أن تكون في سريرك؟

تردّد تامر فقال:

– لا أستطيع النوم.. هل تحكي لي حكاية يا بابا؟

نزع حسن نظارة القراءة وفرك عينه قبل أن يقول:

– ألم تشبع من الحكايات؟ يا ولدي أنت في العاشرة من عمرك، عليك أن تفهم أن في الحياة مسؤوليات كثيرة وكبيرة.

قال تامر:

– إذًا هل تحدثني عن هذه المسؤوليات؟ لربما أستطيع النوم بعدها.

عاد حسن لفرك جبينه هذه المرة، فقد بدأ الصداع يصل لرأسه ثم قال:

– ليس الآن يا تامر، أنا مشغول جدًّا. اذهب لسريرك وحاول النوم مجددًا.

طأطأ تامر رأسه وخرج من غرفة المكتب بينما غمغم حسن مستهزئًا:

– لا أعلم حقا كيف سيتحمّل هذا الجيل أي مسؤولية، هه.. يظن أنه سيشعر بالنعاس عندما يستحضر المسؤوليات!. لو سمع جدك…

عادت صورة الحاج تامر لذهن حسن فسكت وسرح في مخيلته لتعود ذكرياته وهو صغير، وكيف كان والده قاسيًا معه. الحقيقة أنه لم يكن يقدر هذه القسوة إلا عندما أصبح شابًّا ناضجًا، وبالرغم من أنه كان يشعر بالفجوة بينه وبين والده، إلا أنه كان يكن له احترامًا عميقًا. فقد علمه ألا يحيد عن مبادئه كمركب الصيد، طالما كان في البحر فهو سيد نفسه يذهب أين يشاء، لكن بمجرد أن يحيد عن البحر للبر، تتعطل دفته ويصبح عرضة للقطر بعربة دون إرادته. علمه أيضا الثبات على أهدافه بصبر وعزم مثلما كان يصيد السمك الكبير. كثيرة هي الأشياء التي تعلمها من والده بالرغم من أنه لا يحب صيد السمك. لماذا لا يستطيع تامر الصغير أن يستفيد منه كما كان يستفيد من والده؟ لماذا تعلق بجده وحكاياته؟ هل تغير والده عندما كبر؟ هل سيتغير تامر الصغير مستقبلًا؟

كثرت الأسئلة في رأس حسن وتذكر عمله ثم بدأ يزيد الصداع. مد يده لدرج المكتب باحثًا عن بعض حبّ مسكّن للألم، فسمع صوت حركة خفيفة قادم من الدور السفلي. قام حسن من مقعده على الفور ونزل ببطءٍ فلمح تامر الصغير يدلف لغرفة الصالة. اقترب حسن بهدوء من الصالة فسمع تامر الصغير:

– أليكسا، تجسيد الحاج تامر.

– حسنًا تجسيد الحاج تامر، هل أستخدم العمر الافتراضي ذي الستين عامًا؟

– لا بل ثلاثون عامًا.

– حسنًا، تجسيد الحاج تامر في الثلاثين من عمره.

تكونت صورة أخرى طيفية ثلاثية الأبعاد للحاج تامر لكن هذه المرة وهو يشبه إلى حد كبير ابنه حسن في عمره الحالي.

– آه تيمو البطل، كيف حالك يا ولد؟

– لماذا يا بابا لا تحبني؟

– كيف تقول ذلك، أنا أحبك.

– لا أنت لا تحبني كما تحبني ماما.

– كيف تحبك ماما إذًا؟

– ماما تسمح لي أن أتكلّم مع أليكسا.. وتحضّر لي العشاء.. وتسألني عن مدرستي.

– إذًا كيف هي مدرستك؟

– لا تعجبني كثيرًا.. لكن..

– هل هناك شخص ما يعجبك في المدرسة؟

– إممم.. لا.. نعم.. لا يهم

– لكنه يهمني، أنا أبوك وأحبّك مثل ماما.. ألا نتحدث كل ليلة؟ هيا.. هل هي صديقة أم صديق؟

– حسنًا.. ربما هناك صديق يعجبني لكن لا أعلم.. سمعت بابا يلعن هذا النوع من العلاقات الحميميّة.

– أوه لا.. اسمعني جيدًا يا تامر.. الحب لا يفرّق بين…

اختفت الصورة الطيفية فجأة واشتدت الإضاءة لتظهر والد تامر الحقيقي خلف الأريكة واقفًا شاحب الوجه متسع العينين وممسكًا بسلك أليكسا بعد أن نزعه من القابس الكهربائي.

 

 

في كل محنة بشرى خير ومنحة

قد يَنظر الإنسانُ إلى الظواهر ويَترك البواطن، فينظر إلى آلام المخاض ويَنسى فرحة الميلاد، فما الفائدة التي يجنيها إن لم يقبل التضحية الآنيّة للوصول إلى فرحة مستدامة، إن الذهب حينما يُستخرَج مادة خامًا لا بد أن يُوضع في النار حتى يُنقَّى مِن الشوائب، فيَصبح بذلك ذا قيمة غالية، فهل يجدي أن نتركه بين التراب أو في أعماق المجهول لئلا يتعرض للنار كذلك تَفعل المحَنُ بالمسلم، تنطوي على القهر والألم، إلا أنه يعقبها التمحيص والخير، قال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141]. فكل شيء في هذه الحياة يحدث لحكمة ولله الحكمة البالغة.

أين مكمن الخير؟

لا يعلم الإنسان من أي مكان أو سبب قد يأتيه الخير، ترى نفسك في كل يوم ساعيًا في شؤون تعتقد أنك ستجني من ورائها شيئا يهدّئ نفسك التي بين جنبيك، إلا أنك قد لا تحصّل شيئًا مما ترغب أو تسعى إليه.

إن الأمر الذي يكاد يتفق عليه معظم ذوي الخبرة من البشر هو أن الخير غالبًا يأتينا من حيث لا نحتسب، وبطرق ما كانت لتخطر لنا على بال، وعلى أيدي أناس ما توقّعنا يوما أنه سيأتينا من جهتهم خير، وأن الشر أحيانا يأتينا من تلك الطرق التي نسلكها بأنفسنا ظانّين أنه سيأتينا من ورائها خير وسعادة، أو قد يأتينا من أولئك الذين قصدناهم بخطى واثقة معتقدين أن خلاصنا مما نعاني سيكون على أيديهم.

لعل طريقة نظرنا للأمور خاطئة منذ البداية، وربما اعتراها البطلان، وما بني على باطل فهو باطل، وما كان للقاعدة أن تكون قوية ما دام أساسها مهترئًا، أو لعل الطريقة نفسها صحيحة، إلا أن وقت تنفيذها غير مناسب فأثَّر خطأ اختيار الوقت في صحة الطريقة، مما أنتج عنها سوء الفهم والحاصل.

تجربتي مع مرض السرطان .. ابحث عن ضعفك!

إن ضعف الإنسان وعجلته التي جبل عليها وحرصه على تهدئة نفسه وإرضائها، أمور تدفعه للوقوع في الكثير من الأخطاء التي يعض أصابعه ندمًا على مجرد تفكيره فيها لأول وهلة، ومن ثمّ فإن على المرء إعادة التفكير في نظرته إلى الحياة ووزنه للأمور.

على المرء -ما دام مؤمنا بالله- وضع الحسابات الأخروية نصب عينيه؛ حيث إن الغفلة عن هذه الحسابات سبب خساراته التي لا يجد لها تفسيرًا واضحًا.

عندما أرغب في الحديث عن الجانب المشرق من مرض السرطان، وأحاول التعبير عن الخفايا الوجدانية في الخلايا السرطانية أجد صعوبة في ترتيب الأفكار وصعوبة في إخراجها بأسلوب يليق بها، فلو لم يكن في السرطان من فائدة سوى أنه يكشف لك أيها الإنسان حجم ضعفك، وكم أنك محتاج لربك فقير إليه! لكفى بها فائدة عظيمة تغنيك طيلة عمرك عن الدنيا وما فيها، وتجعلك عزيزًا بحب الله فخورًا بدينك، مشتاقًا لوجه الكريم المتعال، ومن دون هذه الحقيقة لن يقرّ لك في الأرض قرارٌ، وستعيش فيها ضيِّقًا حرجًا متكدرًا مغمومًا ضائعًا حائرًا لا تعرف لك وجهة مأمونة ولا سبيلًا مستقيمًا.

إن حقيقةً جليّةً تثبت أنك ضعيف أيها الإنسان لهي هزةٌ عميقة، إذ بإمكان خلية عابرة لا ترى بالعين المجردة إخراجك من قصرك رغم أنفك ورميك على سرير في مستشفى تتلقّفك أيدي الأطباء والممرضين وأنت مستسلم لهم لا حول لك ولا قوة..

إنها الحقيقة التي تؤكّد أنك عبد للقوي العزيز، الله الذي رفع السماوات ومهد الأرض وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار الخافض الرافع المعز المذل، إنها الحقيقة التي تؤكد أن الطبيب ودواءه لن يشفياك إلا بإذن الله، ولو اجتمع أطباء الأرض وأدويتهم على علاجك فإنك لن تشفى إلا بإذن الله وأمره..

لهذا كله، لم أعتمد الأطباء بشكل كلي، بل علّقت القلب بالله رضًا بما اختار لي، وكنت أتتبع نصائحهم أخذًا بالأسباب وفي قلبي يقين راسخ بأن الله الذي خلقني هو يهدين، وإذا مرضت فهو يشفين، فهذه الخلايا السرطانية من خلق الله، وكما ظهرت بأمر الله فإنها ستزول بأمر الله رفعت الأقلام وجفت الصحف.

تمهّل .. لستَ الوحيد الممتحَن

من الخبايا الإيمانية في هذا المرض وغيره من الابتلاءات، أنه يذكرك بمِحَن الأنبياء خاصة مرض أيوب عليه السلام الذي تلقّى ابتلاء ربه صابرًا راضيًا بقضائه وقدره، يدعوه ويتضرع إليه، ويذكرك بدعائه وتردده قائلا: {رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، فتحس للحظات أنك تشارك نبيًّا من أنبياء الله في بلائه وألمه، وتقتدي به في توكّله على الله عز وجل، فتجد لذة في المناجاة ولذة في الصلاة.

تلك الركعات والسجدات التي تؤديها وأنت متعَب ضعيف لا تقوى على الوقوف، تُشعِرك بالصدق في دعائك، وبأنك تصلي لله بخشوع وبنفس متجردة من كل شواغل الحياة الدنيا، حينها ستسأل الله الشفاء وإن بلغ بك اليقين مبلغًا رفيعًا ستنسى نفسك ومرضك ومعاناتك وألمك، وستسأل الله أن يغفر لك ويرضى عنك ويجعل آلامك مكفرات لذنوبك، وسترى حقيقة الحياة الدنيا، وستتذكر تقصيرك وخطاياك ودينك الذي فرطت فيه، وسترى الصحة تاجًا على رؤوس الأصحاء خاصة حينما تحتاجها لتعبد الله وتخدم نفسك بنفسك وتستغني عن منن الخلق مهما أبدوا سرورهم بمساعدتك، لأن شعورًا بأنك عالة عليهم سيلازمك طيلة أيام عجزك، فتتمنى العافية لتتخلص من ذلك الشعور البغيض، ذلك أن الحاجة للناس تورث ألمًا نفسيا لا يطاق.

سوف تشعر بذوي الاحتياجات الخاصة وأنت نائم على السرير لا تتحرك إلا بجهد وعناء، ستشعر بآلامهم وتفهم إحساسهم تمامًا، وستكره نظرات الشفقة وتفهم لماذا يكرهونها، وستحاول أن تبدو بخير وسعيدًا وراضيًا وستفهم لماذا يبدون كذلك، وستحترمهم أكثر عندما تجرب شيئا من أحوالهم وأنت تعلم أنه مؤقت بالنسبة لك، ستتمنى لو أنك تمتلك عصًا سحرية كتلك التي في الرسوم المتحركة ما أن توجهها لمُقعد حتى يقوم ماشيا على قدميه، ولأنك لا تملك من أمرك ولا من أمرهم شيئًا ستكتفي لنفسك ولهم بالدعاء، حينها ستكون أكثر إنسانية ورحمة.

تجربة مع الموت: وصايا وعبر (4)

ما مررت به من تجربة مرضية خلال الأيام الأولى[1] وما تضمّنته من اختلاط المشاعر، وتزاحم الخواطر، حيث تمنيت لو أستطيع أن أمسك بكل شعور أو خاطرة وأدوّنها، إلا أنّ شعوري الأساسي الذي تمسّكتُ به وتحدثت عنه كثيرًا هو الشعور بقوة السند الذي آوي إليه، قوة الله عز وجلّ، فقد آويت “إلى ركن شديد”، حتى صرت أنظر إلى الدنيا من قمة عالية، وأشعر بتفاهة ما فيها من لذّات ومتاعٍ زائل، كما جَسَّدَها الباري عز وجل بقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد:20] ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد:26]، ﴿وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:35] ولم تَعد الكلمات تفي وصف بؤس وفقر هذه الحياة الدنيا، خاصة إن انطلق الإنسان من شعوره تخيلوا هذا بالنظر باستخفاف إلى كل ما حوله وكأنه في قمة السماء.

إنّ العبد الذي يلوذ بجناب الله عز وجل يأوي إلى ركن عظيم ذي مَنَعة وعزة وغنىً مطلق، وبذلك فإنه يصبح عبداً ربانياً ﴿وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران:79] فإن مات أو عاش، أو شُفي أو مرض، فإنما هو في قبضة الله عز وجل ومُلْكه، بين يدي عظمته وجبروته، لم يبق ثمة دنيا وآخرة، وموت وحياة، بقي الله عز وجل وحده ﴿وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:27]، وعبده المدلل المستكين بين يديه، المستسلم لأمره، المستميت أمام عظمته، يبدو كالطفل الضائع الهائم الذي وجد حضن أمه.

الإلحاد وسؤال الموت
حين كان يأتيني الشعور بحال العبد المؤمن بالله عز جل في تلك اللحظات، كنت أتسائل بحال الملحد، ما هو حاله ولمن يلجأ ويلوذ؟ وبمن يستجير في هذه اللحظات الصعبة؟

لا يستطيع الإنسان أن يتكبر ويتنكر في هذه اللحظات، مهما كان متجبراً ومتكبراً، لا بد أن تستيقظ في داخله عبوديتُه شاء أم أبى؟ اختيارا أو اضطرارا، لا بد أن يستيقظ ضعفُه، وتستيقظ هويتُه اليائسة، وتصحو طبيعته البائسة الحزينة، ربما يستطيع أن يستمر في التجاهل والنكران، ولكن إلى متى؟  لن يستطيع الاستمرار، لا بد أن تدمعَ عيناه، وتخورَ قِواه، ويستسلمَ لضعفه، ويبدأ بالبحث عن الملجأ والملاذ، كما قال الله عز وجل: ﴿حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]

إلى من تلجأ في مثل هذه اللحظات حين يحيط بك الموت أخي الملحد؟

في الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التنبيه إلى أن الملاحدة نوعان، نوع متكبرٌ، متجبرٌ متعالٍ على قضية وجود الإله، ومتعالٍ على الحقيقة، فلا يبحث عنها ولا يهتمّ لها أصلًا، بل وضعَ بينه وبين الحقيقة سدًّا من الكبر والطغيان، فنرى بعضهم -لشدة طغيانه- يطلب من الله عز وجل أن يَرميَ به جهنم، وأنه لا يريد معرفة الحقيقة ولا تهمُّه .

ونحن إذا نظرنا في القرآن الكريم سنجد أن هذا النوع من الملاحدة والكفرة المتكبرين هم الذين يُبكِّتهم القرآن ويتوعّدهم، ويتهدّدهم بالعذاب، ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146] وأنه سبحانه تَوعَّدَهم بالإضلال والخذلان، لأنهم يرفضون البحث عن الحقيقة والقبول بها من حيث المبدأ.

أما النوع الثاني من الملحدين فهم الملاحدة المتواضعون الباحثون عن الحقيقة، الذين يبحثون عن أجوبة شكوكهم واسئلتهم بكل صدق، فتراهم يبحثون عن الله بكل تواضع دون أن تحجزهم الأهواء والمصالح والشهوات، وهؤلاء غالبًا ما يصلون إلى الإيمان بالله عز وجل، وغالباً تنتهي حياتهم بالهداية، وعلى كل الأحوال حتى لو ماتوا وهم يبحثون عن الحقيقة بصدق فإن نرجو من الله عز وجل أن يرحمهم وأن لا يُعذبهم، فَنَكِلُ أمرهم إلى الله عز جل فإنه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:23].

هذا النوع من الملحدين هم إخواننا في الإنسانية نرجو لهم الهداية والرشاد، ونرجو من الله عز وجل أن يهديهم، ولو في آخر لحظة من حياتهم، وأن يتوبَ عليهم، ويدخلهم الجنة، فهذا يَسرُّ كل مؤمن، ولا يضيّق علينا في جنة عرضها السماوات والأرض.

لهؤلاء أتوجّه: في لحظات الموت الأخيرة التي لا يبقى فيها إلا الإنسان وهو يواجه مصيره الحتمي والنهائي، ماذا تنتظرون؟ إلى من تلجؤون؟ بمن تستجيرون؟ كل الذين كانوا يحبونكم ويحترمونكم سيقفون بعيداً عنكم، سيقولون: لروحه السلام، أو لروحه الخلود أو غير ذلك ثم ينسونكم؟!

كل الذين أشادوا بكم وبإلحادكم، وأجزلوا لكم الوصاف كلقب المفكر الكبير، والفيلسوف العظيم، والشجاع المتمرّد ضد المعتقدات البالية، أين هم الآن؟

كل هؤلاء انتهى دورهم، وأصبحتم وحدَكم في مواجهة الحقيقة، فماذا أنتم قائلون؟

إن حقيقة الموت تتسامى على كل حقائق الحياة الماديّة، وفي خوضها لا تنفع المكابرة والمغامرة، إذ إن سلطان الموت طائل كل مخلوقات الدنيا، فلا مفر منه. 

ليس العدم هو المصير، فهو نقصٌ لا يليق بمبدأ وجود الإنسان، ولا بعدل الله، وما حبانا الله عز وجل به من نعم ودلائل وبراهين، فكيف يليق العدم إذا ما انتقل العقل إلى رحابةٍ أوسع من التفكير بالكون وعظمته وتاريخه وما يحمله من دلائل وعبر وعقل وعظمة ؟!

العدل والحياة الدنيا
لم يَعِدِ اللهُ عز وجل الإنسانَ في نصوص وحيه بأن الدنيا ستكون دار العدل والخير المطلق، بل جعل ذلك للآخرة ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر:39] ولمْ يَعِدْ ربنا سبحانه بأن الحياة الدنيا ستكون هي الحياة الحقيقية النهائية بل الآخرة  ﴿ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:64] إذن فإن ربنا سبحانه وتعالى منسجم مع رسله وأنبيائه وتعاليمه التي أرسلها لكل رسله وأنبيائه بلا تفريق بينهم، على مدى كل الشعوب والأنبياء والأمم .

ومن ثمّ ندرك ههنا أهميّة وصف الدنيا بأنها دار ابتلاء واختبار وامتحان بكل ما يتضمنه ذلك من قسوة وصعوبة، إذ ربما لا تحتملها العقول والقلوب، أما الآخرة فهي دار الجزاء، دار الكمال والعدل والسعادة المطلقة.

فما يبحث عنه الملحدون ويطمحون إليه من القيم المطلقة كالعدل والسعادة هو عين ما يبحث عنه المؤمنون بالله، إلا أنّ يقيننا وإيماننا يخبرنا أن هذه الأمور سنراها في الدار الآخرة في ضيافة رب العالمين ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54- 55] هناك القضاء العدل والسعادة الأبدية، والشعور بالرضا والطمأنينة:﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر:75] وهناك الكثير من الأشياء التي لا نعلمها والتي لم تخطر لنا على بال ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17] وفي الحديث الصحيح : ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) ([2])

أخي الباحث عن الحقيقة وإن كنت ملحدًا، حتى لا تبقى وحيداً فريداً في مواجهة سلطان الموت، تتلفّت باحثًا عن النجاة والمعنى، باحثاً عن نفسك وإنسانيتك التي أهملتَها وضيَّعتَها، لا تزال هناك فرصة أمامك، فالله عز وجل يريدك، ويمدُّ إليك الخير وحبله المتين لينتشلَك من وهدة الضياع والشرود والضلال، وما عليك إلا تتَمَسَّكْ به وستجد أنك أقوى، وأنك ذلك الإنسان العظيم الذي كان ضائعًا، وأنك وُلدتَ من جديد.

وأختم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ )) ([3])   لو يعلم الملحد كم في هذا الحديث من المعاني التي ترفع من شأنه، وتُعلي من إنسانيته، وتَشُدُّه إلى ربه، لذاب خجلاً من الله عز وجل، وعاد إليه باكياً نادماً جاثياً بين يديه، حاثياً التراب على رأسه .


الهوامش

[1] كتبت هذه الخاطرة في 6/12/2020 –  – الساعة التاسعة ليلا – الأحد. مشفى مدينة كلس التركية

([2]) صحيح البخاري (4/ 118)3244، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة .

([3]) صحيح مسلم (4/ 2104)7 – (2747) ، باب: في الحض على التوبة والفرح بها .

تجربة مع الموت: وصايا وعبر (3).. الغنى بالله عز وجل

هل مررتَ بتجربة ضياع العبارة والعجز أمام المشاعر التي تجتاح قلبك؟ وهل استشعرت يومًا حقيقة احتياجك لله وعجزك أمام ما تمرّ به من بلاء وصدق تضرعك لربك؟ وهل وقفتَ يومًا أمام جلال صفات الله عزّ وجلّ لتأخذ منها.

عجز اللغة أمام المشاعر:
مشاعر دفينة انتابتني أثناء لحظاتي الصعبة في الخوف الموت، وقد وقفت لغتي عاجزة جدًّا عن وصف ما أريد البوح به، ولعلي وجدت أن اللغة قد تُشوِّه المعاني التي أريد إيصالها للقارئ الكريم وتسيء إليها، ولكن لا بد من المحاولة.

لقد حاول بعض كبار العلماء من الصوفيّة أن يوصل مشاعره الجيّاشة مع الله عز وجل للناس، لكي يستفيدوا منها فلم يستطع، وعجزت اللغة عن ذلك، وأدّى ذلك إلى اتهام بعضهم بالضلال والزيغ، ومن ثمّ كان تخوَّف الإمام الغزالي رحمه تعالى من اللغة، وتردّد في التعبير عن تجربته الوجودية حتى لا تُفهم خطأً، وقرَّر أن يكتفي بالتصريح بما ينفع الناس ولا يختلفون حوله، ومع ذلك لم يسلم من ألسنة الناس وانتقاداتهم.

 يمرّ الإنسان في مثل هذه اللحظات بمشاعر متتابعة متناسخة ينسخ بعضها بعضًا بشكل هائل السرعة، يصبح فيها الإنسان عبارة عن كتلة من الخواطر والمشاعر، جيوشًا تتصارع في داخله، ويحاول كلٌّ منها أن يتغلب على الآخر، والموفَّق من يوفقه الله عز وجل لكي يحطَّ رحاله في أعتاب الله عز وجل، ويلقي أعباءه بين يديه، ويرتمي بين يديه لا يرتضي به بدلا.

ضرورة الاستسلام المطلق لله:
إن أهمّ شعور بدأ يسيطر عليَّ هو شعور الرضا بالله، والطمأنينة به، والغنى به عز وجل عمّا سواه، وشعرت آنذاك بأن المكتفي بالله لا يشعر بأحد بشرًا كان أو دنيا، ولا بألم أو بخوفٍ، لقد سيطر عليَّ حديث النبي ﷺ : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل لك، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليك ، رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصحف )) ([1]) .

هذا الشعور بفضل الله عز وجل جعلني أشعر أن كل من حولي هم أدوات، وأن الأمر محسوم، فإن كتب الله عز وجل لي النجاة من الموت فلن يضيرني البشر كلهم، ولو اجتمعوا، وإن كان الله عز وجل كتب لي الموت فلن ينفعني أطباء الدنيا وأدويتهم ولو اجتمعوا .

هذا الشعورُ له علاقة بلبّ العبودية، فحين يكون الإنسان بين يدي ربه وفي قبضته، فإن شعوره الصادق بالانكسار له، نعمة عظيمة يجهلها الإنسان، إذ إن العبودية لله عز وجل شرفٌ وكرامةٌ ورفعةٌ وعظمةٌ.

أصبحتُ أُردِّدُ قول الإمام الشافعي في أعماق نفسي، وأترنم به في وسط الألم والشدة:

وَمِمَّا زادني شرفَاً وتِيْها                               وَكِدْتُ بأخمصي أَطأُ الثُّرَيَّا

دخولي تحت قولكَ ياعبادي                   وأَنْ صَيَّرْتَ أحمدَ لي نَبيَّا

شعوري وانفعالي بالعبودية لله عز وجل، والغنى به والاستكانة إليه، جعلني قوياً قوةً هائلةً بقدر شعوري بعظمة الله عز وجل وجبروته وكبريائه، وكلما تحققنا بعبوديتنا لله عز وجل كنا أقوى وأعظم، وكلما تشرَّبنا ذرات هذه العبودية كنا أعز وأقوى

الاستمداد من صفات الله عز وجل
أليس الله عز وجل عظيما عظمة لا حدود لها؟ أليس حين نكون عبيداً حقيقيين له نَستمدُّ عظمتنا منه عز وجل؟ فقس إذن أيها المؤمن أيها العبد نسبة عظمتك (الدنيوية) بعظمة الله جل وعلا.  أليس الله عز وجل عزيزًا عزة لا حدود لها؟ ونحن عبيد الله عز وجل نستمد عزتنا منه سبحانه وتعالى ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [ المنافقون: 8 ]  فقس أيها المؤمن أيها العبد المؤمن نسبة عزتك (الدنيوية) على نسبة عزة الله اللامحدودة … حين ذاك ما مقدار عزتك وعظمتك؟!

وهكذا إلى كل الصفات التي نستمدها من الله عز وجل حين نكون عبيداً حقيقيين له، كم هي رائعة العبودية، كم تجعلنا عظماء بين البشر، وأقوياء بين البشر الضعفاء، وكاملًا بين البشر الناقصين، وغنياً بين الفقراء وإن كانوا ذوي مال ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15 ] إن عبودية الإنسان لله عز وجل كمالٌ على المستوى البشري والأرضي والدنيوي، ومن هنا جاء قوله سبحاني، فهو يُمجِّدُ عبوديتَه لله عز وجل، ويعتزُّ بها، ويفتخر بها، إنه تعبير مطلق عن الغنى بالله، والقوة بالله، والرضا بالله، والاعتزاز بالله جل وعلا. 

يكفي أن يفكر الإنسان قليلا في قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [ سورة الملك: 1 -2 ] . هذه الآية التي يقرؤها الكثيرون منا ربما كل يوم، فالله عز وجل مالك الملك والملكوت، وبيده العظمة والجبروت، وبيده مقاليد السماوات والأرض، وبيده الموت والحياة، وبيده النفع والضر، وبيده الدواء والمرض، والشفاء، فما بالنا نلتفت إلى غيره، ونطلب من غيره، ونلجأ إلى غيره، وهو (بيده الملك ) ( وبيده الخير ) ( إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ) فمن غفلتنا وجهلنا نلجأ إلى سوى الله عز وجل .

تخيلوا عبداً لملك من أعظم ملوك الدنيا، هذا العبد هو المـَدخل لهذا الملك، فما يقوله للملك ينفذه الملك، وهو الذي يُدبِّر للناس أمورَهم ويخدمهم، ويقضي شؤونهم وحوائجهم في كل شيء، كيف ستكون نظرة الناس إليه؟

سيكون شخصا عظيماً كبيراً عزيزا ًيتسابق الناس إلى طلب رضاه، والتقرب منه، والتزلُّف إليه، لكنه في النهاية عبدٌ لملك دنيوي يمكن أن يزول في أي لحظة، فما بالكم بعبد العظيم، عبد الجبار، عبد الحي القيوم، قيوم السماوات والأرض، جبار السماوات والأرض ؟!  وحين يكون العبد حقيقيّا لله، فإنه سكون سيَّداً مسوَّداً في الكون .

وهذا معنى قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾  [ الإسراء: 70 ] هذا هو معنى التكريم الإلهي، و التفضيل الإلهي للإنسان، وكلما اقترب الإنسان من ربه كلما كان عظيماً في الدنيا، عظيماً في عبوديته،  وهذا هو معنى الخلافة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [ البقرة: 30 ]  

خليفة لمن؟

تخيلوا ذلك جيدا بعمق قلوبكم، خليفة لله عز وجل، ولو ذهبنا نتأمّل في معنى الخلافة، وصلاحيات الخليفة، لضاق الحديث ودَقَّ إلى مضائق صعبة، قد يضل التعبير عنها ، وتعجز اللغة عن وصفها.

إن العبودية باختصار: الاستماتة بين يدي الله، والتفويض المطلق له، ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚإِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [ غافر: 44 ]، الاستكانة في أعتابه، والارتماء في أبوابه، ثم يتحول ذلك إلى: الغنى المطلق بالله عز وجل، والرضا بالله، والاعتزاز بالله  والقوة بالله، فيصبح العبد: بالله، وفي الله، ولله .

5/12/2020 .  – مشفى كلس .


[1] سنن الترمذي ت شاكر (4/ 667)2516 .