معضلة صناعة المحتوى الإسلامي على مواقع التواصل الاجتماعي

على الرغم من كثرة انتشار قنوات الفِكر والدعوة والتعليم الديني على الإنترنت، إلا أن صانعي ذلك المحتوى يعانون من تحديات شتى لا يعلمها إلا من له سابقة خبرة في ذلك، وهذه التحديات تتنوع بحسب المشكلات التي يتعرض لها صانعو المحتوى الإسلامي على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يبدأ أحدهم في تقديم محتوى معيّنٍ، نظرًا لوجود تخصّص علميٍّ أو ثقافةٍ واسعة فيما يقدّم، وهو لا ينوي إلا خيرًا، ثم يُفاجأ أن اسمه قد سُحِب إلى صراعات وعداوات لا قِبَل له بِها، ولا مطمح له في خوضها! فبِمَ التَعلُل؟ وما الِعلَّة؟ وكيف الخَلاص!؟

طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي

على الرغم من سهولة وكثرة انتشار المحتوى الثقافي أو التعليمي على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هذه المواقع هي مواقع ترفيهية في الأساس، والملاحَظ أن انتشار المحتوى التعليمي المُزخرَف بشيء من الترفيه عبر حيل المونتاج وخِفة مقدم المحتوى إنما تأتي لتتماشى مع الذوق الترفيهي العام، كما هو الحال فيما يُسمى بـ”برامج تبسيط العلوم“.

بناءً على ذلك يمكن القول: ثمة وجود واضح للمحتوى الديني على مواقع التواصل، إلا أننا ننصدم بكون كثيرٍ من جوانب هذا المحتوى تصادميّة وجَدليّة، تحمل في مجملها شعارات (الرد) على فلان و(تبيين حقيقة) فلان والدعوة لمناظرة فلان وفلان، و(مباهلة) فلان.

وللأسف، فإن طبيعة مثل هذا المحتوى تتماشى تمامًا مع طبيعة مواقع التواصل، فهو في حقيقته محتوى ترفيهي لا يبني علمًا ولا يوقّر دعوة؛ حيث إنه يداعب مشاعر الانتصار للذات وشهوة التكبر عند الجمهور المُشاهد، وذلك في حد ذاته مندرج تحت أبواب واسعة من أهداف الترفيه، فهو أشبه بمشاهدة مباريات كرة القدم التي يهتز فيها الجمهور فرحًا عندما يفوز فريقه!

أما طبيعة الإسلام ذاته، فهو دين يحث على العمل النافع ويذم اللغو الفارغ عمًلا بقول الله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا} [الكهف: 110]، ويحث على العمل الجماعي لا الفردي في الأساس، كما في قول رسول الله: (عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ) [أخرجه الترمذي في سننه]،  ويحث على الجد وترك الهزل، كما في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له)، وقول الله جل وعلا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُون} [التوبة: 105].

وليس غريبًا أن الإسلام جعل من مقاصده الاجتماع على الخير ونبذ الفرقة كيفما أمكن، فقد أمر الله تبارك وتعالى هذه الأمة بالاجتماع والائتلاف ووحدة الكلمة ورص الصفوف ونبذ التنازع والتفرق والاختلاف وترك الشقاق والتفرق والتحزب، كما أوضح في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

كل ما سبق من طبيعة الإسلام، يُخالف طبيعة مواقع التواصل التي تقتات على الترفيه والهزل والفُرقة والجدال والصراع؛ وبناءً عليه، فإن طبيعة تعاليم الدين ومقاصده الكلية تتناقض مع طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي ومقاصد إنشائها، ومن ثمّ فإنه قلّما اشتُهِر أحد من صناع المحتوى الإسلامي إلا وكان له حيداتٌ عن الطريق القويم الذي رسمه الإسلام في خوض واضح بما دأبت عليه مواقع التواصل من التنازع والسعي للشهرة  وتحشيد الجماهير بما يحفّزهم تجاه الآخرين ولو بالكذب!

ما يطلبه المستمعون!

لعلكم سمعتم بالبرامج الإذاعية والتفازية التي اشتهرت بتوفير ما يطلبه المشاهدون والمستمعون من أغانٍ ومقاطع علمية وغيرها من الطلبات التي تندرج تحت هذا النمط.. إننا لو أردنا الآن إسقاط هذه الظاهرة من البرامج على واقع وسائل التواصل، فسنجد التطابق والتوافق كبيرًا.

عادة ما يبتعد المستمعون عن طلب المحتوى التعليمي الجاد الذي قد يستلزم متابعة محاضرات طويلة في سلاسل منظمة تأخذ من أعمار مشاهديها أسابيع أو شهورًا طويلة، ولذا نرى معظم هؤلاء المستمعين يميلون لطلب ذلك المحتوى الذي يُشعرهم بالانتصارات الوهمية الزائفة كطلب أغنية معينة، أو مقطع مخصص من برنامج شهير في الرسوم المتحركة.

مثل هذا المحتوى نراه لدى صانعي المحتوى الذين يبحثون عن عناوين رنّانة لترويج محتواهم ولو كان ضد التأطير العام للأمر الإلهي، فنراه يتعمد التشهير بأحد الدعاة فيقول: (الرد على فلان) و(تبيين حقيقة فلان).. إلخ.

إن الغاية من مثل هكذا محتوى كالغاية نفسها من برامج “ما يطلبه المشاهدون والمستمعون” وهو تغذية مشاعر النصر عند صانع المحتوى ومتابعيه على حدّ سواء؛ في توضيح مباشر لكون جذر أهم الأزمات لدى المسلمين هو التعامل مع الخلافات الفرعية بين المسلمين على أنها شرارة حرب، أو الإصرار في عدم التفريق بين محاربة الفِكر ومحاربة حامِلِيه، وهي أزمة منهجية عميقة في الأساس، تنبني على أساس التوهم بأن الفكر سيسقط بالتشهير بمن يحمله من المفكرين، فيكون الكذب عليهم أو حتى إهانتهم هو من جملة ما يُدافَع به عن الدين!

عدوًا من المجرمين

لم يشهد التاريخ إصلاحًا فكريًا أو ثقافيًا حقيقيًا إلا بمعالجة الجذور، ولا يكون ذلك إلا بالتعليم وبناء العلم بالتدرج عبر منهجية رصينة معتبرة على مدار العصور، فلو كان حامل اعتقاد ما يسعى لنشره ودحض غيره في نفس الوقت –حين الحاجة لذلك– فإن عليه أن يدعم اعتقاده بأدلة وبراهين شتى، وأن يدحض الفكر المخالف بكشف افتقاره إلى الأدلة، وبذلك يقدم أعظم خدمة لما بين يديه من فِكر..

أما عن عداوة صانع المحتوى الإسلامي المعاصرة، فإن المضحك المبكي هو أن العدو الأول سيكون من صفوف المسلمين! وعليه فإن على كل من تصدر العمل في شؤون الفكر والدعوة الإسلامية أن يتوقع أن اسمه سوف يُجَر في صراعات وعداوات لا محالة، وذلك بسبب طبيعة المواقع التي يُصنف غالب مستخدميها من عُشاق الفتن والانتصارات الوهمية لا من طلبة العلم الجادين.

يجب على من يحمل رسالة أن يبدأ مسيره في البحر هادئًا، ولا يغرنه هدوء بحر مواقع التواصل؛ لأن العاصفة آتية لا محالة، وليس المطلوب من كل ذي رسالة أن يترك ما بدأ انشغالًا بكثرة من سيحاولون سحبه إلى صراعاتهم الضيقة، بل المطلوب هو توقع مجيئهم ومعاداتهم له، ليتصرف معهم على النحو الذيي تقتضيه الحكمة وواقع الحال.

وأهم من ذلك كله، ألّا يكون ظهور الأعداء داعيًا للمحيد عن وِجهة الرحلة، بل على المرء أن يجدد نيته مرة تلو المرة ليكمل المسير في رضا الله وتحقيق الخير والعلم للعباد، وأن يعلم أن التخاصم والتنازع بين الناس من طبيعة الحياة كلها لا طبيعة مواقع التواصل فحسب، وهو ما أوضحه تعالى حين قال: {وكذلك جعلنا لكل نبيًا عدوًا من المجرمين وكفى بربك هاديًا ونصيرًا} [الفرقان: 31].




النسخ في القرآن وفلسفة الإصلاح

النسخ في معناه العام هو أن تنزل آية من القرآن ثم تستبدل آية أخرى، ويكون استبدالها إما استبدالًا كُليًّا أو جزئيًا، ويتضمن هذا الاستبدال -على الأغلب- رفعًا لحكمٍ شرعيٍّ سابق، بحكمٍ شرعيٍّ مُتأخرٍ عنه في زمن نزول الوحي.

وقد ذُكِر النسخ في القرآن الكريم في سورة البقرة، في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106- 107] وفي الآيات إشارة لطيفة إلى أن منزل القرآن هو خالق الكون، وكما أن الإله الخالق للكون هو المدبر الأول فيه ويتصرف فيه كيف يشاء، فهو أيضًا متصرّف في نزول كتابه كيف يشاء، من ترتيب النزول وموعد النزول ونسخ الآيات ببعضها بعضًا.

استيضاح لمفهوم النسخ

ربما يتساءل أكثرنا، ما المقصود بالنسخ وكيف يقع؟

يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية آنفة الذكر: “وذلك أن يتحول الحلال حرامًا، والحرام حلالًا، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، فأما الأخبار فلا يكون منها ناسخ ومنسوخ” [مختصر تفسير ابن كثير]

ومن هنا نستشفّ أن النسخ يقع في الأحكام؛ فهو تبديل في التشريع، إلا أنه لا يقع في الأخبار، وذلك -حاشا لله- يعني أن القائل غير متأكد من مقالته فغيّرها، أو أنّه شاكٌّ فيما يقول، أو أنه خاف من قوله فغيّره، وكل تلك الاحتمالات تنبع من الخوف والتردد ومحض النقص والنقض، وربنا سبحانه وتعالى منزه عن كل هذا بكمال علمه وحكمته.

وفي القرآن أمثلة كثيرة من نسخ الأحكام، سواء في فرض الفرائض أو في طلب اجتناب النواهي، ومنها على سبيل المثال، فرضية الصيام، حيث كان ثلاثة أيام من كل شهر فقط في أول الأمر، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ثم نزلت الآية التي تحدد مدة الصيام وشهره في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهكذا غُيِّر الحكم في الصوم من أيام قليلة شهريًّا إلى شهر رمضان كاملًا.

وجاء تحريم الخمر بتدرُّجٍ بدءًا من قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وصولاً إلى التحريم النهائي في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وجاء تحريم الربا تدرُّجًا كذلك، بدءًا قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] لذمّ الربا ومدح الزكاة، ثم منع الربا وحرّمه قطعيًّا في آيات سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهكذا.

 ما وراء النسخ

قد يسأل سائل: لو كان الحكم الشرعي الأول مختصًّا بمرحلة زمنية معنية في عصر نزول الوحي، ثم حصل نسخٌ ما، بحيث لن تعمل الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة بالحكم السابق اكتفاءً بنص الحكم اللاحق، فلم لا تحذف تلك الآيات من القرآن، بل إن معظم الآيات المنسوخة يبقى المسلمون يرددونها في تلاوتهم أبد الدهر.

يقول الأستاذ فريد الأنصاري في كتابه (مجالس القرآن): “إن هذه الآيات المنسوخة حكمًا، الثابتة تلاوة، علاوة على فائدتها التعبدية من ثبوت أجر القارئ لكتاب الله، هي علامات ظاهرة جعلها الله في كتابه لفائدة التدبر والتبصر، ومعرفة كيف كانت مسيرة الوحي في بناء الأمة الإسلامية تربية وتزكية وتشريعًا. حتى يستفيد الداعية الحكيم قواعد تجديد الدين وأسرار الصناعة في إعادة بناء صرح الأمة، ومعرفة خطوات ذلك خطوة خطوة، من النفس إلى المجتمع، ومن الفرد إلى الجماعة، ومن الشتات إلى الوحدة. إنها معالم لمنهج إعادة البناء والتركيب للمحرك الإيماني الذي به تستأنف الأمة حياتها الشاهدة على الناس. ولذلك كان بقاؤها مرسومة في كتاب الله – رغم نسخ حكمها – كبقاء المفتاح على الأقفال ” [3/317]

ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا: إن السيرة النبوية ليست مجرد تدوين تاريخي جاف لحقبة من الزمن، بل إننا نرى في السيرة فقهًا في أسرار الإصلاح وكيفية احتواء النفوس المعجونة بالشهوات وإقناع العقول المتتبعة للشبهات، وإن نجاح سيدنا رسول الله ﷺ في تحويل مجموعات من أعراب بدو الصحراء ممن يعبدون الأصنام إلى قدوة دينية أبد الدهر ليس مجرد نجاح يُبهر كل منصف مدرك لحجم التحديات والصعوبات التي كانت في طريقه، وإنما شيء أعظم من ذلك وأكبر.

لقد كانت السيرة النبوية بكل ما فيها عبارة عن وصفة إصلاح لكل مصلح شرع في تغيير الناس والتأثير فيهم؛ وإن نجاح المصلح في انتشال عبَدَة الأصنام من ظلمات جاهليتهم إلى نور الإسلام ونقاءه يعني أن أي مصلح بعد سيدنا محمد ﷺ ستكون مهمته أسهل من مَهَمَّته، لأن حجم التحدّيات -بلا شك- ستكون أهون وأسهل.

وهكذا، فإن السيرة يجب أن تتحول في عين المصلح من أحداث تاريخية إلى دورس وعبر تستخلص من بين السطور، ترسم ملامح الطريق، وتوضح سبل الإصلاح، فلن يفهم المرء سبل إصلاح النفس البشرية تلك إلا إذا تأمل كيف تعامل معها الوحي الإلهي بالتدرج، إذ إن الوحي نزل ممن خلق النفس وألهمها فجورها وتقواها!

فريد الأنصاري

 

فلسفة الإصلاح في الإسلام

إن الوقوف عند ظاهر السيرة وحدود النصوص، مع الغفلة عن الرحلة التشريعية فيها وحِكَم الله في تنزيل القرآن منجّمًا ومفرَّقًا على مدار ثلاث وعشرين عامًا وتدرّج أحكامه، ينتج لنا نماذج من البشر يعانون من (تدين المراهقين)، وهي حالة من الحماسة الدينية الزائدة والزائفة في وقت واحد.

هذه الفئة من البشر كثيرو التصادم مع الواقع، لأنهم أبعد الناس عن فهم الحاضر واستخلاص العبرة من الماضي، فهم يحلمون بوجود تغيير لحظي في المجتمع حولهم دون امتلاكهم الحِلم والاصطبار على الرحلة الطويلة من مسايسة شرور النفوس وحظوظها، بل ويغفلون تمامًا عن مبدأ (تدرج التشريع) في الإسلام.

إن المطلوب ليس تطبيق بعض الشريعة دون بعض، أو في تدرج بعض أحكامها في تحليل الحرام حينًا من الدهر، لأن الشريعة قد اكتملت ووجب تطبيقها بشكل كامل بصريح القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208]، فإن تدرُّج التشريع في حالة الأزمان المعاصرة، من المحال لأنه غير مبرر شرعًا، وإنما المطلوب هنا هو تدرّج الإصلاح!

إن النصيحة الدينية في الكثير من الأحيان لا يمكن أن تكون معممة، والخطاب الديني الذي يناسب شخصًا قد لا يناسب آخر، فإن لبعض الناس أهواء أرهقت قلوبهم فلا يكادون يخرجون من وحول الشهوات، وإن توقُّعَ تغيُّر حالهم في زمن قياسي أشبه بتوقع تعافي مدمن مخدرات في بضعة أيام.

ولو أننا أمعنا النظر في نبع التوقعات اللاواقعية والجهل بطبيعة العملية الإصلاحية فسنراها على الأغلب قد جاءت ممن غفل عن مبدأ النسخ القرآني وتدرج التشريع، وإن المصلح الحق هو من يقف عند النفس العليلة فيحاول أن يخرج ما فيها من خير حتى يغلب خيرها شرها، ولو التبست عليه الطرق، فها هو القرآن به من الآيات التي نتلوها ولا نعمل بها حُكمًا، ولكن في وجودها رغم تعطيل حُكمهًا حِكمًا كثيرة. فيكفي أن يمر قارئ القرآن على آيات تتلى ولا يعمل بها حتى يتذكر في كل مرة كيف كانت النفوس العليلة تشفى بجرعات متفاوتة من العلاج.

إن النفوس التي خرجت من الجاهلية لم تكن لتطيق العلاج الثقيل مهما كان نافعًا لأنها غير مؤهلة لاستيعابه، وإن الشريعة لم تُنزَل كاملة إلا بعد سنوات من حمل الناس عليها رويدًا رويدًا، وإن الإصلاح الذي ينبع من رؤية لاواقعية سيفشل لا محالة لأنه ينبع من سذاجة، والإصلاح الذي ينبع من واقعية النظر ومبدأ التدرّج هو إصلاح متين وأقرب للثبات من الانتكاس، لأنه ينبع من طريقة القرآن التدريجيّة في الإصلاح، ويتعامل مع نفوس البشر كما تعامل معها من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.




أمام النظم القرآني.. شبهات في وجه الإعجاز!

يتركز النظر في النظم القرآني على دقة ترتيب الآيات بينها وتناسبها بين بعضها البعض على مستوى وحدة المعنى، أي أن ترتَّب الآيات في السورة الواحدة أو في السور المتتالية بناء على وحدة موضوع الآيات حتى لا يصاب القارئ بالتشتت بين معاني كثيرة لا صلة بينها.

وعلى الرغم من أن المسألة هي محل بحث وتأليف من علماء التفسير على مدار الزمان، إلا أنها أصبحت مثار شبهة عند غير المتخصّصين أو المبطلين من غير المسلمين، ويعود جذر هذه الشبهة -برأيي- إلى مقارنة الأسلوب القرآني في سرد المواضيع بالطرق التقليدية المتعارف عليها بين الناس في الكتابة والسرد، حيث إن تنقّل القرآن بين المواضيع والمعاني مغاير للأساليب البشرية من استخدام علامات الترقيم وفصل الفقرات في المقالة الواحدة وكثرة استخدام العناوين بين الفصول المختلفة، ومن هنا فقد اعتقد البعض أن التأليف البشري أدق نظامًا من الوحي الإلهي!

زيادة على ذلك، فإن الشبهة تنبع من عدم الإلمام بمقاصد السورة الواحدة، وتمام الغفلة يتجلى في عدم معرفة أن لكل سورة شخصية مستقلة تهدف إلى ترسيخ معنى بعينه مهما تغايرت المواضيع والمعاني. وبسبب ذلك تعمى الأعين عن ملاحظة الوحدة القرآنية بسبب الحكم المسبق بأنه كتاب لا وحدة موضوعية فيه.

جهود المفسرين بين الماضي والعصر الحديث

على الرغم من أن الوحدة القرآنية كانت محل بحث بدءاً من عصور السلف إلا أن أغلب المفسرين أسهبوا في التأليف حول علاقة خواتيم السورة بما بعدها، وعلاقة أسامي السور ببعض، ونذكر على سبيل المثال عمل السيوطي في كتابه (أسرار ترتيب القرآن) في أن سورة الفرقان جاءت في الترتيب التوقيفي للمصحف بعد سورة النور، لأن الفرقان بين الحق والباطل لا يكون إلا بعد نورٍ يكشف ما في الظلمة.

صحيح أنّ ما اهتم به السلف لم يخرج عن محاولة استكشاف ما للقرآن من وحدة موضوعية، ولكن أغلب جهودهم كانت حول وحدة مواضيع وأسامي السور بعضها ببعض، ولم يتطرق أحد إلى الوحدة في السورة الواحدة بين الآيات، أما في العصر الحديث – بدءا من القرن الماضي- بدأ بعض العلماء في التأليف في المسألة. ولعل أول من كتب فيها كان الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) حيث أسهب في كتابه لإثبات أن سورة البقرة على كبر حجمها وكثرة مواضيعها بها نظام موضوعي بين الآيات بشكل واضح جدًّا لمن يتفكر ويتدبر.

سعيد حوى (على اليمين)،عبد السلام المجيدي (في الوسط)، محمد عبد الله دراز (على اليسار)

بعد مدة من الزمن ألف الشيخ سعيد حوى كتابه (الرسول) وذكر في فصل “المعجزة القرآنية” وجود الوحدة الموضوعية في القرآن بشكل مختصر، ثم ألّف بحثاً طويلاً -بعد ذلك- في المسألة من ستة مجلدات باسم (الأساس في التفسير) أثبت فيه أن كل سورة مقسمة إلى عدة مقاطع وفقرات تخدم المعنى الرئيس والمقصد الأعلى للسورة، وأن لكل سورة وحدة في موضوعها مهما تفرعت في مواضيع جانبية، وأنه ما ذُكِر موضوع إلا لخدمة المعنى الأساسي المراد ترسيخه. وأثبت في بحثه أن القرآن كله عبارة عن جسد واحد من الوحدة الموضوعية وأنه كله ما هو إلا مزيد تفصيل وبيان لما جاء في سورة البقرة. أي أن سورة البقرة تلخّص المركزيات الكبرى للدين من تقرير العقائد الكبرى وتفصيل التشريعات وتبيان مواقف الناس المغايرة من الدين. أما في العصر الراهن فهناك عدة مشاريع بحثية في المسألة مثل مشروع الشيخ الدكتور عبد السلام المجيدي الذي انطلق في مشروع فكري وتفسيري للقرآن من حوالي ثلاث سنوات فأنهى بمنهجه المتميز تدبره لبعض السور وهي الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء.

 في ظلال من أمثلة القرآن

على الرغم من أن نظم القرآن أوسع من أن يُلخَّص أو يختَصَر في بحث واحد، وأعظم من أن يحيط بكل ما فيه أحد ما، إلا أن جهود العلماء تركت لنا مئات الأمثلة من وجود الوحدة الموضوعية في القرآن، وقد كثر مؤخرًا التأليف تحت هذا المصطلح، ونمثل لذلك ما كتبه المفكر محمد الغزالي للتفريق بين تفسير النص بشكل حرفي وتفسير السورة ككل بشكل إيجازي في كتابه (التفسير الموضعي والموضوعي للقرآن الكريم). ولو كانت الشبهة تثار أكثر في السور الطويلة لكثرة تنوع المواضيع، فإن تبيان أمثلة من تلك السور يثبت وجود الإعجاز ويقوي موقف القرآن أكثر أمام معارضيه.

لقد أفرد عبد القاهر الجرجاني كتابه العظيم “دلائل الإعجاز” للبرهنة على ما في النظم القرآني من وجوه الإعجاز. ولنأخذ مثالاً واحدًا من الآيات القرآنية التي أوردها عبد القاهر الجرجاني مبينًا بعض جوانب الإعجاز فيها، وذلك قول الله تعالى في شأن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]. يقول عبد القاهر:

“إذا أنت راجعت نفسك، وأذكيت حسَّك، وجدت لهذا التنكير، وأنه قيل: {عَلَى حَيَاةٍ} ولم يقل: “على الحياة” حسنًا وروعة ولطف موقع لا يُقْدَرُ قَدْرُه، وتجدك تَعْدَم ذلك مع التعريف وتخرج من الأريحية والأنس إلى خلافهما. والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة، لا الحياة من أصلها.. فكأنما قيل: ولتجدنهم أحرص الناس ـ ولو عاشوا ما عاشوا ـ على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه حياة في الذي يستقبل”.

وإليك مثالًا من سورة البقرة، أقتبسه من كتاب (النبأ العظيم):

“يقول تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 237- 238] فقد يحسبها الناظر اقتضاباً، وما هي باقتضاب إلا في النظر السطحي العابر، أما من يتابع معنا سير قافلة المعاني منذ بدايتها ويقطع معنا ثلثي الطريق الذي رسمته آية البر من الوفاء بالعهود والصبر في البأساء والضراء وحين البأس فإنه لا ريب سوف يستشرف معنا إلى ثلثه الباقي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبذل المال على حبه في سبيل الله وسوف يرى أن هذه الحلقة الثالثة قد جاءت هنا في رتبتها وفي موضعها المقدر لها وفق ترتيبها في الآية الجامعة.

سيقول قائل: نعم لقد جاءت في موضعها ورُتْبتها، ولكن الانتقال إليها قد تم دون إعداد نفسي ولا تمهيد بياني. نقول: بل كان هذا الإعداد والتمهيد في الآية الكريمة التي ختمت بها الحلقة السابقة {وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} فهذه لو تدبرت معبرة ذهبية وضعت في وقت الحاجة إليها بعد أن استطال الحديث في تفصيل الحقوق والواجبات المنزلية، معبرة جيء بها لتنقلنا من ضوضاء المحاسبة والمخاصمة إلى سكون المسامحة والمكارمة فكانت معراجا وسطا صعد بنا إلى أفق أعلى تمهيدا للعروج بنا فيما يلي إلى الأفق الأعلى. ألا تسمع إلى هذه الكلمات {ولا تنسوا الفضل بينكم} فإن كل حرف في هذه الكلمات ينادي بأنها كلمات حبيب مودع كان قد أقام بيننا فترة ما ليفصل في شؤوننا ثم أخذ الآن يطوي صحيفة أحكامه ليتحول بنا عنها إلى ما هو أهم منها، فقال لنا -وهو يطويها-: دعوا المشادّة في هذه الشؤون الجزئية الصغرى، سوّوها فيما بينكم بقانون البر والفضل الذي هو أسمى من قانون الحق والعدل، وحوّلوا أبصاركم معي إلى الشؤون الكلية الكبرى التي هي أحق بأن يتوفر عليها العزم والقصد، وأحرى أن يشتغل بها العقل والقلب، نعم نعم لقد كفاكم هذا حديثًا عن حقوق الزوج والولد، فاستمعوا الآن إلى الحديث عن حقوق الله والوطن حافظوا على الصلاة، وأنفقوا في سبيل الله، وجاهدوا في سبيل الله”

خلاصة القول

لقد استقرّ عند علماء التفسير وعلوم القُرآن أن النظْم القرآني وجه من وجوه إعجاز القُرآن، وهو طريقة الكلام وأسلوبه، وارتباط آي القُرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، متسقة المباني؛ فإن السورة مهما تعددت قضاياها، فهي كلامٌ واحد، يتعلق آخره بأوله وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، وارتباط الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة، بل والسور القُرْآنية أيضًا كذلك، فهو مقابل للشعر، والسجع عند العرب، والقُرْآن معجز بنظمه؛ أي: بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم، فهو خارج عن عادتهم، ومعجِز بهذه الخصوصية التي ترجع إلى جملة القُرْآن، وتحصل في جميعه.




فيتبعون ما تشابه منه

على الرغم من أن الدين كله بُنية واحدة من حيث وحدة المصدر ومقاصده الرئيسة، إلا أن نصوص الدين تتفاوت في درجة وضوحها ومعانيها بين نصوص محكمات -أي واضحة الدلالة- ونصوص أخرى لا يحيط بمعانيها إلا أولو العلم من المتخصصين -أي أنها من المتشابهات-، ولا بد من التأكيد على أن هذا التفاوت لا يكون في مقاصد الدين الكبرى، فأصول العقيدة وأساسيات الشريعة كلها تندرج تحت المحكمات الواضحات التي لا يمكن الاختلاف حولها، وإنما يقع خلاف العلماء دائمًا في تفصيليات الاعتقاد أو الشرائع مما لا يؤدي إلى فُرقة أو تشتت.

بين المحكم والمتشابَه

يقول تعالى في مطلع سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]

يقول الشيخ زَرّوق في كتابه (قواعد التصوف): “وقوع الموهم والمبهم، والمشكل في النصوص الشرعية ميزان العقول والأذهان والعقود”. فالحكمة من وجود المتشابهات أن النصوص التي تثير الشك أو عدم الفهم أو الإشكال، أنه يُظهِر تفريق الناس بين مستقيم ينزعج من سوء الفهم ولكن يصبر حتى يتعلم ويُجاب فتزال الشبهة عنه، وبين المتبع للهوى العجول الذي لا يصبر على الشبهة فيبدأ بالشك أو يتعصب لرأيه ويتسرع في الحكم على الدين كله.

وكما أن النص المتشابه يفرق الناس على مستوى القلوب، فأيضا وجود المتشابه يفرق بين الناس على مستوى العلم، وبالمتشابهات يميز الله الخبيث من الطيب ممن رسخت أقدامهم في العلم وصبروا عليه حتى أوتوه درجات وبين متعالمين يسطحون المسائل العميقة بجهل وتسرع. فالمتشابهات هي حجة الله على الناس أن هذا الدين علم، وأنه لا تفسير لنص مستشكل بلا علم ولا إزالة لشبهة ولا وصول ليقين.

عصر الهوس بالمتشابه

في كل مرة أدخل في حوار مع شخص متشكك يكون له ميل للشك لأنه يعتقد أن اللادينيين أكثر علماً بالدين من عامة المسلمين. وهذا الوهم سببه أن اللاديني لا يُسمِعك ما لا قبل لك به لأنه أعلم منك بالدين، بل لأنه لا يبالي بالمحكم ويبتع المتشابه. وبناء عليه يتخذ اللاديني المعاصر دور المهرج الذي لا يبالي غير بالمشاغبة، أو لاعب الخفة والساحر الذي يفاجئ الجمهور بكل ما هو غريب وجديد عليهم! وهذا في الحقيقة تتبُّعٌ للمتشابهات {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].

أما عن ابتغاء الفتنة فهو تشكيك الناس في دينهم وصرفهم عنه، وأما عن ابتغاء تأويله فهو تفسير القرآن بالرأي والظن لا بالعلم والمنهجية. فمن يتخذ الدين لهوًا ولعبًا، أو وسيلة لإبراز عبقريته الفذة وتفوقه على الأغلبية من المؤمنين، فإنه لا يبالي بالمحكم لأنه لا يبالي بالهداية، وجودها من عدمها لديه سواء، بل كل ما يحلم به هو إثارة الفتن والمشاغبة. فأزمته الحقيقية هي رفض الدين من باب التكبر أو اتباع الهوى أو الحقد على أهله أو حب الدنيا أو غيره.

وبناء على تلك النية العليلة يكون عزمه للطعن والتشكيك والسخرية، ولكن لا يخرج مضمون كلامه عن الرقص حول المتشابهات مع تمام الغفلة عن المحكمات. وبناء عليه، عندما أدخل في حوار مع شخص متشكك يبدأ كلامه بطرح شبهات كثيرة في مواضيع شتى أرفض استكمال الحوار بهذه العبثية، لأن العقيدة درجات من المحكمات الأساسية أولا تبنى عليه بنيان الدين ككل. ومن السخف أن يبدأ الحوار حول ما استشكل فهمه من الدين دون إثبات الألوهية لله وحده، وصحة وجود الغيب، وصحة النبوات، وسائر أمهات العقائد. إذ إن الدخول للدين من باب المتشابه ما هو إلا لهو ومشاغبة، فالهداية في الأسئلة الوجودية الكبرى كلها هي من المحكمات الواضحات.

من العجيب في هذا الزمان أن الدخول للدين من بوابة النص المتشابه ليس دأب اللادينية فقط، بل للأسف الكثير ممن يُعلِمون الناس الدين ينطلقون مع طالب العلم المبتدئ بالنصوص المتشابهات التي كثر الاختلاف حولها على مدار التاريخ. وزيادة عليه، تتحول نية طلب العلم من المنفعة الشخصية إلى وسيلة للجدل والمراء والتصارع مع المخالفين بشكل يصل أحياناً إلى الهمجية وقلة الأدب.

ربنا لا تزغ قلوبنا

وسواء كان من يتبع المتشابه إنسانًا متشككًا أو مسلمًا لا منهجية له في طلب العلم وتعليمه، فإن سبب المشكلة واحد ألا وهو (مرض القلب)! فالإنسان الذي يريد الهداية يجد في المحكَم ما يكفيه، فيبدأ به ليتعلم أصول الدين، ومن يريد أن يستبين سبيل المؤمنين يجد في الشريعة كيفية التعبد على النحو الذي يقربه من ربه. أما اتباع المتشابه فلا يكون إلا للإنسان ذي القلب الزائغ، فلا يبالي بهداية أو استقامة أو انحراف، ولذلك قُرن تتبع المتشابه بمرض القلب، لأنه تفسير للنص ابتغاء الفتنة لا ابتغاء الهداية.

لقد جاء في الحديث الحسن عن الرسول ﷺ: (إذا رأيتُمُ الَّذينَ يتَّبعونَ ما تشابَهَ منهُ فأولئِكَ الَّذينَ سمَّاهمُ اللَّهُ فاحذَروهم) [سنن الترمذي]، فإذا ما تيقن الإنسان في درجات المحكمات الرئيسية من العقيدة سهُل عليه التعامل مع الفرعيات من الشبهات والإشكالات. ولأن هذا اليقين لا يحدث إلا بعد صدق في طلب الهداية بقلب مستقيم لا زائغ، ختمت الآيات بدعاء سلامة القلب حتى يكون المتشابه من الدين هو محل بحث وتعلم، لا محل شك وتكذيب: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}. اللهم آمين..




اقرأ.. وربك الأكرم

لمّا كان القرآن كتاب هداية في الأساس، فإنه لم ينزل ليقيم الحجج العقلية وتفصيل أدلة الحق فحسب، وإنما لوضع الطريق أمام عقل الإنسان للوصول إلى الهدى والخضوع له حبًّا وفهمًا؛ إذ إن هداية الإنسان لا تكون ببيان أدلة الحق ودحض خرافات الباطل ببساطة. فالإنسان ليس عقلا فلسفيًّا جافًّا فحسب، وعملية الهداية ليست مجرد برمجة العقل كما تبرمج الأجهزة الألية، بل إن الإنسان خليط بين عقل ومشاعر. فكل إنسان لديه صراع ما بين العقل والهوى، ولكن يتفاوت الناس في حدة هذا الصراع، ويتفاوتون بين من غَلَب عقله هواه ومن غلب هواه عقله، وعلى قدر غلبة أحدهما يكون إخماد الآخر.

أصل الداء والدواء

يكون الإنسان الذي غلبه هواه أقرب للكفر منه للإيمان، لأنه أصبح أسير نزواته ويبحث عمّا يحقّق له اللذة والراحة، غير مكترثٍ لا بحق ولا بباطل، أما الإنسان الذي يغلب عقله هواه، فيكون أقرب للحكمة والرشاد، وترسم أمامه معالم الطريق وسبل الهداية، لأنه آثر الحق على مشاعره وميوله الشخصية. وقد لخّص القرآن كل سبل الضلال والهداية في آيتَين، بين في أولاهما أن أول طريق الضلال هو الاستسلام لنزوات الهوى، فقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه} [ص: 26]، أما ثانيهما فأشارت إلى أن أول طريق الهدى يبدأ من مسايسة الهوى وحمل النفس على اتباع الحق، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

أشار القرآن إلى أصل الداء ومكمن الخطر، ليخمد سلطان الهوى وليعلي طاقات العقل. ولكن القرآن تفرد عن غيره من الكتب. إذ إن الكتب المعنية بالقضية الوجودية عادة ما تبدأ بنفي رأي الآخر وإقامة الأدلة على المراد إثباته، فهي بذلك جواز سفر للعقل حتى يهاجر بين دروب الفكر والفلسفة. ولكن القرآن كان له مسلك آخر فريد، إذ إنه قبل أن يدعو العقل لحلبة الجدل وصراعات الفكر، بدأ الوحي بوضع العقل في مواجهة أمام نفسه، وقبل أن تتخطّف علامات الاستفهام ذلك العقل فترهقه، فليقف العقل أولًا ليسأل ذاته، من أنا!؟

{اقرأ باسم ربك}

اقرأ، وانطلق في قراءتك من اسم الله الخالق، إذ إن القراءة لا تبدأ من لا مكان، فلا بد للقارئ أن يبدأ من أرضية ما تكون هي نقطة البداية والانطلاق. فالإنسان الملحد يؤمن أن عقله نشأ من عملية تطورية صدفية عشوائية، ومن ثم، تصعب عليه الثقة في عدد من مبادئ العقل كـ السببية وقبول النقيضين، وقضيّة أن البعض أصغر من الكل، لأن المسطرة التي لم تجد من يصممها ويضبط معياريتها قياساتها باطلة ولا شك!

أما المسلم، فقراءته لا تبدأ إلا من نقطة (الإيمان اليقينيّ) وهو الثقة في وجود إله صمم هذا العقل وأحكم مبادئه العقلية، فتكون الثقة في صفات الإله الذي صمّم العقل هي المرجعية التي على أساسها يثق الإنسان في أحكام عقله وآرائه الشخصية وحكمه على الأمور بين صواب وخطأ وحق وباطل.

من هنا، لا مكان للقراءة إلا إذا نبعت من إيمان مسبق وثقة في العقل ويقين في صفات مصمم هذا العقل! وأي قراءة لا تبدأ من هذا الاعتقاد إنما هي محض عبث، إذ إن الآية تأتينا بصيغة الماضي (الذي خلق)، فالإنسان كان المرحلة الأخيرة في قصة الوجود، بعدما كان الله، فخلق فسوى، وقدر فهدى، فالإنسان جاء متأخرًا ليقرأ عن تفاصيل ما خلقه الله، ودقة تقديره. ولا يمكن لقارئ أن يبدأ في القراءة، إلا إذا انطلق من هذه المسلمات. (وجود إله صمّم العقل)، ثم (هذا الإله خلق الكون وأحكم مخلوقاته وفق قوانين وسنن ثابتة مطردة يمكن دراستها)، ثم (القراءة لكشف ما حدث في الماضي من خلق الخلق وتصميم القوانين، ولكنه لم يدخل في مخزوننا المعرفي بعد).

والإنسان بفطرته يسأل في الوجود بدلا من السؤال ألف، ولكن أكثر سؤال وجودي يلح عليه، هو وجوده الشخصي (من أنا؟). ولا يرضى بالإجابات السطحية من تبيان النسل والسبب المادي من علاقة جنسية بين الأب والأم. فأول ما نزل من الوحي طرق أكثر سؤال أرّق الإنسان أول ما دب على الأرض، من أنا؟ من أين؟ وما الذي حدث؟

من علق

ينتقل القرآن في السياق إلى قول الله تعالى {خلق الإنسان من علق} [العلق: 2]، ففي هذه الآية إشارة إلى أصل الإنسان المادي. ولكنها في نفس الوقت تشير إلى العملية التكوينية التدريجية في الإنسان كما ذكرت في القرآن في غير موضع. وهي بشكل غير مباشر، تشير إلى خط النهاية الذي تنتهي عنده القصة، وهي طبيعة الإنسان البالغ وحقيقته المادية، ومدى تفاعله مع بيئته وهذا الكون المادي المحيط به. ومن هنا، يتفكر الإنسان في حواسه المادية وطبيعة عقله وحدوده. فالإنسان يسمع ويرى، ولكنه سمعه وبصره محدود جدًّا بالنسبة للمجال السمعي والبصري لكائنات أخرى. ولو كان الإنسان قادرًا على أن يسمع ويرى، فهو في النهاية مقيَّد بحدود موقعه الجغرافي، ولو تحكّم الإنسان في موقعه ووقف على مرتفع شاهق ليوسع مجال بصره، فهو في النهاية مقيد بمحدودية حواسه الخمسة!

وعندي أن إدراك طبيعة الحس وحدود العقل عند القارئ أهم وأولى ما يبدأ به؛ لأن الإنسان الذي يغوص في بحار المعرفة دون أن يحكم موقفه الإبستيمولوجي واهم، إذ أنه لا توجد معرفة من لا مكان، والإنسان شاء أم أبى، شعر أم لم يشعر، يقرأ انطلاقا من موقف معرفي ما، حتى لو لم يقرأ عن الفلسفة سطرا. ومن يدّعي التبرّؤ من موقف ما في نظرية المعرفة هو يلعن الهواء الذي يتنفّسه، فحتى من يدّعي نسبته إلى السفسطة متناقض، لأن (إثبات أن السفسطة حق) يعني أن المعرفة ممكنة، وأن الإثبات والنفي ممكن!

المعرفة بين الأساس والسلوك

وفي التطرق إلى أسس المعرفة في أول آيات الوحي حكمة بالغة، لأن الإنسان بطبعه يميل إلى الكبر والغرور وبالفرح ما أوتي من علم كما بين القرآن في غير موضع، كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] وقوله تعالى: { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ} [غافر: 83] وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس:24] وقوله: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِۦ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39]، ولو غرق الإنسان في العلوم والمعارف عن الكون والحياة قبل أن يعلم حدود عقله ومحدودية حواسه وقلة علمه لتمكّنت أوهام العظمة منه! ولأنكر الغيب ببساطة أنه لا يراه بحواسه، ولنظر إلى الأقدار الإلهية وهو خصيم مبين لمجرد أن عقله لا يفهم منتهى الحكمة. فالإنسان الذي يظن أن عقله قد أحاط بكل شيء علما لا يمتلك مساحة للتصالح مع أي فجوة معرفية بداخله، بل إن إحالة تلك الفجوة إلى الخرافة والعبثية هي هوايته ودأبه.

فمن يعتقد في عقله المحدودية يمتلك مساحة للتواضع أمام المطلق، أما من يعتقد في عقله الإطلاق يسعى جاهدا لتسطيح كل ما هو أعمق من فهمه، ولعن كل ما ابتعد عن علمه! وعندي أن إشارة القرآن لطبيعة الإنسان ومحدوديته هو لحفظ الإنسان الذي يوشك على القراءة من أكبر منزلق قد يلقي به في ظلمات الضلال، وهو الكبر!

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] وبحسب ما فسرها ابن عباس: عظمة لم يبلغوها. أي أن يعتقد الإنسان في نفسه مكانه هو في حقيقة الأمر أقل منها وأحقر!

ولا يصل القارئ إلى تلك المرحلة إلا بعدما يبدأ بالقراءة عن كل شيء، قبل أن يقرأ عن نفسه هو. ففي الآية، نجد أن الإنسان هو القارئ الذي يقرأ عن نفسه، فيكون هو الدارس والمدروس! وهو الذي يرتل قوله (خَلَقَ الإنسانَ) [العلق: 2] في حين أنه هو الإنسان. فيخرج عن ذاته ليرى نفسه كأنه غائب، أو كأنه من فصيلة أخرى. ومن هنا فقط يتحرر من أسر بصره وطباع جبلته ودونية طينيته التي تهبط به إلى الأرض، ليرى ذاته بعين الواقعية الحق، التي لا تجامل ولا تداهن! ويدرس حواسه وعقله ويكأنه يدرس كائن ما من فصيلة نادرة. ويخلص لحقيقة نفسه فور علمها، قبل علم أي شيء، وقبل أن يحترف الإخلاص للأشياء!

وربك الأكرم

فالقارئ الذي بدأ بالقراءة عن حقيقة نفسه هو الأكثر حكمة، والأنضج وعيًا. والقارئ الذي بدأ بالقراءة عن كل شيء عدا حقيقته هو الأقرب للغرور والأكثر كبرا!

ولما كانت قضية الهداية والضلال رهن موقف الإنسان من هواه وأمراض قلبه، أصّل القرآن للدواء النفسي والمعرفي في أول ثلاث آيات من الوحي. ففيها سلامة الصدر من الكبر والتحقق بالتواضع، ويكفي بتجرد الإنسان من ميوله لنفخ ذاته ليرى نفسه على حقيقتها مجاهدة للنفس وزهد في اتباع الهوى. وعليه مدار الهداية والضلال.

ويكفي بما فيه هذه الآيات الثلاث من تأصيل إبستيمولوجي لموقف الإنسان من القراءة والمعرفة. هنا فقط، تكون القراءة ذا نفع. وتقلّ قصص من ضلوا بسبب ما قرأوا، وتزداد قصص المهتدين بالقراءة. ومن بين كل أسماء الله الحسنى، يتجلى اسم الله (الأكرم) لا اسم الله (الكريم). إذ إن الأكرم هو اسم تفضيل من وسع الكرم. إذ أن القارئ يقف على باب الكرم الإلهي بين توفيق في الفهم، وإرواء ظمأ الفضول، والإرشاد في عالم تتخطّفه الظلمات.

وتظل الدعوة قائمة، في أبدية القول الإلهي: {اقْرَأْ، وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.




ما بعد العالمانية بين الغرب والشرق

عندما سقطت هيبة الكنسية في الغرب تزامنًا مع تمدّد أفكار عصر التنوير، نشأت بذرة العالمانية في الأوساط الغربية. وعلى الرغم من قوة سلطانها في بداياتها، إلا أنه فشلت في تحقيق (العالمانية الشاملة)، لأن الجموع الغربية لم تتخلّ عن الدين بشكل كُلي. كما أن الحصاد المُر للعالمانية في الغرب أدى إلى اعتراف بعض علماء الاجتماع بفشلها في الانفصال الكامل عن الدين، ومن ثم نرى أنّ الغرب يمر بحقبة جديدة تسمى (ما بعد العالمانية)، وهو مصطلح يعبر عن مدى طغيان السلطان الديني على المستوى الثقافي وحضور الدين بين الناس، على الرغم من الفصل الرسمي والهيكلي بين المؤسسات الدينية والدولة.

أين أخطأت العالمانية؟

إن حلم العالمانية الشاملة لم يتحقق في الغرب لأنه كان حلما كبيرا، ولكنه اختزل سبل تحقيقه بفصل سلطة الكنيسة عن التشريع والتقنين. وحين عُزِل الدين عن التحكّم في تفاصيل الحياة، لم تنفصل الجماهير عن الدين بشكل شامل؛ إذ يعَدُّ الدين -بالنسبة لكثيرين- المرجعية الأخلاقية، وسبيل الإشباع الروحي، ونوعًا من احترام الورث الثقافي من الآباء.

ومن هنا، لم يمتلك كل إنسان الجرأة حتى يخرج من التدين إلى العالمانية تماشيا مع دأب عصره، واكتفى الكثيرون بتغيير مذهبهم إلى المذهب البروتستانتيّ، أو أي مذهب مسيحي أكثر انفتاحا من المذهب الذي كانوا عليه.

وعلى الرغم من محاولة إقصاء الدين عن الحياة، إلا أن العالمانية خلفت تعددية دينية في الغرب بعدما احتكرت الديانة المسيحية المشهد وحدها لقرون طويلة، وبدأت الديانات الوثنية القديمة تلج إلى أوروبا وأمريكا كالبوذية والهندوسية عن طريق ممارسات رياضية كاليوغا، وبدأ الدين الإسلامي يدخل الغرب تزامنا مع انتشار هجرة المسلمين للبلاد، وبدأت حركة العصر الجديد تتفشى بكل ما فيها من عقائد باطنية، وبدأت الديانات الصينية مثل (الكونفوشيوسية) تنتشر مع فعاليّات مختلفة، كتدريبات الفنون القتالية والكونغ فو، وبدأ التراث الصوفي الفلسفي يتنشر على الرغم من تنوع مصادره بين (القبالاه اليهودية) وكتب أعلام التصوف العربي من النصارى والمسلمين.

فالعالمانية توهمت أن انتشار الدين يبدأ من السلطة السياسية وتوجهها العقدي، في حين أن الدين ينتشر بفعل الهيمنة الثقافية للعصر، وبسبب هذا التوهم، نجح الغرب في فصل المسيحية عن سلطان التشريع أملا في فصل الدين عن الحياة، ثم وجد نفسه أمام عدد لا محدود من الأديان الأخرى، وكلها تنتشر عن طريق التبادل الثقافي لا القوّة السياسية!

ما بعد العالمانية في الوطن العربي

بعد سقوط الدولة العثمانية، بدأت العالمانية تغزو الوطن العربي بأسره انطلاقًا من السيطرة على الحكم والسياسات، ثم بالسيطرة على وسائل الإعلام ومناهج التعليم، وعزز الغزو الفرنسي والإنجليزي لبعض الدول العربية سهولة انتشار العالمانية في تلك البلاد، ولكن على مدار مئة عام، أثبتت التجربة أن حلم فصل الدين الإسلامي عن الشعوب العربية هو من المحال. إذ أن الشعوب العربية لم تتخلَّ عن الدين بشكل كامل رغم عِظَم جهود تهميش الدين عن الحياة على مدار مئة سنة.

وكما فشلت الدول الغربية في تحقيق حلم (العالمانية الشاملة)، فإن الفشل في السيناريو العربي كان أكبر. وعلى الرغم من ذلك، يتجاهل العلمانيون العرب الحديث حول الحصاد المر للعالمانية في الغرب وحقبة (ما بعد العالمانية) ولا يذكرون العالمانية إلا في زمن طفولتها وسطوتها – عصر التنوير في الغرب – مع تمام السكوت عن مآلاتها ونتائجها غير المُرضية، بل يعمون أعينهم عن الحصاد النكد احتفالا بلحظة الولادة، والغفلة عن ضنك الحاضر بالعيش في أمجاد الماضي!

ولكن السيناريو العربي لا يفرق كثيرا عن الغربي؛ إذ إن العالمانية لم تنجح في بسط شموليتها لأن الجماهير المسلمة لم تتخلّ عن الدين، بل إن تمسك العربي بالإسلام يفوق تمسك الغربي بالمسيحية بمراحل عدة. وفي هذه النقطة، علِم أعداء الدين أن حلم بتر الإسلام عن الحياة بشكل شامل لن يلقى أي قبول. فلا سبيل إلا بحرب المكر والتدليس حتى يتم إقصاء الإسلام بشكل تدريجي دون أن يشعر أحد.

إن العرب –على عكس الغرب– يعيشون حقبة (ما بعد العالمانية) دون أن تمر البلاد بالعالمانية أصلا، إذ إن مرور المسلمون العرب بالعالمانية شيءٌ من المحال لنفور الشعوب من المبدأ، فلا سبيل لعلمنة الدول المسلمة إلا باختراع نسخة محرفة من الدين يرتضيها الحكم العالماني. ويتم ذلك بالسبل الآتية:

  • إطلاق مصطلح (إسلاميون) على كل من ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية: على الرغم من أن تطبيق الشرع من مسلمات الدين وهي من المقاصد الأولى لسورة المائدة، وأن الجدال حول المسألة لم يشهد في تاريخ الأمة برمته. إلا أن إطلاق الألقاب والمصطلحات على أهل الدين يوهم المستمع أن هناك دين ما “معتدل” وها ما يعرفه أغلب الناس، وهناك فئة قليلة من الناس لها فهم متشدد للدين، وهذه الفئة المتشددة تحاول أن تفرض رأيها على الآخر بالإكراه. حتى يشعر السامع أن هناك نسختين من الدين، نسخة تقبلها العامة ونسخة لا يؤمن بها إلا قلة، فيؤثر اختيار النسخة الرائجة والمرضي عنها من باب السلامة من تهم التشدد والازدراء، وتماشيا مع الغالبية العظمى.
  • إحياء الجدل المذهبي بين العلماء ودعاة الدين: إذ إن المسائل المتشابهة في العقيدة والفقه الإسلامي لم تخلُ من الاختلاف والجدال، حتى شهد تراث الكتب الإسلامية آلاف الكتب في المسائل الخلافية. وعلى الرغم من أن واجب الوقت وفقه الأولويات يستدعي السكوت عن الفرعيات وإلمام الجمع على المحكمات، إلا أن أعداء الدين يشعلون الفتن بين أهل العلم بإعادة إحياء الجدل، حتى تصرف الطاقات في الخلافات الداخلية بين أهل العلم بالدين.

ومن هنا، يقف المرء أمام المشهد الديني وكأنه أمام حلبة صراع لا يكاد يتفق فيها على شيء، فيتوهم أنه لا سبيل لوحدة أبناء اللسان الواحد والأرض الواحدة إلا بالانتماء للوطن، وأن وحدة الناس انطلاقا من وحدة عقيدتهم ضربٌ من المحال. فيتم استبدال الانتماء للأمة الإسلامية بالانتماء إلى (الوطن) أو (العروبة) أو حتى (الإنسانية). وهو الخروج من مرجعية الدين إلى مرجعية الأرض أو اللغة أو العرق، فيقع المسلم تحت سطوة العالمانية دون أن يشعر.

  • ادعاء أن عملية تفسير نصوص الدين هي عملية بشرية محضة. ومن هنا، يتم تقديس النص الديني من قرآن وسنة والاعتراف بربانيّته. ولكن يتم تهميش جهود المفسرين بحجة أن عملية فهم النص هي عملية بشرية تقبل الصواب أو الخطأ. ومن هذا المبدأ يتم التعامل مع النص بشيء من التفكيكية، وأن لكل قارئ للنص فهم خاص به، وأن عدد المعاني والأفهام هي بعدد من قرأوا النص على حسب نظرية (موت المؤلف). ومن هنا، يتم إعادة تشكيل النص الديني على حسب الميل العام من (عالمانية، ليبرالية، نسوية، ماركسية، ..إلخ). فيتم تحريف النص لا من حيث تحريف الكلم عن مواضعه، بل بتحريف معانيه ودلالاته، واختراع نسخ عديدة من الدين تابعة للأهواء وللذوق العام، وسفح معنى وجود دين واحد حق، وتحويل القرآن من كتاب مقدس إلى أسفار عدة.

جاك دريدا (أحد رواد المدرسة التفكيكية)

واجب الوقت

إن التحدي الذي قامت له جهود أعداء الدين الإسلامي لا يكمن في بتر الدين عن الحياة. إذ إن دعاوي الإلحاد والردة الكاملة نجحت في الغرب أضعاف ما نجحت في الوطن العربي، بل إن نجاح دعاوى الإلحاد لم تلفح في الوطن العربي إلا بعدما أفلحت في الغرب، ولذلك فهي تستهدف ضعاف القلوب والعقول وحديثي السن ممن ينبهرون للغرب وينبطحون له.

ولكن من يعادي الإسلام يعلم يقينا أن الغالبية لن ترتد عن دينها مهما يحدث. فمن هنا، تكن خطة المتآمرين الأساسية لا في نشر الإلحاد، وإنما في سيطرة العالمانية بتحريف الدين عن طريق الإعلام المضلِل، وهندسة مناهج التعليم، ودفن مصادر كلمة الحق، وإلهاء أهل العلم عمّا قد ينفع قومهم.

فعلى الداعية والمصلح أن يفهم أنه لا يخاطب نفرا من أبناء الجلدة والدين الذين يتفقون حول المحكمات، بل يخاطب من يعانون من قراءة مشوهة لأسس الدين ومركزياته الكبرى. وأن الوصول إلى الجماهير في هذه الأيام يحتاج إلى من يمتلك العلم، والخبرة، والحكمة، مع الفهم العميق للواقع. لأن الوصول للناس يعني أن نعيد تعريف الأسس والأصول بوضوح لا يلوثه تضليل ولا تشويه، حتى تبرز جماليّة الدين من تحت أنقاض جهود تشويهه؛ إذ إن من استوعب الواقع وراقب ملامح تشكله بين ماضيه وحاضره، هو الأقدر على التأثير في العامة بأقل الجهود، وأبسط الوسائل..




حرب التضليل بالمصطلحات

من أشهر سُبل التضليل أن يتلاعب المرء بالكلمات والمصطلحات حتى يمرر أفكارا جديدة في أذهان المستمعين، أو ليغيّر أفكارهم القديمة ويستبدلها بأفكار جديدة، أو أن يُحوّل نفورهم من سلوك معين إلى قَبول واستحسان، وهذا من جملة ما يُسمى في السجال العقائدي بـ (حرب المصطلحات).

حرب المصطلحات في نصوص الوحي

تَكثُر في نصوص القرآن الكريم عبارة (أسماء سميتموها) في غير موضع، ومن ذلك على سبيل المثال، قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا اسماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ} [النجم: 23]، وقوله تعالى {أَتُجَادِلُونَنِي فِي اسماءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف: 71]. وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ اسمآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٍ ۚ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]

إن تَلقِيبَ الآلهة المعبودة من دون الله بأنها مجرد (أسماء مسمّاة) يعني أن الموجود المُتجه إليه بالخشوع والخضوع هو في حقيقته محض عدم، وأنه لم يرتقِ من المخلوقية إلى الخالقية حقًّا، ولكن الإنسان هو من رفعه وقدسّه عندما غيّر من اسمه! وهذا الجهد البسيط في تغيير الأسامي ترتب عليه الشرك بالله ونحت طرق جديدة للضلال؛ إذ إن تغيير المصطلحات والتلاعب بالمسميات يُوهِم ويَخدع، فيحوّل العدم إلى وجود، والحقير إلى عظيم، واللاشيء إلى شيء!

وفي نصوص السُنّة الشريفة، تكثر الأحاديث التي تبدأ بصغية (أتدرون ما كذا)، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الغيبة..) [أخرجه مسلم في الصحيح] وقوله: (أتدرون من المفلس ..) [أخرجه مسلم في الصحيح]، وكانت إجابات الصحابة تدور في إطار لغوي أو عُرفي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أنار بصيرتنا وإياهم بالإشارة للمعاني الشرعية، حيث إن إعادة تعريف الكلمة الشائعة بالتعريف الشرعي بجانب التعريف اللغوي ينتشل العقول من دائرة الثقافة المجتمعية والعُرف السائد إلى تعريف جديد مغاير ومختلف.

بناءً على ذلك، يمكن أن تتغير موازين المرء في الحُكم على الأشياء لأن مسميّاتها قد تَغيّرت، فتتغير التصورات بناء على عقيدة الإسلام ومركزياتها الكبرى.

تأثير المصطلحات في العقائد والسلوكيات

من بين سُبُل تغيير الأفكار عبر المصطلحات ما يلي:

  • تسمية اللاشيء باسم

إن تسميّة اللاشيء باسم جديد لا وجود له في ذاكرة البشر، يعني أن هناك طريقًا إلى سراب يتم تمهيده والاعتناء به. وعلى سبيل المثال، قد يُعرّف المرء إنكار الوجود الإلهي بـ (الإلحاد)، وفي الوقت ذاته قد يسمع مصطلحات أخرى من (الفلسفة العدَمّية)، أو (الفلسفة الوجودية)، أو (الفلسفة المادية)، ولو قرأ المرء في تلك الفلسفات بتريّث وتمعّن وما فيها من صبّ التركيز على المادة وإنكار الميتافيزقا والغيبيات، لوجد أنه يقف أمام الإلحاد وجهًا لوجه، بلا فرق! إلا أن الاسم الجديد يوهم الإنسان أنه شيء مغاير ومختلف وجديد، في حين أنه مجرد وجه جديد لنفس العملة.

فقد تفهم المعنى بكلمة (إلحاد)، وقد تتبع سبل المصطلحات الجديدة حتى توصلك لنفس خط النهاية ونفس المعنى وهو (الإلحاد)؛ إذ إن مدار هذه المصطلحات الجديدة يَصُبّ في نفس الحقل الدلالي للكلمة الأولى، إلا أن المصطلح الأول ناصح أمين يدلك على المعنى مباشرة، أما المصطلح الجديد فهو خادع ماكر يَعِدُك بأن يقدّم لك معنىً فريدًا وجديدًا، ولكن تكتشف أنه يوصلك إلى نفس خط النهاية بعد أمد من مضيعة وقتك!

  • تغيير المُسمى للتعظيم

إن الشيء التافه قد تُضفَى عليه هالة من العظمة والقداسة لو تغير اسمه لمصطلح معقّد، على سبيل المثال، فإن علم الأحياء –مثل سائر العلوم المادية– يقوم على التراكمية، أي أن العلم الحديث يتراكم على المكتشفات السالفة حتى يتوسّع العلم ويتطوّر. فطبيعي أن تزداد المسميات الجديدة لأن هناك مكتشفات حديثة لم يُعلم بها.

ولكن العديد من الظواهر القديمة في الأحياء تم تغيير اسمها بعدما تم إقحام التطور الدارويني في أغلب المقررات الدراسية على مستوى العالم. فتحول مفهوم (التكيّف – Adaptation) عند الكائن الحي إلى اسم (التطور المصغّر أو المايكروي – Microevolution). فأصبح التكيّف المعروف على مدار القرون الأخيرة يُدرَّس على أنه جزء من عملية التطوّر ككل؛ وذلك لأن التطور المصغّر يخلفه (التطور الشامل أو الكبير الماكروي – Macroevolution) بحسب نظرية التطور.

إن تغيير المصطلح هنا ليس إلا استبدالا للاسم القديم باسم جديد لتهويل وتعظيم من شأن الظاهرة المعروفة، حتى يتم التمهيد لمبادئ التطور الدارويني في عقل الطالب.

تشارلز داروين

  • تغيير المسمى للتحقير

إن الموضوع الجاد قد يفقد جِديّته لو تغير اسمه إلى مسمى يحقر من شأنه، ووُصِف بوصف يسفه من قيمته. فعلى مدار التاريخ البشري، كان المترفون يُميّعون جدية الدين وخطاب الأنبياء بتهمه أنه (أساطير الأولين). فيتحول القول الفصل، الذي ما هو بالهزل، إلى مجرد أفكار موروثة وقصص قديمة تَسَلّت بها الأجيال. وتتحول الأخبار الحق إلى مجرد (أساطير). فلا يؤخذ الدين إثر ذلك بجدية، بل يكون في الإعراض عنه راحة للبال وموت ضمير. ومن هنا، قد يفقد الشيء العظيم هيبته لأن المصطلح الذي يعبر عنه لا يقابله في نفس مستوى الجدية. ولأن الاسم الذي لُقب به لا يعكس قدر أهمية الموضوع وعظمته.

  • تغيير المسمى لتغيير السلوكيات

إن السلوك العام عند أي مجتمع يُحكم في المقام الأول بالعقل الجمعي والعرف العام؛ إذ إن البيئات التي تُقنن الانحراف يُجهر فيها بالسوء والفساد، والبيئات التي تُحرم الانحراف لا وجود فيها للانحرافات إلا في الغُرف المغلقة، وبناءً عليه، يؤدّي عرف المجتمع دورًا كبيرًا في رسم الخطوط الحمراء وحمل الناس على الالتزام بها وعدم تجاوزها. وتلك الخطوط الحمراء تنبع من الدين أولًا، ثم من التقاليد المتوارثة في الأُسَر ثانيًا. فتُعرّف السلوكيات على أنها نبيلة أو حقيرة على حسب ذلك الدين والعرف.

ومن هنا، يصعب إقناع جماعة من البشر بفعل ما محظور عندهم، مهما كان ممتعًا وموافقًا لأهوائهم، ولكن قد يتم الترويج لنفس الفعل المُحرم بتسميته باسم جديد، فتزول الحساسية تجاه الفعل، ويجري الاستسلام للنزوة دون وخز الضمير. وذلك لأن العقل ينفر تلقائيا من المصطلحات التي بُرمج على رفضها، ويبدأ في قبول نفس الفعل لو عرض عليه بمصطلح جديد لا ماضيَ له معه!

على سبيل المثال، عندما خرجت أوروبا من هيمنة المسيحية إلى ميوعة العلمانية. انتشر الزنا بشكل فاحش، وذلك لأن المجتمع اختُرق بمفاهيم جديدة مغايرة للمسيحية، فلم يعد يطلَق على (الزنا) ذلك الاسم، بل اتُّخِذَ له مسميات عديدة، وأصبح من الممكن أن يقيم الرجل علاقة صداقة مع امرأة ثم يقيمان علاقة جنسية عابرة من آن إلى آخر دون الاعتراف بعلاقة جادة، ويُعترَف مجتمعيًّا بهذه الفوضى الجنسية تحت مسمى (Friends with benefits). أي أن تحويل مسمى (الجنس خارج الزواج) من “زنا” إلى اسم جديد ورنّان، يعني أن الحساسية النفسية تجاه الفعل قد زالت. وأنّ وُعّاظ الدين الذين يحرمون الفعل لن يصلوا للجمهور بعد الآن، لأن الجمهور الذي غيّر اسم المحرمات لم يعُد يشعر أنه المخاطب!

ومن هنا، يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن خطورة تغيير أسامي المحرمات بأسامي جديدة مغايرة للمصطلح الشرعي، ولعلّنا نلتمس ذلك في قوله (يَشرَبُ ناسٌ من أُمَّتي الخَمرَ، ويُسمُّونَها بغَيرِ اسمها) [أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهم]

النجاة من التضليل

في الزمن المعاصر الذي ينفجر بالمعلومات، لا بد للقارئ أن يتحلى بقدر لازمٍ من التفكير الناقد، وألّا يردد المصطلحات المسموعة بشكل أعمى، وألّا يعجب بزخرف القول دون البحث الجاد حول مصدر المصطلح وأول من أطلقه والهدف من ورائه، حيث إن تغيير الأسماء والتلاعب بالمصطلحات قد يبدو حدثا هينا في ظاهر الأمر، إلا أنه بناء عليه قد يتحوّل الحرام إلى مستساغ، والحقير إلى عظيم، والعظيم إلى حقير، والمخلوق المقهور إلى معبود من دون الله! فاحرِص على نجاتك وسلامة قلبك وعقلك.




الإسلام في عيون مسيحية .. د. جوردن بيترسون مثالاً

في الشهور الأخيرة، قام طبيب النفس الكندي (جوردن بيتيرسون) بعدة نقاشات مع دعاة مسلمين ليتعرف على الإسلام بشكل أعمق وليصحح المفاهيم المغلوطة لديه. وعلى الرغم من أن لقاءه مع الداعية (محمد حجاب) كان يوحي بأن الرجل قد يُسلم عما قريب، إلا أنه في يوم 13/7/2022 أصدر كلمة للمسلمين عبر قناته على اليوتيوب، مما بَيّن شدة سوء فهمه لأصول للإسلام رغم كل لقاءاته، وهذه الإشكالات لا تختزل في سوء فهم فردي، بل إن تخبط الرجل يذكرنا بالفجوة الهائلة بين المسيحي المعاصر والإسلام. وأن وراء هذه الفجوة جذر عميق لماض طويل بين الديانتين.

تعريف الدين عند المسيحيين

لم يأت سيدنا عيسى بشريعة كاملة مثل الشريعة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الأساس، وإنما أتى لإحياء المعاني الربانيّة التي غفل بني إسرائيل عنها رغم أنها منصوص عليها في التوراة {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، وجاء بالإنجيل بكل ما فيه من سبل تزكية النفس وتعاليم أخلاقية، فقال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46]

بعد تحريف المسيحية لتتحول الدعوة من المحلية إلى العالمية، وبعد فقد الكثير من النصوص الأصلية للإنجيل وتحريف الديانة، وبعد تفشي العالمانية في القرون الأخيرة، تحوّلت الدعوة المسيحية من دعوة تجديد وإحياء للدين إلى دعوة تختزل الدين في كونه رسالة روحانيّة فقط.

بناء عليه، يُعرّف المسيحي الدين على أنه السمو الروحاني والتعاليم الأخلاقية فحسب، أما التشريع، فهو متروك للقساوسة والكهنة ليكون لهم الحكم الثيوقراطي، ولا مرجعية دينية حتمية يتحاكم إليها كل الناس بالتساوي. حتى أن كلمة دين بالإنجليزية (Religion) أو بالفرنسية (la Religion) تعود إلى الجذر اللاتيني (Relego) بمعنى (قرأ مرة أخرى). فأصبح الدين بالنسبة لهم مجرد قراءة في أسفار الكتاب المقدس بشكل مكرر، ولا شريعة ولا تحليل وتحريم نابع من النص الديني..

أصل المشكلة

عندما يبحث المسيحي في الدين الإسلامي بالعقلية التي تختزل الدين في كونه رسالة روحية وتعاليم أخلاقية، يبدأ في مقارنة المسيحية بالإسلام رغم الفارق الهائل بينهما، وهنا أصل المشكلة..

فمهمة سيدنا عيسى عليه السلام كانت مهمة محلية روحية، ومهمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كانت مهمة عالمية روحية وتشريعية على حد سواء، وهنا نرى المسيحي يقصر النظر على الجانب التشريعي في الإسلام ولا يكاد يقبله، لأنه لا يقبل أي معالم دينية تخرج من الدائرة الشخصية لتؤثر في الواقع الخارجي..

من هنا تنطلق أغلب مقولات د. جوردن في كلمته، مثل “من المفترض على المسلمين أن يكفوا النظر إلى اليهود والنصارى على أنهم أعداء، وأن يشغلوا أوقاتهم بتنقية شرور أنفسهم، وذلك خير من النظر إلى الآخر على أنه عدو “

وعليه نقول، إن المسلم لا ينظر إلى اليهودي أو النصراني على أنه (عدو)، بل هو من (أهل الكتاب). والمسلم لا يتعامل مع أهل الكتاب على شاكلة واحدة، فأهل الكتاب ليسوا سواء، وظروف الحياة ليست سواء كذلك بين حرب وسلم. ولكن المسلم مطالب العدل والإحسان في حالة السلم، فالله يقول: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وعندما فتح عمرو بن عاص مصر وهي تدين بالمسيحية قال في خطابه لأهل البلد: (هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم) [البداية والنهاية، ابن كثير]، فالأصل هو السلم والتعامل بالقسط، كما يقول تعالى: {وإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]

في موضع آخر يقول بيترسون: “بدلا من هذه العداوة بين المسلمين وغيرهم، الأفضل للمسلمين أن يجعلوا من أنفسهم أمثلة رائعة من الإنتاجية والحكمة والأخلاقية حتى يتحول الناس إلى دينهم”

إن المعتقد النصراني المُحرف يبني أصول الدين على أحداث تاريخية غير قابلة للبرهنة والاستدلال مثل عقيدة الصلب والفداء. بناء عليه، لا يستطيع المسيحي أن يبشر بديانته إلا بعلو أخلاقيته وسمو حاله، ولكن الدعوة البرهانية عنده من المحال؛ وذلك على العكس من الإسلام الذي يقول في صوت عالٍ إنه الدين الحق بالدليل والبرهان، ويستفز المخالف ليخوض الجدال بنبرة تعجيز، ويفرض على المسلم جدال المخالف بالمنطق والحكمة {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وبناء عليه، ينظر المسيحي إلى كل محاولات الجدل مع المخالف والدعوة البرهانية على أنها (عدم تقبل للآخر) أو (عداوة) أو (ادعاء للفوقية). وما ذلك إلا لغياب مفهوم البرهنة في المسيحية وحصر الدين في كونه وراثة لا اعتقادًا منطقيًّا برهانيًّا.

ومن جملة الأوصاف التي أطلقها بيترسون قوله: “أنتم تشعرون دائما بالتهديد من الأفكار الشيطانية المدعومة بالإعلام دائما، سواء على المستوى العائلي أو الجنسي أو النفسي أو الإيماني. فماذا لا نكف عن الخوض في هذة التفاصيل ونواجه العدو الحقيقي، وهي شرور النفس”

وهذه بالتأكيد مستمدة من النظرة التقليدية للمسيحي الذي يرى الشريعة الإسلامية بكل ثوابتها من حلال وحرام مجرد تفصيليات. وذلك لأن الحكم الثيوقراطي المبني على اللامرجعية يجعل التحليل والتحريم شيئًا مطاطيًّا يتغير من زمان إلى زمان، ويخضع لسطان الحكم ومزاج العصر. أما الإسلام، فهو لا يُهمّش أصل الدين من أجل العصر وطبيعته، لأنه جاء ليغير العصر ويهيمن عليه لا ليقاد على حسب طبيعته وبيئته..

يبهرنا بيترسون مرة أخرى حين يتساءل: “هل هناك أحد بين المسلمين على نيّة لإنشاء منصة تجمع السنة والشيعة وتجمع المسلمين بغيرهم على نحو عام، حتى يعم السلام ويتصرف أتباع الإله على النحو المتوقع منهم؟”

هذا التصريح جعل الكثيرين يشككون في نيّة الرجل، وما إذا كان يعبر عن أفكاره الشخصية أم أنه مجرد وسيلة دعائية أخرى للديانة الإبراهيمية المراد لها أن تنتشر. وهو تصريح يرجعنا إلى نقطة غياب مفهوم (الاستدلال البرهاني على صحة الدين) في الثقافة المسيحية. وأنه لا فرق بين دين ودين، ولا حق ولا باطل، ولا إقامة حجة ولا عجز عن الرد. وهي مجرد صورة أخرى من مفهوم (نسبية الحقيقة) وغياب الحقيقة المطلقة. وهذا المعنى في حد ذاته يسفح مفهوم (الحقائق اليقينية) ويوقعنا جميعا في الشك والسفسطة، وتحويل الأديان من معتقدات شخصية إلى مجرد ميراثٍ شخصي عن الآباء، ولا فرق بين دين ودين. والغاية النهائية هي تحقيق السلام وتكوين الصداقات بين أهالي الملل المختلفة، لا البحث عن الحقيقة وإقامة الحجة على المخالف!

فمن يكفر بالطاغوت

إن المسيحي الذي يقترب من الإسلام على أنه نسخة معدلة من النصرانية لا يكاد يفقه قولا، لأنه أسير حكمه المسبق على الإسلام رغم شدة خطأ حكمه. فيتفهم المسيحي أصول العقيدة ودعوات تزكية النفس في الإسلام، ولكنه يقف أمام التشريعات ورؤية الإسلام الكونية ومهمة المسلمين لإنقاذ العالم من الضلال، ولا يكاد يتفهم كل ذلك.

إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن للمرء أن يكون حياديا ومنصفا لو حكم على شيء مسبقا قبل تصوره على ما هو عليه. ولا تصور صحيح للإسلام إلا إذا دخله المرء من باب العقيدة ورؤيته الشاملة للكون والحياة، ولذلك لا يكون الإيمان صحيحا إلا إذا تخلى الإنسان عن أفكاره الخاطئة وتصوراته الباطلة. ومن هنا تكن نصف شهادة التوحيد كفر بكل ما سوى عدا الله، كما في مفتتح كلمة التوحيد (لا إله..) ثم يأتي بعدها الإثبات والإيمان بالله بعد خلو العقل من الخرافات بكلمة (إلا الله)، ومن هنا يكون الكفر بالطاغوت سابقًا على الإيمان النقي الصحيح {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]




صراع العلم والدين .. بين الماضي والحاضر

تنتشر بين العامة شبهات حول تخاصُم النصوص الدينية مع حقائق العلم، وموقف الناس يتعدد بين منحاز للدين في معزل عن العلم، ومنحاز لطرف العلم متشكك في الدين، وبين موقف وسطي يسعى للتوفيق بين كليهما بما يتقبله العلم الحق والتفسير الموضوعي، إلا أن الموقف الذي يتبناه كل من له اطلاع على التاريخ الإسلامي هو موقف عدم فهم ذلك الفصل بين العلم والدين من الأساس، إذ إن العقلية الإسلامية لم تفصل بينهما يوما!

الإسلام والعلم

من المعلوم لجميع الناس أن أول أية نزلت من القرآن الكريم افتتحها الله بقوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1] فلا عجب أن تكون الحضارة العلمية في الإسلام تختلف عن أي حضارة أخرى. فالإسلام يقر أن البحث والاطلاع والتزود من العلم على ضوء ما يرضي الله هو بوابة للدين في الأساس! وامتدح الله أهل العلم بقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] وعلى الرغم من كون الحضارة العلمية في الإسلام لم تكن أول حضارة –من حيث النشأة- تاريخيًّا، إلا أن سماتها وإنجازاتها جعلتها الحضارة الأولى في التاريخ بحق، وذلك من عدة جوانب:

أولا: كانت العلوم في شتى الحضارات حكرا على فئة قليلة من الناس يشار إليهم باسم معيّن كالفلاسفة أو الكهنة، ولم تُشَع قضيّة العلم لتشمل كل الناس بهذا الشكل إلا في الحضارة الإسلامية.

ثانيا: ظهرت في الحضارة الإسلامية -ما يمكن تسميته- بـ الفرق العلمية، وهو أن يجتمع كذا عالم في غير تخصص ليتعاونوا جميعا في مشروع علمي واحد، فكُلٌّ يستفيد من تخصص غيره عبر تبادل المعارف.

ثالثا: وصل الأمر بالمسلمين إلى إنفاق الأموال سواء من قبل الولاة والحكام أو حتى التجار وأصحاب المال، بهدف نشر العلم ونقله كما جرى مع إنشاء الأوقاف لدعم المعلمين وطلبة العلم وكذلك ما جرى من ترجمة كتب اليونان في علوم الطبيعة إلى اللغة العربية، حيث ابتدأت الترجمة في أواخر الدولة الأموية في بغداد، مما أدى إلى توفر ثورة معرفية في علوم الطبيعة بين يدي العامة.

رابعا: لم يقتصر دور المسلمين على استيراد العلوم، بل إن العلماء مثل ابن الهيثم، والبيروني، والكندي وغيرهم أضافوا على الكتب اليونانية عنصر التجربة العملية وأسسوا المنهج العلمي التجريبي لأول مرة في تاريخ البشرية.

خامسا: كان لكثرة حث القرآن الكريم للنظر في الطبيعة دافعا للتبحر وتأسيس الكثير من العلوم، وبما أن المكانة التي وضعها القرآن للإنسان كانت الخلافة، فمبدأ بناء الكون وإعماره هو معتقد إسلامي بحت، وكان هو الدافع الأكبر وراء معظم الاختراعات التي ساهم بها المسلمون في الحضارة البشرية!

ولعل هذا المرور الخاطف يوضح لنا موقف الدين الإسلامي من العلوم الطبيعية، موقف فيه تواؤُم وتجانس بين الدين والعلم، ولذا فإنه لم يعرَف في تاريخ الحضارة الإسلامية الفصل بينهما.

النهضة الأوروبية

بعد قرون طويلة من احتكار الكنيسة للمعارف والعلوم وشيوع الأمية والجهل في مرحلة ما يسمى بعصور الظلام، بدأ العقل الغربي في التحرك بدءا من القرن الحادي عشر. وانطلق يتحسس خطاه في العلوم الطبيعية من مصدرين اثنين. أولهما ترجمة الكتب اليونانية والكتب الإسلامية في العلوم إلى اللغة اللاتينية. أما الثاني فبالاحتكاك المباشر مع المسلمين في بلاد الأندلس والشام ومن هاجر إليهم من العلماء المسلمين.

وعلى مدار القرون تحول الغرب من مستورد للعلوم إلى مستقل بذاته عن طريق أخذ المنهج العلمي التجريبي عن المسلمين عن طريق (روجر بيكون) و(غاليو) و(فرانسيس بيكون) و(ديكارت). وبدأ العقل الغربي يقف أمام الطبيعة بين نصوص الكتاب المقدس المحرفة بالوثنيات والأساطير، وبين العلم الرصدي القائم على البحث والتجربة. فلا عجب أن تتعارض نصوص الدين مع ما وصل إليه العلم عندهم. ونشب عن ذلك التعارض علماء يدعون أن الدين هو إقحام فكرة الإله لسد الفجوات المعرفية، وأن الدين هو الرواية الخرافية عن الطبيعة، على العكس من العلم الذي يبنى على الأدلة والبراهين، ومن هنا بدأت المخاصمة بين العلم والدين.

ونتج عن التعارض بين الكتاب المقدس والعلم فرق شتى، لكل منهم موقف ما من هذا التعارض. فهناك من أقر أن الكتاب المقدس عصمته محدودة، ولا بأس أن يخطئ في حقائق العلم والتاريخ، وهناك من أقر أنه وحيٌ عن طريق الإلهام ولكنه غير معصوم. وظهر من قرر الإيمان بالإله المحض بعيدًا عن العقيدة المسيحية مثل نيوتن وآينشتاين، وظهر اللا أدريون مثل دارون. فبين المسيحية المحرفة والعلم، كان الصراع بين أساطير الأولين والحقيقة العلمية.

وقد انتهى الصراع بين العلم والدين في أوروبا بغلبة المنطق الوضعي أو العلموي ظاهريًّا، وبدأ عصر العقل عند الغرب وهو ما يسمى بعصر الأنوار، فالدين –المسيحي– عندهم هو سبب التخلف في العصور الوسطى، والتقدم الحضاري لن يحدث إلا إذا تمردوا عليه! وكما أن الغرب استوردوا من المسلمين المنهج التجريبي لتقام لهم ثورة معرفية، استوردوا من المسلمين مبدأ تسخير الكون القرآني، {وَسَخَّرَ لَكُم مَا في السَّماواتِ ومَا في الأَرضِ} [الجاثية: 13]

وبعد تَحوُّل العقلية المسيحية من النظرة الخرافية التي تفسر كل ظواهر الطبيعة على نحو متناقض إيمانيًّا وعقليًّا وعلميًّا، إلى النظرة العلمية التجريبية التي تسعى لتسخير المادة لمصلحة الإنسان، انطلق الغرب في بناء حضارته ماديا وتكنولوجيا. وللمرء أن يقول -بكل ثقة- إن حضارات غير المسلمين وقفت –باستفادتها من علوم المسلمين- على أكتاف النظرة القرآنية للوجود، ولولا وضع القرآن الإنسان في مكانته الصحيحة من هذا الكون لما قامت لأي حضارة من تقدم!

الإسلام والعلم في العصر الحديث

أثناء التقدم الغربي الذي وازى التأخر الإسلامي -بسبب عدة عوامل أخرى كضعف دولة الخلافة العثمانية- وما تبعه من غزو فكري وثقافي من الغرب العلماني، بدأت موجات تشكيك المسلمين في الدين بإعادة إحياء صراع العلم والدين الذي حدث في الغرب منذ قرون. ولأن كثيرًا من المسلمين يجهلون التاريخ المشرق للإسلام الذي طُمِس وأخفي، ظنت الأجيال الناشئة أن هذا التخلف وليد التعاليم الإسلامية، وما هذا إلا لسيطرة الغلبة الثقافية التي أسهمت في تهوين شأن الدين في نفوس المسلمين أمام المستعمر العاتي!

لعل الإنسان لو قرأ النصوص الإسلامية وهي تلح على طلب العلم – وخاصة العلوم الطبيعية – لاستبعد كل البعد أن تكون نبرة التحدي القرانية تلك مؤدية إلى الشك! ولعل القراءة في تاريخ المسلمين والأسباب الرئيسية وراء نهضتهم العلمية تدفع لاستهجان تلك الشبهة المتهافتة، وزيادة على ذلك، قد يستزيد المسلم بمعرفة منهجية التعامل بين الدين والعلم ليكون على بصيرة إثر وقوع تعارض في ظاهر الأمر، إذ إن القاعدة العامة تنص أن الحق لا يتعارض مع الحق، فلو حدث تعارضا في ظاهر الأمر فذلك يعود لتصادف الحقيقة العلمية مع خطأ في تفسير النص، أو مصادفة خرافة علمية لنص سليم الدلالة.

أما في التفريق بين الحقيقة العلمية والخرافة العلمية فيكون بمعرفة الخط الأحمر الفاصل بينهما، وهو الرصد والتجربة، فلو أخلفت لنا المعامل نظريات مثبتة بالتجارب والأبحاث المحايدة لكان بين أيدينا قولٌ علميٌّ لا يشوبه شك، ولو كنا نتعامل مع فرضيات لم تعرف طريق التجربة خرافات العلم الزائف pseudoscience أو افتراضات نظرية على أبعد تقدير.

أما عن النص الديني، فالأمر ليس بمثابة النص الإنجيلي في الكتاب المقدس الذي يقرأه كل إنسان بشكل شخصي ويفهمه كما يشاء. كلا، فلا يمكن للمسلم أن يتجاوز علم التفسير بكل ما فيه من منهجية وتعقيد ثم يقرأ النص ويفهمه في معزل عن القواعد التي توافق عليها العلماء على مر القرون السابقة.

والتفسير العلمي للنص الديني لا يتناقض مع سلف العلماء، بل يوسع تفسيراتهم! فلو كان العلماء يفسرون القرآن على ضوء المعاني اللغوية فإن التفسير العلمي يضيف بعدًا أعمق مستفادًا من مكتشفات العلوم، بشرط أن تكون علوما يقينة لا مجرد فرضيات في مرحلة الشك والتجربة.

وبين مواقف المسلمين من دعوى تعارض العلم والدين، يقرر المسيحي الغربي موقفه من الجدال، أما المسلم، فلا يفهم طبيعة الجدال أصلا، لأنه يتعارض مع المبادئ القرآنية حول صلة الإنسان بالعلوم الطبيعية، ولأنه غريب كل الغرابة على من يحوي تاريخه على قادة العلوم الطبيعية، ولم يفهموا فصل العلم عن الدين يوما!


مراجع للتوسع:

  • العلم وحقائقه بين سلامة القرآن الكريم وأخطاء التوراة والإنجيل، د.سامي عامري
  • ماذا قدم المسلمون للعالم، د. راغب السرجاني
  • الرسول، سعيد حوى



علم النفس والحاجة إلى الدين

في العقود الأخيرة، اتخذ علم النفس مسلكًا علمويًّا يحاول أن يرد فيه كل نفسية الإنسان إلى الأصل المادي الفيسيولوجي فحسب؛ وذلك بهدف وصف مشاعر الإنسان بأنها نتاج مادي محض، فتكون السعادة –مثلاً- مجرد تفاعلٍ كيميائي معيّن في الدماغ يختلف عن تلك الكيمياء المسؤولة عن الألم، وهكذا..

وعندي أن هذا المسلك ينطلق ابتداء من مغالطة منطقية أي (المصادرة على المطلوب)، فإنكار كل الأديان يليه إنكار وجود روح في الإنسان، وهو ما يسمح لباحث أن يرد كل مشاعر الإنسان إلى مادية جهازه العصبي بدون أي شك لوجود عامل آخر يساهم في صحته النفسية يسمى بالروح أو النفس أو القلب!

إن خطورة الأمر ليست نابعةً من وجود ملحدين يبحثون في علم النفس، بل من السعي الحثيث لإقامة أساس معرفي في مختلف العلوم -ومنها علم النفس- على أكتاف الإلحاد العلموي!.

فلا عجب أن ترى من يقيم تجربة في علم النفس على فئران تجارب ثم يقيس النتائج على الإنسان مباشرة. فلا فرق بين فأر وإنسان، ويكأن النفس بكل مشاعرها وأسرارها ما هي إلا انعكاس للتفاعلات الكيميائية داخل معمل الدماغ!

ولا عجب أن نرى سيغموند فرويد وهو يرد أسمى شعور إنساني –الحب – إلى الغرائز الجنسية المكبوتة! فالإنسان عند هؤلاء مجرد حيوان عاقل حالفه الحظ ليكون أوفر الكائنات وعيا وأرجحهم عقلا ليس إلا..

مشكلة علم النفس

يعاني علم النفس من مشكلة في تصنيفه، فتارة يصنَّف علمًا من علوم الإنسانيات فيُدرَّس في كلية الآداب، وتارة يصنف علمًا من علوم الطبيعة فيُدرَّس في كلية الطب، ولكن حصر علم النفس على أنه علم من علوم الطبيعة فيه إشكال، فعلوم الطبيعة تتبع المنهج العلمي التجريبي القائم على البحث والملاحظة والوصول إلى النتائج، ولكن النفس بكل ما فيها هي شيء ميتافيزيقي لا يُرى ولا يُلاحَظ. فإقامة أبحاث علمية على ضوء المنهج التجريبي يعني أن الباحث سيصمم تجارب ليلاحظ التغيرات السلوكية فقط.

وعلى سبيل المثال، لو أن مريضًا التزم بتناول دواء مضاد للاكتئاب ثم تحسنت مستويات طاقته وإنتاجيته فذلك دليل على قوة الدواء وفاعليته، ولكن الباحث لا يستطيع أن يرصد مزاج ومشاعر المريض لأن هذه المشاعر من الأمور التي لا تُرصَد ولا تُلاحَظ! ومن هنا، حُصِر علم النفس في كل الظواهر التي يمكن لها أن تمر بالمنهج العلمي التجريبي، وتم تجاهل كل الدراسات النفسية التي لا يمكن لها أن تتبع المنهج التجريبي، مما أدى إلى بتر علم النفس لقصور سبل البحث فيه!

وقد أسرف بعض الملاحدة في هذا المسلك العلموي، حتى شهد العالم في العقود الأخيرة كتبا تؤلف بأيدي أطباء مخ وأعصاب وأطباء نفسيين ليثبوا أن الإرادة الحرة لدى الإنسان مجرد وهم، وأن الإنسان ما هو إلا حيوان مجبر على كل ما يفعله لأنه محكوم تماما بكيمياء الدماغ وجهازه العصبي ولا خيار له في أي قرار! وقد انتبه بعض المفكرين لطغيان هذه النزعة فنادى بعضهم بتغيير اسم العلم من (علم النفس) إلى (علم السلوك)!

العلاج النفسي في العصر الحديث

مع مرور الوقت تزداد تصنيفات الأمراض، ليتفرع عن المرض الواحد عدة أنواع. ولكن على الرغم من تعقيد تصنيف الأمراض النفسية الذي من المفترض أن يعقد مفهوم النفس الإنسانية، إلا أن اختزال الإنسان في المادة وتسطيحه يزداد يوما بعد يوم!

والعلاج النفسي في الكثير من الأمراض ينقسم إلى شقين. شق كيميائي يحتاج إلى تدخل دوائي، وشق نفسي يحتاج إلى النقاش مع طبيب مختص. وكما أن الشق الدوائي تم تسطيحه ليكون مشابها للحيوان، تم اختزال الشق النفسي أيضا، وأصبح العلاج النفسي في أغلب الأحيان ما هو إلا (العلاج المعرفي السلوكي – CBT)، وهو تعديل الأفكار لتغيير المشاعر، لينتج عن الأفكار الإيجابية مشاعر إيجابية، والعكس صحيح. فأصبحت عملية ضبط المشاعر ميكانيكية كأنها ضبط لآلة ميكانيكية تماما. ومن هنا تحوّل علم النفس إلى عملية روتينية لضبط الآلة الكيميائية بالدواء، وضبط الآلة الشعورية بالتفكير الإيجابي!

الحاجة إلى الدين

الطب النفسي الحديث لن يجدي نفعا مع أولي الألباب، لأنه ينطلق من المادية وينتهي إلى المادية، فانطلاقه من المادية هو إنكاره لوجود روح في الإنسان. أما انتهاؤه إلى المادية فهو حصره للصحة النفسية في حب الدنيا والسعي ورائها والاستزادة منها عن طريق التفكير الإيجابي للحصول على قدر أعلى من المتع الحسية. وافتراض أن كل البشر يسعون وراء متاع الدنيا يحصر وعي الأطباء النفسيين في البحث عن مشاكل شخصية تعرقل الحصول على زينة الدنيا، ليكون المرض هو التعثر في هذا الهدف، ولتكون الصحة اختصارًا لعملية الانطلاق تجاه هدف المتعة!

أما من يحترم عقله بالقدر الكافي فلن يتكلف عناء في إثبات وجود مكون غير مادي داخل الإنسان، لأن الإنسان يشعر بتلك الثنائية بفطرته وأنه ليس كائنًا أحاديًّا.

{بل الإنسان على نفسه بصيرة}

إن المؤمن الحق لا يرضى بهذا الخطاب الدنيوي ولو كان سبب مرضه أصلا هو الإسراف في السعي وراء الدنيا على حساب روح تتعطش وتلهث، أو لو كان الإنسان واعيا بالقدر الكافي لأدرك أن السعي وراء الدنيا إنما هو معنى تافه للحياة لا يرضي الباحثين عن القيمة والحق!

وقد لاحظ بعض علماء النفس المحدثين قصور علم النفس في العملية العلاجية، وقال (إيريك فروم): “إن علم النفس الحديث ينصب على مشكلات تافهة تتماشى مع منهج علمي مزعوم، ولذلك يفتقر علم النفس إلى موضوعه الرئيسي وهو (الروح)، وأصبح علم النفس منشغلا بالغرائز والميكانيزمات من دون أن يعني بالظواهر الطبيعية المميزة أشد التميز للإنسان: الحب، العقل، الشعور، والقيم”

أما الدين، فهو يلحّ على ثنائية الإنسان بين مكون مادي ومكون غير مادي، والقرآن الكريم يذكر كلمة (إنسان) عشرات المرات فقط، أما كلمة (النفس) فيذكرها أكثر من مئتي مرة! بل إن المكون غير المادي يأتي بعدة كلمات، مرة يأتي بكلمة (نفس)، وأخرى بكلمة (قلب)، ومرة (روح). والقرآن ينص أن تلك النفس تتلوث وتمرض مادامت بعيدة عن إرث النبوة، وأن الدين هو شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين..

والدين يتفوق على علم النفس لأنه يتسابق في إثبات تعقيد الإنسان ككائن يمتاز على غيره من الكائنات في كل شيء، فالله يقول: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]، وقال: {لقد كرمنا بني آدم، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} [الإسراء: 70]، وكان بذلك على الضد من علم النفس الذي يتسابق في تسطيح الإنسان واختزاله في فيزيولوجيته الجسمانية وتشبيهه بسائر الكائنات الأخرى لا أكثر ولا أقل.

فالنظرية الإسلامية للعلاج النفسي تنص على الالتزام بالعلاج الدوائي لتعديل الشق الكيميائي من المرض النفسي، مع الرجوع إلى الدين الذي لا ينظر إلى مشاعر الإنسان على أنها نتاج أفكاره فحسب، بل أنه إنسان له نفس تمرض وتفتقر إلى شفاء القرآن أيضًا، والدين لا ينظر إلى الدنيا أنها هي الغاية والهدف والمبلغ من العلم، بل أنها مرحلة انتقالية إلى دار سرمدية يخبر مالكها عنها أنها خير لنا من الأولى، فتثار مشاعر التفاؤل عندما تقسو الظروف، ويولد البأس في مواطن اليأس!

ولو توافق الدين مع علم النفس في الالتزام بالعلاج الدوائي، فلا شك أن الدين يزيد على علم النفس في معالجته للأفكار السلبية بأخرى إيجابية لكثرة نهي القرآن عن اليأس والحزن والترغيب في وسع صفات الله. إن الإسلام الذي اهتم بالشق الروحاني في الإنسان أنتج علماء متخصصين في تزكية النفس لترتقي النفوس من حال المرض إلى حال الصحة والرضا..

حينها، تتحول الدنيا من سفينة هالكة لا يزيدها الزمن إلا غرقا، إلى مرحلة انتقالية لحياة أشد جمالا وخلودا. ويقف الإنسان مستفيدًا من علم النفس وما يقدمه من علاج، مع تلبية حاجته للدين وما يقدمه من شفاء وتوجيه، وهو الاتباع للوحي الإلهي الذي من لا يضل ولا يشقى متبعوه. ومن هنا لا يميل المرء لعلم النفس إلا بقدر حاجته من العملية العلاجية، ولكن يبقى الإنسان في عطش بلا ارتواء، إلا إذا اعترف بالحاجة إلى الدين!


للاستزادة:

  • القرآن وعلم النفس (محمد عثمان نجاتي)