كوميديا الإلحاد.. داوكنز نموذجا
“الإلحاد علامةُ ذكاء”!.. هذا ما قد يعتقده كثير من الناس، خاصة وأن مشاهير من العلماء يعلنون إلحادهم ورفضهم لوجود خالق حكيم مدبِّر للكون.
لكن مهلاً، ألا تعتقد أن في هذا القول نوعاً من الكوميديا السوداء؛ تلك التي يضحك لها الإنسان على ألم ومضض.
سأنقل لك نصًّا مقتبسًا من كلام ريتشارد داوكنز أشهر كُتّاب الإلحاد ومنظريه في العالم، إلا أني قبل ذلك أريد أن أذكر لك أن داوكنز استعرض الأدلة التي تثبت وجود الخالق في بضع صفحات خفيفة وأنه ببعض السخرية والمغالطات يرى أنه قد أنهى الحاجة لها وأوقف جدوى الاستدلال بها، إلا أني أعرض لك هذه الجمل المقتبسة، يقول في نقض دليل التصميم الذكي:
“الحجة الغائية، أو حجة التصميم؛ فالأشياء في العالم وبخاصّةٍ الأشياء الحية تبدو وكأنها مصمَّمةٌ، ولا نعرف بوجود أشياء مصممة إلا إذا كانت كذلك، ولذلك يجب أن يكون هنالك مصمم وهو ما ندعوه بالإله.
حجة التصميم هي الوحيدة التي لا تزال تستخدم في أيامنا هذه وللعديدين فإنها تبدو كالضربة القاضية للمناقشة، وقد تأثر بها داروين حين كان شابًّا، عند قراءته لكتاب ويليام بايلي “علم الطبيعة الديني” ولسوء حظ بايلي، فإن دراوين الناضج قد استبعدها، [….] وبفضل داروين، لم يعد صحيحًا أن كل الأشياء التي تبدو لنا مصمَّمة لا يمكن أن تكون غير ذلك، التطوُّر بالانتخاب الطبيعي ينتج ما يمكن أن يبدو كأروع تصميم، بأعلى درجات التعقيد والأناقة” [وهم الإله: 81].

داوكنز
(David Shankbone)
إن داوكنز في هذه الفقرة يسخر من الاستدلال بالنظام المصمَّم والإتقان المشاهَدِ في كل خلق، إلا أنه يسارع إلى القول بأن الانتخاب الطبيعي والتطور المستمر ينتجان ما هو أروع من التصميم وأعقد منه.
فهل فعل الانتخاب ذلك، وكم استغرق الانتخاب من الوقت لفعل ذلك؟
إنها مليارات من السنين التي احتاجها الانتخاب تلو الانتخاب والتصادف تلو التصادف لتطوير العالم والإنسان ثم وصوله إلى هذا الشكل الذي نراه الآن [وهم الإله: 136]، هكذا يحلو لداوكنز أن يبرر إيمانه بالانتخاب.
فإذا كان الانتخاب قادرًا على تصميم نوع من الإتقان فلمَ لا يمكن للإله فعل ذلك؟
في استدلال آخر يرى داوكنز: “أن الكائنات الحية المعقدة لا يمكن أن تنشأ مصادفة، فلا شك أن من خلقها أكثر تعقيدًا منها بالضرورة ، وبالتالي فإن الله غير موجود” [وهم الإله:114-115] وذلك استنادًا إلى حاجة التصميم المتقَن إلى منشئ له.
يمكن مصادرة هذا الكلام بالاعتراض عليه بذات المبدأ، فنقول إن كتاب داوكنز المسمى “وهم الإله” معقَّد ولا يمكن أن ينتج مصادفة، ولا شك أن كاتبه داوكنز أكثر تعقيدًا منه، إذن داوكنز غير موجود.
وهذه المغالطة عرضها كثيرون قبله بطريقة مباشرة دون مواربة ضمن ما قاله الملحدون سابقًا: “إن كان الله خلق الخلق فمن خلقه” والرد على هذا الكلام مختصر بأن الموجِد (غير المادي) لا يحتاج إلى إيجاد، بينما الحادث (المادي) يحتاج إلى مُحدِث خالق لا العكس.
يسرد داوكنز في كتابه 400 صفحة من الكلام المتراكم، دون أن يفسر أصل نشأة الكون وكيفية خروجه من العدم إلى الوجود، بل ذهب مباشرة لتفسير سر النظام داخل الكون بذكره لخواطر تعتمد الصدفة، “فهناك احتمال وجود أكوان متوازية، ولا شك أن كوننا صدفة ناجحة ضمن مجموعة من الأكوان الأخرى التي لا تنطبق عليها ثوابت كوننا” [وهم الإله: 148].
إن كل ما يخوض داوكنز فيه يتعلق بما بعد الخلق، والاختلاف في هذه القضايا دون الاتفاق على القضية الأهم إما جدَل لا طائل منه، وإما استغباء يقصد صاحبه التلبيس به على عقول قرّائه.
فهل ما يتقدم به دوكنز تنظير كوميدي فارغ أم أنه تأصيل علمي يجب الاهتمام به.
إن العلم الرصين هو الذي يقدم سلسلة من التفسيرات المتكاملة التي توضح عملية وجود الشيء وكيفية بنائه وتطوره، فإما أن يوفر العلم ذلك التفسير، أو أن يشرح عدم قدرته على إيضاح ذلك.
وميلاد المادة والكون من العدم بحاجة لتفسير علمي، فهل سنقول: إن الله خلق الكون من العدم
أم نقول إن العدم خلق الكون من العدم، أم إن الكون خلق الكون من كون آخر؟
إن من المؤسف حقًّا وصف الكتاب المذكور أعلاه بالتناول العلمي لأعظم قضية تشغل بال الوجود الإنساني بمختلف أنواعه وأزمنته وأديانه، خاصة وأن داوكنز وأشباهه لا يقدمون التفسير العلمي لأعقد مسائل هذا الوجود، وهي النشأة والخروج من العدم إلى الوجود، بل يجحدون الآيات الكونية صغيرها وكبيرها ولا يلقون لها اعتبارًا باعتبارها نشأت صدفة وتطورت بطريق الصدفة وانتظمت بعد ملايين الصدف، وكذلك مئات الملايين من المخلوقات التي توجد في هذا الكون تأتي كلها صدفة وترحل صدفة، دون أي دليل علمي على زعمهم.
واسمح لي أيها القارئ أن أمثل لك هذا التفسير التطوري أو التصادفي بالآتي:
حدث حادث في مطبعة، فخرج عن هذا الحادث اللا إرداي كتاب منسق منظم يحتوي على أكثر من 100 صفحة تبحث إحدى مشكلات الشعر والأدب!

أنتوني فلو
أيمكنك تصديق ذلك؟
لنسأل داوكنز إذن، أيمكنه القبول بما نقول؟
إن هذه الكوميديا الإلحادية تدعو البشرية لقبول القول بأن الحياة موجودة هكذا، بلا مسبب أو منشئ، فإن لم يقبل الإنسان وجود مقتولٍ دون قاتلٍ، أو كتاب بلا كاتب، أو بناء دون بانٍ، أو مدينة دون منظم ومنفذ، فكيف يقبل بوجود كونٍ كاملٍ بلا خالق.
متى كانت الصدفة أذكى من الإنسان، ومتى كان الإنسان أحكم من ربّه.
يقول الله في القرآن: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20-21]
هل يمكن أن تنشئ لنا عقول الناس والإلحاد والصدفة مجتمعةً خليّة حيَّة واحدة بلا مادة سابقة؟
إن هذا السؤال دفع الفيلسوف البريطاني “أنتوني فلو” أكبر منظري الإلحاد في القرن الماضي إلى ضرورة القول بوجود الإله، وذلك ببسط مطوّلٍ في كتابه: “هناك إله” وهو آخر كتاب له، وقد أصدره في عام 2007 -أي قبل موته بثلاثة أعوام- وكان آن ذاك قد قارب التسعين عامًا.
فحوى ما يقدمه أنتوني في كتابهِ يدور حول التعقيد المتقَن في الخلية الحية وكيف أن التفكير بالتنظيم المتكامل للكون والكواكب والمخلوقات دفعه للاعتقاد بوجود المُصمم وراء كل هذا الكون.
فهل ثمة فرق برأيك بين كوميديا الإلحاد السوداء، واتزان العلم؟
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!