ولنا في قصصهم عبرة

image_print

      يمتلئ كتاب الله العزيز بالكثير من القصص والحوارات مثل قصص وحوارات الأنبياء المتعددة والمختلفة والتي إذا تدبرتها عزيزي القارئ; لأدركت مدى ما تحمله من حكم ومواعظ لا تخضع للعامل الزمني بل أنها ذكرت كي يستفيد منها الناس على مر الزمان وليست حكرا على مكان أو زمان بعينه. وأّلَلَهِ -عز وجل- لم يذكر تلك القصص والحوارات عبثا، بل إنها بمثابة المعين الذي لا ينضب؛ كي ينهل منه الناس ليرشدهم في دربهم.

      ذكر الله-عز وجل- في كتابه العزيز حوارات متعددة ومختلفة لسيدنا إبراهيم -عليه السلام- منها حواره مع نفسه، وحواره مع الملك، ومع قومه، وأيضا حواره مع أبيه آزر والذي هو محور هذا الحديث، هذا الحوار الذي يتجلى فيه اسلوب سيدنا إبراهيم-عليه السلام- الدعوي الرائع، ولنتأمل معا الآيات التالية ولنتدبر ونتفكر كيف حاور إبراهيم عليه السلام أباه  ،يقول الله –عز وجل-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً (41)إِذْ قَالَ لأبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً(42) يا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً(43) يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً(44) يا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً(45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46)قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً(47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا(48)} [مريم: 41- 48].

     بدأ إبراهيم عليه السلام دعوته لأبيه باستخدام البرهان العقلي وبأسلوب منطقي مقنع فيقول لأبيه ” يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً(42) “، أي “يا أبت من صفات الإله أن يسمع ويبصر ويضر وينفع، وهذا ليس من صفات الأصنام التي تعبدها”[2]، ثم يقول إبراهيم عليه السلام لأبيه “أنه قد اعطاه الله من العلم النافع ما لم يعطه”[1]، ويدعوه باللين إلى أن “يتبعه في إخلاص العبادة لله كي يهد له طريقا مستقيما”[1]” يا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً(43)”، ثم ينتقل سيدنا إبراهيم إلى تحذير أبيه من عاقبة اتباع الشيطان، وعبادته التي تؤدي إلى الهلاك والهاوية، ثم يختم سيدنا إبراهيم دعوته لأبيه بنفس النبرة اللينة قائلا له” يا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً(45)” وهنا يستمر سيدنا إبراهيم بنفس النبرة اللينة المتأدبة مع أبيه ذاكرا له المقدمات والنتائج مما يدل على براعة إبراهيم عليه السلام في المحاورة والمجادلة بأسلوب علمي، وباستخدام البرهان العقلي في اقناع أبيه.

      لنتأمل عزيزي القارئ براعة سيدنا إبراهيم عليه السلام في اسلوبه الدعوي من محورين، أولا: مهارته في انتقاء الألفاظ وصياغة الجمل، فتجده يكرر لفظة “يا أبت” أربع مرات في حواره مع أبيه، والتي لها تأثير نفسي كبير في استمالة أبيه وحنوه على ابنه وتحريك قلبه، ولنتأمل تلك الآية” يا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ” فلم يشر صراحة إلى جهل أبيه؛ تأدبا واحتراما له، ويستخدم سيدنا إبراهيم لفظة ” يمسك” بدلا من ” يهلكك” أو ” يشقيك” مراعاة لمشاعر أبيه وتلطفا به،” يا أَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً(45) “.

      المحور الثاني في اسلوب سيدنا إبراهيم الدعوي، وأخلاقه التي يجب أن يقتدي بها كل داع إلى توحيد عبادة الله، ومقابلته الغلظة باللين والصبر واللطف في المعاملة؛ لأنه داع إلى سبيل الله ويجب أن يكون قدوة ومثالا يحتذى به، وتتجلى هذه الأخلاق في حوار سيدنا إبراهيم مع أبيه آزر، فنجده يتدرج مع أبيه في الدعوة من مرتبة إلى أخرى بصبر وثبات وشفقة ورحمة على أبيه، ولكن هذا الشقي لم ينفع معه شيئا؛ فنجده بعد كل هذا يجيب سيدنا إبراهيم قائلا: ” قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) ”  “أي إن لم تنته عن سباب آلهتي لأرجمنك ” والمرجح بالحجارة وليس السباب” واهجرني قال الحسن البصري ’زمانا طويلا‘ “[3]، فخاطب سيدنا إبراهيم عليه السلام باسمه ولم يقل “يا بني” فضلا عن رجمه وطرده، ومع ذلك نجد إبراهيم عليه السلام مع تلك الغلظة والقسوة في رد أبيه، بقول لين ولطيف ممتلئ بالرحمة والشفقة والصبر يرد على أبيه قائلا  ” سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً(47) ” أي سأستغفر لك يا أبي، “إن ربي كان ومازال بارا بي وكريما معي”(1)، فكان سيدنا إبراهيم لينا في قوله بداية ونهاية، وفي الوسط.

      فليقتد به الدعاة في زمننا هذا، وليأخذوه مثالا لهم في التحلي بالصبر والتحمل والقول اللين في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأيضا دعوة الأقارب أولا؛ فهم أولى بالدعوة، ولتأخذ عزيزي القارئ هذا الحوار نموذج رائع للحوار والجدال والدعوة إلى سبيل الله بالبرهان العقلي، والمنطق مع الصبر، والتلطف في القول والفعل. 

      ولنتوقف عند قصة وحوار آخر في القرآن الكريم، لا يقل حكمة وجمالا عن حوار سيدنا إبراهيم، ألا وهي قصة يوسف الصديق عليه السلام، فيقص الله-عز وجل- علينا عجائب من خبره، ومعروف أن قصة يوسف عليه السلام تعد من أطول القصص التي ذكرها الله في كتابه الكريم، إذ يقصها -عز جلاله- علينا في سلاسة، فهي تتميز بجمال معانيها، وتحتوي على الكثير من الحكم، والمواعظ، والمعاني العظيمة التي علينا أن نقتدي بها، ونطبقها في حياتنا، ومن أحداث هذه القصة، قصة دخول سيدنا يوسف -عليه السلام- السجن ظلما وعدوانا، وهذا ما سنسلط عليه الضوء في هذا الجزء، ولنتأمل معاً الآيات التالية، يقول الله -عز وجل- في ذكر هذه القصة: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ(42) ﴾ [يوسف: 35 – 42].

      ما يهمنا من هذه الآيات عزيزي القارئ، هو اسلوب سيدنا يوسف الدعوي، فبعد أن رأى فيه الفتيان حسن الخلق، وعلامات الإحسان على محياه، وأفعاله، “والبراهين الدالة على براءته”(1)؛ فقصوا عليه رؤياهم وطلبوا منه تأويلها، ولكن قبل أن يبدأ يوسف الصديق في تأويل الرؤى، سيستغل رغبة هذان الفتيان في سماع التأويل، واستعدادهما النفسي لذلك، ويبدأ في دعوتهما إلى توحيد الله تعالى، وترك عبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر، “وهو يخاطبهم مستخدما كلمة ” يا صاحبي السجن” فيوضح لهم صحبتهم له في السجن، ولكن الصحبة هنا مكانية لا عقائدية؛ لأنه قال لهم “يا صاحبي السجن” وليس “يا صاحبي” فقط”، ويستمر يوسف الصديق في دعوة الفتيان، “وتبيان فضل الله عليهم وعلى قومه؛ بأن الله يرسل إليهم الرسل ولكن قومه لا يشكرون”[4] ” وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)”.

      ثم يؤول سيدنا يوسف الرؤى للفتيان بدون تحديد أسمائهم حتى لا يشقى ذلك الذي سيقتل ويصلب فيقول لهما” يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)”، وهذا من لطف يوسف الصديق وذكاءه، وفطنته، وشفقته على الذي سيقتل.

      ونستقي من هذا الحوار الكثير من الحكم، والمعاني العظيمة من اسلوب يوسف الصديق الدعوي المتميز بانتقائه لألفاظه، فكان في نصحه مستخدما لطيف الألفاظ، وأيضا تدرج في دعوته من الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان بالدار الآخرة إلى النصح، والموعظة، والتحذير.

     فعلينا أن نقتدي بسيدنا يوسف -عليه السلام-، وبخاصة اسلوبه الدعوي، وصفاته، وخصاله التي يجب أن تكون مثالا لنا نضعه أمام أعيننا حتى يرشدنا إلى الطريق الصواب.

     في الختام، علينا يا إخواني وأخواتي تدبر كتاب الله -عز وجل- ، وقراءته بعقل مفكر في كل سورة وأية، بل في كل لفظة مستخدمة في كتابه العزيز؛ كي ننهل من هذا المعين الذي لا ينضب، ما ينير لنا دربنا في هذه الدنيا، وأيضا علينا تدبر قصص، وحوارات الأنبياء -صلوات الله عليهم جميعا وسلامه- فهم خير من تأخذ منهم الحكمة، والمواعظ ؛ فتكون بمثابة نبراس يرشدنا في طريقنا.

     والحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على المصطفى الصادق الأمين خير خلق الله أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.


 المصادر:

  • القرآن الكريم والتفسير الميسر، لفضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الأسبق.
  • من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، للدكتور\فؤاد بن محمود بن محمد سندي. ص121-122
  • أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي.
  • تفسير ابن كثير.

 

 

    

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد