نبراسٌ لغدٍ مشرق.. وقفة مع خواتيم سورة البقرة
“لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت” ما أعظمها من قاعدة هادية للحياة كلها، وكيف لا يكون ذلك وهي من كلام العزيز العلّام.
هذه الكلمات جزء من الآيات المباركات التي ختم الله بها سورة البقرة، والتي وصفت بأنها “تكفي الإنسان من كل شر إذا صحبها في صباحه ومسائه”، وهي التي فُتِح لها بابٌ من السماء لم يفتَح من قبلُ قطّ، لينزل منه ملاكٌ كريم يبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: “أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفًا منهما إلا أُعطِيتَه”(1)
تزخر خواتيمُ سورة البقرة بقواعد حياتية مهمة، ومعانٍ عظيمة يجب أن تقوم عليها حياة المؤمن الحق، خاصة الشباب الذي يجب أن ينشأ وقلبه معلّق بالإيمان.
بشائرُ وقواعد للحياة
إذا ما حاولنا الإبحار في بطون التفاسير لنفهم معاني هذه الآيات فإننا سنجد خيراً كثيراً، أوّله أن هذه الآيات تمتلئ بمعاني الرحمة حتى أنّ آية “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” جاءت لتطمئن قلوب المؤمنين بأن آية “وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله” قد رُفعَ حكم العمل بها، ومن ثم فقد انغرست الطمأنينة في قلوب الصحب الكرام بعد طول اضطراب، فقد مرت الأيام والليالي عليهم يتساءلون قائلين: من ينجو من عقاب الله على الوساوس والأفكار التي تخالط القلب أحيانا وهي خارجة عن سيطرتنا في أحايين كثيرة (2)
وثاني بشائر هذه الآيات نراه في مضامين قوله تعالى: “وقالوا سمعنا وأطعنا” ففيه درسٌ لنا يعلمنا ضرورة تغليب طاعة الله على هوى النفس، وقبول أوامره وتنفيذها مع الشعور بالتقصير عن توفية حمد نعم والثناء على آلائه، فلا نكون جاحدين أو منكرين، فالغفران لا يأتي إلا بالخضوع والاستسلام لأمر الله (3) فهلمّوا نفعل ذلك.
وثالث هذه القواعد نراه في قوله تعالى: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” ففيه رحمة عظيمة تأخذ بأيدينا إلى التبصُّر بسرّ التشريع الربّاني، فالأصل في الأوامر والنواهي أنها غذاء للأرواح، ودواء للأبدان، فالله تعالى أمر العباد رحمة وإحسانًا لهم، وهذه الآية تعالج النفوس المؤمنة حتى لا يخدعها شيطانها بعجزها، وتطمئن إلى رحمة الله وعدله وتتلقّى خلافة الله لها في الأرض، وتؤمن بأنّ خالقها أعلم بحالها ولا يكلفها بما يزيد عن طاقتها، فتهمّ للسعي والعمل دون أن تستثقل تكاليفه، كما أن فيها استنهاض لعزيمة المؤمن للقيام بتكاليفه وهو يحس برحمة الله به وأنه لا يكلفه بشيء يعجزه فمهما اشتد عليه أمر فإنه يعلم أن هذا من ضعفه هو لا من صعوبة التكليف الربّاني (4)
رابعًا: لو أيقن المؤمن بأنه مسؤول عن نفسه، وأن كل نفس لن تنال إلا ما كسبت، وأنها لن تحمل إلا ما اكتسبت، وأنه راجع إلى ربه فرداً بصحيفته الخاصة وأعماله، وأنه لن تزر وازرةٌ وزر أخرى، وأنه لا ينفع المؤمن أياً من كان.
حينها سيدرك الناس أن كلام البشر وأفعالهم يجب أن لا تؤثر عليهم وأنه ينبغي أن لا يلتفت إليها ما دام الإنسان مؤمنًا بالحق مدافعًا عنه حتى وإن عودي من الناس كلهم.
إن أبسط مثال على ذلك ما يحدث لنا جميعًا، فجميعنا يخضع لامتحانات الدراسة عبر الانترنت ولا رقيب علينا سوى الله، فهل ترضى بأن تغش وتضيع حق الله وتنسى مراقبته لك كما يفعل كل من حولك؟ أم تثبت وتعلم أنك ستحاسب يوم القيامة فرداً لا ينفعك كلام الناس ولا نظرتهم ولا درجاتك كلها.
خامساً: لنقف قليلاً عند الأدعية التي تملأ الآيتين، هنا يتمثّل لنا حال المؤمنين الصادقين، حيث افتقارهم وضعفهم والتجاؤهم لربهم، ولا ريب في ذلك فهو وليهم وإلههم منذ أوجدهم وأنشأهم كما أن نعمه متصلة متوالية ولا حصر لها (5) وفي هذا صفعة قوية لمن يوهمون الناس بأنهم كائنات خارقة فهذا ينادي في الناس أطلق قدراتك الكامنة وهذا ينادي فيهم أخرج الوحش الذي بداخلك ليقلب الدنيا رأسا على عقب!
أي وحش هذا وأي قدرات تلك التي إن لم يعنه بها الله انقلبت وبالاً عليه!
ففي قول المتنبي:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
وعليه فإن على الإنسان أن لا يسلّم لهذه الشعارات الخادعة عقيدته، فهي شعارات خواء، يبيع بها أصحابها الوهم..
إن طبع الإنسان وجبلّته مبنيّة على الضعف، فقد “خلق الإنسان ضعيفاً” (6) وقد تمثّل الإمام ابن تيمية هذه الحال فكتب في وصيته لتلميذه ابن القيم:
أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسكين في مجموع حالاتي (7)
وفي دعائهم “ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا” طلب بالعفو والسماح من الله، وفيه أدب بالغ لا تبجّح فيه أو تعالٍ عن الطاعة والتسليم أو الضلال عن قصد وقد رفع عن المسلمين الخطأ والنسيان رحمة من الله بهم، فالمذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء على الدوام: عفو الله عنه فيما بينه وبينه، والستر عن عباده، فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في الذنب الذي يهلكه (8)
خلاصة الكلام
لقد عاش صحابة رسول الله وأبناؤهم في هدي القرآن ونوره، ولا عجب في ذلك، فقد علمنا عنهم أنهم لا ينتقلون من آية لأخرى حتى يتموا ما بها من أحكام وتدبّر وأعمال وأخلاق، ومن ثمّ فقد انعكس القرآن واقعًا في حياتهم وخُلُقًا في سلوكهم، وأقاموا أجيالاً قوية تعبُد الله على حق.
وهنا نسأل ونتساءل:
متى يعود شباب المسلمين إلى القرآن لينهلوا من معانيه ويتخلّقوا بأخلاقه وتستنير حياتهم ويكونوا خير أمة لخير كتاب!
هلموا لنقرأ القرآن ونتدبّر آياته، ففي آيتين من القرآن وجدنا مبادئ تزخر بمعاني الرحمة والموازنة بين الضعف والقوة والافتقار لله والمسؤولية.
فإذا ما طبّق المسلم هذه المعاني فقط من حياته لَعَلَمَ وعايَنَ كيف يكون التغيّر بالقرآن وآياته.. جعلنا الله وإياكم من أهل القرآن حقًّا وأصحابه صدقًا وبلّغنا شفاعته يوم الدين.
المصادر:
[1] أخرجه مسلم (806)، والنسائي(912) باختلاف يسير.
[2] تفسير ابن كثير(28/570)
[3] في ظلال القرآن (16/343)
[4] في ظلال القرآن (27/344)
[5] تفسير السعدي ص (208)
[6] يراجَع مادة (المخلوقية والضعف) من مادة فقه النفس د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي
[7] مدارج السالكين (2/470)
[8] تفسير السعدي (1/324)
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!