منهج الدعوة وأخلاق الداعية

image_print

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]

إن الدعوة من أول ما أمر به الله -عز وجل- رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت الدعوة فريضة على المسلمين؛ نزل القرآن مبينًا منهجها وآدابها، وهو ما أحاول استنباطه من آيات القرآن الكريم في هذا المقال.

البدء بشرح العقيدة
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]

لم يبعث الله رسولًا إلا وبدأ بالتوحيد، وقد قص الله تعالى عن نوح وهود وصالح وغيرهم أن كلًا منهم جاء قومه فقال {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59-65 وغيرها]، فعلى الدعاة إلى الله أن يبدؤوا بالأهم فالمهم، فطوال فترة حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاث عشرة سنة بمكة بعد البعثة لم تنزل في القرآن أحكام من صيام أو زكاة أو تحريم خمر إلا أن الصلاة فرضت في السنة العاشرة للبعثة، إنما نزلت الأحكام في المدينة بعدما هاجر الرسول وقوي الإسلام.

الإقناع العقلي والدعوة للتدبر والتفكر
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]
قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ} يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للمنكرين للبعث بعد الممات، الجاحدين الثواب والعقاب: {سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ} الله الأشياء وكيف أنشأها وأحدثها؛ وكما أوجدها وأحدثها ابتداءً، فلم يتعذّر عليه إحداثها مُبدئًا، فكذلك لا يتعذّر عليه إنشاءها معيدًا {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} يقول: ثم الله يبدئ تلك البدأة الآخرة بعد الفناء.[1]

إن الإسلام -بخلاف الأديان الباطلة- يدعو إلى التأمل والتدبر، فالعلم حجة للإسلام لا عليه، والقرآن يستعمل العلم حجة على صحة الإسلام، فمن منهج الدعوة التذكير بنعمة العقل الذي يميز الإنسان عن غيره، والتذكير بقبح عدم استخدام هذا العقل في معرفة الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه.

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]

ونرى خطاب إبراهيم العقلي لقومه، قال الله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [سورة الشعراء: 72-73]

اللين والرحمة في الدعوة
قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة.[2]

على الداعية أن يكون لينًا رفيقًا في دعوته؛ حتى يستميل قلوب من يدعوهم، وألا يكون فظًا ينفر الناس منه كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران : 158].

نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد في موقف الرسول مع من فر من المسلمين يوم أحد، وتبرز أهمية اللين والعفو عن الزلات وإظهار الحب للمدعويين، وأهمية اجتناب الفظاظة والغلظة، فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك “لنت لهم”، لأتبَّاعك وأصحابك، فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمَه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتَّبعك ولا ما بُعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم.[3]

العدل والثبات على المبادئ
إن العدل من أهم صفات الدعاة، ونرى قول الله على لسان نوح – عليه السلام – لقومه لما طلبوا منه طرد الفقراء الذين آمنوا من قومه {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود : 29]، وكان نوح قال ذلك لقومه، لأن قومه قالوا له كما حدثنا عن ابن جريج، قوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم)، قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء. فقال: {ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم}، فيسألهم عن أعمالهم.[4]

فنرى كيف لم تغرِ نوحًا -عليه السلام- عروض كفار قومه، ونرى ثباته على الحق والعدل ورفض ظلم الضعفاء المؤمنين، فعلى الداعي إلى الله ألا يقدم التنازلات على حساب الحق والعدل، ولو حسب أن ذلك سينفعه.

الصبر على الدعوة
الصبر صفة الأنبياء وصفة أولي العزم من الرسل، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ } [الأحقاف : 35]، والداعية سيواجه كثيرًا من التحديات والصعوبات أثاء دعوته؛ فعليه أن يصبرعلى ذلك؛ فالصبر صفة ملازمة للدعوة لا تتم بدونها، ونرى قول الله تعالى على لسان لقمان وهو ينصح ابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان:17]، وقد أقرن لقمان الصبر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يدل على ارتباطهما الوثيق، وقد قال الله أيضًا في خاتمة آل عمران {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]

وقد ذكر الله تعالى في القرآن قصة نوح -عليه السلام- وقد مكث في قومه خمسين وتسعمائة سنة لم يمل من دعوة قومه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت : 14]، ولم ييئس منهم حتى نزل عليه الوحي، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود : 36]

وفي تفسير الآية من سورة العنكبوت يقول ابن كثير: هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه، يخبره عن نوح عليه السلام: أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهارًا، ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارًا عن الحق، وإعراضًا عنه وتكذيبًا له، وما آمن معه منهم إلا قليل، فأنت – يا محمد – لا تأسف على من كفر بك من قومك، ولا تحزن عليهم؛ فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور.[5]

إخلاص النية وعدم طلب الأجر
كلما جاء نبي قومه قال لهم {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء : 109،127،145،164،180]، فمن يدعو إلى الله لا ينتظر أجرًا، فالمقصد والمبتغى من الدعوة يجب أن يكون رضا الله.

وقد حذر الله من الرياء إذ قال {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47]، وكان الرياء من شيم الكفار،وقد قيل في تفسيرالآية: هذا تقدُّمٌ من الله – جل ثناؤه – إلى المؤمنين به وبرسوله، ألا يعملوا عملًا إلا لله خاصة، وطلب ما عنده، لا رئاء الناس، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلبَ رئاء الناس.[6]

القدوة الصالحة
على الداعي أن يكون قدوة صالحة لمن يدعوهم؛ قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وكما قال الشاعر أبو الأسود الدؤلي:

                   لا تنهَ عن خلُقٍ وتأتيَ مثلَه         عارٌ عليك إذا فعلت عظيم[7]

وقد قال شعيب -عليه السلام- لقومه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه.[8]

التوكل على الله
وأختم المقال بالتوكل على الله؛ وهو خلق بدونه لا يوفق الداعية أبدًا، وقد تكرر التوكل كثيرًا في العديد من الآيات، منها قول الله تعالى على لسان إبراهيم – عليه السلام -: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]

وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]

 وتفسير الآية: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك {فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي [العزيز] الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه.[9]


الهوامش

[1]  تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura29-aya20.html

[2] تفسير القرطبي https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/qortobi/sura16-aya125.html#qortobi

[3] تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura3-aya159.html

[4] تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura11-aya29.html

[5] تفسير ابن كثير http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura29-aya14.html

[6] تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura8-aya47.html

[7] الديوان » العصر الاموي » أبو الأسود الدؤلي » حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه https://www.aldiwan.net/poem50221.html

[8] تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura11-aya88.html

[9] تفسير السعدي https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/saadi/sura65-aya3.html#saadi

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد