مقالات

كيف تضيع الأخلاق؟

أن يكون هذا الزمن متطورا في مختلف النواحي المادية والتقنية والصناعية فإن ذلك لا يعني علوّ سويّة الأخلاق والقيم والإنسانية فيه، بل إن هذا التباين الحاصل مؤشر واضح على وجود خلل في تركيبة الإنسان المعاصر، وهو دليل قاطع على حالة الانحدار السريع نحو تلاشي القيم الأخلاقية وضمور الحس الإنساني، لأن أصل الصلاح البشري ليس بلوغ التطور المادي وإنما التوفر على فكر سليم وروح نقية وقيم نبيلة، وفي حال غياب ذلك أمام الاستفحال المادي الواقع في عصرنا فإن الانحدار الأخلاقي حتمي وسيكون مصير البشرية الذي لا مفر منه قاتما.

خطوات في طريق الانحراف
“كانت النصرانيات واليهوديات من أهل الشام يلبسن قبل الحرب الأولى الملاءات[1] الساترات كالمسلمات، وكلّ ما عندهن أنهن يكشفن الوجوه ويمشين سافرات، وجاءت مرة وكيلةُ ثانوية البنات إلى المدرسة سافرةً، فأغلقَت دمشق كلها حوانيتَها وخرج أهلوها محتجّين متظاهرين، حتى روّعوا الحكومة، فأمرَتها بالحجاب وأوقعَت عليها العقاب، مع أنها لم تكشف إلاّ وجهها، ومع أن أباها كان وزيراً وعالِماً جليلاً وكان أستاذاً لنا”[2].

علي الطنطاوي

هكذا يحكي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عن الحال التي كانت عليها بلاد الشام، كانت النساء المسلمات متسترات تمام التستر، حتى أن غير المسلمة كانت تُعرَف بسفور وجهها، وكان الرجال يغارون أشد الغيرة على أعراضهم وعلى أخلاق مجتمعهم، كل ذلك كان قبيل عام 1914م، ولأن طبيعة هذا المجتمع تبعد الشباب عن الانشغال بالمغريات والالتفات للشهوات، لم يكن هنالك ما يلهي ويصرف الشباب عن التعلم والبناء، فكان إزالة تلك الحواجز بين الشباب وما يلهيه هي الخطوة الأولى لهدم كيان المجتمع عن طريق هدم شبابه، وبدأ ذلك في فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا حيث بدأوا بجعل المدارس مختلطة وبإدخال المدرسين من الرجال على البنات بحجة فقد المدرّسات القادرات، ثم احتجوا بالرياضة فكشفوا من أجلها ما كان مستورًا من الأجساد[3].

عقود تلو عقود، وهذه الحوادث وغيرها تتصاعد مع مرور الزمن ويزداد الفساد أكثر فأكثر، فبعد أن كان الناس حريصين على أن تصبح الأخلاق الحسنة هي السمة العامة لمجتمعاتهم وأن يكون من يخالفها شاذا عنها منبوذا منها، أصبح الالتزام بالأخلاق من عدمه أمرا اختياريا مرهونا بإرادة الفرد، وما زلنا نشهد الحملات الممنهجة لنشر الفوضى في الأخلاق وتضييع القيم الاجتماعية بإماتة الحياء والغيرة.

نماذج على طريق الضياع
استوقفتني مقاطع مصوّرة بثتها إحدى الصفحات السورية التي تجاوز متابعوها المليون على منصة يوتيوب، وما هي إلا دقائق حتى ظهر فيها ما يندى له الجبين وتقشعر منه الأبدان، فمحتوى الفيديوهات المصوّرة لا يوحي بأنها صُوّرت في مدينة محتشمة حيث إن كل ما فيها يثير الغرائز ويحرك الشهوات ويظهر تدنى مستوى الحياء وذهاب فكرة الغيرة على الأعراض من عقول الناس بشكل علني جهارا نهارا.

يقف مقدم المحتوى في الشارع يستضيف المارة ثم ينثني إليهم بأسئلة ملؤها الميوعة، ووصل به الأمر أنه تحدى إحدى الفتيات “المحجبات” بأن تلحق أحد الرجال طالبةً منه أن يخطبها، ويا له من مشهد مؤلم أن يكون الاستهتار بالحياء أمرا سائغًا ومضحكًا ما دام في إطار كوميدي جذاب.

لنفترض حسن الظن بالصفحة وأن القائمين عليها ليسوا من رعاع الناس، وأنهم لم يختاروا أحياء معينة دون أخرى ليقوموا بمقابلاتهم فيها، وأن هدفهم هو فقط رسم البسمة على وجوه الناس، وحَـمْلهم على حسن الظن كان لأن وجود أمثالهم ليس هو المصيبة الآن، إنما قبول عامة المجتمع لهذا النوع من الأفكار وكأن ما يقومون به نوع من الترفيه المباح هو المصيبة بعينها.

ماذا يبقى من المجمع إن هدِمَت الأخلاق
من المؤكد أن الأخلاق تشكل ركنًا أساسيًّا في أي مجتمع، فهي الضامن لاحترام الناس بعضهم لبعض، وهي السبيل لتمتين العلاقات وتعزيزها بالمحبة والأدب، وهدم أخلاق المجتمع يتخذ أشكالاً مختلفة وينطلق من نقاط متعددة، كالانحلال الشهواني أو تفشي الفساد المالي، وباجتماع هذه الآفات كلها تكون أركان الأخلاق في المجتمع قد نقضت واحدة تلو الأخرى.

إن كون انتهاء الأمة مقرونا باتباعها لشهواتها وانتشار الفسق فيها هو سنة الله في الكون، فقد قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، حيث يرى المفسرون أن معنى الآية هو تسلّط الأشرار فيها حيث يصعّدون من معاصيهم فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب[4].

يروي لنا التاريخ حادثة لمروان آخر خلفاء بني أمية حيث مرّ براهب وهو هارب من العباسيين، “فاطَّلَع عليه الراهب فسَلَّمَ عليه فقال له: يا راهب هل عندك علم بالزمان؟ قال: نعم! عندي مِن تلَوُّنه ألوان. قال: هل تَبْلُغ الدنيا من الإنسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالِكا؟ قال: نعم! قال: فكيف؟ قال: بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها”[5].

ومن ذلك ما حدث في عصر سقوط الأندلس، حيث “إن الأندلسيين في أواخر أيامهم، ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى والحياة العابثة، والمجون وما يرضي الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، لقد استناموا للشهوات وللسهرات الماجنة والجواري الشاديات، وبحكم البديهة فإن شعبا يهوي إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة والمجون، لا يستطيع أن يصمد رجاله لحرب أو جهاد، أو يتكون منهم جيش قوي كفءٌ للحرب والمصاولة”[6]، وقد أشار المستشرق كوندي إلى سبب انهيار الحضارة الإسلامية في الأندلس ورضوخها آخر المطاف لسلطة ممالك إسبانيا النصرانية بقوله: إن العرب سقطوا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب، يميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال بالشهوات”[7].

الأخلاق وسُنن التاريخ

مالك بن نبي

في إطار دراسة ابن خلدون لتاريخ السقوط والنهوض في الأمم السابقة توصّل إلى ارتباط انهيار الملك في دولة ما بفساد رؤسائها وركونهم إلى فاسد العمل، فقال: “إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، فتُفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم”[8]

ويقول مالك بن نبي في الإطار ذاته: “دورة الحضارة إذن تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة، أو عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين على حد قول (كيسرلنج)، كما أنها تنتهي حينما تَفقد الروحُ نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح”[9].

وهنا يأتي سؤال لا بد منه، وهو: كيف وصل الغرب إلى هذه الحضارة مع قلة انتشار الأخلاق فيه؟
لعل من أهم أسباب بقاء الغرب متحضرا إلى الآن هو تمسكه ببعض القيم القانونية والأخلاقية التي تضمن تماسك بنية الدولة واستمرار تقدّم دورة العلم والمال فيها، لكن هذه الظاهرة لا تنفي مساوئ تحول العلم من معرفة إلى صانع للمادة، فقد أدى ذلك إلى الإسهام في انتشار الإلحاد واندثار كثير من القيم الأخلاقية، وهو أمر مؤذن بقرب نهاية دورة الحضارة فيها[10].

إن للحضارة شقان: شق مادي، وشق ثقافي، فهم الآن في أوج عصور حضارتهم المادية، ولكن على صعيد الثقافة والأخلاق فهم على شفا جرف هار، أما المسلمون فقد تهدّم بنيانهم المادي وضاع شقهم الثقافي، وطريق الخلاص من ذلك يبتدئ بإعادة بناء منظومة الأخلاق بما يرضي الله الذي قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].

                   وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

إن من أهم الواجبات على المؤثرين في الشعوب المسلمة أن يعملوا على تنمية فطرتهم الطيبة قبل أن يأتي من يستعملها لحظوظ نفسه ولأفكار متطرفة لا تمت للإسلام بصلة، وأن يسعى لإصلاح الأخلاق وتقويمها فهي عماد ثبات المجتمع، وهي بداية عودتنا إلى أفضل مما كنا عليه إن شاء الله، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

[1] أي العباءات.

[2] ذكريات، علي الطنطاوي (5/ 291).

[3] ينظر: ذكريات، مرجع سابق، (5/ 271).

[4] التفسير المنير للزحيلي (15/ 37).

[5] البداية والنهاية ط الفكر (10/ 48).

[6] مصرع غرناطة، شوقي أبو خليل ص94 بتصرف.

[7] عوامل النصر والهزيمة، شوقي أبو خليل ص110.

[8] مقدمة ابن خلدون ص130، ط دار الشعب، ت علي عبدالواحد وافي.

[9] شروط النهضة (ص: 70).

[10] للمزيد انظر كتاب الإسلام والغرب للشيخ البوطي ص21، وكتاب نحن والحضارة الغربية لأبي الأعلى المودودي ص30، ومقال “الأخلاق ودورها في سقوط الحضارات” لمحمد عدنان شيط.

مرجعية الأخلاق بين الفردانيّة والدين

من البدهيّ أن يكون للإنسان مرجعيّة يستمدّ منها مفاهيمه ويَبني من خلالها تصوّراته التّي تنبثق منها سُلوكيّاته، وبها يُصدر أحكامًا ومواقف حول الأحداث التّي تعترضُه، ومن الطبيعي أن اختلاف المرجعيّات يُنتج مفاهيم مُتباينة ومُتناقضة، وسينعكس ذلك على سُلُوكيّاتنا داخل مُجتمعاتنا.

في ظلّ واقعنا الذّي يَشْهد موجةً مُتسارعة للتّحديث الهادف لطمس الهويّة الإسلاميّة واجتثاثها من نُفوس المُنتمين إليها، فإنّنا نُلاحظ تكوّن تيّارٍ اجتماعيّ يجعلُ الغرب مرجعيّته في الحياة، ممّا إنعكس ذلك على مُختلف جوانب حياتنا اليوميّة. ولعلّ من أبرز هذه الانعكاسات هو التغيّرات التي طرأت على مفهوم الأخلاق، ومن هنا أصبح هنالك تساؤل جديد فيما بيننا حول مرجعيّة الأخلاق: هل هي الدّين وفق المنهج الإسلامي أم هي العقل وفق منهج الفردانيّة والتمركز حول الذات؟

مرجعية الأخلاق، بحثٌ عن الجواب
يُجيبنا عن هذا التّساؤل الدّكتور عبد الوهّاب المسيري فيقول:” كيف يُمكن للعقل في إطار العقلانيّة الماديّة أن يفرّق بين ما هو أخلاقي وبين ما هو غير أخلاقي؟ فالعقل إذا كانت مرجعيّته النهائية الطبيعة، أي المادة، وهو قادر على اكتشاف مبدأ السببيّة العامّة في الأشياء والدوافع الغريزيّة في الإنسان، التّي تؤكّد الحتميّات الماديّة الخارجيّة، وتنكر ضمنًا استقلاليّة الإنسان وحركته، علمًا بأنّ العقل المادي المحض يوجد داخل حيّز الماديّة فحسب، وقد وصفه أحد المُفكّرين بأنّه لا يشع نورًا، وإنّما هو موصل جيّد للنور أو الظّلام”(1) فإن العقل المادّي ههنا سيبقى وحده عاجزًا عن أن يصل للمفهوم الصّحيح للأخلاق، بل قد يجعل من الباطل والظُلم خُلُقًا يُدافع عنه!

ولنضرب مثالاً قريبًا على ذلك، فعندما بلغ انتشار فيروس كورونا ذروته وتدَهور الوضع الاقتصادي العالمي، قرّرت الحكومة الأمريكيّة -استنادًا إلى العقل الاقتصادي- التخلّي عن الكبار في السنّ وذوي الاحتياجات الخاصّة لأنّهم لا يُمثّلون قوّة إنتاجيّة في المجتمع وفي المُقابل منح الأوليّة في الرّعاية الصحيّة لباقي أفراد المُجتمع بسبب التّكلفة الباهظة للمُعدّات الصّحيّة، إذ إن العقل المادي المُحايد لا يُحابي أحدًا، فهو لا يرى إلاّ مصلحته الآنية الضيّقة المُستندة على الأرقام والإحصائيّات ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامّة.

إن الخلاصة من هذا كلّه أنّ الدّفع بالأخلاق عن كلّ مرجعيّة دينيّة هو دفعٌ بها نحو أخلاق الجاهليّة العمياء.

 ولنا أن نتساءل هنا: كيف وصل الغرب إلى مفهوم “الأخلاقي” وما هي مرجعيّته في ذلك؟ وكيف انعكس هذا المفهوم على مُجتمعاتنا المُسلمة وما هي حقيقة نظرة الإسلام للأخلاق؟

فلسفة الأخلاق في الغرب
كان مصدر الأخلاق في أوروبا هو الدّين المتمثّل في الدّيانة المسيحيّة التّي تعرضت لتحريف حقائقها فكانت النّتيجة الحتميّة الابتعاد عن المفهوم الصّحيح للأخلاق لأنّها قرينة للعقيدة ومُنبثقة منها، وعندما احتكّ الغرب فترة الحروب الصّليبيّة بالمُسلمين ودخلوا بُلدانًا إسلاميّة ومكثوا فيها، استفادوا من الأخلاق الإسلاميّة فقد لاحظوا سلوكيات أخلاقية متعددة لديهم كالأمانة عندما يترك التجّار دكاكينهم للصّلاة مفتوحة ثمّ يعودون إليها ولم ينقص منها شيء، ولاحظوا أخلاق الأخوّة والتّعاون والمحبّة والرّحمة بين أفراد المُجتمع الواحد، إضافة إلى إتقان ونشاط واجتهاد العامل المُسلم في عمله، وتعلّموا أيضًا معنى الوفاء بالعهد خاصّة في تعامُلهم مع صلاح الدّين الأيّوبي، و لنضف إلى ذلك كلّه الرّوح الرّومانيّة القديمة التي كانت تتميّز بالنّشاط و النّظام و التّحسين في عالم المادة و الإنتاج، و من هذا المُنطلق الدّيني و الرّوماني تكوّنت مجموعة من الفضائل والأخلاق الكريمة في الغرب بقيت مُنتشرة بينهم لأنّهم لاحظوا منفعتها داخل مُجتمعاتهم ومدى أهمّيتها في تنظيم حياتهم. ولا ننسى أيضًا تأثير الفلسفة اليونانيّة على حصيلة الأخلاق الأروبيّة حيث أصبحت قائمة على التّفرقة بين النّظريّة والتّطبيق، فتحوّلت الأخلاق إلى نظريّة في عالم المُثل وبقي الالتزام بها وتطبيقها مُرتبطًا بالظّروف و محكومًا بالضّرورات.

ففي السياسة أصبحت القاعدة العامّة “الوسيلة تُبرّرُ الغاية” وأصبح هنالك نوع من المكر والخداع واستغلال النّفوذ من أجل تحقيق مصالح حزبيّة أو شخصيّة ضيّقة، وتحوّلت السياسة الخارجيّة إلى فكر استعماري هدفه السيطرة على الدّول الأخرى واستنزاف خيراتها عن طريق الحروب المُدمّرة ومُساندة المُستبدّين والظّالمين حفاظًا على مصالحهم. فعلى سبيل المثال تمّ عقد اتّفاقيّة سريّة سنة 1916 بين فرنسا و بريطانيا و روسيا عُرفت باسم اتّفاقيّة “سايكس بيكو” هدفها إقتسام الدّول العربيّة الواقعة شرقي المتوسّط، و تمّ الاتّفاق على أن تقوم فرنسا بالاستلاء على غرب سوريا و لبنان و ولاية أضنة، و أن تقوم بريطانيا بالاستيلاء على منطقة جنوب و أواسط العراق بما فيها مدينة بغداد و كذلك ميناء عكا و حيفا في فلسطين، و أمّا روسيا فمن حقّها الدّفاع عن مصالح الأرثوذكس بالأماكن المُقدّسة بفلسطين. و من الأمثلة أيضًا السياسة الخارجيّة التّي تنتهجها الإدارة الأمريكيّة في تعاملها مع عالمنا العربي الإسلامي، حيث أصدر “مركز القرن الأمريكي الجديد” بحثًا جديدًا بعنوان “التّكيّف الإستراتيجي” وردت فيه التوصيّات التّالية التّي تعتمدها أمريكا: أ- حماية أمن حلفاء أمريكا و رعاية السّلام العربي الإسرائيلي، ب- نشر القيم الأمريكيّة و أسلوب الحياة الأمريكية، ت-محاربة الإرهاب، ث- الوصول الآمن للنّفط، ج-دعم الأنظمة العربيّة المُستقرّة و لو كانت ديكتاتوريّة، ح- التّمييز بين الأفراد و الحركات المعادية للقيم الأمريكيّة و بين من يقبلونها (2).

سيغموند فرويد

وفي الاقتصاد قامت الرّأسماليّة على الرّبا والاستئثار بالثّروات وعلى الجشع والأنانيّة ونهب المواد الخام من الشّرق من أجل الرّبح المادي مع الحرص على  إغراق أصحاب هذه المواد في الفقر والتخلّف والجهل  مع تصدير لهم المفاسد والملذّات وأدوات الزّينة والملابس من أجل تحقيق الرّبح المادّي، وفي الجنس أصبح هنالك انفصال عن الأخلاق أساسه التّفسير الحيواني للإنسان ولا غرابة من أن نجد الفيلسوف فرويد يقول:” إنّ الإنسان لا يُحقّق ذاته بغير الإشباع الجنسي وكلّ قيد من دين أو أخلاق أو مُجتمع أو تقاليد هو قيد باطل ومدمّر لطاقة الإنسان وهو كبت غير مشروع”(3).

وبذلك أصبح الجنس عمليّة بيولوجيّة لا علاقة لها بالأخلاق، ولا ننسى أيضًا المثليّة الجنسيّة حيث أصبحنا نشاهد في الغرب مراسيم زواج بين طرفين من نفس الجنس باسم الحرّية الزّائفة. وقد وقع هذا التحوّل الأخلاقي تدريجيًّا ولم يبق من الأخلاق إلاّ فضائل محدودة في التّعامُلات اليوميّة، والسؤال المطروح هنا كيف انعكس ذلك على مُجتمعاتنا المُسلمة؟!

الأخلاق الغربية، انعكاسات وآثار
بسبب انبهار المسلمين بالتقدّم العلمي والمادي في الغرب، وظن كثيرٍ من المؤثرين فيهم بأن سبيلنا للنّهوض هو التّقليد الأعمى للغرب، فقد صار المسلمون يقلّدونهم في كلّ شيء، إلاّ في تطبيق شروط التقدّم والتّطوير العلمي! فقد أصبحنا نشهد انفصالاً بين الإسلام والواقع، ففي السّياسة أصبحت الفكرة السّائدة إذا أردت مُمارسة السّياسة فعليك ترك القيم والمبادئ الأخلاقيّة واستبدالها بالنّفاق والكذب والخداع والغشّ، وأصبح الحُكم عندنا غاية هدفُها تلبية غريزة السّلطة في نُفوسنا وتحوّلت السّياسة إلى سبيل لخدمة المصالح الذّاتيّة وبيع الذّمَم كالقبول بالذلّ وخدمة المصالح الغربيّة وبيع الوطن من أجل البقاء في الحكم، وفي الاقتصاد أصبح همّنا الرّبح المادّي وتحقيق الثّراء الفاحش حتّى عن طريق السّرقة من المال العام والظّلم والسّلب والاحتيال والرّشوة والتّعامُل بالرّبا ولم يعُد هنالك وزنٌ لكلمة “المال الحرام”، وفي الجنس انتشرت بيننا الميوعة، وبات يُطلق اليوم على الزّنا “علاقة حبّ” وأصبحت الزّانيات يُطلق عليهنّ ” الأمّهات العازبات” وأصبح التعرّي دليل على الرّقيّ والثقافة وأصبح الشّذوذ حريّة وجب القبول بها. ورغم هذا الفساد الأخلاقي مازال منّا من يقول أنّ للغرب فضائل مثل الصدق والأمانة والعدل والإتقان والجودة في العمل ولو التزمنا بها سنُصبح مثلهم، ولكنّنا تناسينا أنّ هذه الفضائل نفسها لا يخلوا منها مُجتمع، حتّى في الجاهليّة حيث كان العرب يتّسمون بالشجاعة والصّدق والكرم، وفي المُقابل كان الظلم والفساد والكُفر مُنتشراً بينهم، وما حافظ الغرب على هذه الفضائل إلاّ في حدود القوميّة والمنفعة من أجل استقرار مُجتمعاتهم وحُسن تنظيمها، وأمّا خارجها وعند تعارض المصلحة فلن تكون لهذه الأخلاق قيمة وخير مثال على ذلك الإساءة التّي حصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في فرنسا، فمن الأخلاق احترام الآخرين وخاصّة الأنبياء، وعدم السّخرية منهم وترويج الأكاذيب حولهم، ولكنّهم في المُقابل يُعاقبون من يسخر من مسؤول حكومي عندهم لأنّه قد يتسبّب ذلك في عدم الاستقرار وتفقد حكومتهم هيبتها داخل مُجتمعهم!

علم قوس قزح لتأييد حقوق المثليين والشواذ

 

مفهوم الأخلاق في الإسلام
إنّ المُسلم الذي يلتزم بالأخلاق الفاضلة إنما يطيع الله ويسعى لنشرها في واقع النّاس وتطبيقها، وسعيُه هذا عبوديّة لله، فالأصل أنه لا وجود لانفصال بين الإسلام والواقع عملاً بقوله تعالى:” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ”(4).

ففي السياسة نرى أن كلّ مسؤول مُطالب بتحقيق العدل والإصلاح ومُحاربة الفساد مُلتزمًا في ذلك بالمنهج الإسلامي عملاً بالقاعدة التّي أرساها الخليفة عمر بن عبد العزيز حيث قال له والي خراسان إنّ شعبها لن يُصلحه إلاّ السيف والسّوط، فكان جواب عمر له: ” كذبت، بل يُصلحهم العدل والحقّ فابسط ذلك فيهم واعلم أن الله لا يُصلح عمل المُفسدين”(5).

وفي الاقتصاد نرى أن كلّ مُسلم مُطالب بمُقاطعة المال الحرام والالتزام بالصّدق والأمانة وحُسن الأداء عملاً بقوله صلّي الله عليه وسلّم:” التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ”(6)، وفي العلاقة بين الجنسين فإننا مُطالبون بالعفّة ونقاوة السّريرة وبغضّ البصر والسّتر والحياء في القول والفعل وفي اللّباس عملاً بقوله تعالى:” قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ” (7).

إن أخلاق الإسلام واضحة وعلينا أن نكون مُخلصين فيها لله وحده وما تشهده مُجتمعاتنا من أزمة القيم والمبادئ هو بسبب تخلُّفنا نحن عن ديننا وبداية الإصلاح تكون بتصحيح المفاهيم وبمُجاهدة النّفس على الالتزام بمنهج الإسلام.


الهوامش:

(1): حوار حول التّراث والحداثة، د. نعمان عبد الرزاق السامرائي، سلسلة كتاب الأمة، الطبعة الأولى، 2015، ص: 80.

(2): المسلمون و الحضارة الغربية، د. سفر عبد الرحمن الحوالى، الطبعة التمهديّة،2018، ص: 38.

(3): جاهليّة القرن العشرين، محمد قطب، دار الشروق للنشر، 1993، ص: 175.

(4): سورة الأنعام، الآية 162-163.

(5): الدولة في الإسلام، خالد محمد خالد، دار ثابت للنشر، الطبعة الأولى، 1981، ص: 109.

(6): تحفة الأحوذي، كتاب البيوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، الحديث رقم: 1209، ج4- ص” 335.

(7): سورة النور الآية 30-31.

 

  

  

مبادئ من عَبَق أم مبادئ من ورق؟

تعتبر الحياة المكونة من توازن القيم والمبادئ والأخلاق والعمران الأساس للنهضة وبناء الحضارة المستمرة، فلا يمكن أن تقوم النهضة الحقيقية دون أساس أخلاقي ينصف الفقير والمظلوم والضعيف، كما أنه لا يمكن أن تتقدّم الحياة في ظل الاضطراب والحقد الداخلي المتبادَل، ولذا فإن المجتمع يسمو بمواطنيه وأخلاقهم وقيمهم ومبادئهم وما يقدمونه من إسهامات فاعلة لتحقيق الاستقرار، لذلك يجب التمسّك بالمبادئ والقيم والصفات النبيلة والإنسانية والاخلاق الحسنة والعمل على نشرها بين الناس حتى تترسخ هذه المبادئ وتمنع من انتشار القيم المفسدة له.

إنّ روح الإنسان كشجرةٍ وارفة الظلال ومبادئها الجذور، وإنّ من الجذور لممتدّة في الأرض عمراً من نور، وإنّ من الجذور جذورًا أصابها الضعف فاستقرت في الأرض لا تظهر، وإنّ المبدأ ميزان حرارة الإيمان، وعلى كل مؤمن أن يظهر الخير من نفسه، ولا يجعل روحه ضائعة في الخذلان والندم، وشتّان بين نقيّ المبادئ وبين مشوبها.

التثبيتُ منّةٌ من الله
لنحملَ بيدنا مقاييس نورانيّة علّها تعطي كلّ واحد منّا إجابة: هل أنا من يُثبت دوماً في أرض الصلاح القدم؟

إنّ التمسّك بالمبادئ يحتاج إلى تثبيت من الله تعالى، وهو مصداق قول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، والتثبيت بحدّ ذاته يتطلّب صلة راسخة مع الله، تسقي فسيلة الروح حتى تغدو شجراً يبثّ نقي الأوكسجين في بيئة القضيّة، ويمتصّ كلَّ غاز سامٍّ يُنفثُ ممن اختاروا أن يكونوا للفساد رعيّة.

ولذلك كان رسول الله ﷺ يُكثر من دعاء: (يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك) وقد ذكرته زوجه أم سلمة رضي الله عنها عندما سألها شهر بن حوشب يا أمَّ المؤمنينَ ما كانَ أَكْثرُ دعاءِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا كانَ عندَكِ؟ قالَت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: ((يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ.)) فتلا معاذٌ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [الإسراء: 74]. [حديث صحيح، رواه الترمذي]

كيفَ تُنحَت المبادئ
إن مقياس المبدأ ينطلق من الشريعة الغرّاء لا من موافقتها للأهواء، وبما أن الشريعة ليست ثوباً يُفصّل، ولا مصفوفة يُقرّب فيها ما نحبّ وما لا يعجبنا يُقصى ويُؤجّل، فإن الإقرار بعلوّها والتسليم لها والتمسّك بتعاليمها بداية الطريق للثباتِ على المبادئ التي أقرتها.

إن المبدأ هويّة الإنسان، ولذا نرى كثيرًا من الناس يسقطون عند العاصفة الأولى ويتغير منهم الحال، بينما نرى آخرين راسين ثابتين كالجبال.

قد نرى أحدهم في حال اليسر ينافح عن تحريم الربا إلا أنه حين اهتزّ مركب تجارته لجأ للاقتراض بفوائد عالية!!

إنه يحدّث مفاهيمه بحسب الواقع المحيط به. وقد وصف الله تعالى الناس الذين تموج بهم الفتنة منذ الصدمة الأولى فقال عنهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} [الحج:11]

كما أن آيات القرآن رسمت لنا الخطوط الدقيقة للدنيا، ووضعت الطريق الذي يأخذنا إلى الحقيقة.. فالدنيا بوصف القرآن مساحة ممتلئة بالفتن التي يكسوها البريق، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ولا بد لنا أن نعرف حقيقتها أولاً لنقيس مبادئنا عليها.

وهنا يأتي دورنا في الالتجاء إلى الله وطلب الثبات منه، إذ الثبات على المبدأ ليس جهداً شخصياً وإنّما هو مدد ربّاني{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، ولذلك فإن لزوم القرآن والسنة هو الطريق الآمن للحفاظ على الرصيد الإيماني.

تحديد نقطة الضّعف ورحلة العلاج
نقطة الضعف هي بوابة الدّخول للنهاية، فإن لم تُعالَج منذ البداية، فإن الإنسان سيستمر في الغوص بالخطأ والبعد عن المراد الإلهي، ومن ثمّ فإن الأولى أن يبدأ الإنسان بتحديد نقاط قوّته ونقاط ضعفه وتحديد مساره والنّظر في الدّافع والغاية.

عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ: ((سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) [حديث صحيح، رواه البخاري]

لقد بشّر رسول الله ﷺ المتمسّكين بالإسلام ومبادئه، فقال مخاطباً الصحابة الكرام عمّا سيعتري الناس في الأزمان التالية لزمنهم: ((إِنَّ مِنْ ورائِكُم زمانُ صبرٍ، لِلْمُتَمَسِّكِ فيه أجرُ خمسينَ شهيدًا منكم)) [حديث صحيح، صحيح الجامع].

قد يختلفُ الزمان والمكان، إلا أنّ استهداف الإسلام ومبادئه لا يكون إلا بالنفوذ إلى الحلقات الضعيفة في أنفسنا وقلوبنا، ومن ثم فإنه حريٌّ بنا أن نقوّي صلتنا بالله وأن لا نكون سببًا في ضعف الإسلام وقيمه في قلوب الناس وعيونهم ،فشتّان بين من تختار روحه التصحّر وبين من تختار روحه أن تكون غيثًا تنشر الخير لمن اختار السعادة

منهج الدعوة وأخلاق الداعية

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]

إن الدعوة من أول ما أمر به الله -عز وجل- رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت الدعوة فريضة على المسلمين؛ نزل القرآن مبينًا منهجها وآدابها، وهو ما أحاول استنباطه من آيات القرآن الكريم في هذا المقال.

البدء بشرح العقيدة
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]

لم يبعث الله رسولًا إلا وبدأ بالتوحيد، وقد قص الله تعالى عن نوح وهود وصالح وغيرهم أن كلًا منهم جاء قومه فقال {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59-65 وغيرها]، فعلى الدعاة إلى الله أن يبدؤوا بالأهم فالمهم، فطوال فترة حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاث عشرة سنة بمكة بعد البعثة لم تنزل في القرآن أحكام من صيام أو زكاة أو تحريم خمر إلا أن الصلاة فرضت في السنة العاشرة للبعثة، إنما نزلت الأحكام في المدينة بعدما هاجر الرسول وقوي الإسلام.

الإقناع العقلي والدعوة للتدبر والتفكر
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]
قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ} يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للمنكرين للبعث بعد الممات، الجاحدين الثواب والعقاب: {سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ} الله الأشياء وكيف أنشأها وأحدثها؛ وكما أوجدها وأحدثها ابتداءً، فلم يتعذّر عليه إحداثها مُبدئًا، فكذلك لا يتعذّر عليه إنشاءها معيدًا {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} يقول: ثم الله يبدئ تلك البدأة الآخرة بعد الفناء.[1]

إن الإسلام -بخلاف الأديان الباطلة- يدعو إلى التأمل والتدبر، فالعلم حجة للإسلام لا عليه، والقرآن يستعمل العلم حجة على صحة الإسلام، فمن منهج الدعوة التذكير بنعمة العقل الذي يميز الإنسان عن غيره، والتذكير بقبح عدم استخدام هذا العقل في معرفة الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه.

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]

ونرى خطاب إبراهيم العقلي لقومه، قال الله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [سورة الشعراء: 72-73]

اللين والرحمة في الدعوة
قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة.[2]

على الداعية أن يكون لينًا رفيقًا في دعوته؛ حتى يستميل قلوب من يدعوهم، وألا يكون فظًا ينفر الناس منه كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران : 158].

نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد في موقف الرسول مع من فر من المسلمين يوم أحد، وتبرز أهمية اللين والعفو عن الزلات وإظهار الحب للمدعويين، وأهمية اجتناب الفظاظة والغلظة، فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك “لنت لهم”، لأتبَّاعك وأصحابك، فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمَه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتَّبعك ولا ما بُعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم.[3]

العدل والثبات على المبادئ
إن العدل من أهم صفات الدعاة، ونرى قول الله على لسان نوح – عليه السلام – لقومه لما طلبوا منه طرد الفقراء الذين آمنوا من قومه {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود : 29]، وكان نوح قال ذلك لقومه، لأن قومه قالوا له كما حدثنا عن ابن جريج، قوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم)، قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء. فقال: {ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم}، فيسألهم عن أعمالهم.[4]

فنرى كيف لم تغرِ نوحًا -عليه السلام- عروض كفار قومه، ونرى ثباته على الحق والعدل ورفض ظلم الضعفاء المؤمنين، فعلى الداعي إلى الله ألا يقدم التنازلات على حساب الحق والعدل، ولو حسب أن ذلك سينفعه.

الصبر على الدعوة
الصبر صفة الأنبياء وصفة أولي العزم من الرسل، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ } [الأحقاف : 35]، والداعية سيواجه كثيرًا من التحديات والصعوبات أثاء دعوته؛ فعليه أن يصبرعلى ذلك؛ فالصبر صفة ملازمة للدعوة لا تتم بدونها، ونرى قول الله تعالى على لسان لقمان وهو ينصح ابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان:17]، وقد أقرن لقمان الصبر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يدل على ارتباطهما الوثيق، وقد قال الله أيضًا في خاتمة آل عمران {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]

وقد ذكر الله تعالى في القرآن قصة نوح -عليه السلام- وقد مكث في قومه خمسين وتسعمائة سنة لم يمل من دعوة قومه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت : 14]، ولم ييئس منهم حتى نزل عليه الوحي، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود : 36]

وفي تفسير الآية من سورة العنكبوت يقول ابن كثير: هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه، يخبره عن نوح عليه السلام: أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهارًا، ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارًا عن الحق، وإعراضًا عنه وتكذيبًا له، وما آمن معه منهم إلا قليل، فأنت – يا محمد – لا تأسف على من كفر بك من قومك، ولا تحزن عليهم؛ فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور.[5]

إخلاص النية وعدم طلب الأجر
كلما جاء نبي قومه قال لهم {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء : 109،127،145،164،180]، فمن يدعو إلى الله لا ينتظر أجرًا، فالمقصد والمبتغى من الدعوة يجب أن يكون رضا الله.

وقد حذر الله من الرياء إذ قال {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47]، وكان الرياء من شيم الكفار،وقد قيل في تفسيرالآية: هذا تقدُّمٌ من الله – جل ثناؤه – إلى المؤمنين به وبرسوله، ألا يعملوا عملًا إلا لله خاصة، وطلب ما عنده، لا رئاء الناس، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلبَ رئاء الناس.[6]

القدوة الصالحة
على الداعي أن يكون قدوة صالحة لمن يدعوهم؛ قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وكما قال الشاعر أبو الأسود الدؤلي:

                   لا تنهَ عن خلُقٍ وتأتيَ مثلَه         عارٌ عليك إذا فعلت عظيم[7]

وقد قال شعيب -عليه السلام- لقومه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه.[8]

التوكل على الله
وأختم المقال بالتوكل على الله؛ وهو خلق بدونه لا يوفق الداعية أبدًا، وقد تكرر التوكل كثيرًا في العديد من الآيات، منها قول الله تعالى على لسان إبراهيم – عليه السلام -: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]

وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]

 وتفسير الآية: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك {فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي [العزيز] الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه.[9]


الهوامش

[1]  تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura29-aya20.html

[2] تفسير القرطبي https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/qortobi/sura16-aya125.html#qortobi

[3] تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura3-aya159.html

[4] تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura11-aya29.html

[5] تفسير ابن كثير http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura29-aya14.html

[6] تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura8-aya47.html

[7] الديوان » العصر الاموي » أبو الأسود الدؤلي » حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه https://www.aldiwan.net/poem50221.html

[8] تفسير الطبري http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura11-aya88.html

[9] تفسير السعدي https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/saadi/sura65-aya3.html#saadi

لا قيمة للحضارة بدون أخلاق

إذا أردت أن تعرف ما لمجتمعٍ من المكارم والعلو والعظمة فانظر إلى موقع الأخلاق في تشريعه وفي قلوب أفراده، فإن كان قوام تشريعه لا يولي أية قيمة للأخلاق ولا يحث على حسنها ولا ينهى عن سيئها فتلك أمة قد غرقت في المادية حتى خمرت، أما إن كان قرين تشريعه المنظومة الأخلاقية، فلا ينظر إلى عمل أحدهم حتى يكون سليم القلب طاهر الصدر لا يحمل حقداً ولا حسداً ولا عجباً ولا كبراً فتلك الأمة التي قد سمت وارتقت حتى بلغ أهلها المكرمات جميعها.

وإذا أردت أن تصل إلى درجة اليقين فيما نقول، فيكفي أن ننظر إلى أمة قد أمر أتباعها بأن يريحوا الذبيحة حين الذبح بأن تكون أداة الذبح حادةً بما يكفي كي لا تتألم قبل أن تموت! ثم لتقف لحظةً: ما الموضوع؟ إنه الذبح، وما الأمر؟ أن تكون أداة الذبح حادة، وما الغرض؟ أن تراح الذبيحة! ثم الأمر الآخر بألا يكون الذبح أمام باقي المراد ذبحهم! فهي تشعر كما نشعر فينبغي علينا أن نراعي شعورها، هذا كله وأنت تذبح فما بالك إذا جئت إلى تلك الأوامر التي توصي بألا تحمّل المواشي فوق طاقتها وأن تطعمها وتسقيها وألا تفجع أما بولدها وأن تنظر لها بعين الرحمة لا بعين القسوة.

ثم قارن مع أمةٍ أخرى قد صارت قلوب أتباعها كالحجارة أو أشد قسوة، وقد أصبحوا يلهثون وراء أهوائهم وشهواتهم دون أن يعودوا إلى ضمائرهم، فيفعلون ما يشتهون وإن ألحق فعلهم ضرراً بالغاً بما خلق الله، فلا مانع لديهم من أن يضعوا السمك الحي في الزيت المغلي ويتركونه وهو يتعذب ويتمزق قبل أن يموت أثناء مضغهم إياه، كل ذلك فقط لأنه يكون طازجاً لذيذاً إذا تم قليه وهو على قيد الحياة! ثم لا يمانعون أن يمزقوا أجساد الماعز ويقلعون صوفها بأمشاطٍ معدنية حادةٍ قاسيةٍ تاركين هذه الحيوانات بجراحٍ مفتوحة دون أدنى رعاية طبية أو رحمة إنسانية، وأحياناً يسكب على جراحها الكحول الحارق، وأحياناً يضرب العمال رؤوسها بالمطارق الحديدية لكي تُصرع، وأحياناً أخرى تجر الماعز إلى المسالخ من رجلٍ واحدةٍ قبل أن تشق حناجرها أمام بقية الحيوانات، كل ذلك لأجل بيعها بأسعارٍ باهظةٍ، وهذا ما كشفته منظمة “بيتا” المدافعة عن الحيوانات مؤخراً وما خفي أعظم!

هذه مقارنة سريعة عن الطريقة التي تعامل بها الحيوانات بين أمة تولي للأخلاق أهمية بل تعطي كل الأهمية للأخلاق وبين أمة لا يهمها سوى المادية والربح والأهواء.

ولننتقل إلى عالمنا ولنمدك بمقارناتٍ أخرى، فهذان أبوان صار ولداهما بعمر الخامسة عشر فلم يجدوا في أنفسهم حرجاً من أن يقطعوا عنهم مصروفهم آمرين إياهم بالذهاب إلى العمل، أي عمل! لكي يحصلوا على النقود ويصرفوا على أنفسهم فوالديهم لم يعودا يعترفان عليهم! بينما هذان أبوان آخران يصرفان على ولديهما ويحاولان أن يؤمنا لهما احتياجاتهما ولو على حساب أنفسهما فهم يعلمان أن ذلك هو حق ولديهما عليهما وليس تفضلاً من عند أنفسهم!

وعلى الصعيد المقابل، فهذان ابنان قد وصل الأمر بهما إلى المحاكم لتحكم بينهما ولتفض خلافهما، وما خلافهما إلا بادعاء كل واحدٍ منهما بأحقيته بأن يرعى أمه في بيته! في الوقت الذي تلقى فيه أمهات أقوام أخرين على قارعة الطريق.

والحديث في المقارنات يطول ويتسع وكي لا ينحرف المقال عن الهدف الذي وضع له سنقتصر على ما ذكر، ونأتي الآن إلى حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أخبره الله عز وجل أن الغرض من الخلق هو العبادة {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] ولكنه مع ذلك لم يعطي الأفضلية للأكثر عبادةً أو للصائم نهاره القائم ليله، أو لذاك الذي لا تفوته دقيقة إلا ويكون ذاكراً لله فيها، بل أعطاها للذي يكون رحيماً ودوداً ليناً مع الخلق متمنياً لهم الخير والبركة لا يحمل في صدره شيء على أحد صانعاً للمعروف أينما حل أو ارتحل، فأعلنها ميزاناً لمن أراد أن يزن أعماله ويعلم مدى قربه من الله إذ قال: “إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً” [رواه الشيخان]

ولأن هذا الحديث يحمل أصلاً عظيماً من أصول الدين فسنعقبه بما قال فيه العلماء، بدءاً من الإمام النووي: “فيه الحث على حسن الخلق، وبيان فضيلة صاحبه، وهو صفة أنبياء الله وأوليائه”.

وقال الحسن البصري واصفاً جوهر الخلق الحسن: “حقيقة حسن الخلق بذل المعروف، وكف الأذى، وطلاقة الوجه”

أما القاضي عياض فشرح الخلق الحسن قائلاً: “هو مخالطة الناس بالجميل والبِشر، والتودد لهم، والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكبر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغلظ والغضب والمؤاخذة”.

وإليك قصة تبين لك مكانة الخلق الحسن في قلوب المسلمين: “عن أم الدرداء قالت: قام أبو الدرداء ليلة يصلي، فجعل يبكي ويقول: اللهم! أحسنت خَلقي فحسن خُلقي، حتى أصبح.

فقلت: يا أبا الدرداء! ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق.

فقال: يا أم الدرداء! إن العبد المسلم يحسن خلقه حتى يدخله حسن خلقه الجنة، ويسيء خلقه حتى يدخله سوء خلقه النار، والعبد المسلم يغفر له وهو نائم.

قلت: يا أبا الدرداء! كيف يغفر له وهو نائم؟

قال: يقوم أخوه من الليل فيجتهد فيدعو الله عز وجل، فيستجيب له، ويدعو لأخيه فيستجيب له فيه” [الأدب المفرد: 82].

وهذا الفرق بين أمة قد قال الله في اتباعها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110].

وبين أمم قد قال الله في اتباعهم موجهاً خطابه لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علمٍ، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون؟} [الجاثية: 23].