محاكاة الطبيعة وتسليع الإنسان في العمارة

image_print

من النتائج الجيدة للحداثة هي اعتراف الانسان جزئيًّا بأنّه ليس المسيطر على كل شيء، إلا أن هذا الاستنتاج لم يكن كافيًا للإنسان حتى يكون تواضعه لله، وإنما لقوى الطبيعة، ومن ثم قرّر المعماريّ جعل عملية اتخاذ القرارات في التصميم تابعة لما تريده (الأم الطبيعة) –كما يقال-، وبالتالي فإن عليه التواضع الكامل والإنصات للصوت العلوي للطبيعة وعدم إبراز الاستياء، وكل من يحاول الاعتراض سيصنّف بأنه جاهل ولم يدرك الغاية الأسمى من عمارة الأرض.

الخط الزمني لأهم الفلسفات والعبارات الرنانة في العمارة*
بعدما تم نقد مبدأ المينيماليزم وأوضحنا أوجه الخلل فيه في مقال (باوهاوس والنمط العالمي الموحد)، حان الوقت لنقد الأوجه المعاكسة له وردات الفعل الحاصلة، والهدف ليس محض الانتقاد ورفض كل فكر جديد، وإنما تبيين مكامن الخلل في هذه الفلسفات التي تضر بالمبدأ الإسلامي الأهم أي “الوسطية” والسعي للوصول إليها، وذلك حتى لا تنجرف ردات فعلنا من خطأ إلى خطأ آخر، كما يجب التنويه أن مصطلح (ما بعد الحداثة) من الصعب تعريفه وتحديد أفكاره الخاصة وتوجهاته أو حتى الفترة الزمنية الخاصة به، كما أن فترة (ما بعد ما بعد الحداثة) متقاربة معها، وفيها تسربات مختلفة لبعض الأفكار والتوجهات، لكن سنوضح أوجه الاختلاف التي أوجبت تحديدها وتفريقها عن فترة ما بعد الحداثة بسبب سرعة التغيرات الطارئة.(1)

*تنويه: التصنيف خاص بهذا المقال وليس له مرجع محدد

العصر تاريخ قول العبارة القائل العبارة بالعربية العبارة بالإنجليزية الأسس الفلسفية لقب الحركة* توجه الحركة فكريًا واجتماعيًا وتنظيميًا**
الحداثة 1947 ميس فان دير روه الأقل هو الأكثر Less is More الانسانوية

Minimalism

التقليلية
اشتراكية
ما بعد الحداثة 1966 روبيرت فينتوري الأقل هو الأكثر ضَجَراً Less is a bore العبثية + العدمية

Maximalism

التكثيرية
رأسمالية وتمهيد للتعددية
ما بعد ما بعد الحداثة 2009 بيارك إنجلز نعم هو الأكثر Yes is More الانسانوية + نظرية الفوضى

Pluralism

التعددية
التعددية: اشتراكية جديدة تحكمها الطبيعة

* تنويه: قد لا يكون هذا اللقب مطلقًا من قبل نفس قائل العبارة، لكنه يلخص مفهوم هذه الحركة وتوجهاتها
** تنويه: من الممكن مثلا استخدام نمط التقليلية في بناء برج عملاق لشركة رأسمالية، لكنه ليس الهدف والأصل من منبع هذه الفلسفة

الماكسيماليزم (الاستهلاكية المفرطة) والمينيماليزم (البساطة المفرطة): قصة صراع بين الرأسمالية والاشتراكية

توضيح للصراع الحاصل بين اتجاهين معاكسين في العمارة. على اليمين روبيرت فينتوري وعلى اليسار ميس فان دير روه

توضيح للصراع الحاصل بين اتجاهين معاكسين في العمارة. على اليمين روبيرت فينتوري وعلى اليسار ميس فان دير روه

ما بعد الحداثة: الاستهلاكية المفرطة: الأقل هو الأكثر ضَجَراً
هذه العبارة من مقولات المعماري الشهير روبرت فينتوري في كتابه (التعقيد والتناقض في العمارة) وقد صنّفت هذه العبارة كردّة فعل للصرامة الشديدة في التصميم، حيث أراد للتصميم والفن أن ينزل إلى مستوى الشارع فيصبح شعبيًّا في مضمونه وشكله بهدف فهمه من قبل الناس، كما روّج لمفهوم “البشع العادي” والتواضع في الحياة للخروج من المثالية شبه المستحيلة في الفن والعمارة، خاصة في عصر السرعة والتغيرات الدائمة.

ومن المفيد التأكيد إلى أن توجهاته الفنية خالية تمامًا من أي سياق تاريخي، ويتم تحليلها حصريًا من أجل قيمتها التركيبية، كما أنه لا يولي أولوية كبيرة للقيمة الأخلاقية في التصميم، فما دام مؤديًا للغرض فهو مقبول كما في كتابه (التعلم من لاس فيغاس) الصادر عام (1972)، كما نُظِرَ لأفكاره على أنها نص تمهيدي لتيارات ما بعد الحداثة في العمارة، على الرغم من إصرار فنتوري باستمرار على كونه معماريًّا حداثيًا(2).

كان لهذا الاتجاه نتائج موازية في عالم الفن والموضة والتصميم من خلال المقولة: الأكثر هو الأكثر والأقل هو الأكثر ضَجَراً. فبالنسبة لآيريس أبفيل المختصة في الأزياء، فإن مقولة: “لا يوجد قواعد” هي القاعدة الذهبية لها، وتتحدث قائلة: لماذا تهتم؟ نريد كسر الأنماط فقط! (3)

 

قد يخطر ببال كثيرٍ منا اليوم، أننا بحاجة للروح الحرة في التصميم، خاصة عندما تبدو المباني السكنية الجديدة كالصناديق التي لا هوية فيها، وذلك يساعدنا على إنشاء “ممالك خيالية”.(4)

 

إلا أن الاستجابات العاطفية لم تكن إيجابية دائمًا، حيث انتقدت أدا لويز هوستابل -ناقدة الهندسة المعمارية الشهيرة في نيويورك تايمز- تيار ما بعد الحداثة بأنه ثقيل اليد ويفتقد الذكاء، كما وصف الناقد اللغوي والثقافي نعوم تشومسكي ما بعد الحداثيين بـ “الدجّالين المسلّحين”، في حين وصف روبرت ماكسويل، العميد السابق للهندسة المعمارية في جامعة برينستون، نظريات المهندس البريطاني جون أوترام بأنها “عمل من أعمال الإرهاب المعماري المطلق”(5)، ويمكن الإضافة على ذلك بأن ما بعد الحداثيين يعتزون بهويتهم المتغيرة بشكل أخرق وطفولي لا معنى له.

التصميم للأقليات في المجتمع في عصر ما بعد الحداثة
مثال آخر لنمط التكثيرية على مستوى الهوية الثقافية والدينية للأقليات، كما في الساحة الإيطالية في لويزيانا، في الولايات المتحدة الأمريكية. حيث أنشئت الساحة للتواصل مع هوية الأمريكيين الإيطاليين في المدينة وتزويدهم بمكان للاحتفال بعيدهم السنوي (سانت جوزيف).

لقد تحقّق الأمر حين أنشئ البناء وتوزعت المساحات على شكل خريطة ايطاليا، كما استخدمت أنماط من الثقافة الإيطالية تعود لحقبات تاريخية مختلفة لإيطاليا، ووضعت بركتان صغيرتان من الماء لمحاكاة البحر الأدرياتيكي والبحر التيراني. مع أن التصميم قد يعجب البعض ويراه مناسبا، إلا أن مفهوم الهوية ليس مختصًّا بالتزييف السطحي لرموز المكان، إذ إن الزائر أو الناظر لن يشعر أنه في إيطاليا عندما يكون توزيع المساحات على شكل خريطة إيطاليا، ولا عند استخدام كل الأنماط التاريخية بشكل مرصوص وفوق بعضه البعض، فهذا تسطيح لمفهوم الهوية.

تصميم لمحاكاة الطبيعة: اللجوء للكهف في مشروع (Amdavad Ni Gufa)
ما نراه في هذه الصورة ليس مجرد كهف أو مكان طبيعي وإنما بناءٌ من صنع الإنسان، وقد تم بناؤه وتصميمه من قبل بالكريشنا دوشي، وهو كبار المعماريين في الهند، حيث صمم هذا المبنى في أحمد آباد عام (1994)، وبُنيَ تحت الأرض وجعل سقفه مكانًا يمكن للزوار المشي عليه والجلوس والتفاعل مع بعضهم البعض، أما الجزء الداخلي للكهف، فانه يستخدم أعمدة غير منتظمة تشبه الرواسب المعدنية، وتوفّر -مثل الكهوف عادةً- ملاذًا متميّزًا من الحرارة في الهند(6).

مبنى Amdavad Ni Gufa

لقد أتاح نمط التكثيرية والمحاكاة مع الطبيعة ظهور فلسفات جديدة تتوجه إلى ما بعد ما بعد الحداثة، حيث نرى وجود توجه واضح وتغير من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، لكن إلى أين يتجه؟

هذا ما سيحتاج منا مقالاً آخر بإذن الله.


الهوامش

(1) تم الاستفادة من مقال (ما بعد الحداثة) على موسوعة السبيل
(2) https://cutt.ly/1h8liui
(3) https://cutt.ly/Eh8loXQ
(4) https://cutt.ly/Lh8lafJ
(5) المرجع السابق نفسه
(6) https://cutt.ly/jh8lYtK

مصادر الصور:

https://cutt.ly/Mh8ljcN

https://cutt.ly/Fh8llnP

https://cutt.ly/th8lz2s

https://cutt.ly/Th8lxL7

https://cutt.ly/qh8lcVY

https://cutt.ly/Ch8lv5Z

https://cutt.ly/4h8lbTh

https://cutt.ly/0h8lnRE

https://cutt.ly/nh8lmZi

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد