ماذا لو طبقت قاعدة: إياكم والظن!

image_print

إن للقطيعة والهجران خطوات لا يكاد يمشيها أحدنا إلا ويصل إليها، وإن أولى وثاني وثالث وعاشر هذه الخطوات هو سوء الظن، وإذا كان سوء الظن سابقاً ذا أشكالٍ قليلةٍ وصورٍ محصورةٍ، فالآن قد تفرّع وتشعب، وأصبح كل سكون وحركة معرضة لسوء الظن.

فسابقاً كان قول أحدهم أو فعله يفهم خطئاً فيساء ظنه، أما الآن فأحدهم قد وضع هذه الحالة على الواتساب ليغيظني! ولم يقصد من منشوره على الفيسبوك إلا إياي! ولم يرد على رسالتي رغم أنه رآها استخفافاً بي وتقليلاً مني! ولم يضيفني إلى هذه المجموعة كرهاً وحسداً من نفسه!

فيغدو الإنسان السائر في طريق سوء الظن كارهاً لكل من حوله، فالكره والبغضاء لا يطبعان في صدر المرء فجأة وإنما يدفعهما سوء الظن إلى قلب الإنسان دفعاً.

ولا يتوقف الأمر عند كره الناس بل يتعدى ذلك إلى أن يحمل المرء من الريبة والشك ما يبني جداراً بينه وبين الآخرين، فيصبح ويمسي وحيداً بلا مؤنس، وما ذاك إلا لأنه قد استقبل كل ما تراه عينه وتسمعه أذنه بالظن السيء وأحياناً ما لا يراه ولا يسمعه وإنما قد أعطى لأفكاره وخيالاته مجدها في التحليل والتصور فأصبح من الظن السيء بمكان من السذاجة والغباء أحياناً الأخذ به، وقد كان يمكنه اجتناب كثير من ذلك بأن يكاشف الذي أساء الظن به، فقد يكون له عذراً فيما فعل.

ومخاطر سوء الظن لا تنحصر في ألا يكون للمرء رفاق وزملاء فحسب، وإنما في أن يحوّل حياة زوجه وأولاده إلى جحيمٍ لا يطاق، فيظن بزوجه أنها تنظر لسواه أو تتجمل لغيره دون أدنى ريبة تحمله لهذا الظن! مما قد يؤدي إلى طلاقٍ يشتت شمل العائلة، وإن لم تكن نهايته الطلاق فعيشة لا تطاق!

وإذا جئنا إلى الحكم الشرعي فالإمام النووي يخبرنا:” اعلم أن سوء الظن حرامٌ مثل القول، فكما يحرم أن تحدث غيرك بمساوئ إنسان، يحرم أن تحدث نفسك بذلك وتسيئ الظن به”[الأذكار: 344].

ولكن في الوقت نفسه، ولكي يكون المرء وسطاً غير مسيء الظن ولا مخدوع، فعليه إذا رأى دليلاً قوياً يستدعي منه حذراً وانتباهاً فحينها حسن الظن ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفطنة في شيء، والأمور تقدّر بقدرها، ولا يسلم قلب الإنسان ولا حياته إلا إذا علم متى يحسن الظن ومتى يسيئه.

وينبغي للعبد ألا يحسن الظن مطلقاً إلا بالله عز وجل الذي بيده الخير والشر ليس إليه، وكذلك بعباد الله الذين ظاهرهم تقوى وصلاح وعدل، وليعلم العبد أن سوء الظن بالله هو طريق القلب نحو المهالك كلها.

ولكي يعالج المرء مشكلة فلا بد له أن ينظر في أسبابها وحقيقتها، وليعلم المبتلى بهذا الطبع أنه ما كان لسوء الظن أن يجد طريقاً إلى قلبه إلا لسوء حاله وفساد طويته، وصدق المتنبي حين قال: “إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه”، والإنسان ليس باستطاعته رؤية الناس إلا بعين طبعه وبظنه بنفسه، وعلاج ذلك تلاوة القرآن الكريم فهماً وتدبراً، ذاك الكتاب الذي غيّر نفوس الصحابة ونقاها من الأكدار مبعداً إياها عن الأخلاق الفاسدة والطباع السيئة، وكذلك أن يكون للإنسان ورداً يومياً من الأذكار التي يخاطب العبد بها نفسه بضرورة التوكل على الله والالتجاء إليه وأن يكون له حافظاً ومعيناً من كل من أراد به مكراً أو ضرراً.

ولتضع قول الله تعالى نصب عينك في تعاملك مع جميع الناس: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً…} [الحجرات: 12]

وقد تعمدت ألا أنهي الآية عند الظن وإنما أكملها إلى الغيبة فبالآية إشارة إلى أن الظن يقود إلى أن يتجسس المرء ليتثبت من ظنه، وأن يغتاب غيره إما بما ظنه أو بما تثبته بتجسس عليه! فالظن من الطباع السيئة التي لا تقتصر على نفسها وإنما تتعداها إلى غيرها.

وقد وضعها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دستوراً لنا حين قال: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث” [متفق عليه].

ونختم بقول الإمام أبي حامد الغزالي الذي ناقش به حالات تتحصل للمرء في تعامله مع الآخرين وعالجها بكل حكمةٍ وفطنة: “إذا وقع في قلبك ظن السوء، فهو من وسوسة الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6]، فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد، واحتمل خلافه، لم تجز إساءة الظن.

ومن علامة إساءة الظن أن يتغير قلبك معه عما كان عليه، فتنفر منه، وتستثقله، وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيئته، فإن الشيطان قد يقرب إلى القلب بأدنى خيالٍ مساوئَ الناس، ويلقي إليه: أن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبهك، وإن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطق بغرور الشيطان وظلمته، وإن أخبرك عدل بذلك، فلا تصدقه ولا تكذبه لئلا تسيء الظن بأحدهما، ومهما خطر لك سوء في مسلم، فزد في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقي إليك مثله، خيفة من اشتغالك بالدعاء له، ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة لا شك فيها، فانصحه في السر، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه فينظر إليك بعين التعظيم، وتنظر إليه بالاستصغار، ولكن اقصد تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخلك نقص، وينبغي أن يكون تركه لذلك النقص بغير وعظك أحب إليك من تركه بوعظك”. [الأذكار: 345].

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد