مقالات

مقاصد القرآن بين عمارة النفوس بالله وتأسيس الحضارة

تمثّل مقاصد القرآن الكريم المدخل السليم للتعريف بالدين الإسلامي تعريفًا صحيحًا لا يشوبه التشويه، وتوضيحه بشكل كامل بما يرفع عنه أي نقص أو خلل أو زلل؛ إذ إن مقاصد القرآن هي الكاشفة لحقائق الإسلام ومعالمه، والمرشدة إلى معانيه وقيمه، والموضحة لغاياته وآفاقه. بل إن التعريف بدين الإسلام إنما يعتمد –لينجح- على التصور الصحيح لمقاصد القرآن الكريم نفسه، وإدراك غاياته ومعانيه، ومعرفة أهدافه ومراميه.

وهذا يعني أنه إذا كانت المعرفة بمقاصد القرآن الكريم صحيحة وسليمة كانت المعرفة بالإسلام نفسه صحيحة وسليمة، وإذا كانت المعرفة بمقاصد القرآن ضعيفة ومختلة كانت المعرفة بالإسلام نفسه ضعيفة ومختلة، ولعل هذا هو ما حدا بالإمام الشاطبي لوصف القرآن بأنه: “كلّية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه” وأنه يللزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها “أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي؛ نظرًا وعملًا”[1]، ومن ثمّ كان الاهتمام بمقاصد القرآن الكريم، تعيينًا وإدراكًا وتوضيحًا وبيانًا، ضروريًّا لفهم الإسلام نفسه ومعرفة حقيقته، ثم تبليغ دعوته ورسالته للناس تبليغا يوافق مقصود الشارع ويحقق مراده من رسالته التي أنزلها رحمة للعالمين.

لماذا مقاصد القرآن؟

قد يتساءل أحدهم: لماذا تولون المقاصد في القرآن الأهمية البالغة؟

وهذا مما لا شكّ فيه، سؤال حقٍّ، فالمقاصد -بغض النظر- عن كونها تحقق مراد الله تعالى وغايته أو غرضه من إنزال كتابه الكريم، فإنها كذلك إيضاح أو تعليل للأحكام الشرعية في القرآن وبيان الحِكم منها، وقد أورد الله سبحانه وتعالى في كتابه آيات كثيرة في هذا الصدد، أحيانا معلّلا فيها أفعاله والغاية منها، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 11]، وقوله: {إِنا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن للْخَائِنِينَ خَصِيما} [النساء: 115]، وقوله” {وَمَاأَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، وأحياناً أخرى معللًا فيها أحكامه، كما في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ…} إلى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، ومقاصد القرآن تختلف من جهة عن محاوره، ومن جهة أخرى عن مقاصد الشريعة، حيث إن مقاصد القرآن، هي ما يستنطقه المفسّر من غايات وحِكم وعلل وأغراض من القرآن، أما المحاور فهي محتوى ومواضيع السور والآيات، وأما مقاصد الشريعة ففضلا عن أن الأصولي يستنبطها من كتب الفقه وأصوله، هي أيضًا تتعلق بمجال الأحكام والتشريع في القرآن، فهي جزء منه وتابعة له[2].

والمؤمن الحقيقي، لا يجري لاهثًا خلف كل مطلب شرعي، طلبا للحِكمة والمقصد منه، إنما يذعن ويستسلم، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، ولم يحتفِ العلماء بعلم المقاصد، إلا لتوضيح استجابة التشريع للنوازل اللامتناهية، التي غالبًا ما تكون على الثغور وتخوم البلدان التي دخلت الإسلام حديثًا، حيث أن إعمالهم للمقاصد، لاسيما مقاصد القرآن منها، وحسن استثمارهم لها، صحّح توظيف العديد من النصوص القرآنية، وعصم جل اجتهاداتهم من الوقوع في فساد تنزيل الأحكام.

إنّ لتغييب مقاصد القرآن عند المفسرين، مفسدتين عظيمتين، كما نص على ذلك الشاطبي في كتابه الموافقات، أما الأولى فهي: “اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده”[3]، وأما الثانية فهي “أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها …. مع أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا “[4]، كما أن لتجاوز ضوابط المقاصد، والتي من أهمها: وجوب تطابقها مع مبدأ العبودية، مفاسد كثيرة، فميزان المقاصد مضبوط بالمراد الإلهي، لا بمدى موافقته لضغوط الواقع.

إنّ توظيف المقاصد على غير وجهها الصحيح ولّد انفلاتًا في التأويل، مما يستدعي من العاملين في حقل المقاصد ضبطا دقيقا، ومن ذلك ما قرّره طه جابر العلواني (ت1437ه/ 2016م) عن مقاصد القرآن، بوصفه “العمران” مقصدًا قرآنيا، يأتي مباشرة بعد التوحيد والتزكية[5]، وهذا ما يتعارض مع مراد الوحي، كما أنّ البعد الاجتماعي والعناية بالقضايا الحضارية في تناول مقاصد القرآن، لدى محمد رشيد رضا (ت 1354ه/ 1935م) في كتاب الوحي المحمدي،كانت حاضرة وبشدة، مما يطرح تساؤلات عدة أهمها: هل جرْد هؤلاء للمقاصد، كان قائمًا على استقراء وحصر، أم  فقط مجرد جمع لما يُتوهم عن جهود المراجعة والإصلاح والتجديد؟

الواقع أنه، لم يخل استنباط بعض المفسرين المتأخرين للمقاصد، من التأثر بالمنطلق الفكري، الذي يجعل الباحث يركز على المقاصد التي تخدم توجّهه، ويهمل الباقي، لكن العلماء المتقدمين كأبي حامد الغزالي (توفي: 505ه) ومن خلال كتابه جواهر القرآن، لم يطوّع النص الديني ليوافق السائد في عصره، بل كان استنباطه لمقاصد القرآن مطابقا لمبدأ العبودية ومراد الوحي، حيث ذكر ثلاثة مقاصد للقرآن مهمة وهي: 1-تعريف المدعو إليه، 2- تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه، 3-تعريف الحال عند الوصول إليه، وذكر ثلاثة مقاصد متمة وهي: 1-تعريف أحوال المجيبين للدعوة، 2-حكاية أحوال الجاحدين، 3-تعريف عمارة منازل الطريق.

عمارة النفوس بالله أم المعارف البانية للعمران!

نتساءل هنا: هل ينبغي علينا الاختيار بين عمارة النفوس بالله، أم عمارة المعارف العمرانية، وهل علينا أن نختار بينهما؟

أزعم أنه إذا وُفّقنا في معرفة وتقديم ما قدمه القرآن من قضايا جوهرية ومصيرية، وتأخير ما أخّره وزهّد فيه من أمور أخرى، زال توهّم التعارض بين كثير مما استشكل علينا من قضايا ومسائل، وانجلى حجم التمايز بينها!.

بداية، فإن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، لم يأت على ذكر الغاية من الخلق وإرسال الرسل في موضع وحيدٍ مجمل، يفتح لتعدد الفهوم مجالاً، بل وضّح ذلك في أكثر من موضع، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وللباحث الجاد “إبراهيم السكران” في كتابه مآلات الخطاب المدني تعليق آسر، عن آية الغاية من خلق الجن والإنس، حيث يقول: “والحقيقة أن كتاب الله لم يجعل هذه القضية عائمة أو محتملة أو نسبية، بل حسمها بشكل يقيني واضح صريح، وكشف الغاية من خلق الإنسان بلغة حاصرة، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}]الذاريات: 56[“[6]، فإذا كان المطلب الشرعي الرئيس هو العبادة، والمتضمّنة معرفته وعمارة النفس به سبحانه، كون تمام عبادته  متوقفًا على مدى معرفته سبحانه وتعالى، فما موقع بناء الحضارة والعمران في قائمة المطالب الشرعية للقرآن وسلم الوحي؟ وهل هناك تعارض بينها وبين المطلب الرئيس للوحي وهو العبادة؟

لم يحصل لنا توهم التعارض بين تحقيق العبودية، وبين إقامة الحضارة والعمران، إلا عندما غفلنا عن المعنى الحقيقي للعبودية وفقدنا الإحساس به، فالعبودية هي كل ما يرتضيه الله سبحانه وتعالى من أقوال أو أفعال، والتي عمودها معرفة الله وعمارة النفس به، عمارةً تؤسس لبناء حضارة وتشييد عمران، هذا الأخير الذي قال فيه الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) في كتابه المفردات، بأن العِمارة نقيض الخراب، ويعرّفه ابن خلدون على أنه التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير، واقتضاء الحاجات لما فيه من طباعهم من التعاون على المعاش[7].

لقد تضمَّن القرآن الكريم مقاصد وأهدافًا متعددة، كتصحيح العقيدة والتوحيد، حيث إنا نلحظ في كلِّ دعوة الأنبياء عليهم السلام، الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالألوهية، وحينما بعث الله سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته إلى الناس كافة بتوحيد الله، وتصحيح عقيدة الناس ومعتقداتهم الباطلة المبنية على الشرك والأوهام وعبادة الأصنام؛ لأن ذلك مدخل أساسي إلى إصلاح النفوس وتزكيتها.

إلى جانب ذلك فقد قصد القرآن إلى توجيه الناس إلى حُسن عبادة الله، وجعل الله القرآن منبع الهداية ونور المتقين، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] وقال تعالى:  {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9، 10] ولا ريب في أنه ما من طريق لحصر مقاصد القرآن الكريم، إذ إنه كلُّه حكم وأسرار ولطائف ربانيَّة، تتوق النُّفوس إلى النَّهَل من معينه والاسترشاد بأحكامه وقيَمه ومبادئه العظيمة.


[1] الشاطبي، الموافقات، دار ابن عفان، ط1، 1997، ج 4، ص 114.

[2]زمرد، فريده، بين مقاصد التفسير والنقد التفسيري، دارالحديث الحسنية/الرباط مقال صادرعن الكاتبة في مجلة الإحياء، الرابطة المحمدية للعلماء، 4 شعبان 1436 / 23 أيار 2015م

[3]الشاطبي، الموافقات، دار بان عفان، الطبعة الأولى 1997، السعودية، ج 4، ص 06

[4]الشاطبي، المرجع نفسه، دار بان عفان، الطبعة الأولى 1997، السعودية، ج 4، ص 100

[5]العلواني، طه جابر، مقاصد الشريعة، بيروت: دارالهادي، 2001 م، ص 135

[6]إبراهيم بن عمر السكران، مآلات الخطاب المدني، دار الوعي، الرياض، الطبعة الأولى، 1435هـ (ص 54)

[7] ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية، 1408 هـ، 1988، ص53

الإعجاز التشريعي للقرآن الكريم

إذا شئت أن تصل إلى يقينٍ تامٍّ بأن التشريع الذي يحمله القرآن الكريم بين دفتيه يصل إلى حد الإعجاز، فانظر إلى المجتمعات النائية واقترب من أهلها، فإنك ستجدُ أن قوانيناً بسيطةً تحكمها، إذ لن تجد حياتهم تعقيدات تستلزمُ تشريعاً كاملاً مفصِّلاً لا يدعُ مسألةً صغيرةً أو كبيرةً قائمةً أو لم تولد بعد إلا ويشرِّعها، وهذا ينبئك بأن القرآن الكريم معجزٌ في تشريعه قادمٌ من السماء.

تبدأ المجتمعات بطلب العلم والحث عليه ونشره بين أفرادها، فتشكّل به ثقافةً، وتحقق بها ازدهارا، فتكثرُ مسائلها وتتشعبُ أمورها، وهذا من ثمرة التقدم والتطور، فتجدُ حينها بأنها محتاجةٌ إلى تشريعٍ كاملٍ لا يترك مسألةً إلا ويجد لها حلاً عادلاً يرضي صاحب الحق ويقنع المطالَبُ بأداء الحق.

وهذا ما لم يحدث في الجزيرة العربية إذ كانت البداوة والبساطة يحكمانها، فلا علم ولا ازدهار ولا تقدم، بل جهلٌ وتخلفٌ وقبليةٌ، حتى وصف حالها كسرى يزدجرد مخاطباً النعمان بن مقرن قائلاً: “إني لا أعلمُ أمةً في الأرض كانت أشقى منكم ولا أقلَّ عدداً، ولا أشدَّ فُرقَةً، ولا أسوأ حالاً. وقد كُنَّا نكلُ أمركم إلى ولاة الضواحي فيأخذون لنا الطاعةَ منكم”.

وفجأةً ظهر فيهم تشريعٌ كاملٌ يضعُ حلولاً لمسائلَ واجهتهم ولمسائل أخرى لم يخطر ببالهم أن تواجههم، من الحقوق المدنية إلى الأحوال الشخصية مروراً برسم العلاقات الدولية وليس انتهاءً بوضع نظام السلم والحرب، وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ سعيد البوطي في كتابه من روائع القرآن.

أفيعقل أن يأتي بهذا التشريع أحدٌ من هذه القبائل المتناحرة؟ أم يُظن أن يكون مستمدا من الشرائع اليهودية، وأحبارها كانوا حريصين على ألا يتسرب شيءٌ منها؟ ألا فلينحي الجميع أهواءه جانباً وليقر بهذه الحقيقة التي لا تحتاج إلى إطالة فكر ونظر، ألا وهي أن هذا التشريع وحيٌ من السماء نزل به الروح الأمين على قلب من جاء رحمةً للعالمين.

وإذا كنتَ متعطشاً إلى مزيدٍ من اليقين فاعلم أنه ما من حكيمٍ أو فيلسوفٍ أو مصلحٍ اجتماعي قد أسس منظومةً محدودةً غرضها أن يحتكم الناس إليها إلا وأثبتت الأيام أنها تنطوي على شيءٍ من النقص والقصور أو الظلم والجور، ثم قارن هذا الواقع بالواقع الذي يخبرك بأن رجلاً أمياً لم يسافر في طلب العلم، بل ولم يشتهر قومه بالالتفات إلى علمٍ أو معرفةٍ قد جاءَ بمنظومةٍ تشريعيةٍ كاملةٍ قلبت المجتمع الذي حكَّمها رأساً على عقب وإليكم صورة ذلك على لسان النعمان بن مقرن في خطابه ليزدجرد: “إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه. ووعدنا -إن أجبناه إلى ما دعانا إليه- أن يعطينا الله خيري الدنيا والآخرة. فما هو إلا قليل حتى بدَّل الله ضيقنا سعةً، وذلتنا عزة، وعداواتنا إخاءً ومرحمةً. وقد أمرنا أن ندعو الناس إلى ما فيه خيرهم وأن نبدأ بمن يجاورنا.

فنحن ندعوكم إلى الدخول في ديننا، وهو دينٌ حسَّن الحسن كلَّه وحضَّ عليه، وقبَّح القبيح كله وحذَّر منه. وهو ينقل معتنقيه من ظلام الكفر وجوره إلى نور الإيمان وعدله”.

ومن صور هذا التشريع والفوائد المرافقة له ما ذكره د. مصطفى مسلم في كتابه مباحث في إعجاز القرآن: “ففي الصلاة تربية الفرد على النظام وتلقي الأوامر من الرئيس المباشر (الإمام)، ولعل هذا المعنى أثر في نفس عدو الله رستم في القادسية عندما كان يراقب الجيش الإسلامي وهو يؤدي صلاة الجماعة صفوفاً خلف الإمام حيث قال: (لقد مزق عمر كبدي، يُعلِّم الأعراب النظام!).

وفي الزكاة قضاء على الحقد والبغضاء بين الطبقات وإشعار بتكافل المسلمين وتضامنهم.

وفي الصوم إشعار بوحدة الأمة وتعويد لها على الصبر وقوة الإرادة وتنمية مراقبة الله تعالى في السر والعلن.

وفي الحج إبراز المساواة بين الناس وتذكيرهم بالموقف الأكبر وإظهار للمساواة بين المسلمين، ووحدة أمتهم الإسلامية على اختلاف ألوانها وأجناسها وتحقيق لقوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92].

إلى جانب تقوية صلة الفرد بالله سبحانه وتعالى وتزكية روحه والتسامي على الأهواء والنزوات المنحطة”. [مباحث في إعجاز القرآن: ص258].

ولقد تكلمنا بدايةً عن وجه الإعجاز الأول من كون التشريع سابقاً لكل تقدمٍ يأتي به، ومرافقاً لبداوةٍ وبساطةٍ وحياةٍ قبليةٍ لا تستلزمه، وعن الوجه الآخر له بأن جاء به فردٌ واحدٌ أميٌّ لم يشتهر بطلب علمٍ ولا بدراسة كتبٍ، أما عن كون هذا التشريع أهلاً للأخذ به أم ليس بأهل فذلك تحدده إجابةُ سؤال: من أتى به؟ أما وقد كان الجواب اليقين الحق الذي لا يقبلُ شكاً الله، واتبع هذا الجواب شيءٌ من فكرٍ قليل، فحينها سمعاً وطاعةً.

ومحور هذا الفكر أن الله الذي أتى به هو خالقنا من العدم، العالمُ بما يصلحنا وما يشقينا، فهو أدرى بالشكل الأمثل الذي ينبغي للأسر أن تسير عليه، ومن ثم النظام الأكمل الذي يجدر بالمجتمع أن يخضع له. وإذا أردت أن تنظر إلى صدق ما أقول، فاقرأ في كتب التاريخ الواصفة لمجتمع الصحابة والتابعين، وإن نظرت إلى كلامي بازدراءٍ، فإني أحيلك إلى ما كتبه المستشرقون المنصفون الذين لم يدينوا بالإسلام ولكن لم يجدوا من قول الحق مهرباً. وإن كنت من الذين لا يصدّقون إلا ما يرونه بأعينهم ناسفين علم التاريخ، فانظر في الأسر التي تطبق الإسلام بحذافيره، بما جاء فيه من أحكامٍ صغيرها وكبيرها، فإنك ستجدُ أسرةً تعيش حياةً هانئةً مطمئنةً، ثم قارنها بالأسر التي لا تعلم من الإسلام إلا اسمه أو تلك التي لا تعلم من الإسلامِ شيئاً، وفي هذا تذكرةٌ وبلاغٌ لمن أراد.

مغالطات الحداثيين في تناول موضوعات الوحي كمصدر للمعرفة

كثيرًا ما تؤدي الانتقائيّة إلى الوقوع في فخّ التّشتّت وفوضى الوعي، فالبناء العقليّ السّليم يقتضي الانطلاق من مصادر معرفيّة سليمة هي بمثابة المشترك العقليّ بين البشر، كما يقول كانط: “العقل هو أعدل الأمور قسمة بين النّاس”.

والعقل مقيّد بمدخلاته ومصادر معرفته، ولكنّنا نجد أنفسنا في واقع فكريّ هجين بين محاولات رفض ماضي الذّات ومحاولات استنساخ حاضر الآخر.

هذا الواقع يستدعي طرح تساؤل حول (الهويّة) المعرفيّة، والدّينيّة، والفكريّة، والاجتماعيّة، والسّياسيّة، للإنسان العربيّ، وأسباب ضياعها أو تحوّلها لهويّة هجينة محيّرة تكبل الإنتاج والإبداع والنّهوض.

وعلى الرّغم من أهميّة البحث عن إجابة سؤال الهويّة، إلّا أنّ موضوع هذا المقال هو من متعلّقات هذا التساؤل بشكل مباشر، وغير مباشر. وهو الحداثة الغربيّة وأثرها في الفكر العربيّ الذي لا بدّ أن يكون أثرًا مشوّهًا بسبب اختلاف البيئة، والمنهج، والغايات.

ومن أهمّ مستندات الحداثة فكرة مفادها أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه غير مفتقر ولا محتاج لسواه لتدبير أمور نفسه ومجتمعه.
وهي فكرة يؤدي انتقالها إلى الفكر العربيّ -الإسلاميّ خاصّة- إلى الكفر بخالق الكون، ورفض سيادته وقيوميّته عليه. والقراءة النّصيّة في كتب الحداثيين العرب توصلنا إلى محاولات تفنيد فكرة مركزيّة الله، وحصرها في الإنسان من خلال الطّعن بأمرين هما: ذات الوجود الإلهيّ، ووسيلة تواصل الخالق مع الخلق، وهي المعروفة لدينا بالوحي.

ومغالطات الحداثيين العرب بتقليد المنهج الحداثيّ الغربيّ في رفض فكرة الوحي كمصدر معرفيّ ضروريّ للإنسان، هي مجال حديث هذا المقال. على أنّنا لا نغفل عن ذكر جهودٍ عربيّة فكريّة تناولت المنهج الحداثيّ بالنّقد والتّمحيص، وساهمت في محاولة لتأسيس فكر حداثيّ عربيّ أو إسلاميّ منضبط، مع المحافظة على ذات فكريّة مستقلّة تتصل بالماضي بمقدار ما يحتاجه الحاضر، وتأخذ في طريق استقلالها شروطها التّاريخية والقيميّة بعيدًا عن التّبعيّة والماديّة، كما فعل المفكر طه عبد الرّحمن في كتابه “روح الحداثة: المدخل إلى حداثة إسلاميّة”، فجعل مقوّمات الحداثة ثلاثة أمور هي: الرّشد والنّقد، والشّمول. بحيث تفتعل كلّ أمّة حداثتها الخاصّة دون دعوة إلى القطيعة مع التّراث، وإنّما دعوة إلى مبادئ وأسس خاصّة ينبغي تطبيقها للنّهوض بالحضارة الإنسانيّة.

“إنّ علاقة الفرد بتراثه ليست علاقة نظريّة جامدة، ولا علاقة اختياريّة، بل وجدانيّة اضطراريّة. دون أن يقصد من ذلك قبولًا غير منضبط للمنقول، أو رفضًا تامًّا لمنهجيّات نقد التّراث.” [1]

ظهر مفهوم الحداثة بعد مرحلة تاريخيّة مرّت بها مجتمعات إنسانيّة غربيّة اصيبت بظروف بيئيّة لعبت السّلطة الدّينيّة، والسّلطة السّياسيّة دور البطل فيها، وبعد هذه المرحلة تبلورالمفهوم ليطلق على أيّ حركة تدعو إلى الاستنارة الفكريّة، والخروج من الماضي، والنّظر إلى الحاضر بأدوات عقليّة فرديّة.

يشير المسيري إلى مفهوم الحداثة، فيقول: “ثمة ما يشبه الإجماع على أنّ الحداثة مرتبطة تمامًا بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه لا يحتاج إلّا إلى عقله، سواء في دراسة الواقع، أو إدارة المجتمع أو للتّمييز بين الصّالح والطّالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر، مصدر المعنى والقيمة، والتّكنولوجيا هي الآلية الأساسيّة في محاولة تسخير الطّبيعة وإعادة صياغتها ليحقّق الإنسان سعادته ومنفعته، والعقل هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المعرفة.” [2]

كما نجد في مبحث مفهوم الحداثة دلالات فلسفيّة واجتماعيّة مرتبطة بالفعل، فليست الحداثة مفهوم نظريّ، أو آلة فكريّة مجرّدة، بل تؤثر في الفرد بما يغيّر قناعاته وبالضّرورة تغيّر سلوكه أو تبنّيه من جديد.

أمّا مفهوم الوحي فهو واسع ويتفرّع عنه مسائل عديدة، ما يهمّنا هنا هو المفهوم نفسه، فهو وسيلة اختارها الله خالق الكون ليتواصل بها مع البشر، ويعلّمهم بأمور توقّفت عنها عقولهم كإجابة سؤال النّشأة والغاية والمصير. فالمعرفة القادمة من الذّات الإلهيّة الخارجة عن ماهية الكون هي أعلى درجات المعرفة، فمن أدرى بالمخلوقات من الخالق؟

مع التّنبيه إلى استغناء الإله عن الوسائل والطّرق، فمن لوازم الإيمان بأنّه إله، ومن موجبات إلوهيّته أنّه فعّال لما يريد ولا يُسأل عمّا يفعل.

لم تنعكس الحداثة الغربيّة في الفكر العربيّ على استشكال مفهوم الوحي وحسب، بل تعدّت إلى رفض النّظرة الدّينيّة لأصل الوجود وشكّكت في حقيقة وجود الذّات الإلهيّة، وبعثة الأنبياء، والخوض في طبيعتهم البشريّة وإمكانيّة ادّعاء الوحي وهيئاته، والتّشكيك في حجيّة السّنّة، والمطالبات بإعادة قراءة وتفسير النّص المقدّس بما يتناسب مع الواقع الحاليّ مع ضرورة إهمال كل التّفاسير السّابقة إلى آخره من المسائل الدينيّة في الفكر العربيّ، والتي صادمت فكر الحداثة الغربيّة.

لكن حار دليلنا مع كمّ الأفكار المتناقضة بين مفكري الحداثة العرب، وطريقة تناولهم الذّاتيّة لكلّ مسألة من مسائل الدّين غير المتوافقة مع فكرهم الحداثيّ المُقلّد، فبين محاولات التّوفيق ومحاولات الانسلاخ، تضيع المبادئ ويضيع المعيار النّقديّ، وقد يتحوّل إلى مصالح ذاتيّة فرديّة، منطلقها في النّقد الجهل والهوى والرّغبة الجامحة في هدم الموروث، والخروج عن طبيعة التّفكير السّائدة!

“فترى أحدهم  ينعى تعطيل العقلانيّة والبرهانيّة في تاريخ الفكر العربيّ لصالح عرفانيّة الغزالي التي أفضت إلى غيبوبة العقل برأيه، ثمّ تراه في سياق آخر يستدعي نصًّا صوفيًّا للنّفري مشيدًا بشعريّته العالية ورؤيته الكونيّة، ويراه مثالًا للنّصّ الإبداعيّ العالي الذي تواطأت المؤسّسة الدّينيّة الثّقافيّة على تغييبه.” [3]

جاء تعريف نظريّة المعرفة في المعجم الفلسفيّ على أنّها: البحث في طبيعة المعرفة وأصلها وقيمتها ووسائلها وحدودها. فمكوّنات المعرفة داخلة في التّعريف نفسه، وأهمّها هي الوسائل أو المصادر. وقد اتّفق عقلاء الحضارات على أنّ هذه المصادر لا تخرج عن ثلاث؛ العقل، والخبر، والحس. وأنّها تشكّل في وعي الإنسان تكاملًا معرفيًّا موزونًا لا يشوبه النّقص المعرفيّ الدّنيويّ. ومع ذلك استعلى بعض الحداثيين عن الوحي، واستشكل بعضهم متعلّقاته مع محاولات لنزع قداسة النّصّ والتّشكيك في مصدره، وننطلق الآن في سرد بعض هذه الإشكالات، ثمّ بيان المغالطات التي وقع بها الحداثيون العرب في هذا السّياق.

يحتجّ المشروع الحداثيّ على العقل الإسلاميّ بأنّه محكوم بنظام معرفيّ واحد متمثل باللّاهوت أو الوحي، والجهود الفكريّة في تاريخ الفكر الإسلاميّ ما هي إلّا مجرد “نضالات من أجل الحقيقة”، وهذا ما يقوله محمد أركون، عرّاب الفكر الحداثيّ المعاصر.

يقول أركون: “العقل الدّينيّ ينشط داخل إطار المعرفة الجاهزة، ويقوم باستخراج المعرفة الصّحيحة اعتمادًا على النّصوص الدّينيّة، ولذا فإنّه يبقى عقلًا تابعًا لا مستقلًّا، فليس بمقدوره أن يقدّم مشكلة مشروعيّة المرور أو الانتقال من مرحلة الوحي (النّصّ المقدّس) إلى مرحلة المعارف المنجزة طبقًا للمنهجيّات الأصوليّة.” [أركون، 1989]

ومغالطة هذا القول تكمن في أمرين؛ أولهما أنّه ممتلئ بالألفاظ المشحونة التي توهم القارئ صحّة الكلام، وتتضمّن في دلالتها معنى سلبيّ يستحضره الذّهن تلقائيًّا عند قراءتها، وتعكس الجانب الشّخصيّ للكاتب أو المتحدّث. والأمر الثّاني هو أن كلام أركون منطلق من افتراض مبنيّ على استقراء ذاتيّ لجهود المفكرين والعلماء المسلمين من قبل ومن بعد، وهذا ما يسمّى في علم المنطق بمغالطة التعميم المتسرّع بحيث يفترض الطّرف الأوّل فرضيّة ثمّ يعمّمها على كلّ عيّنات وكلام الطّرف الثّاني دون برهان منطقيّ صائب بل مجرد استقراء ناقص.

فالموروث الإسلاميّ منطلق من تكامل مصادر المعرفة بين العقل والخبر والحسّ، والفِرق الإسلاميّة تتفاضل فيما بينها بمناهج المعرفة التي بنيت عليها مواقفها من المسائل الدّينيّة، فنجد ابن تيمية مثلًا يتحدّث في منع تعارض العقل مع النّقل، ولا حاكم ولا محكوم بين مصادر المعرفة، بل هو تكامل تامّ.

ويغفل الحداثيّون عن أنّ محلّ نقاش الفرق الإسلاميّة بين بعضها، هو كيفيّة التّعامل مع النصّ القرآني بين تأويل وتفويض، وليس التّقديم المطلق للنّصّ على العقل، أو إغفال مصدريّة الثّانية، وتحكيم الأوّل بالمطلق.

ولو شئنا أن نغالط لقلنا إنّ الحداثيين يقعون بمثل هذا -أي الاحتكام لنظام معرفيّ واحد- فالعقل عندهم هو بمثابة الوحي عندنا، وهو نظامهم المعرفيّ الوحيد! ولكنّنا نستعلي عن مثل هذه الأساليب، ولا نوافق قولهم من أساسه.

وللحداثيين اعتراض آخر على الوحي يتمثّل في أنسنة النّصّ، وإقصاء الإله عن توجيه الإنسان، وجعله محور الوجود وسيّده وواضع المبادئ والقيم له، فيرجع الأمر كلّه للإنسان لا للإله.

يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه نقد الخطاب الدّينيّ: “ولعلّنا الآن أصبحنا في موقف يسمح لنا بالقول إنّ النّصوصّ الدّينيّة نصوصًا لغويّة، شأنها شأن أيّة نصوص أخرى في الثّقافة، وأنّ أصلها الإلهيّ لا يعني أَّنّها في درسها وتحليلها تحتاج لمنهجيّات ذات طبيعة خاصّة تتناسب مع طبيعتها الإلهيّة الخاصّة.” [4]

وهذا القول هو محور مشروع الأنسنة التي يتبنّاه بعض الحداثيين، وثمة أمثلة أخرى ومقالات عديدة تدور كلّها حول نفس الفكرة (فصل النّصّ عن مصدره) وإعادة قراءته على صورة واقعيّة مع تهميش لأدوات الفهم الخاصّة وجهود المفسّرين المتوارثة. وهذا القول في رأيي ينطوي على عنصر الاستعلاء النّخبويّ المضمر الذي يلازم المفكر الحداثيّ، والغريب ما نراه اليوم ممّن يتصدّر منصّات الإعلام والثّقافة، فيستعلي عن الدّين وحالة التّديّن ويربأ بنفسه وعقله عنه، كأنّ من شرط النّخبويّة الطّعن في المقدّس!

ومغالطة تبنّي هذا الرّأي تكمن في تهوين الرّأي الذي تتمّ محاورته، بادّعاء بنائه على نحو يصير من اليسير نقده، وإمكانيّة عدم صدقه، بحيث يصير قائله كغيره من النّاس ليس لقوله أيّ حجّة. وهو ما يُعرف بمغالطة رجل القشّ، الغلط هنا يكمن في أمر دقيق غفل عنه الحداثيّون؛ إذ إن تسلسل الأفكار المنطقيّة المختصّة بذات الإله تُلزم الإنسان بالتّسليم والطّاعة لأوامره إذا ثبت صدق حاملها، وهذا متحقّق في النّصّ المقدّس الذي بين أيدينا وهو القرآن، فلِمَ هذا الخوض في تفاصيل الأفكار الدّينيّة وترك أصولها؟ فالأصل في النّقد هو النّظر إلى أصل الفكرة، وليس الخوض فيما يلزم عنها مع عدم تقرير أصلها، أهو خلاف أم نقطة اتّفاق، فإنّ إقرارهم بوجود الله والصّفات اللازمة له كإله واحد للكون، وأنّهم يؤمنون بالقرآن كلامًا له، يبطل قولهم ومطالبتهم بالأنسنة بالضّرورة.

فهو شبيه بالتّناقض كمن يقول أنا أؤمن بإله، لكن أؤمن بمحدوديّة قدرته أيضًا، وهذا باطل بالضّرورة العقليّة، فلازم الإله القدرة والإرادة المطلقة.

وفي النّهاية تقلّب الفكر العربيّ بالحداثة الغربيّة، ومرّ بأطوار كثيرة ظلّ الثّابت في كلّ طور منها؛ هو الدّعوة إلى الأنسنة والعقلنة، والمتّتبع لنصوص الحداثيين، يجدها في معظم الدّعاوي تفتقد للمنطق والبناء العقليّ السّليم في أصول الأفكار وفروعها، وما تقدّم من نماذج قليلة هو على سبيل الذّكر لا الحصر، وليس الغاية من هذا كلّه الإقصاء، وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة دون الآخرين، بل هي دعوة إلى الخروج من النّزعة الاستعلائيّة والاختزاليّة للحداثة، والنّظر إليها كفلسفة قابلة للنّقد، وعدم قراءة النّصوص الحداثيّة قراءة سطحيّة لا تستبطن منظومتها الغربيّة ولا المعرفيّة.


[1] طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ص 16

[2] عبدالوهاب المسيري، دراساتمعرفية في الحداثة الغربية، القاهرة،دار الشروق،٢٠٠٦،ص٣٤

[3]  وليد سيف، الشاهد والمشهود، الأردن، الأهلية للنشر والتوزيع، ٢٠١٦،ص٢١١

[4] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني ،ص٢٠٦

الحور العين.. هل هي للرجال في الجنة دون النساء؟ (2 من 2)

كنا نتسائل حيث وقفنا آخر مرة: ما دام القرآن قد فصل في نعيم الرجل والحور العين فلماذا لم يبدد على الأقل مخاوف الغيرة عند المرأة حيال ذلك بشكل صريح؟ ألِأنَ النساء كن معتادات على التعدد فيما مضى؟ وهاجس الغيرة هذا لم يكن ليطرق انتباههن كما يطرق انتباه النساء اليوم؟ أم أن “الحور العين” هن نساء الدنيا المؤمنات أنفسهن؟ وهل قصّر الإسلام في بشرى المرأة حقا إذا لم يكن قد قصّر في ثوابها؟

عُرفت المرأة الحوراء بجمالها عند العرب، وتغزلوا بها في أشعارهم، كما في الأمثلة التالية:

وتصدَّفَتْ حتَّى اسْتَبَتْكَ بواضِحٍ       صَلْتٍ كمُنْتَصِبِ الغَزَالِ الأَتْلَعِ

وبِمُقَلتَيْ حَوْرَاءَ تَحْسِبُ طَرْفَها          وَسْنَانَ حُرَّةِ مُسْتَهَلِّ الأَدْمُعُ 

[المفضليات، ٤٤]

إِنَ العُيُونَ الَتي فِي طَرفِهَا حَوَرٌ           قَـتَلْننا ثُـَّم لَمْ يُحيِينَ قَتلَانا     

[الحماسة البصرية، ٨٤]

وَعِنْدَنَا قَيِّنَةٌ بَيْضَاءُ ناعِمَة ٌ          مِثْلُ المَهَاةِ مِنَ الْحُورِ الْخَراعِيبِ   

تجري السّواكَ على غرٍّ مفلَّجةٍ       لم يَغذُها دَنسُ تحتَ الجلابيبِ

[المفضليات، ١٢٠]

أَوَانِسَ وُضَّحِ الأَجْيَادِ عِين ٍ      ترى مِنهُنَّ في المُقَلِ احوِرارا 

  كأنَّ حِجالَهنَّ أَوَتْ إليها            ظِبَاءُ الرَّمْلِ بَاشَرْنَ الْمَغَارَا     

[ديوان ذي الرمة، ١٣٧٣]

في القرآن الكريم  ورد ذكر “الحور” صراحةً في بضع آيات: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: ٢٠]، {وَحُورٌ عِين* كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: ٢٢-٢٣]، {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: ٧٢].

وورد في آيات أخرى ما قد يشمل وصف “الحور العين” وسواهن من نساء الجنة: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * َفجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: ٣٥-٣٧]، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: ٣١-٣٣].

وما روي في الصحيحين من أحاديث لا يتطرق إلى “الحور” بهذا اللفظ صراحةً، إلا حديث “أول زمرة” الذي روي أحيانا بتخصيص الزوجات من “الحور العين” وأحيانا أخرى على الإطلاق من غير تخصيص:

حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه: “إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ” [البخاري ٣٢٤٥، مسلم ٢٨٣٤].

حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: “لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ، يَعْنِي سَوْطَهُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا” [البخاري، ٢٧٩٦].

حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه: “إِنَّ للْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمةً مِنْ لُؤْلُؤةٍ وَاحِدةٍ مُجوَّفَةٍ طُولُهَا في السَّماءِ سِتُّونَ مِيلاً. للْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرى بعْضُهُمْ بَعْضاً”. [البخاري، ٣٢٤٣]، [مسلم، ٢٨٣٨].

يقول ابن قيم الجوزية في كتابه بعدما أورد جملة من أقوال المفسرين: “والحَوَر في العين: معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما، واكتساب كل منهما الحسن من الآخر. وعينٌ حوراء: إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها، ولا تسمى المرأة حوراء حتى تكون مع حور عينها بيضاء لون الجسد. والعِيْنُ: جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء. ورجل أعين: إذا كان ضخم العين. وامرأة عيناء، والجمع عِيْنٌ”.[حادي الأرواح، ٤٧٦]

بالنظر إلى الآيات الكريمة والأحاديث المروية في الصحيحين لا يظهر لنا ما يجزم بأن “الحور العين” جنس آخر في خلقهن، وأن لا حور عين (في وصفهن) من نساء الدنيا في الجنة، إلا أن حديثا رواه الإمام أحمد (22101)، والترمذي (1174)، وابن ماجة (2014)، وهو إن لم ينفِ صفة الحور العين بالإنسيات بعد إنشائهن في الجنة فهو على الأقل يؤكد أن هناك جنس آخر من النساء خلق في الجنة، وهن حينئذ “حور عين” أصلاً وليس إنشاءً بعد خلق آخر.. “لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا”.

 وإن سلمنا نحن النساء بوجود الحور العين كجنس آخر غير جنس الإنسيات إلا أن سؤال أيهن الأحسن والأعلى منزلة يظل يشغل الكثيرات.

في سورة الرحمن ذُكٍرَت الحور جزاءً لأصحاب الجنتين الأدنى صراحةً وذُكٍرَت “خَيِّرَاتٌ حِسَان” بحق أصحاب الجنتين الأُوَل، ولكن الأمر في الواقعة على خلاف ذلك إذ جاء ذكر الحور صراحةً جزاءً بحق “السابقون”، ثم جاءت {إنا أنشأناهن إنشاءً} عطفا على الفرش المرفوعة كناية عن النساء دون ذكر لفظ الحور صراحةً بحق “أصحاب اليمين”.

بعض المفسرين رجحوا أن الإنشاء الذي ورد في الآية سيكون في حق نساء الدنيا، وبعضهم قالوا يقصد بها الحور اللاتي خلقن في الجنة. يقول القرطبي: “إنا أنشأناهن إنشاء أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: هن لباس لكم. ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني آدم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاء قال : منهن البكر والثيب”.  [تفسير القرطبي، ١٧/ ٢١٠].

وعندما يرد في سورة الرحمن لفظ “حور” في الجنتين الأدنى ولا يرد في الأُوَل يتبادر إلى الذهن أن نساء الدنيا المؤمنات قد يكن المقصودات في الأُوَل، وأنهن قد يكن بدليل ذلك أفضل من الحور اللاتي خلقن في الجنة لأصحاب الجنتين الأدنى؛ فهن أهل هذه الدرجات بفضل طاعتهن في الدنيا وهن اللاتي يجازى بهن أصحاب الجنتين الأعلى منزلة وفقاً لهذا الإستدلال، والحديث الذي رواه الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها في المعجم الكبير(23/ 367) يدعم هذا الاستدلال إلا أن العلماء ضعفوا هذا الحديث، وفي الوقت ذاته لم ترد أحاديث صحيحة تنفي ذلك أو تثبت عكسه.

يقول ابن كثير: “ثم قال: (حور مقصورات في الخيام)، وهناك قال: (فيهن قاصرات الطرف)، ولا شك أن التي قد قَصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت، وإن كان الجميع مخدرات”. [تفسير ابن كثير، ٤/٢٨٠]

أما القرطبي فيقول: “وقال في الأوليين: فيهن قاصرات الطرف. قصرن طرفهن على الأزواج ولم يذكر أنهن مقصورات، فدّل على أن المقصورات أعلى وأفضل”. [تفسير القرطبي، 17/ ١٨٩]

والجدير بالذكر كذلك أن بعض المفسرين قالوا بأنهن أربع جنات جميعا لمن خاف مقام ربه، وأن نعيمه حينئذ على صنفين من الجنان المختلفة في ألوان نعيمها، ومنهم الصحابي ابن عباس رضي الله عنه، وإن كان رأي أكثر المفسرين أن من خاف مقام ربه على مراتب وأن الجنتين الأوليين للمحسنين، والتي من دونهما لمن هم أدنى منهم مرتبة في الخوف من الله.

يقول القرطبي: “قوله تعالى: ومن دونهما جنتان أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط”.   [تفسير القرطبي، 17/ ١٨٣]

هذا الإبهام الذي يحيط بالمسألة قد يكون مقصودا لحكمة، وقد يعني أن من حور الجنة من قد تفوق نساء الدنيا بحسنها، وأن من نساء الدنيا كذلك من قد تفوق حور الجنة في حسنها، وأن الرجل قد يُجزى بكليهما في الوقت نفسه، وأن الأفضلية بالتالي متفاوتة حسب العمل في الدنيا.. عمل المرأة، وعمل الرجل الذي يستحق أن يُجزى بها.

ولكن ماذا إذا عرفنا أن الشهيد -الذي لا يفوق منزلته عند الله إلا الأنبياء- يُجزى باثنتين وسبعين من “الحور العين” في الأحاديث الصحيحة؟

“لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ” [الترمذي، ١٦٦٣]،[ابن ماجه، 2799] .

وعلى كل حال إن ذلك لا ينفي أن تكون تلك الحور من الإنسيات المنشآت في الجنة على الهيئة التي وردت في سورة الواقعة، ولا ينفي أن الشهيد قد يُجزى بإنسيات كذلك لو سلمنا بأن الاثنتين والسبعين ما هن إلا حور عين خُلقن في الجنة ولسن إنسيات من بعد الإنشاء في الجنة، ولا يعني بالضرورة أنهن أجمل وأعلى منزلة من الإنسيات (يعني كثرتهن لا تعني بالضرورة أنهن الأجمل والأحسن)، وتعدد الزوجات إلى هذا الحد ما دُمن “حور عين” في وصفهن سواء كن انسيات أُو غير ذلك هو منتهى النعيم بحق الشهيد هنا والله أعلم.

إن النظر إلى ظاهر النصوص نظرة صفراء يلقي بنا في غياهب التخبط عند أول شبهة، ولكن إذا ما أزلنا الغشاوة ونظرنا بعين المؤمن المتدبر الواثق بعدل الله الذي يطلب الحق ويرجو الفهم لا عين التهويل والتشنيع والتشنج، وجدنا أن نعيم الرجل كما أنه لا بد حاصل بتنعم المرأة فنعيمها كذلك حاصل بتنعمه، وإلا فهل يستطيع أحد أن يزعم بأن جمال المرأة مكافأة للرجل وحده؟! ماذا عن المرأة نفسها التي بدت بالإنشاء جميلة إلى ذاك الحد؟! أليس هذا نعيما في حقها؟! أويزعم أحد أن اللذة الجنسية حينئذ لذة خالصة للرجل لا تصيب المرأة منها شيئا؟!

قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَـَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]

يقول ابن قيم الجوزية في حادي الأرواح :”جمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه، والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش وبها نزل القرآن كقوله تعالى: (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ) [البقرة: 35] ومن العرب من يقول زوجة وهو نادر لا يكادون يقولونه”.[حادي الأرواح، ٤٧٠]

فإذا كنا نتربص بأي حديث مهما بلغت درجة صحته لننطلق منه في إثارة الشبهات التي تدعي مبالغة الإسلام في تنعيم الرجل وبشرى تنعيمه ذاك على حساب المرأة، فلماذا لا نأخذ بباقي الأحاديث التي لا تختلف في مدى صحتها؟! فهناك الأحاديث التي تطرقت للصورة التي يُبعث عليها الرجل في الجنة “على حُسن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين، وعلى لسان محمد جرداً مرداً مكحلين”، أو لنكمل على الأقل قراءة تلك الأحاديث التي يظهر فيها الرجل غارقا في النعيم إلى آخرها، الى الجزء الذي يظهر فيه رضا المرأة وتنعمها؛ كالحديث الذي عرف بحديث الصور الطويل الذي تفرد بروايته إسماعيل بن رافع والذي جاء في قطعة منه: “كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شيء أحسن منك، وما في الجنة شيء أحب إلي منك”، فإن لم يكن هذا ليدل على موت الغيرة في الجنة، أفلا يدل على مدى غبطة المرأة وسعادتها بنعيمها؟! وربما هي من النعيم بحيث لا تحس بمن يرادفها من الحور العين أو الإنسيات بدليل الآية: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ..} وبدليل الحديث الذي روي في الصحيحين والذي يتضح منه انتفاء أسباب الغيرة والغل: “إِنَّ للْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمةً مِنْ لُؤْلُؤةٍ وَاحِدةٍ مُجوَّفَةٍ طُولُهَا في السَّماءِ سِتُّونَ مِيلاً. للْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرى بعْضُهُمْ بَعْضا” ، وهناك الأحاديث التي تشير إلى تجدد العذرية وبالتالي خلود اللذة التامة التي تتجدد لكل من الرجل والمرأة على السواء بالإنشاء الذي لا ينتهي حينئذ.

إن الآيات الكريمة والأحاديث المروية في الصحيحين التي بشرت المؤمنين بعمومهم ذكرانا وإناثا بنعيم الجنة، وأصناف هذا النعيم ووجوهه التي لا تخطر على قلب بشر أكثر بكثير من تلك التي اختصت بذكر النعيم الجنسي على وجه خاص؛ النعيم المحسوب على الرجل وحده في أخلاق النسوية وأخلاق إنسان هذا العصر الذي ينتحل الطهورية دائما في مواجهة الإسلام!

إن الأوصاف الجسدية تشد انتباه الرجل(البصري بطبيعته) للمرأة، ولكنها في الوقت ذاته تشد انتباه المرأة نفسها أيضا للشعور بمدى الوضاءة والجمال وكل آثار النعيم الذي تُبعث عليه في الجنة، وكذلك يفعل ذكر الأوصاف الخُلقية اللطيفة وسيماء العذارى من قصر الطرف وقصر النفس وحسن التبعل والتحبب؛ وإذا عرفنا أن الإنسيات قد يكن مشمولات بتلك الأوصاف بفضل طاعتهن في الدنيا فالبشرى والترغيب حينئذ في حق المرأة والرجل كليهما. 

وإذا لم تجزم الأحاديث والآيات الكريمة بجنس الحور اللاتي يجازى بهن الرجال (إنسيات أو غيرهن) في الجنة كما سبق، ولم تجزم بعددهن كذلك، ولم تجزم بالأفضلية بينهن؛ ففي ذلك كله ابتلاء للرجل أيضا وليس للمرأة فحسب، وحقيقة ذلك لا تظهر إلا في الجنة وتبقى رهن العمل في الدنيا.. عمل المرأة، وعمل الرجل الذي يستحق أن يُجزى بها.

وإن انتفت الغيرة في الجنة وانتفت أسبابها إلا أنها موجودة في الدنيا وحاضرة بقوة لدى النساء؛ تدفعهن دائما نحو التساؤل: من الأحسن والأجمل والأعلى منزلة؟ نحن، أم “الحور العين” اللاتي خلقن في الجنة؟ أما المرأة الشقية فهي التي يُقعدها سخط التساؤل عن التدبر والعمل!

“حور عين”.. نعيم على قدر الابتلاء 

ولأن الافتتان بالنساء من أعظم الفتن التي تعترض الرجل في الدنيا؛ كان النعيم الذي يعد الله به الرجل في الجنة من جنس الفتنة التي ابتلاه بها في الدنيا، ولا عجب حينئذ أن تكون البشرى على قدر التكليف، وعلى قدر الابتلاء والجهاد الذي يبذله الرجل وهو يقهر شهوته العنيفة إزاء فتنة فتّاكة كتلك. 

يقول تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: ١٤]، يقول ابن كثير في الآية: “يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه عليه السلام قال: “ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء” [تفسير ابن كثير، ١/٣٥١] .  

وإن كان القرآن قد أسهب حقا في الحديث عن بشرى الرجل ونعيمه في الجنة في بضع آيات معدودات؛ فما نظن ذلك إلا لأن سعيه وجهاده وتكليفه في الدنيا أشد، بدليل تعين الشقاء على أبينا آدم (الرجل الأول) في خطاب الله له: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: ١١٧]، وأن هذا الإسهاب الذي تغبطه المرأة إياه إنما جاء لمواساته وتعزيته بثواب الآخرة وتثبيته. 

يقول القرطبي: “(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما) نهي؛ ومجازه: لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما من الجنة (فتشقى) يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد؛ ولم يقل: فتشقيا لان المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكادّ عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص.

وقيل: الاخراج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله: “إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى” أي في الجنة “وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى” فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن، وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس، لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج” [تفسير القرطبي، ١١/٢٥٢- ٢٥٣].

 وفي تفسير البغوي: “(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) حواء، (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) يعني تتعب وتنصب ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك، قال السدي: يعني الحرث والزرع والحصيد والطحن والخبز، وعن سعيد بن جبير: قال أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فذلك شقاؤه، ولم يقل “فتشقيا” رجوعا به إلى آدم لأن تعبه أكثر فإن الرجل هو الساعي على زوجته، وقيل لأجل رؤوس الآي” [تفسير البغوي، ٣/ ٢٣٣] . 

قال الطبري: “وقال تعالى ذكره: (فتشقى) ولم يقل: فتشقيا، وقد قال: (فلا يخرجنكما) لأن ابتداء الخطاب من الله كان لآدم عليه السلام، فكان في إعلامه العقوبة على معصيته إياه، فيما نهاه عنه من أكل الشجرة الكفاية من ذكر المرأة، إذ كان معلوما أن حكمها في ذلك حكمه، كما قال: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) اجتزئ بمعرفة السامعين معناه، من ذكر فعل صاحبه” [جامع البيان، ١٦/٢٧٥-٢٧٦]؛ إذ لا شك أنه لا بد يطولها من الشقاء بشقاء زوجها، ويطولها شقاء تكليفها الخاص كامرأة، ولكن الشقاء هنا كأنما هو شقاء القوامة؛ شقاء الكدح والسعي ومكابدة الصعاب في الخارج، أما المرأة فكأنما خلقت للإيناس وإذهاب الحزن والتعب الذي يتركه هذا الكدح والشقاء بما تملك من رِقَّة في الإحساس، وهَبَّة في العاطفة، وعمق في الاحتواء، فإذا هي “حوّاء” في صيغة مبالغة إنما تدل على مدى احترافها بالفطرة ومهارتها في ذلك إن شاءت.. فكان تكليفها من جنس ما تطيق.

وبما أن الرجل كان الأولى بالشقاء في الدنيا فمن العدل أن يكون الأولى بالنعيم في الآخرة، والأولى ببشرى النعيم في الجنة، فما ضير المرأة حينئذ إذا حل نعيمها وتم وكمل بنعيمه؟ وما هو وجه اعتراضها؟ هل حسد وغيرة من الرجل فوق الغيرة عليه؟! 

بل ما ضير النسويات اللاتي يستكثرن على الشهيد الذي بذل روحه ودمه وباع نفسه لبارئها فضل الله عليه؟ أتظن إحداهن أنها ستكون من بين الاثنتين والسبعين اللاتي يجزى بهن راغمة؟! أم تظن أنها ستقدر على تحريض الحور اللاتي لم يخلقن إلا من أجل الرجل لقاء طاعته في الدنيا؟

أم هو حنقها حين تضطرها الحضارة الجاحدة والمجتمع الذي تنكر للشريعة -التي تضمن لها الحق في أن تكون امرأة فحسب- لتكابد أعباء الرجال التي لا تطيقها فوق أعبائها كامرأة؟

إن “الحضارة” التي تستدرجها بطُعم “المساواة” هي المسؤولة عن هذا الاختلال الذي وقعت في دوامته. إن حنقها حينئذ لا ينبغي أن ينصب على الإسلام إلا إذا تمكن دعاة “الحضارة” و”المساواة” من تضليلها وسلخها عن فطرتها وتقديم الإسلام على أنه السبب في كل ما تكابده؛ وأن الكفر به جملةً أو بالتجزئة هو السبيل إلى تحررها حينئذ.

يقول تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} [النساء: ٣٢]، والمفارقة هنا في أن سبب نزول الآية جاء جوابا على مطالبة الصحابيات بمساواتهن مع الرجال في التكليف لما علمنه من فضل هذا التكليف، ولكن أكثر النساء اللاتي يستكثرن اليوم فضل الله على الرجل المؤمن في الآخرة لا يشغلهن استيعاب فضل ذاك التكليف ولا يعترفن به؛ إنما تشغلهن المطالبة بمساواة الجزاء فقط! 

ومن رحمة الله وفضله أنه تعالى يجمع بين العبد الصالح وأهليه في الجنة لتقر عينه؛ فيصيبهم جزاء عمله الصالح وإن أبطأت بهم أعمالهم وكانوا أدنى منه منزلة في الجنة. قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]، وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: ٧٠].

 قال ابن كثير: “وقوله تعالى: (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانا من الله وإحسانا، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور:21] ” .[تفسير القرآن العظيم، ٤/٤٥١]، وقال ابن عاشور:” في هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح، أو خلف صالح، أو زوج صالح، ممن تحققت فيهم هذه الصِّلات، أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى” [التحرير والتنوير، 13/131]. 

فإذا كان الله تعالى قد وعد عباده رجالا ونساء بالرضى وبقرار الأعين في الجنة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: ٩٧]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: ٤٠]، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض} [آل عمران: ١٩٥]، فمن المتضرر بعدئذ؟! 

لا أحد.. سوى إبليس الذي راهن على إغوائنا من أجل أن يحاجج الله تعالى في معصيته يوم القيامة.

الحور العين.. هل هي للرجال في الجنة دون النساء؟ (1 من 2)

ما نصيب المرأة من الجنس في الجنة؟ أليس لها في الجنة فحول كما للرجل حور عين؟ أَولم يُذكر في القرآن نفسه الذي يوجه الكلام لكلا الجنسين، ولا يفرق بين ذكر وأنثى في التكليف والجزاء في أكثر من موضع أن {لهم ما يشاءون}؟ 

أسئلة كثيرة قد تدور في أذهان بعض النساء، الفتيات المراهقات، ومن تأخر زواجهن، واللاتي فاتهن “قطار الزواج”؛ والمتزوجات، واللاتي عدد عليهن أزواجهن على حد سواء. واليوم يطرح أنصار النسوية ودعاة “المساواة” و”تحرير المرأة” وحتى الشواذ ربما الأسئلة نفسها مستغلين هذا الجهل البريء ولكن بنبرة غير بريئة، هي نبرة الردح والتشنيع زاعمين الوقوف في صف المرأة، المرأة التي يدّعون أن الإسلام يمارس الاضطهاد والتمييز بحقها حتى في الجنة التي وعدت بها كجزاء أخروي لقاء طاعتها في الدنيا، بل هي نبرة التحريض وربما الشماتة بالمرأة المغرر بها في رأيهم، “الواهمة” التي تتبع تعاليم الدين.

إذا تأملنا جيدا ما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة في وصف الجنة ونعيمها، نجد أن ما يتحقق لنا في الآخرة إنما هو من جنس ما نتمناه ونشتهيه في الدنيا بغرائزنا الفطرية الخام التي ركبها الله فينا؛ قبل أن تمسخها دعوات “الحرية” و”المساواة” الآلية وأحيانا دوافع الانتقام الساذجة من الجنس الآخر؛ وليس ما نشتهيه بطارئ الشذوذ الذي قد يصيب البشر حين يهبط بهم الشيطان إلى مستويات لا تصل اليها الحيوانات في سبيل إبعادهم عن الجنة، ومحاججة الله يوم القيامة بقدرته على إغوائهم لمعصيته كما أغوى أبويهم من قبل، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٦٢].

تبدو أكثر الأسئلة التي تستنكر وجود الحور العين وارتباطها بنعيم الرجال في الجنة وكأنها تنطلق من النظر إلى الرجل والمرأة بالمفهوم الجندري؛ المفهوم الذي خرج من رحم “الحداثة” ودعاوى “المساواة” و”تحرير المرأة” مما يدعي دعاة “الحضارة” أنها مجرد قوالب وضعية؛ فرضتها العادات والتقاليد وأعراف “البداوة” في المجتمعات الصحراوية القاحلة المتخلفة النائية عن السياق الحضاري الإنساني في حقب الزمان القديمة؛ المفهوم الحضاري “المدني” الذي يحاول تزييف الحقائق وطمس الفطرة؛ ولا يفهم عمق الإختلاف بين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة.. وعى السائلون حقيقة ذلك أم لم يعوه.

فهل تشتهي المرأة الطبيعية الارتماء كل دقيقة في حضن رجل؟!  أم هو عمق الإندماج والانصهار والتوغل في حب رجل واحد تراهن على استئثاره بكل الحب الذي تبرع به؟  حب حصري ومكثف أكثر ما يثيره هو قوامة هذا الرجل وغيرة هذا الرجل في ألا يشاركه فيها أحد.. هو منتهى اللذة والنعيم عند المرأة الخام.

بينما يتمنى الكثير من الرجال لو أن بإمكانهم التعدد بعيدا عن ضوابط التعدد المرهقة بالنسبة لهم؛ تلك الضوابط التي تموت في الجنة ويتحقق للرجل ما كان يشتهيه دون عناء التكليف ومشقة المسؤولية، دون ضرائب ودون نساء ينتحبن بقلوبهن المنكسرة.

قد تجد المرأة نفسها مضطرة إلى التفكير برجل آخر يشبع حاجاتها العاطفية والجنسية إذا ابتليت بزوج لا يحقق لها ذلك، وفي أسوأ الحالات قد تجد امرأة راضية عن زوجها جنسيا وعاطفيا وكل شيء، إنما يعجبها ذقن ذاك وعضلات هذا؛ شاعرية ذاك وعقلانية هذا، ولكنها إذا تمنت فهي تتمنى رجلا واحدا تجد عنده كل هذه المزايا التي تثير اهتمامها، ويكون هذا منتهى الأمنيات عند امرأة ناضجة نفسيا وجنسيا، صحيحة ومعافاة من علل “المساواة” البلهاء وإنفلونزا “التحرر”.

على العكس من المرأة يبدو منتهى اللذة عند الرجل في أن يكون بطلا، أن يشعر بأكبر قدر من الاحتياج إليه، أن يمارس القوامة بأبعادها الجسدية والنفسية عند أكبر قدر ممكن من النساء، إلا أن الإسلام عندما جاء ووجد عند العرب عادة الاستكثار من النساء إلى حد غير أخلاقي، يخل بتوازن المجتمع ويبخس النساء حقوقهن ويجعل المرأة كالعبد الذي لا يملك حتى كرامته؛ قنن هذه الغريزة وهذبها بأن أباح للرجل أن يعدد إلى أربعة نساء إذا ملك القدرة في أداء ما عليه والقدرة في العدل، بل إن ضوابط التعدد بحد ذاتها كوابح تهذب تلك الغريزة وتضفي عليها طابع المسؤولية، وكأن أي زيادة في تحقيق تلك الشهوة في الدنيا مرهونة بمزيد من المسؤولية، إذ يبدو الأمر كضريبة يفرضها الإسلام على الاستزادة من شهوة جُعل أقصى نعيم الجنة (بعد رؤية وجهه تعالى) من جنسها، فمن أراد الإستعجال والاستزادة منها في الدنيا فكأنما عليه أن يتحمل تبعات ذلك. 

الحور العين
الإسلام دين العفة والطهارة في الدنيا، وهو كذلك في الآخرة لا يقلب الصورة ١٨٠ درجة -كما يرى البعض- أو بالأحرى كما يراد لهم أن يروا.

صحيح أن النعيم الجنسي في الجنة متاح على صورة لا مثيل لها، ولا حد له يخطر على قلب بشر كسائر ألوان النعيم حينئذ؛ ولكن هذا لا يعني أن في الجنة إباحية وانحلال، لا يمكن أن يخطر هذا إلا في خيال ضحايا النسوية التي لا تريهم إلا ما ترى، وخيال الذين نُكِبوا في فطرتهم فصاروا يرون الاباحية على أنها منتهى النعيم في الدنيا وفي الآخرة حتى (إن كان منهم من يؤمن باليوم الآخر)، فالإسلام حينئذ مُدان عندهم بالتناقض، وربما هو مدان بالتناقض في تصورهم إذ هو يُحَّرِم على الإنسان الإباحية في الدنيا أكثر من كونه يبيحها في الآخرة(حسب ظنهم)، قد سلبتهم غمرة احتفائهم بالعقل نعمة الاحتفاء بالفطرة وجعلتهم محرومين من استيعاب ما يعد الله به المؤمنين بمقتضى تلك الفطرة التي أجهز عليها مبضع”الحضارة”، عاجزون عن فهم أن لا شيء في الجنة اسمه تمني ما ليس في اليد، وأن كل ما تشتهيه النفس مسخر هناك بطرفة عين وبلا أدنى جهد. 

في الجنة لا ينزو الرجل على حور جاره، “إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا” [البخاري، ٣٢٤٣]، [مسلم، ٢٨٣٨]؛ إذ أن أهل الخيمة الواحدة من النعيم بحيث لا يرى بعضهم بعضا!

في الجنة يتقلب الرجل المطهر وأزواجه المطهرة في النعيم، كلٌ مشغول متقلب في نعيمه المطهر، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: ٥٥-٥٦].

 نساء الجنة “قاصرات الطرف”، يقول ابن كثير: “والمفسرون كلهم على أن المعنى: قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يطمحن إلى غيرهم. وقيل قصرن طرف أزواجهن عليهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن” [حادي الأرواح: ٤٧٩]، وقيل قاصرات الطرف كناية عن الغنج والدلال وحياء العذارى، و”مقصورات” في خيام اللؤلؤ، وقيل: “لا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين، كما أن نساء الملوك وذويهم من النساء المخدرات المصونات لا يمتنع أن يخرجن في سفر وغيره إلى متنزه وبستان ونحوه” [حادي الأرواح: ٤٨٧].

فالفطرة إذن لا تذبح في اليوم الآخر كما يذبح الموت بسكين الخلود، وكأن الذين احتفوا في الدنيا بنعمة الفطرة إنما بها يستشعرون نعيم الجنة، ويستلذون بمجساتها التي بقيت سليمة صحيحة معافاة لم تعطبها الابتلاءات في الدنيا، ماتت الإبتلاءات وخُلِّدَت الفطرة وخُلِّدَ نعيمها، خُلِّدَ الحياء.. حياء الأبكار الذي يحترق على مهل في أفئدة إنما هي المصابيح في وضاءتها، ولعل الأفئدة تُرى هناك في وجه آخر من وجوه اللذة، ويُرى خفقانها واضطرابها للقاء الحبيب. 

الغيرة والنعيم.. هل يجتمعان؟!
 إن المرأة تحب أن تستأثر بزوجها في الجنة كما تحب ذلك في الدنيا، ولكن وجود حور عين أو زوجات أخريات ينغص عليها متعة ذلك، بينما الأصل في الجنة انها دار منتهى المتعة وموت الحزن. فأين النعيم الذي يعد الله به المرأة إذا كان هناك من يشاركنها في زوجها؟

إذا نظرنا نحن النساء بعيوننا وقلوبنا الدنيوية التي إنما خلقت لنبصر بها عالم الدنيا نظن أن الأمر لا يمكنه أن يكون إلا بهذه الصورة هناك في الجنة، لا نستطيع استيعاب سيناريو آخر، ونحن إذ ننظر هذه النظرة نجد أن الأمر مؤلم حقا، وأن هذا ليس هو النعيم الذي تستحقه المؤمنات القانتات الطاهرات لقاء طاعتهن في الدنيا، ولكننا في الحقيقة لا نملك عيون الجنة وقلوب الجنة لننظر بها إلى عالم الآخرة، لا نملك معرفة أنفسنا هناك حتى ولا نملك تصورات يقينية يمكن الجزم بها حول أحوالنا في الجنة.

إن الأنفس والأجساد تتبدل في الجنة فلا تعود على ما كانت عليه في الدنيا {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة،٣٥-٣٧]؛ هذا بقول أكثر المفسرين. وفي الحديث المرسل الذي رواه الترمذي في الشمائل عن الحسن البصري.. “قال: أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ” يَا أُمَّ فُلانٍ، إِنَّ الْجَنَّةَ لا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ”، قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي, فَقَالَ: “أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى, يَقُولُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} سورة الواقعة آية ٣٥-٣٧” [الشمائل المحمدية، ٢٣٣] .

وفي حديث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ جُرْدًا، مُرْدًا، مُكَحَّلِينَ، أَبْنَاءَ ثَلاَثِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً ” [الترمذي، ٢٥٤٥] ،[المسند،١٣/٣١٥].  

أما دليله في الصحيحين حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ” [البخاري، ٦٢٢٧]، [مسلم، ٢٨٣٤].

لا غل في الجنة ولا حسد {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: ٤٧]، ولا حزن ولا تعب { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر، ٣٤-٣٥]، أصحاب الجنة ذكرانا وإناثا غارقون في نعيمهم لا يشغلهم عن النعيم شيء {في شغل فاكهون} [يس: ٥٥]، وفي الحديث الصحيح “إِنَّ للْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمةً مِنْ لُؤْلُؤةٍ وَاحِدةٍ مُجوَّفَةٍ طُولُهَا في السَّماءِ سِتُّونَ مِيلاً. للْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرى بعْضُهُمْ بَعْضاً” [البخاري، ٣٢٤٣]، [مسلم، ٢٨٣٨]؛ إذ يستدل به على انتفاء أسباب الغيرة وشغل أهل الجنة كلٌ بنعيمه، فأين تجد المرأة سخطا بعد هذا؟

ابتلاء الرجل والمرأة
إذا لم تجزم أقوال المفسرين بعدد “الحور العين” وجنس الزوجات التي للرجل في الجنة عموما، فهي لم تجزم كذلك في المفاضلة بين “الحور العين” اللاتي خلقن في الجنة وبين نساء الجنة الإنسيات (بنات حواء). يقول ابن قيم الجوزية بعد أن ساق الكثير من الأحاديث وأقوال المفسرين التي تطرقت للحور العين والزوجات في الجنة” “الأحاديث الصحيحة إنما فيها أن لكل منهم زوجتين، وليس في الصحيح زيادة على ذلك، فإن كانت هذه الأحاديث محفوظة: فإما أن يراد بها ما لكل واحد من السراري زيادة على الزوجتين، ويكونون في ذلك على حسب منازلهم في القلة والكثرة، كالخدم والولدان” [حادي الأرواح، ٢٣٢].

ويقول ابن رجب رحمه الله: “هاتان الزوجتان من الحور العين، لا بد لكل رجل دخل الجنة منهما، وأما الزيادة على ذلك، فتكون بحسب الدرجات والأعمال، ولم يثبت في حصر الزيادة على الزوجتين شيء” [التخويف من النار، ٢٦٨].

إذن عدد الزوجات اللاتي يجازى بهن الرجل في الجنة قد يتراوح حسب عمل الرجل في الدنيا ومنزلته في الجنة؛ فالشهيد مثلا له اثنتان وسبعون زوجة من “الحور العين” في الأحاديث الصحيحة: “لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ ” [سنن الترمذي، ١٦٦٣]، [ابن ماجه، ٢٧٩٩] .

أما أدنى رجال الجنة منزلة فيزوج باثنتين من الحور العين، إذ استدل المفسرون على ذلك من حديث أبي سعيد عند مسلم في صفة أدنى أهل الجنة: “إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنَ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ. ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَتَقُولَانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ” [ مسلم، ١٨٨]، يقول ابن حجر: والذي يظهر أن المراد أن أقل ما لكل واحد منهم زوجتان” [فتح الباري، ٦/٣٢٥].

وهذا يدفعنا للتفكير بأن المرأة قد تكون خاضعة لمثل هذا القانون العادل كونها سواء مع الرجل في التكليف والجزاء، ما يعني أن جمال المرأة في الجنة قد يتراوح حسب عملها في الدنيا والدرجة التي تكون بها في الجنة؛ فبقدر أعمالها تكون الزيادة في الحسن، ويمكن أن يكون هذا أحد مقاييس نعيمها في الجنة. وإن تناولت الأحاديث الحد الأدنى من نعيم الرجل في هذا الصدد، فربما نجد الحد الأدنى لنعيم المرأة كذلك في حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه البخاري: “لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ، يَعْنِي سَوْطَهُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا” [البخاري، ٢٧٩٦].

قد يكون هذا هو الابتلاء الخاص بالمرأة، أن يتراوح جمالها في الجنة حسب عملها في الدنيا، وأنها قد تفوق في حسنها كل الأوصاف التي ذكرتها الأحاديث الصحيحة والآيات الكريمة التي جاءت في وصف الحور إذا اجتهدت في الطاعة، وقد تكون الغيرة حينئذ هي المحرك الذي يدفعها لمثل ذاك الاجتهاد في الدنيا فتنال به نعيم الآخرة الذي تستحق.

ولكن ما دام القرآن قد فصل في نعيم الرجل إلى حد الحديث عن الحور العين وأوصافهن بشيء من الإسهاب فلماذا لم يبدد على الأقل مخاوف الغيرة عند المرأة حيال ذلك بشكل صريح؟ ألِأنَ النساء كن معتادات على التعدد فيما مضى؟ وهاجس الغيرة هذا لم يكن ليطرق انتباههن كما يطرق انتباه النساء اليوم؟ أم أن “الحور العين” هن نساء الدنيا المؤمنات أنفسهن؟ وهل قصّر الإسلام في بشرى المرأة حقا إذا لم يكن قد قصّر في ثوابها؟ هذا ما سنبحثه في الجزء القادم إن شاء الله.

ماذا لو طبقت قاعدة: إياكم والظن!

إن للقطيعة والهجران خطوات لا يكاد يمشيها أحدنا إلا ويصل إليها، وإن أولى وثاني وثالث وعاشر هذه الخطوات هو سوء الظن، وإذا كان سوء الظن سابقاً ذا أشكالٍ قليلةٍ وصورٍ محصورةٍ، فالآن قد تفرّع وتشعب، وأصبح كل سكون وحركة معرضة لسوء الظن.

فسابقاً كان قول أحدهم أو فعله يفهم خطئاً فيساء ظنه، أما الآن فأحدهم قد وضع هذه الحالة على الواتساب ليغيظني! ولم يقصد من منشوره على الفيسبوك إلا إياي! ولم يرد على رسالتي رغم أنه رآها استخفافاً بي وتقليلاً مني! ولم يضيفني إلى هذه المجموعة كرهاً وحسداً من نفسه!

فيغدو الإنسان السائر في طريق سوء الظن كارهاً لكل من حوله، فالكره والبغضاء لا يطبعان في صدر المرء فجأة وإنما يدفعهما سوء الظن إلى قلب الإنسان دفعاً.

ولا يتوقف الأمر عند كره الناس بل يتعدى ذلك إلى أن يحمل المرء من الريبة والشك ما يبني جداراً بينه وبين الآخرين، فيصبح ويمسي وحيداً بلا مؤنس، وما ذاك إلا لأنه قد استقبل كل ما تراه عينه وتسمعه أذنه بالظن السيء وأحياناً ما لا يراه ولا يسمعه وإنما قد أعطى لأفكاره وخيالاته مجدها في التحليل والتصور فأصبح من الظن السيء بمكان من السذاجة والغباء أحياناً الأخذ به، وقد كان يمكنه اجتناب كثير من ذلك بأن يكاشف الذي أساء الظن به، فقد يكون له عذراً فيما فعل.

ومخاطر سوء الظن لا تنحصر في ألا يكون للمرء رفاق وزملاء فحسب، وإنما في أن يحوّل حياة زوجه وأولاده إلى جحيمٍ لا يطاق، فيظن بزوجه أنها تنظر لسواه أو تتجمل لغيره دون أدنى ريبة تحمله لهذا الظن! مما قد يؤدي إلى طلاقٍ يشتت شمل العائلة، وإن لم تكن نهايته الطلاق فعيشة لا تطاق!

وإذا جئنا إلى الحكم الشرعي فالإمام النووي يخبرنا:” اعلم أن سوء الظن حرامٌ مثل القول، فكما يحرم أن تحدث غيرك بمساوئ إنسان، يحرم أن تحدث نفسك بذلك وتسيئ الظن به”[الأذكار: 344].

ولكن في الوقت نفسه، ولكي يكون المرء وسطاً غير مسيء الظن ولا مخدوع، فعليه إذا رأى دليلاً قوياً يستدعي منه حذراً وانتباهاً فحينها حسن الظن ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفطنة في شيء، والأمور تقدّر بقدرها، ولا يسلم قلب الإنسان ولا حياته إلا إذا علم متى يحسن الظن ومتى يسيئه.

وينبغي للعبد ألا يحسن الظن مطلقاً إلا بالله عز وجل الذي بيده الخير والشر ليس إليه، وكذلك بعباد الله الذين ظاهرهم تقوى وصلاح وعدل، وليعلم العبد أن سوء الظن بالله هو طريق القلب نحو المهالك كلها.

ولكي يعالج المرء مشكلة فلا بد له أن ينظر في أسبابها وحقيقتها، وليعلم المبتلى بهذا الطبع أنه ما كان لسوء الظن أن يجد طريقاً إلى قلبه إلا لسوء حاله وفساد طويته، وصدق المتنبي حين قال: “إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه”، والإنسان ليس باستطاعته رؤية الناس إلا بعين طبعه وبظنه بنفسه، وعلاج ذلك تلاوة القرآن الكريم فهماً وتدبراً، ذاك الكتاب الذي غيّر نفوس الصحابة ونقاها من الأكدار مبعداً إياها عن الأخلاق الفاسدة والطباع السيئة، وكذلك أن يكون للإنسان ورداً يومياً من الأذكار التي يخاطب العبد بها نفسه بضرورة التوكل على الله والالتجاء إليه وأن يكون له حافظاً ومعيناً من كل من أراد به مكراً أو ضرراً.

ولتضع قول الله تعالى نصب عينك في تعاملك مع جميع الناس: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً…} [الحجرات: 12]

وقد تعمدت ألا أنهي الآية عند الظن وإنما أكملها إلى الغيبة فبالآية إشارة إلى أن الظن يقود إلى أن يتجسس المرء ليتثبت من ظنه، وأن يغتاب غيره إما بما ظنه أو بما تثبته بتجسس عليه! فالظن من الطباع السيئة التي لا تقتصر على نفسها وإنما تتعداها إلى غيرها.

وقد وضعها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دستوراً لنا حين قال: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث” [متفق عليه].

ونختم بقول الإمام أبي حامد الغزالي الذي ناقش به حالات تتحصل للمرء في تعامله مع الآخرين وعالجها بكل حكمةٍ وفطنة: “إذا وقع في قلبك ظن السوء، فهو من وسوسة الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6]، فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد، واحتمل خلافه، لم تجز إساءة الظن.

ومن علامة إساءة الظن أن يتغير قلبك معه عما كان عليه، فتنفر منه، وتستثقله، وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيئته، فإن الشيطان قد يقرب إلى القلب بأدنى خيالٍ مساوئَ الناس، ويلقي إليه: أن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبهك، وإن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطق بغرور الشيطان وظلمته، وإن أخبرك عدل بذلك، فلا تصدقه ولا تكذبه لئلا تسيء الظن بأحدهما، ومهما خطر لك سوء في مسلم، فزد في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقي إليك مثله، خيفة من اشتغالك بالدعاء له، ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة لا شك فيها، فانصحه في السر، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه فينظر إليك بعين التعظيم، وتنظر إليه بالاستصغار، ولكن اقصد تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخلك نقص، وينبغي أن يكون تركه لذلك النقص بغير وعظك أحب إليك من تركه بوعظك”. [الأذكار: 345].

على طريقة الطنطاوي.. كيف نبسط الإسلام في ساعة؟

قال الشيخ علي الطنطاوي مرة لتلاميذه: لو جاءكم رجل غير مسلم فقال لكم: إن لديه ساعة من الزمن يريد أن يفهم فيها الإسلام، فكيف تفهمونه الإسلام في ساعة؟

قالوا: هذا مستحيل، ولا بد له أن يدرس التوحيد والتجويد والتفسير والحديث والفقه والأصول، ويدخل في مشكلات ومسائل، لا يخرج منها في خمس سنين.

قال: سبحان الله، أما كان الأعرابي (البدوي) يقدُم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلبث عنده يوماً أو بعض يوم، فيعرف الإسلام ويحمله إلى قومه، فيكون لهم مرشداً ومعلماً، ويكون للإسلام داعياً ومبلغاً؟!

وعلاوة على ذلك، ألم يشرح الرسول الدين كله في حديث واحد، عندما سأله جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان؟ فلماذا لا نشرحه اليوم في ساعة؟ وعلى هذا الأساس وضع الطنطاوي كتابه المبسط الموجز “تعريف عام بدين الإسلام”، والذي نعيد إيجازه في هذا المقال.

وباختصار، كل ملة أو جمعية أو حزب لها مبادئ وأسس فكرية، ومسائل عقائدية تحدد غايتها وتوجه سيرها، وتكون كالدستور لأعضائها، فمن أراد أن ينتسب إليها نظر إلى هذه المبادئ، فإن ارتضاها واعتقد صحتها بفكره الواعي وبعقله الباطن ولم يبق عنده شك فيها، طلب الانتساب إلى الجمعية، فانتظم ووجب عليه أن يقوم بالأعمال التي يلزمه بها دستورها، ودفع رسم الاشتراك، وكان عليه بعد ذلك أن يدل بسلوكه على إخلاصه لمبادئها، ولا تصدر عنه أعمال تخالفها، بل يكون بأخلاقه وسلوكه مثالاً حسناً عليها وداعية فعلياً لها. وبناء على ذلك، سنوجز فيما يلي أهم مبادئ الإسلام والإيمان.

أسس الإسلام
تتلخص هذه الأسس في أن يعتقد المسلم أن العالم المادي ليس كل شيء، وأن الحياة الدنيا ليست هي الحياة كلها. فالإنسان كان موجوداً قبل أن يولد، وسيظل موجوداً بعد أن يموت، وهو لم يوجِد نفسه ولم توجده الكائنات من حوله، بل أوجده وأوجد هذه العوالم كلها من العدم إله واحد، هو وحده الذي يحيي ويميت، وهو الذي خلق كل شيء، وإن شاء أفناه.

وهذا الإله لا يشبه شيئاً مما في العوالم، قديم لا أول له، باق لا آخر له، قادر لا حدود لقدرته، عالم لا يخفي شيء عن علمه، عادل ولكن لا تقاس عدالته المطلقة بمقاييس العدالة البشرية، هو الذي وضع نواميس الكون التي نسميها قوانين الطبيعة، وجعل كل شيء فيها بمقدار، وحدّد من الأزل جزئياته وأنواعه، وما يطرأ على الأحياء وعلى الجمادات من تغيرات، ومنح الإنسان عقلاً يحكم به على كثير من الأمور، التي جعلها خاضعة لتصرفه، وأعطاه إرادة يحقق بها ما يختار، وجعل بعد هذه الحياة المؤقتة حياة دائمة في الآخرة فيها يُكافأ المحسن في الجنة، ويُعاقب المسيء في جهنم.

وهذا الإله واحد أحد، لا شريك له يُعبد معه، ولا وسيط يقرّب إليه ويشفع عنده بلا إذنه، فالعبادة له وحده خالصة بكل مظاهرها.

ولله مخلوقات مادية تُدرك بالحواس، ومخلوقات مغيبة عنا، بعضها جماد وبعضها حيّ مكلّف، ومنها الملائكة الخالصة للخير المحض، فهي غير مُكلّفة، وهناك ما هو مختلط، منه الصالح والطالح وهم الإنس والجن، فهم مُكلفون.

والله يختار ناساً من البشر، ينزل عليهم المَلَك بالشرع الإلهي ليبلّغوه البشر، وهؤلاء هم الرسل. وهذه الشرائع تتضمنها كتب وصحائف أُنزلت من السماء على هؤلاء الرسل، ينسخ المتأخر منها ما تقدّمه أو يعّله، وآخر هذه الكتب هو القرآن، وقد حُرِّفت الكتب والصحف قبله، أو ضاعت ونُسيت، وبقي هو سالماً من التحريف والضياع. وآخر هؤلاء الرسل والأنبياء هو محمد بن عبد الله العربي القرشي، خُتمت به الرسالات، وبدينه الأديان، فلا نبي بعده.

أركان الإسلام
والقرآن هو دستور الإسلام، فمن صدّق بأنه من عند الله، وآمن به جملةً وتفصيلاً سمي مؤمناً، والإيمان بهذا المعنى لا يطّلع عليه إلا الله، لأن البشر لا يعلمون ما في قلوب الآخرين، لذلك وجب عليه ليعدّه المسلمون واحداً منهم أن يعلن هذا الإيمان بالنطق بلسانه بالشهادتين، وهما: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

وإذا نطق المرء بهما صار مسلماً، أي مواطناً أصيلاً في دولة الإسلام وتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلم، وقَبِل بالقيام بجميع الأعمال التي يكلفه بها الإسلام.

وهذه الأعمال (العبادات) قليلة، سهلة، ليس فيها مشقة بليغة، وليس فيها حرج.

أولها: أن يركع في الصباح ركعتين يناجي فيهما ربه، يسأله من خيره ويعوذ به من عقابه، وأن يتوضأ قبلهما؛ أي يغسل أطرافه، أو يغسل جسده كله، إن كانت به جنابة.

وأن يركع في وسطه أربعاً، ثم أربعاً، وأن يركع بعد غياب الشمس ثلاثاً، وفي الليل أربعاً (وتحديد وقتها وبيان كيفيتها يأتي لاحقاً).

هذه هي الصلوات المفروضة، لا يستغرق أداؤها كلها نصف ساعة في اليوم، لا يُشترط لها مكان لا تؤدَّى إلا فيه، ولا شخص معين (رجل دين) لا تصح إلا معه، ولا واسطة فيها، ولا في العبادات كلها، بين المسلم وربه.

الثاني: أن في السنة شهراً معيناً، يقدِّم فيه المسلم فطوره، فيجعله في آخر الليل بدلاً من أن يكون في أول النهار، ويؤخر غداءه إلى ما بعد غروب الشمس، ويمتنع في النهار عن الطعام والشراب ومعاشرة النساء، فيكون في ذلك شهر صفاء لنفسه، وراحة لمعدته، وتهذيب لخُلقُه، وصحة لجسده، ويكون هذا الشهر مظهراً من مظاهر الاجتماع على الخير، والتساوي في العيش.

الثالث: أنه إذا فضل (زاد) عن نفقات نفسه ونفقات عياله مقدار من المال محدود، وبقي سنة كاملة لا يحتاج إليه، لأنه في غنى عنه، كُلّف أن يُخرج منه بعد انقضاء السنة، مبلغ 2.5 في المئة، للفقراء والمحتاجين، لا يحس هو بثقلها، ويكون فيها عونٌ بالغ للمحتاج، وركن وطيد للتضامن الاجتماعي، وشفاء من داء الفقر الذي هو شر الأدواء.

الرابع: الإسلام رتب للمجتمع الإسلامي عدة اجتماعات دورية، وأولى هذه المجالس تكون بمثابة مجالس الحارات (المساجد)، تُعقد خمس مرات في اليوم، مثل حصص المدرسة، فتؤدى صلاة الجماعة ويوثق كل عضو فيها عبوديته لله بالقيام بين يديه، ويكون من ثمارها أن يعين الأقوياء الضعيف، ويعلّم العلماء الجاهل، ويسعف الأغنياء الفقير. ومدة انعقادها ربع ساعة. فلا تعطل عاملاً عن عمله، ولا تاجراً عن تجارته، وإذا تم الاجتماع وتخلف عنه مسلم فصلّى في بيته، لم يُعاقب على تخلفه ولكن فاته ثواب حضوره.

وهناك أيضا اجتماع لمجالس الأحياء، يُعقد مرة في الأسبوع، هو صلاة الجمعة، ومدة انعقاده أقل من ساعة، وحضوره واجب على الرجال.

وأخيرا اجتماع كالمؤتمر الشعبي العام، يُعقد كل سنة في مكان معين، هو في الحقيقة دورة توجيهية ورياضية وفكرية، يكلف المسلم بأن يحضره مرة واحدة في العمر، إذا قدر على حضوره، وهو الحج إلى مكة المكرمة وما حولها.

أنواع العبادة
تعد الأركان الخمسة السابقة بمثابة العبادات الأصلية التي يُكلَّف بها المسلم، ولكن العبادة لا تقتصر عليها، فكل عمل نافع، لم يمنعه الشرع، يعمله المؤمن ابتغاء ثواب الله، يكون عبادة؛ فهو يأكل ليتقوى على الطاعة ويكون أكله بهذا القصد عبادة، وينكح ليعف نفسه وأهله فيكون نكاحه عبادة، وبمثل هذا القصد يكون كسبه المال عبادة، وإنفاقه على أهله عبادة، وتحصيله العلم والشهادات عبادة، وشغل المرأة بأعمال بيتها، وخدمة زوجها، ورعاية أولادها عبادة، وكل عمل مباح إن قصد فاعله قصداً فيه رضا الله كان عبادة. فالعبادة يتسع معناها حتى يشمل كل أعمال الإنسان النافعة، ويحيط بها كلها، ولعل هذا هو المعنى المقصود بقوله تعالى: {ومَا خَلقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56].

والمؤمن يستسلم لحكم ربه استسلاماً مطلقاً بلا تبرم ولا سخط، ولو لم يعرف الحكمة منه ووجه المنفعة، طالما كان مؤمناً بأن المتحكّم هو الخالق والعالم بوجوه الخير ومصاريف القَدَر.

وللعبادة روح وجسد، فروحها العقيدة التي دفعت إليها، والغاية التي عملت من أجلها، وجسدها عمل الجوارح، من لفظ اللسان، وحركات الجسم. فالصلاة مثلاً حركات وألفاظ، قيام وقعود، وركوع وسجود، وتلاوة وذكر وتسبيح، لكن هذا كله جسد الصلاة، فإن لم يكن الدافع إليه توحيداً صحيحاً وعقيدة سليمة، ولم يكن المقصود به امتثال أمر الله وطلب رضاه، كانت الصلاة جسداً ميتاً لا روح فيه.

ومن العبادات أن يمتنع المسلم عن أفعال معينة، وهي أفعال يُجمع عقلاء الدنيا على أنها شر، وأن الواجب الامتناع عنها، كالقتل بلا حق، والتعدّي على الناس، والظلم بأنواعه، والمسكر الذي يغيّب العقل، والزنا الذي يذهب الأعراض ويخلط الأنساب، والربا، والكذب، والغش، والغدر، والفرار من الخدمة العسكرية التي يراد منها إعلاء كلمة الله، ومنها بل من أشدها عقوق الوالدين، والحلف كاذباً، وشهادة الزور، وأمثال ذلك من الأعمال القبيحة الشريرة، التي تجتمع العقول على إدراك قبحها وشرها.

والله رحيم بعباده فإذا قصر المسلم في بعض الواجبات، أو ارتكب بعض الممنوعات، ثم تاب وطلب العفو فإن الله يعفو عنه، وإن لم يتب فإنه يبقى مسلماً معدوداً في المسلمين، ولكنه يكون عاصياً يستحق العقاب في الآخرة مؤقتا، فعذابه لا يدوم دوام عقاب الكافر إلى الأبد.

وقد يترك المسلم بعض الواجبات، أو يأتي بعض الممنوعات، وهو معترف بالوجوب والحرمة، فيبقى مسلماً، ولكنه يكون عاصياً، أما الإيمان فلا يتجزأ فلو آمن مثلاً بتسع وتسعين عقيدة، وكفر بواحدة فقط، كان كافراً.

وإذا أنكر بعض المبادئ أي العقائد الأصلية، أو شك فيها، أو جحد واجباً مجمَعاً على وجوبه، أو حراماً مجمَعاً على حرمته، أو أنكر ولو كلمة واحدة من القرآن، فإنه يخرج من الدين.

ولا يكون المرء مسلماً كاملاً حتى يسلك في حياته مسلك المسلم المؤمن فيتذكر في قيامه وقعوده، وخلوته وجلوته، وجدّه وهزله، وفي حالاتها كلها أن الله مطلع عليه، وناظر إليه، فلا يعصيه وهو يذكر أنه يراه، ولا يخاف أو ييأس وهو يعلم أنه معه، ولا يشعر بالوحشة وهو يناجيه، ولا يحس بالحاجة إلى أحد وهو يطلب منه ويدعوه، فإن عصى -ومن طبيعته أن يعصي- رجع وتاب، فتاب الله عليه. وهذا هو معنى الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الإيمان
الإيمان بالله يتضمن أربع قضايا، هي: أن الله موجود بلا موجِد، وأنه رب العالمين، وأنه مالك الكون المتصرف فيه، فهو يقدر الرزق والأجل، وبمشيئته وحده يمضي القضاء والقدر. وأنه الإله المعبود وحده لا يُعبد معه غيره.

والاعتقاد بوجود الله من الأمور البديهية التي تُدرك بالحدس النفسي قبل أن تُقبل بالدليل العقلي، فهي لا تحتاج إلى دليل، وإن كانت الأدلة على صحتها ماثلة في كل شيء، وأكثر من أن تستقصى، والعالِم الحقيقي لا يكون إلا مؤمناً، كما أن العامي لا يكون في الغالب إلا مؤمناً، أما الإلحاد فيبدو في أنصاف وأرباع العلماء، فنحن نشعر من أعماق قلوبنا بأن الله موجود، نلجأ إليه في الشدائد والملمّات بفطرتنا وغريزة التدين فينا، ونرى الأدلة عليه فينا وفي العالم من حولنا، فالعقل الباطن يؤمن بوجوده بالحدس، والعقل الواعي يؤمن بوجوده بالدليل [انظر مقال وجود الله].

والمسلم لا يكتفي من الحياة بأن يأكل ويشرب ويعمل ويتسلى، بل يسأل نفسه: من أين جئت؟ وإلى أين أسير؟ وما المبدأ؟ وما المصير؟ ينظر فيجد أن حياته لم تبدأ بالولادة حتى تنتهي بالموت، وأن الله هو الذي أوجد العوالم الظاهرة لنا والمغيّبة عنا، أوجدها من العدم، ووضع لها النواميس العجيبة، التي لم نكتشف إلى الآن إلا القليل منها.

والناس جميعاً، المؤمن منهم والكافر، إذا ألمّت بهم ملمّة ضاقوا بها ذرعاً ولم يجدوا لها دفعاً، لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات، قوة لا يرونها ولكن يشعرون بأرواحهم وقلوبهم وكل عصب من أعصابهم بوجودها، وبعظمتها وجلالها. يقع هذا لكثير من الطلاب أيام الامتحان، ولكثير من المرضى عند اشتداد الألم وعجز الطبيب. كلهم يعودون إلى ربهم، وعندما تغرق السفن، أو تشب النيران، أو يكون الخطر، تجد الملحدين يستغيثون بالله.

الآخرة
الاعتقاد بوجود الحياة الآخرة نتيجة لازمة للاعتقاد بوجود الله، فالإله لا يقرّ الظلم، ولا يدع الظالم بغير عقاب، ولا يترك المظلوم من غير إنصاف. ونحن نرى أن في هذه الحياة من يعيش ظالماً ويموت ظالماً لم يُعاقَب، فكيف يتم هذا ما دام الله موجوداً، والجواب أنه لا بد من حياة أخرى يكافأ فيها المحسن ويعاقب المسيء.

والدنيا دار بلاء، والامتحان فيها صعب، كما أن الالتزام فيها صعب، فالنفس البشرية طبعت على الميل إلى الحرية والانطلاق وراء اللذة، والدين يُقيّدها، فمن يدعو إلى الفسوق والعصيان يوافق طبيعتها؛ فدعاة الشر لا يتعبون ولا يبذلون جهداً، فلديهم كل ما تميل إليه النفس وما فيه متعة العين والأذن والقلب والجسد، ولكن التعب وبذل الجهد على دعاة الخير.

وأضرب مثلاً: إذا كنت مسافراً وحدك فرأيت أمامك مفرق طريقين: طريقاً صعباً صاعداً في الجبل، وطريقاً سهلاً منحدراً إلى السهل. الأول فيه وعورة وحجارة منثورة وأشواك وحُفر، يصعب تسلّقه ويتعسر السير فيه، ولكن أمامه لوحة نصبتها الحكومة، فيها: “إن هذا الطريق هو الطريق الصحيح الذي يوصل إلى المدينة الكبيرة والغاية المقصودة”. والثاني معبّد، تظلله الأشجار ذوات الأزهار والثمار، وعلى جانبيه المقاهي والملاهي، ولكن عليه لوحة فيها: “إنه طريق خطر مهلك، آخره هُوَّة فيها الموت المحقق، والهلاك الأكيد”، فأي الطريقين تسلك؟

لا شك أن النفس تميل إلى السهل دون الصعب، واللذيذ دون المؤلم، وتحب الانطلاق وتكره القيود، ولو ترك الإنسان نفسه وهواها، وانقاد لها، سلك الطريق الثاني، ولكنّ العقل يوازن بين اللذة القصيرة التي يعقبها ألم طويل، وبين الألم العارض المؤقت الذي تكون بعده لذة باقية.

هذا هو مثال طريق الجنة وطريق النار؛ فطريق النار فيه كل ما هو لذيذ ممتع، تميل إليه النفس، وفيه النظر إلى الجمال ومفاتنه والاستجابة للشهوة، وفيه أخذ المال من كل طريق، وفيه التحرر من القيود، أما طريق الجنة ففيه المشقات والقيود والحدود، وفيه مخالفة النفس والهوى، ولكن عاقبة هذه المشقة المؤقتة اللذة الدائمة في الآخرة، بينما ثمرة اللذة العارضة في طريق النار الألم المستمر في جهنم.

والله وضع الطريقين أمامنا، فقال {وهديناه النجدين} [البلد:10]، ووضع فينا مَلَكة نفرّق بها بينهما، كما أقام على طريق الجنة دعاةً يدعون إليه، هم الأنبياء والعلماء. وأقام على طريق النار دعاةٌ يدعون إليه ويرغبون فيه، هم شياطين الإنس والجن.

وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في بداية مهمته: {إنا سَنُلْقِي عليكَ قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5]. فالأهداف العليا ثقيلة على النفس؛ وترك العالِم مجالس التسلية والاشتغال بالقراءة والتعليم ثقيل، وترك النائم فراشه والنهوض إلى صلاة الفجر ثقيل، وهجر الرجل زوجته وولده ومشيه إلى الجهاد ثقيل؛ لذلك تجد الطالحين أكثر من الصالحين، والغافلين أكثر من السالكين سبيل الرشاد، {وإن تُطع أكثر مَنْ في الأرض يُضلُّوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116].

ولنفرض أننا عرضنا على شخص ما اتفاقية مدتها سنة، نحقق له فيها كل أحلامه، على أن نحكم عليه بالإعدام بعد انقضاء السنة، فهل يُعقل أن يوافق عليها؟ ألا يتصور أن الخوف من الإعدام المحقق سيسلبه لذة السنة كلها؟ فكيف ينسى بعضنا حقيقة الموت الذي سيكون النهاية الحتمية لحياة كل واحد منا مهما كانت ملأى بالملذات والشهوات؟ وكيف يرضى بعذاب الآخرة الدائم مقابل لذة زائلة؟

القرآن الكريم في الفكر الحداثي

يمثل الفكر الحداثي أحد الأفكار التي بدأت بالتأثير على الساحة العربية المعاصرة، فهو الفكر الذي أعاد دراسة التراث العربي والإسلامي على أنه مادة قابلة للدراسة الموضوعية بعيداً عن المبادئ والمقدسات الإسلامية، أو الأصول الدينية التي تنظم الحياة الفكرية للمسلمين.

وينظر الحداثيون إلى التراث الإسلامي على أنه تراث مقلوب يمشي على رأسه، ولابد من تعديله لكي يسير على قدميه، وأعلنوا عن نظريتهم المبتدعة في دراسة جديدة للتراث الإسلامي، وهم يحاولون جاهدين نزع الجانب المقدس والإلهي (اللاهوتي) في التراث الإسلامي.

وأن يُنزع التقديس من بعض الأقوال الفقهية للعلماء المسلمين قد يفهم، ومن يفعل ذلك قد يجد له سلفا من علماء الأمة الإسلامية الذين دعوا إلى التحرر من التقليد الأعمى، أما أن يسعى الحداثيون إلى نزع القدسية عن القرآن الكريم فهذا يشكل انقلاباً على المفاهيم الإسلامية، فبناءً على ذلك يكون النص القرآني كأي نص في جريدة أو مادة قانونية وضعت من قبل البشر، فلابد من تسليط الضوء على موقفهم من القرآن الكريم.

تعريف القرآن عند الحداثيين
عرف الحداثيون القرآن الكريم تعريفات متعددة، فعرفه حسن حنفي في كتابه دراسات فلسفية بأنه تجارب الأمم والشعوب على مدى التاريخ، التراكم المعرفي الإنساني الشامل المتحقق مع مراجعة العقل والفطرة وكما تبدو في الحكم والأمثال والمأثورات والآداب الشعبية [ص 103].

وعرفه كذلك في كتابه “دراسات إسلامية” بأنه “مجموعة من المواقف التي طرأت على الواقع الإسلامي الأول والتي استدعت حلولاً وكل موقف يمثل نمطاً مثالياً يمكن أن يتكرر في كل زمان ومكان” [ص 408].

وتناول حنفي القرآن الكريم ضمن مشروعه العلمي الذي وسمه بالتراث والتجديد، فكان لا يتناوله على أنه كتاب منزل من عند الله تعالى، بل على أنه تراث وتاريخ لأمة من الأمم؛ ويقصد بهذا التعريف أن الكتاب وتأويل ما جاء به من أحكام وغيرها ليست ثابتة ومستمرة بل متغيرة حسب الزمان والمكان، وتواكب التطور التشريعي الذي حصل في المجتمعات.

علي حرب

أهمية التأويل المنفلت
القضية الأساسية التي يسعى الحداثيون إلى ترسيخها في أذهان الناس أن كل شيء في النصوص القرآنية يحتمل التأويل، ومن الممكن صرفه عن ظاهره إلى المجاز، وبالتالي نستطيع أن نجعل من الإسلام ديناً مرناً نسقط الكثير من أصوله التي توارثها المسلمون عبر الأجيال، ويستطيع المسلمون من خلال التأويل في كل عصر أن يفصِّلوا إسلاماً يناسب مصالحهم.

يقول علي حرب في كتابه نقد النص: “مع أن مبرر كل مفكر جدير بلقبه أن يمارس التفكير بطريقة مغايرة للذين سبقوه إذا لم يشأ أن يكون مجرد شارح مبسط، أو تابع مقلد، أو حارس مدافع عن العقيدة والحقيقة، والتفكير بصورة مغايرة، يعني: أن نبدل وننسخ، أو نحرف ونحور، أو نزحزح ونقلب، أو ننقب ونكشف، أو نحفر ونفكك، أو نرمم ونطعِّم، أو نفسر ونؤول، فهذه وجوه للتفكير وللقراءة في النصوص لا أزعم أني أقوم بحصرها واستقصائها” [ص 133].

وعلي حرب بهذا النص يهدم كل الضوابط التي وضعها العلماء لاستنباط الأحكام أو تفسير القرآن، وبالتالي لا يوجد نص مقدس منزه عن التأويل، إذ ينظر إلى القرآن على أن التاريخ هو من أسبغ عليه صفة القدسية، لا تنزيله من قبل الله تعالى.

ووضح الحداثيون أنه من خلال التأويل يتم اختراق النص بأفق اجتهادي تجديدي، ومن خلاله نقيم التوازن بين القرآن وبين الواقع المتغير.

وقد استدل نصر حامد أبو زيد على ضرورة التأويل في كتابه “[مفهوم النص، ص 256] وجعله أصلاً، أنه مرادف للتفسير، وأن من السلف من استعملهما بذات المعنى، فالنص القرآني عنده وعند غيره من الحداثيين لا يمكن أن يحتمل معنى واحداً فقط، فهذا النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً لا وجود له في الأرض، وقد يكون موجوداً في السماء، فكل نص قابل للتأويل إلى أكثر من معنى، وفق فهم القارئ له.

محمد أركون

أنسنة القرآن ونزع قدسيته
صرح الحداثيون بأن الحديث عن القرآن الكريم وعن غيره من النصوص متساو، فلا استثناء للقرآن، ولا قدسية للنص القرآني، وقد بنوا على ذلك أنه لا توجد لألفاظ القرآن الكريم معان ثابتة، ولا دلالات ذاتية من الممكن الكشف عنها من خلال اللغة واحتمالاتها، بل التاريخ والواقع الاجتماعي هما من يكشف عن معنى النص، فالنص في نظرهم عبارة عن فضاء دلالي، وإمكان تأويلي، ومأزق القراءة في العقل العربي والإسلامي مرجعه إلى النظرة الأحادية لمعنى ألفاظ القرآن الكريم، فلا حقيقة ثابتة للنص، وبالتالي دراسة القرآن الكريم لابد أن تكون إنسانية تاريخية لا إلهية مقدسة (!)، وما دام النص القرآني إنساني فلا يجوز لإنسان احتكار المعنى الحق أو الصواب، فلكلٍ صوابه وحقه، وهذا ما يعني ضياع المعنى بين المؤولين أياً كانوا!

يقول محمد أركون في كتابه “القرآن من التفسير” إن “التقديس للكتب المقدسة خلع عليها وأسدل بواسطة عدد من الشعائر والطقوس والتلاعبات الفكرية الاستدلالية، ومناهج التفسير المتعلقة بكثير من الظروف المحسوسة المعروفة أو تمكن معرفتها، وأقصد الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية” [ص 26].

وهو لا يستثني القرآن من هذا الكلام، بل يعممه على جميع الكتب المقدسة، إلا أنه يستثنيه في قضية فرعية، وهي أن أسباب تقديس القرآن غطت عليها الظروف السياسية والثقافية والتربوية، بحيث لم تكتشف بعد، ولم يحرف، أو يتلاعب بألفاظه، أو معانيه، على عكس الكتب المقدسة الأخرى، فالنص القرآني قدسيته تاريخية لا إلهية!

نقد النظرة الحداثية
لا شك أن الحداثيين يخالفون جمهور المسلمين وعلماءهم الذين يرون القرآن الكريم كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعجز بنفسه، والمتعبد بتلاوته، المبدوء بالفاتحة والمختوم بسورة الناس، وأنه نص مقدس لا يجوز التعدي عليه بزيادة أو نقصان أبداً.

وما زال علماء الأمة يركزون على قدسية النص القرآني، ويفهمونه ضمن الضوابط التي وضعها علماء التفسير واللغة، فتفسير الحداثيين للقرآن الكريم يؤصل للتفسير الباطني والمنحرف، والذي يؤدي بدوره إلى ضياع الأحكام الشرعية، حيث يتم تفسيرها تفسيرات بعيدة عن حقيقتها المرادة، فمثل هذه التفاسير هي التي جرأت الفرق الباطنية كالإسماعيلية والدرزية والقاديانية لتحريف معاني القرآن وصرفها عن حقيقتها.

قال المفسر أبو حيان في مقدمته لتفسيره (1/104) مبيناً منهجه المتبع: “وتركتُ أقوال الملحدين الباطنية، المخرجين الألفاظ العربية عن مدلولاتها في اللغة، إلى هذيان افتروه على الله، وعلى علىٍّ كرَّم الله تعالى وجهه، وعلى ذُرِّيته، ويسمونه علم التأويل”.

وقد بين محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون (4/49) خطأ هذا المنهج الذي اتبعه الحداثيون اليوم، واتبعه قبله الفرق الباطنية حيث قال: “ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأي المحمود إلى دائرة الرأي المذموم، واستفحل الأمر إلى حد جعل القوم يتسعون في حماية عقائدهم، والترويج لمذاهبهم، بما أخرجوه للناس من تفاسير حملوا فيها كلام الله على وفق أهوائهم، ومقتضى نزعاتهم ونحلهم”.

وفي كلام الحداثيين المنقول مغالطة كبيرة وفهم أعوج، فالتفسير وفي مقابله التأويل لهما ضوابط فصلت في كتب علوم القرآن والتفسير، ولا يجوز لأي قارئ ان يطرح رأيه ويفسر القرآن الكريم على هواه، ولذلك نجد الكثير من العلماء اتبعوا التفسير بالمأثور، ففسروا النص بالنص، ومن عمد إلى التفسير بالرأي فإنه فسره وفق الضوابط والرؤية الإسلامية للنص، ووفق مقاصد الشرع وحدوده، فتأويل الإسلام ينبغي أن يكون تأويلاً منضبطاً لا تأويلاً منفلتاً فوضوياً.


المراجع والمصادر

مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م.

قضايا في نقد العقل الديني، آركون، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط:1، 1998م.

نقد النص، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 1993م.

نقد الحقيقة، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط:1، 1993م.

دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

دراسات إسلامية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر.

منهج حسن حنفي، فهد بن محمد السرحاني القرشي، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط: 1.

التراث والتجديد، حسن حنفي، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر، ط: 3، 1987م.

تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، 1422 هـ، 2001م، ط: الأولى، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض.

التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، د/ط.

مذكرات بحّار.. إبحار أندلسي في مغارات العقل

أبو بكر غاييغو، كاتب أسباني متميز، اعتنق الإسلام بعد رحلة طويلة ومثيرة في البحث عن الحقيقة، ابتدأها في سن السابعة عشرة عندما قرأ كتابه الأول في نقد الكاثوليكية، فالتحق بكليتي الحقوق والتاريخ في جامعة سَراقسطة، وسرعان ما وجد نفسه -تحت تأثير المد اليساري- في أحضان الشيوعية، ولكن الحس الجمالي الذي يفيض من أعماقه دفعه للفرار من طغيان الجنرال “فرانكو” إلى باريس لدراسة الأدب والفلسفة في السوربون، حيث قُدر له أن يلتقي بأحد أقطاب البوذية فأسلم له العقل والروح، وترجم معظم كتبه إلى الأسبانية، ثم لم يلبث أن تابع رحلاته في أنحاء أوربا، ليلتقي بزوجته في وارسو عاصمة بولندا ويعود بها إلى موطنه، بيد أن أسئلة كثيرة ظلت معلقة في ذهنه دون إجابة، ليعود مجدداً إلى المسيحية بعد أن طعّمها ببوذية الزن “Zen”.

لم يجد صاحبنا في المذهب الجديد سوى المزيد من المتاهات الصوفية الأسطورية، حتى عجزت مرشدته الروحية عن الإجابة على أسئلته العميقة مما اضطرها إلى مواجهته بالقمع، فاتخذ قراره الصارم باعتزال مجتمعه الذي اغترب عنه، ومنع ولديه من متابعة الدراسة في المدارس الرسمية ليتولى تعليمهما بنفسه، حتى وصل به الحال إلى التفكير جدياً باللجوء إلى إحدى قبائل الهنود الحمر في أمريكا بحثا عن عقيدة تروي ظمأه للمعرفة!

ولكن يد العناية الإلهية مهدت له الطريق نحو غايته، ففي رحله عائلية قام بها إلى غرناطة وجد نفسه بالصدفة أمام المسجد الكبير ليفتح له باب اكتشاف دين لم يخطر بباله من قبل، فكان قراره الحاسم باعتناق الإسلام مع زوجته وولديه، ثم هجرته إلى الشرق ليقيم في إسطنبول بضع سنوات، قبل أن يحط رحاله في دمشق مع مطلع الألفية الجديدة، ويبدأ مشروعه الفكري في علّية داره الدمشقي- الأندلسي، حيث التقيته غير مرة قبل نحو عشر سنوات، مبحراً معه في تأملاته النقدية لكل من الحضارة الغربية والركود الإسلامي على حد سواء، وقد استوقفني كتابه الصغير “مذكرات بحار” طويلاً، لما وجدت فيه من عمق الطرح وروعة الأسلوب والإيجاز البليغ.

البدء بتجريد العقل
يأتي الفصل الأول تحت عنوان “أفكار ومعتقدات”، ويتعرض المؤلف فيه لقضية مهمة في نظرية المعرفة، إذ يبين أن الأفكار لا تزيد عن كونها مجرد خواطر يتبناها الفكر كعناصر قابلة للتبديل حسب الظروف، وهي تحتمل درجات مختلفة من الحقيقة، فتتفاوت بين الخرافة والحقيقة العلمية. أما المعتقدات فلا تلتمع في الذهن بهذه السرعة، كما أنها لا تُبنى بفعل تفكيرنا الخاص أو بناء على خواطرنا وتبريراتنا، بل تمثل محيط الحياة الذي نعيش فيه والقاعدة الأساسية التي تقوم عليها قراراتنا.

لذا فإن الرجل المثقف الأبيض- على سبيل المثال- قد يكرر على أسماعنا الكثير من المواعظ في نبذ العنصرية تجاه السود وضرورة المساواة، بينما تجده يثور غضبا إذا ما تقدم شاب أسود لخطبة ابنته، فنبذُ العنصرية عنده لا يعدو أن يكون مجرد فكرة أو خاطرة قد يطول دفاعه عنها، دون أن تمسّ قاعدة معتقداته الراسخة في أعماقه.

وقد أدرك الإمام الغزالي هذا التمييز بعد رحلته الفكرية الشاقة، إذ وجد أن المبادئ الأولى (الضرورات العقلية) لا تحتاج إلى أي سند عقلي للبرهنة عليها، وأن تجريد هذه المبادئ- والتي أسماها بالنور الذي يقذفه الله في الصدر- عن الأفكار والخواطر التي نكتسبها من التربية والبيئة هو الكفيل بإنقاذ العقل من عجزه عن الوصول إلى الحقيقة، وهذا هو بالضبط المنهج الذي اعتمد عليه ديكارت فيما بعد.

ويبدو أن بعض الأنبياء خاضوا بأنفسهم هذه التجربة قبل أن يوحى إليهم، إذ نشأ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في مجتمعات وثنية، إلا أنهما قاما بإعادة قراءة هذا الموروث في سن النضج، فبدأ إبراهيم عليه السلام بطرح الأسئلة على قومه، واعتكف محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء فترات طويلة للتأمل. ولعل الأفكار والخواطر تراكمت تحت تأثير ظروف معينة في كل من أور ومكة لتحل محل المعتقدات التي لم تتفق مع فطرتهما السليمة، تمهيدا لنزول الوحي على النبيين بالحقيقة الجلية.

ومن هنا تأتي ضرورة مراجعة المعتقدات الموروثة بعرضها على المبادئ الأولى (البديهيات) التي يتفق عليها جميع الناس، وهو ما يقوم به الوحي في حثه العقلَ على إعادة البناء، لذا نرى أن البيئة التي تطبق تعاليم الإسلام تكاد تخلو من التناقض بين الأفكار والمعتقدات، لأن معتقداتها مبنية في الأصل على الفطرة، فالمسلم ذو البشرة البيضاء الذي ينشأ منذ طفولته على نبذ العنصرية لن يكون مضطرا لمجاهدة نفسه إزاء أي تناقض قد يطرأ بين ما يقوله أو يؤمن به، إذ لا يستبطن أصلا في كيانه أي موقف تجاه السود يخشى من ظهوره أو التفكير فيه.

تشويه الحقائق
في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان “حضارة وبربرية”، ينتقد الكاتب ظاهرة التنميط التي يستخدمها الطرف الأقوى غالبا لقلب المفاهيم وتغيير مجرى الأمور لصالحه، فتقسيم العالم مثلا إلى عالمين، متحضر ونامٍ، يختزل الكثير من الحقائق التي تحكي واحدةً من أبشع صور الاستغلال في التاريخ، ويضرب مثلا طريفا لهذه الظاهرة عندما يفترض أن الكلاب تمكنوا في عصر ما من السيطرة على مملكة الحيوانات، ثم يسهب في سرد تفاصيل الثقافة التي سيعممها الكلاب لإثبات أنهم الفصيلة الأفضل من بين جميع المخلوقات، وأن أعداءهم القطط هم الأسوأ على الإطلاق، إذ ستزرع وسائل الإعلام في عقول العامة حقيقة البربرية التي تتمثل في اصطياد الفئران والعصافير، وذلك الجهل التام الذي يعنيه أكل أشواك السمك في مقابل الطبق المتحضر والعلمي الذي يتألف من عظام فخذ البقرة اللذيذ!

وتتجسد هذه المهزلة على نحو أكثر خفاء في حياتنا نحن البشر عندما يميل الأقوى لتعميم قيمه المطلقة على الطرف الأضعف، وللمزيد من التوضيح يسرد الكاتب حوارا شائقا بين “جاهول” المتعطش للمعرفة، والحكيم “فطرونيوس”، يميز فيه الأخير بين المعوز الذي يعيش حياة كريمة بالرغم من قلة متاعه وبين الفقير الذي لا يجد شيئا، ويبين أن الإسلام قد تمكن في بعض مراحله من القضاء واقعيا على الفقر، بينما يفترش مئات المشردين الجرائد في شارع “ماركت ستريت” الراقي في سان فرانسيسكو للنوم إلى جانب ناطحات السحاب.

أما التجسيد المعولم لهذه الظاهرة فنجده في انتشار القيم الغربية وثقافتها في كل الأمم بالرغم من تناقضها مع ظروف البيئة ومستلزمات الحياة، فالملابس العربية القديمة -على سبيل المثال- كانت قد صُممت بما يتناسب مع مناخ المنطقة الحار والجاف، بينما تفرض العولمة اليوم على الجميع ارتداء زي موحد، والأمر نفسه يمتد ليشمل كافة مظاهر الحياة، إذ بات على الجميع أن تُنمط تفاصيل حياتهم اليومية كي لا يبقوا خارج هذه “الحضارة”، تماما كما تفعل القطط التي تضطر للعيش في مجتمع يحكمه الكلاب!

شامان من روسيا

شامان من روسيا

بين العقل والوحي
يستعرض المؤلف في الفصل الثالث “نبوة وشامانية” تاريخ الصراع بين الأسطورة والوحي، وبين الشامان -أي الساحر في العصور الغابرة- والنبي، ثم يقرن الساحر بالفيلسوف الذي يدعي العقلانية، إذ يسعى كلاهما للسيطرة على الكون، سواء بالخرافة والوهم أو بالعلم، بينما يستمد النبي معرفته من خالق الكون نفسه.

الشامان- الساحر أو الفيلسوف- يؤلّه نفسه، ويقود العالم لتقديسه، فهو الغاية وبيده الوسيلة، وعلى البقية أن يطيعوا أمره ويكفوا عن طرح الأسئلة، وأن يقنعوا بوسائل الترفيه والإلهاء التي يضخها إليهم باستمرار، وقد يكون مدركاً للحقيقة التي يخفيها عن الناس، إلا أنه غير مستعد للتنازل عن لذة السيطرة.

النبي في المقابل لا يدعي لنفسه شيئا، بل هو وسيط بين الإله والبشر، قد يتعرض للإهانة والأذى، ومع ذلك ينسحب راضيا من المشهد ليُبرز الإله الذي لا يُعبد سواه، فهو لا يُخفي الأرواح ليدعي القدرة الخارقة، ولا يحتكر العلم للسيطرة على الناس، بل يبذل قصارى جهده لإيصال الرسالة إلى الناس بكل تواضع، كما أنه لا يستخدم المخدرات والرقصات الصوفية، ولا يخفي أياً من الممارسات والأسرار للوصول إلى المعرفة، ولا يتكبر على أتباعه أو يحتكر لنفسه زياً أو مظهراً يميزه عن غيره. الصلاة عنده ركوع وسجود وتجريد للقلب عن كل ما سوى الله، يستوي فيها الصغير والكبير، الغني والفقير، ولا تستدعي قربانا ولا نيرانا، ولا هلوسات تدخل الرهبة في القلوب.

وبهذا التأمل الوجداني الشفيف يُبحر كاتبنا الأندلسي في جداول المعرفة، ليجمع أصنافا شتى من التوابل لتكوين وجبة فكرية ممتعة، ويقدم للقارئ العربي خلاصة تجربته في طبق شهي يرضي كافة الأذواق، ويدفع العقل لإعادة التفكير في الكثير من الأفكار الخاطئة.

عرض كتاب “الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان”

الكتاب عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها الدكتور محمد عبد الله دراز على طلبة كلية الآداب في خمسينيات القرن الماضي، في جامعة القاهرة التي كانت تسمى جامعة فؤاد الأول.

يبدأ المؤلف مقدمة كتابه بتمهيدٍ رَسَم من خلاله خريطة تاريخية عن مكانة الدين في الحضارات القديمة في مصر واليونان وبلاد الرومان، ثم في العصر المسيحي، والعصر الإسلامي، وانتهى إلى العصر الحديث، وأسهب في شرح حال الدين في مختلف هذه العصور والمراحل، وأشار لقضايا الشك والتسامح في هذه الحِقَب.

والحقيقة أن ثمة مشكلة منهجية يقع بها الكثير من دارسي الأديان، ذلك أنهم لا يعرِّفون الدين فتراهم يخلطون بين ما هو دين، وبين ما هو خرافة أو فلسفة أو عادة اجتماعية أو تقليد قبلي.

لذلك أصر دراز رحمه الله في البحث الأول على تجلية هذا المفهوم تجنباً للخلط، وأراد أن يتحدث عن الدين بمفهومه العام لا الأديان السماوية فقط، ولا الأديان الصحيحة فقط، وإنما ظاهرة الدين بحد ذاتها أياً كانت، وحاول فهم الأمر ابتداء من اللغة ومعاجمها، وانتهى إلى خلاصة لغوية في معان متقاربة، ويدور بعضها حول بعض، بعد ذلك طاف على تعريفات الكثير من الفلاسفة والمفكرين وتناولها بالنقد والتمحيص الذي أظهر من خلاله أن ثمة قصوراً في الكثير من هذه التعريفات.

واستطاع المؤلف في نهاية تطوافه وبحثه أن يصل إلى تعريف يرتضيه وهو:

“الاعتقاد بوجود ذات -أو ذوات- غيبية علوية، لها شعور واختيار، وتصرُّف وتدبير في الشؤون التي تعني الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث الإنسان إلى مناجاة هذه الذات، رغبةً ورهبةً في خضوعٍ وتمجيد”.

وناقش قضية الألوهية في الأديان، واستحالة استبعادها من أي دين، وفرَّق بين تقديس الإنسان للإله، وتقديسه لشيء آخر كتقديس العرض أو الشرف مثلاً، وبين أنه لا يمكن للدين أن يقف عند الحس، ويمتنع عن التفكير في ما وراء الطبيعة، لذلك يعيش المتدين حالة من الثقة بمعبوده، ولا يقف عند العادة الجارية كما يفكر الطبيعيون، ففي الأديان نزعة إلى الأمل والحرية والاختيار، وهذه النزعة تمهد للعلوم لتتقدم وتفكر أكثر من حدود الواقع.

ويعيب دراز على بعض العلماء الغربيين الذين يحذفون الروحية والألوهية من فكرة الدين، بأنهم يحذفون الأساس المميز للدين، والذي يعني أن ما يسمى ديناً عند هؤلاء بعد سحب هذين العنصرين منه يمكن أن ينطبق على أي نشاط اجتماعي، لا سيما إن كانت عادات متوارثة، كرفع الأعلام في الأعياد، وأناشيد السلام الوطني، ولبس السواد في الحداد وغير ذلك.

وذهب في البحث الثاني للحديث عن علاقة الدين بأنواع الثقافة والتهذيب (الدين والأخلاق، الدين والفلسفة، الدين وسائر العلوم)، فذكر أولاً علاقة الدين بالأخلاق وتناولها من ناحيتين، الأولى “التجريدية”، وخلص فيها الى أن الدين والأخلاق في أصلهما حقيقتان منفصلتان في النزعة والموضوع، متلاقيتان في النهاية، فينظر كل منهما للآخر من وجهة نظر مختلفة من جهة، متفقة من جهات أخرى، فالنظر للدين من حيث هو نظرة للحق الأعلى وتوقيره، والخلق من حيث هو قوة النزوع إلى الخير وضبط النفس عن الهوى.

والناحية الثانية هي”الواقعية”، والتي لم ير فيها تشابها أو علاقة وثيقة بين كل من الدين والأخلاق لا من حيث المنشأ ولا التكون والتطور في النفوس، بيد أن الشعور الأخلاقي عند الطفل مثلاً سابق للشعور الديني، لذلك فهو يستحسن بعض السلوكيات ويستهجن أخرى، بينما لا يتفطن إلى تعليل ظواهر الكون وتقديس سر الوجود إلا بعد دور ثان يكون فيه أنمى عقلاً، وقد لا تستقى القوانين الأخلاقية من وحي الدين، وإنما من قوانين العقل، أو وحي الضمير، أو سلطان المجتمع، أو المصالح والمنافع كما تفعل بعض الدول، فهي تسن القوانين الأخلاقية دون العودة للدين.

أما في المحاورة العصرية فيرى أن الدين والخلق، متداخلان تارة ومستقلان تارة أخرى، ويمثِّل لذلك بقولنا فلان ذو دين وخلق، واختلاف الدلالة فيما لو قيل ذو دين فقط، أو ذو خلق فقط.

وذكر بعد ذلك علاقة الدين بالفلسفة، ورأى علاقة أوثق بينهما، فكلاهما يبحثان الغاية نفسها: معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة السبيل إلى سعادة الإنسان العاجلة أو الآجلة. ولكن بالرغم من أن غاية كل من الدين والفلسفة واحدة في هذا المجال الا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن يتفقا في النتيجة، ويشير إلى الاختلاف في الفلسفة نفسها، وصولاً للتعارض والتضارب بين الفلاسفة أنفسهم، ويستعرض تفريق علماء الغرب بين الدين والفلسفة، ويناقشها وينقدها، ويصل بنفسه إلى إيجاد الفرق بين الدين والفلسفة، وهو أن الفلسفة ذات غاية “نظرية” حتى في قسمها العملي، تعرفنا ماهية الخير والشر ، ولا يعنيها بعدها موقف الانسان منهما. وهي بكل صورها عمل إنساني. مبيناً أن غاية الفلسفة المعرفة، وغاية الدين الإيمان، ومطلب الفلسفة فكرة جافة ترتسِمُ في صورة جامدةٍ، ومطلب الدِّين روحٌ وثَّابة وقوة محرِّكة.

أما الدين فغايته “عملية” يعرفنا الحق ليس فقط للمعرفة وإنما للاتباع والعمل وتكميل النفوس به. وهو صنعة إلهية ومنحة منه إلينا، لتكتمل حياتنا بها، فالفلسفة بالنهاية هي عمل إنساني، بينما الدين صنعة إلهية، وذكر كيف أن بعض الفلسفات تناقض الدين تماماً  كالفلسفة المادية.

أما العلاقة الثالثة فهي علاقة الدين بسائر العلوم، وأسهب في الحديث حول هذا الموضوع، فتحدث عن مراتب العلوم وغاياتها وفسَّر المصادمات بين حملة الأديان وحملة العلوم، بسبب وقوف أحد الطرفين موقف الرافض التام لما عند الآخر، لا على حجة ولا برهان، وإنما مجرد رفض اعتباطي، ورأى أن من واجب الأديان أن تهادن العلوم ولا تنابذها، وعلى العلوم أن تفسح المجال للأديان لتتم ما فيها من نقص، فإن لم تفعل فلا أقل من أن تلتزم الحياد، ولا تعلن العداوة وتنكر الأديان جملة، لأن هذا الإنكار هو إنكار لأمور واقعية تحتويها الأديان ولا تحتويها العلوم ألا وهي عناصر الإيمان.

وأمر آخر أن عدم العداوة بين الدين والعلوم مساعد في بيان صحة الدين، فالأصل أن يتفق الدين مع العلم الصحيح، والعقل السليم، لذلك فالدين الحق والعلم يتناصران ويتصادقان، أما إن تخالفا وتخاذلا فلا شك أن أحدهما باطلاً.

و في البحث الثالث تحدث عن “نزعة التدين” ومدى أصالتها في الفطرة، فكان حديثه حول أربع نقاط:

1- مدى أقدمية الديانات في الوجود، حيث أنكر على بعض علماء الغرب الذين قالوا إن الظاهرة الدينية ظاهرة مستحدثة، وإن البشرية عاشت لفترات طويلة حياة مادية بحتة، ورأى أن هذه النظرة الساخرة للأديان ليست جديدة بل هي ترديد لمجون أهل السفسطة من فلاسفة اليونان القدماء، حيث روجوها دعماً لمذهب الشك، وفي رده على هؤلاء لا ينكر وجود عقائد معينة قد تكون استحدثت، بيد أن الحقيقة تقول: لم توجد أمة بغير دين.

2- مصير الديانات أمام تقدم العلوم حيث بين أن كثيراً من الجهلاء قد يكونون جاحدين، وكثير من العلماء قد يكونون مؤمنين، ورد دعوى “أوغست كونت” في شيخوخة الأديان، فذكر أن التدين نزعته خالدة في النفس البشرية بشهادة كبار العلماء، وأن التحليل العلمي دائما ما ينتهي إلى الانتصار لقضية الغيب من حيث الأسباب والغايات وأن نهاية العلم ليست إلى اطفاء غريزة التدين بل زيادة إشعالها.

3- ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية: فأوضح أن هذه النزعة هي تعبير عن حاجات النفس البشرية، فكما أن الإنسان يمكن أن يعرف بأنه حيوان مفكر، فهو يصلح لأن يعرف بأنه حيوان متدين بطبعه، ومرجع تدينه يعود لنفسه، التي لا تفتأ تتطلع إلى الأسباب والغايات والجزاء، وأن وجدانه في جهد لإشباع العواطف النبيلة، وهذا ما يجعل له إرادة تنمي فيه البواعث والدوافع اللازمة لذلك.

4-وظيفة الأديان في المجتمع: فتحدث عن حاجة المجتمعات للدين والأخلاق وبين أن الدين وحده هو ما يضمن تماسك المجتمع، ذلك أن قوة الدين لا تدانيها أية قوة في مجال احترام القانون، ويساهم الدين بربط معتنقيه برباط من المحبة والتراحم، فالعلوم والثقافات ليست كافية لتحقق السلام فالعلم سلاح ذو حدين يستعمل في الهدم والتدمير، كما يستعمل في البناء والتعمير، ولا يضمن حسن استخدامه إلا الدين، ذلك أن الإنسان ينساق من باطنه لا من ظاهره، فقوانين الدولة ليست كافية لإنشاء المجتمع الفاضل.

وفي المبحث الرابع والأخير، وهو الأطول بين مباحث الكتاب، وأكثر فصول الكتاب عمقاً وإشكالية حيث يبحث في نشأة العقيدة الإلهية أو نشأة الدين لا من حيث البحث التاريخي، بل من حيث تشكل الظاهرة الدينية في الإنسان في أي زمان ومكان.

يرى أن قانوني السببية والغائية متى فُهما أوصلا إلى عقيدتي التوحيد والخلود، فقانون السببية يجعل من المحال أن يوجد شيء بلا مسبب، وقانون الغائية يقول إن كل موجود متناسق لا يمكن أن يحدث بلا قصد، وإن كل قصد يجب أن يهدف إلى غاية.

يُلقي الشيخ دراز نظرة جامعة على النظريات والمذاهب المفسرة لنشأة العقيدة الإلهية ويعرض ما فيها من إيجابيات (وهو تأكيد أصحاب هذه المذاهب على صحة نظرياتهم)، وسلبيات (وهو إنكار أصحاب كل مذهب لمسلك المذاهب الأخرى)، ومن ثم يعرض الأدلة والآيات من القرآن الكريم التي تبرهن على عالمية كتاب الله عز وجل باحتوائه على كل المناهج التي يتبعها البشر باختلاف ميولهم وطبائعهم للوصول إلى الحقيقة.

تحدث الشيخ أيضا عن نشأة العقيدة الإلهية ودعائمها في العقل والغريزة وعواملها في الوعي والشعور عن طريق ذكر الاسباب التي أدت إلى إيقاظها في النفوس.

وعندما عرض لكل مذهب حاول تفسير “علة” منشأ هذه العقيدة وذكر الإشكالات التي أثيرت حول هذه النظريات وقدم نقداً لكل نظرية منها، فذكر نظريات كل من: المذهب الطبيعي ورائده ماكس ميلر، المذهب الروحي ورائداه تايلور وهربرت سبنسر، المذهب النفسي ورواده ساباتييه وبرغسون وديكارت، المذهب الأخلاقي ورائده إيمانويل كانت، المذهب الاجتماعي ورائده إميل دوركهايم.

وأورد تلخيصاً في نظرة جامعة لهذه النظريات محاولاً التوفيق فيما بينها، بعد طرحه الاختلافات، فغدا الاختلاف بينها اختلاف “تعاون وتكامل لا اختلاف تعاند وتناقض” على حد قوله.

وتمت إضافة ملحق صغير (من عشر صفحات) للكتاب يبحث “موقف الإسلام من الديانات الأخرى وعلاقته بها”، والحقيقة أنه اقتصر على بحث علاقة الإسلام بالمسيحية واليهودية دون غيرهما، حيث ذكر أن الإسلام ليس اسماً لديانة خاصة، بل هو دعوة جميع الأنبياء والرسل، واستشهد بآيات على لسان الرسل في دعوتهم للإسلام، وبناء على ذلك فالإسلام بالمعنى القرآني لا يُسأل عن علاقته بالأديان الأخرى، إذ كيف يسأل عن علاقة الشيء بنفسه، بيد أن استعمال كلمة الإسلام بحد ذاتها، صارت لها دلالة على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فالحديث عن علاقة الإسلام –بمعناه العرفي الجديد- بالأديان الأخرى، أي علاقة المحمدية بالموسوية والعيسوية، فيبين أن العلاقة مرت بمرحلتين، الأولى مرحلة التصديق، ويشير هنا إلى ما يدل على وحدة المصدر من خلال بعض التشريعات والأوامر الأخلاقية، والمرحلة الأخرى بعد تقادم العهد والتطور والتحرر بسبب طول العهد في تلك الديانات.