مآلات حرية التعبير.. صورٌ من الولايات المتحدة الأمريكية
بعد الإساءات التي توجهت للنبي الكريم ﷺ في فرنسا بحجة حرية التعبير، وبعدما وضح أفاضل من الدعاة حقيقة حرية التعبير ومحدوديتها في الغرب بصورة عامة[1]، أسلّط في هذا المقال الضوء على بعض الإشكالات التي أدّى إليها مفهوم حرية التعبير الكاذبة وغير المنضبطة في تلك البلاد بصورٍ واقعية من الولايات المتحدة الأمريكيّة.
ورغم أنّنا لا نذمّ الحرية بمطلقها، ولا ندّعي أن النموذج الموجود في الدول الناطقة بالعربية اليوم والبعيد عن الوحي يحتذى به، إلا أننا في الوقت نفسه ندرس ما أدى إليه مفهوم حرية التعبير الذي يزعم الغرب أنه حلٌّ لكل المشكلات، ويجعلونه الهدف الأعظم الذي يمضون إليه وينطلقون منه، لنرى حقيقةً إن كان يستحق السعي أو الطلب، أم أنه مجرد حُلَّةٍ براقةٍ لضلال كبير.
لا يدعو المسلمون اليوم وحدَهم لوضع ضوابط على حرية التعبير، وتحديد نفوذ هذا المقدس الجديد، إلا أنّ الإشكالات المتعلقة به منذ السبعينات وما قبلها جعلت حقوقيين ونشطاء كثر يدعون لتحديده حماية للأفراد والمجتمعات، وسيأتي بيان بعض أسباب ذلك.

التعديل الدستوري الأول
التعديل الدستوري الأول:
عام 1791 صادق الكونغرس الأمريكي على مجموعة من التعديلات الدستورية تحت عنوان مشروع قانون الحقوق (Bill of rights). وكان الأول من هذه التعديلات (first amendment) الذي يعتز به الأمريكيون اليوم كثيراً، ويكررون ذكره في سياق الحريات، هو القائل حرفياً إن الكونغرس ممنوع من إنشاء أي قوانين تحدد حرية الحديث أو حرية الصحافة[2]. ورغم أن هذا الكلام يبدو جميلاً ومريحاً في ظاهره، إلا أنه في حقيقته عامٌ للغاية، ويحتاج كثيراً من القوانين الفرعية لتكفل حدود الحريات وضوابطها المنصفة للجميع.
هل التسويق حرية؟
ربما يتبادر هذا التساؤل: ما علاقة التسويق بالحرية؟ أليس التسويق مجرد ممارسة إعلانية تجارية تهدف لبيع وشراء وتبادل اقتصادي عادي؟

الصفحة الأولى من الدراسة التي اقتبست منها
صحيح، لكن الواقع هو أن الشركات في الولايات المتحدة استغلت قداسة التعديل الدستوري أعلاه في النفوس، فادعت أن تسويقها لمنتجاتها جزء من حرية تعبيرها الخاصة وأن من حقها أن تقول ما تريد وقتما تريد وأينما تريد عن منتجاتها، بغض النظر عن آثار قولها من خداع للمستهلكين أو تكليفهم فوق طاقتهم المادية[3].
لقد كان ذلك تسهيلاً للكذب في الإعلانات، وتوجيه التسويق للقطاعات سريعة التأثر(vulnerable populations)، ووضع العبارات التي لا أساس لصحتها على العبوات، وذلك كلّه مندرِجٌ تحت مسمى حرية التعبير التي تجعل جهود الحقوقيين لمنعها عسيرة جداً[4].

نسبة قضايا التعديل الدستوري الأول للشركات الكبرى بين عامي 1946-2001 المصدر: How Corporations Took Over the First Amendment, Joe Pinsker, The Atlantic, 2015 https://www.theatlantic.com/business/archive/2015/04/how-corporations-took-over-the-first-amendment/389249/
إلا أنه بعد الكثير من الجهود، وُضعت قوانين لحماية المستهلك، وما زالت تخضع للتعديل باستمرار وسط معارك قضائية بين الناشطين ولوبيات الشركات الكبرى.
يقول بروفسور القانون في جامعة هارفرد جون كواتس في دراسته المعنونة “استيلاء الشركات على التعديل الأول”: إن القوة الآن تسحب من الأفراد العاديين ذوي الاهتمامات والهويات البسيطة ناخبين وموظفين وعملاء، وتُحوّل إلى الشركات البيروقراطية الكبرى ذات الأهداف الموجهة بدقة لتحصيل أموال الناس، مظهراً أن أكثر من 40% من قضايا الشركات القانونية عام 2001 كانت متعلقة بالتعديل الدستوري الأول[5].
وثمّة مثالٌ على ذلك من عالم الغذاء.
تسويق طعام مضر للأطفالوثقت Business Insider عام 2013 أن الطفل الأمريكي يرى سنوياً أكثر من ألف إعلان للمأكولات السريعة، عدا عن مئات الإعلانات لشركة McDonald’s وحدها[6]. وهذا توضيح لتقسيم ذلك بحسب الشركة المنتجة بحسب دراسة من Yale Rudd center عام 2012.
ولا شك أن هذا يوضح استهداف تلك الشركات الضخمة للأطفال الذين لا يملكون الحكمة في الاختيار ولا يستطيعون موازنة الفوائد والمضار المترتبة على تناول تلك الأطعمة المضرة بالصحة باتفاق الخبراء. والعجيب هنا أن المعيق الأساسي للحكومة من منع الشركات من استهداف الأطفال بإعلاناتها هو حرية التعبير في التعديل الدستوري الأول. وهذا ما أشار إليه باحثون في قوانين الطعام عام 2012 حين قالوا: إن حقوق حرية التعبير المتعلقة بالتعديل الدستوري الأول تمنع الحكومة من إنشاء أي قانون يحدد حرية التعبير الخاصة بالشركات، وبالتالي يكون أي قانون يمنع شركات المأكولات السريعة من توجيه جهودها الإعلانية للأطفال مرفوضاً مباشرة[7].
كل ذلك يرينا الإشكال في مفهوم حرية التعبير كقيمة مطلقة تكون الأساس الذي تبنى بحسبه القوانين والأنظمة دون مصلحة المجتمعات وحماية الأفراد. ورغم أن حرية التعبير لا ينبغي أن تشمل بشكلها المتوقع التسويق أو المنتجات الغذائية، إلا أن مفهومها الفضفاض والهالة الكبيرة التي رسمت حولها سمح للشركات باستغلالها لتبرر كذبها عليهم واستغلالها لهم، وقد نجحت في معظم ذلك حتى الآن.
فكون حرية التعبير مفهوماً أساسياً في الشعور الأمريكي يجعل مجرد ذكره في المحاكم أمراً صعب التجاوز على الطرف الآخر، مما يحسم القضايا القانونية بشكل شبه تام بمجرد التلويح بالمساس بحرية التعبير!
الاستهزاء والسخرية
يمكن لأي شخصٍ عاش فترة الانتخابات في أمريكا أن يحدثك عن الكم الهائل من الإعلانات السياسية التي صادفته على مدار يومه لشهور عديدة قبل موعد الانتخاب. فما بين رسائل بريدية وإعلانات على يوتيوب وفيسبوك ولوحات طرقية وغيرها؛ أنفقت حملتا المرشحين الرئاسيين في أمريكا في الشهر الأخير قبل الانتخابات فقط أكثر من 200 مليون دولار على الإعلانات السياسية[8].
وبينما الكلام السياسي محمي تماماً في أمريكا بحق حرية التعبير (حيث يكون له أعلى درجة من الحماية)، فإن هذه الحرية لا تضع أي ضوابط للأدب، أو حسن التعامل أو الصدق أو الاحترام. فتكون هذه الإعلانات ساحة صراع مفتوحة بين المتنافسين على الكراسي البرلمانية ومنصب الرئاسة[9]. فلا يسوّق الشخص نفسه بمزاياه وقدراته، قدرَ ما يسوقها بمساوئ غيره عبر التشهير به وفضح أي سر صغير عثر عليه له ورسمه بأسوأ الصور وإطلاق أسوأ النعوت عليه.
وهذه عينة حديثة من ذلك:

رسالة بريدية مما يصل البيوت في موسم الانتخابات، فيها إعلان لمرشح نيابي عبر تشويه صورة آخر (بعدسة الكاتبة)
ورغم أن القمع المنتشر في دول الشرق اليوم قد يكون أول ما يتبادر للأذهان كطرف النقيض المعاكس عند الحديث في هذا الأمر، فهو ليس ما أدعو إليه أو أسوغه، فديننا لا يرفع بشراً بعد الأنبياء إلى منزلة العصمة أو امتناع الحاجة للتصويب. لكن علينا في الوقت ذاته أن نقر بأن الانفلات الكامل من أي ضوابط احترام أو توقير أو خُلُقٍ عام بين الناس في عالم السياسة بأكمله ذو عواقب سلبية وخيمة. فجعلُ كلام السياسي محمياً لمجرد أنه سياسي يؤدي لفقدان حدود الأدب وامتهان الكرامات ونشر الإشاعات والتشهير بالأشخاص وتحويلهم إلى أدوات بأيدي العامة لمجرد مواقعهم في وظائف معينة، يضاف إلى ذلك غياب احترام الكبير وانعدام ثقافة التناصح والرفق في المجتمع.
وهذه إشكالات تحدث عنها نقاد غربيون من قبل؛ فقد قال –على سبيل المثال- البروفسور هنري برادي: رغم أن الحوار الحضاري مطلوب في الحياة العامة، إلا أننا صرنا نفقده تماماً في الوسط السياسي، حيث نرى إطلاق الشتائم والعنف اللفظي وانعدام الأدب وفقدان الأخلاقيات الاجتماعية المحببة أو أي اعتبار لمشاعر الآخرين، وهذا كله صار معتاداً ومقبولاً بين الناس[10]. فنحن بحاجة إلى نظرة وسطية تعترف بخطأ هذا الانفلات وتقر بضرر طرف النقيض المقابل تماماً له، لأن كلاهما بعيدٌ تماماً عن الوحي وهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام. فامتلاك حرية التعبير المطلقة لا ينبغي أن يكون الهدف بنفسه، إنما القدرة على النصح والبيان والتصويب لأصحاب المناصب وأولي الأمر كما للعامة، وإلا كانت مفاسد وأضرار كثيرة آخر الأمر.
ختاماً
بالنظر لبعض مآلات حرية التعبير غير المنضبطة في الغرب يظهر للقارئ أن المفهوم نفسه يتضمن إشكالاً كبيراً، فالتمييز بين حرية المرء التي تكفل حقوقه وبين الانفلات الذي يجعله متجاوزاً ومتعدياً على غيره أساسٌ لم يبينه الغرب اليوم. فهذه الدول قررت أولاً جعل حرية التعبير رمزاً مبجّلاً، وسبيلاً للخلاص من الظلم، ثم أخذت تسن القوانين حوله لحمايته قبل حماية الناس منه.
والواقع أن هذا ضياع لا بد أن يقع فيه أي شخص يخترع قوانين مختلفة لتنظيم حياة البشر دون العودة لوحي ربّاني أو شرع ذي مصدر غيبيّ، فعلم الإنسان بطبيعة نفسه محدودٌ، بينما علم الله به كامل، فلما نبذت الشعوب الوحي وجعلت تبتدع لنفسها مقدسات جديدة تنطلق منها، كان من الطبيعي أن تخطئ وتقع في متاهات تجعلها تحاول تعديل الدساتير وإضافة أخرى على الدوام حين تكتشف أخطاءها والتجاوزات التي قادت إليها قوانينها.
ولعل قائلاً يسأل هنا: ما المشكلة إن كان البشر يخطئون ويصيبون، ثم يعودون فيصحّحون الخطأ؟
وهنا نوضّح أن المشكلة هي تركُنا المعين الصافي الذي فيه السعادة الحقيقية، واندفاعنا للبحث عنها في أي شيءٍ آخر، وهذا الشيء لم ولن يتحقق للبشر لأنه بشريٌّ في مصدره وطريقته وغايته، فالكمال غير موجود إلا في شرع الله العليم الخبير بما يصلح لنا وما لا يصلح { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14]، أما محاولة تكميل الدساتير الوضعية باستمرار فذلك سبب لضياع حقوقٍ وأعمارٍ كثيرةٍ في الطريق، ولن تهدي لمراد الله تبارك وتعالى نهايةً لأن السائر فيها إنما يفتش عن أيسر السبُل لإرضاء ناخبيه.
لم يطالب المسلمون وحدهم بقوانين تضبط حرية التعبير اليوم، بل إن حقوقيون كثر حول العالم تحدثوا بالموضوع من قبل، وإن كان بشكل غير مباشر، لئلا يغضبوا الشعوب المخدوعة بأن حرية التعبير سبيلهم لنيل كرامتهم وعدم الرجوع في الحال التي كانوا عليها قبل التحرر من سلطة الكنيسة والانطلاق في عيشٍ متمركزٍ حول الإنسان وهواه.
[1] أحمد دعدوش، حرية التعبير المطلقة VS الإسلام، قناة السبيل، 2020
https://www.youtube.com/watch?v=JPN78SSQKAk&t=1882s
حسب القيم الفرنسية هل نملك حرية التعبير فعلا؟!، قناة رواسخ، 2020
https://www.youtube.com/watch?v=JPN78SSQKAk&t=1882s
[2] First Amendment, Legal Information Institute, Cornell Law School.
https://www.law.cornell.edu/constitution/first_amendment
ولشرح مبسط لهذا التعديل انظر: https://www.youtube.com/watch?v=Zeeq0qaEaLw
[3] How Corporations Took Over the First Amendment, Joe Pinsker, The Atlantic, 2015
[4] للمزيد في هذا الموضوع ابحث عن “commercial speech protection under first amendment” على محركات البحث.
[5] How Corporations Took Over the First Amendment, Joe Pinsker, The Atlantic, 2015
[6] U.S. Kids Watch Hundreds of Fast Food Ads Per Year, Felix Richter, Statista, 2013
https://www.statista.com/chart/1627/fast-food-advertising/
[7] Graff, S., Kunkel, D. and Mermin, S. (2012). Government Can Regulate Food Advertising To Children Because Cognitive Research Shows That It Is Inherently Misleading. Health Affairs, 31(2), pp.392-398.
[8] Political Ad Spends Jumps to New Heights in the Final Month of Election Season, MediaRadar, 2020
https://mediaradar.com/blog/political-ad-spend-2020/
[9] First Amendment Freedom of Speech Political Speech, United States Constitution.
https://constitutionallawreporter.com/amendment-01/political-speech/
وللمزيد في هذا الموضوع ابحث عن”Political speech protection under first amendment” في محركات البحث
[10] Disrespect in Politics: Is Civility Possible?, Kathleen Maclay, Berkeley News, 2012
https://news.berkeley.edu/2012/07/13/disrespect-in-politics-is-civility-possible/
المصدر:
How Corporations Took Over the First Amendment, Joe Pinsker, The Atlantic, 2015
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!