كيف صارت العلمانية الطريق إلى موت الإنسان؟
ليس من المبالغة القول: إن المفهوم الأكثر مركزية واستمرارًا في الدين –أي دين- هو الإيمان، وأن التجارِب العلمانية مهما حاولت قياس هذا المفهوم أو عقلنته فإنها تفشل بذلك، فتجربة التديّن تنبع عن الإيمان، وقد يضعف التدين إلا أن ذلك لا يعني غياب الإيمان أو موته، وبهذا فإن الواقعية الحضارية التي يبنيها الإنسان المؤمن وتنسَب إلى الدين نابعة من الإيمان من ناحية وتتعزّز به في ناحية أخرى.
هذا الأمر يدفعنا لأن ننظر إلى الدين والتدين والإيمان بوصف ذلك كله جهة واحدة لا يمكن وقوع الانفكاك فيها، فهي متداخلة لا يمكن لأي جزء منها أن يكون منفصلاً في نطاقه ووجوده عن الأخرى، وهذا ما تريد العلمانية -بمختلف توصيفاتها- ترسيخه، أي الفصل التام بين أجزاء الدين، مما يغيّر من طبيعة الدين ويغيّر من جهة النظر في فحوى وجوده.
بلوى التقليد العلماني
يقف مثقفون تقليديون ومن معهم موقف سلامة موسى وغيره موقفًا يضرب باجتهادات القدامى وتاريخهم عرض الحائط، ولهذا لن يقبل المسلم العلمانية المحضة خاصة أن الذين ينادون بها يعتنقون أفكاراً تعارض كل مسلماته وكتبهم تتعارض مع القرآن الكريم جملة وتفصيلًا وليس بينها وبين الإسلام سوى الخير والإحسان؛ إضافة إلى احتقار دعاتها وتشكيكهم في كل ما هو ديني، والدين بالنسبة للمسلم هو الأصل وهو سر القوة؛ وحين يصرح في أنه يرفض هذه العلمانية، لا يعني ذلك أنه ينكر أن العلمانية غيرت أوروبا، وإنما كونه ضد من اجتزأ أفكارهم وعزلها عن السياق ورمى شعبه بها من فوق.
على المسلم أن يقف موقف د. علي شريعتي الذي وصف حال المنافحين عن العلمانية المنسلخة عن التاريخ والواقع الإسلامي، حيث “يقال: إن كل من يريد أن يصير متحضراً عليه أن يستهلك الحضارة التي يصنعها الغربيون، وإذا أراد أن يرفضها فليظل وحشياً وبدائيًا، ويقول السيد موريس تورز إنه لا يوجد شعب باسم الجزائر، ذلك أنه يريد أن يتجاهل تمامًا حضارة شمال إفريقيا العظيمة، وكل ما كان لدى الغرب هو (أغاني رولان) في ذلك الوقت كان المكان الوحيد المتحضر في أوربا هو إسبانيا أو الأندلس” [العودة إلى الذات، ص: 37]

علي شريعتي
إن المسلم المقتنع بهويته يفتخر بتاريخه التليد، ويرفض إسقاط النظريات عليه من السماء بدعاوى تناسبها مع الكل، فالنظريات ليست قمصانًا جاهزة تتناسب مع مختلف الشعوب، فحتى في القمصان هناك أحجام، وما يناسب هذا ليس مما يناسب ذاك، وبالتالي فالعلمانية التي تناسب أوربا ليس بالضرورة أن تناسب العالم، فلكل شعب خصوصياته.
وما يقال عن العلمانية يقال عن “تعليمات صندوق النقد الدولي “، والتي تنحصر في إزالة التعريفات الجمركية على الواردات وفرض سياسات تقشفية حادة، ورغم أن هذه التعليمات توصف غالبًا بالإصلاحات إلا أنها أدّت إلى خراب عدة دول إلا أن هناك من يدافع عنها ويراها حلًّا لكل مشاكل الدول الضعيفة.
ثم ليس بالضرورة أن نقلد أوربا حتى نكون مثلها، فنحن نمتلك نماذج إسلامية هي خير من أوروبا وأقصد الأندلس في العصور الذهبية؛ كما يوجد نموذج عالمي استطاع بناء تفوقه بالاستناد على تراثه الخصب دون الحاجة لاتباع أوربا وهو اليابان؛ زد على ذلك، أن العلمانية لا تطبق في الدول المتقدمة فقط، بل تعتمدها دول متخلّفة كالهندوراس وتوغو وغيرها، وتبنتها من قبل حكومات شديدة التطرف والعنف كالفاشية والنازية والستالينية والماوية في الصين، إلا أنّ العلمانية لم تنقذ هذه الدول من الفقر والتطرف، فلماذا؟
ولعل الجواب بسيط وواضح، فالعَلمانية ليست المنتَج الكامل، وليست المقولة الخالدة التي تسقى بماء الشباب الدائم الذي تحكي عنه الأساطير، وليست الدواء لكل داء؛ وشعار “العَلمانية هي الحل ” كذبة اعتادت الأفواه ترديدها كما تُردد الببغاوات الكلمات والجمل، دون إدراكٍ للمعنى.
ما هكذا تورد الإبل!.
يجب على المنظّرين أن يدركوا أنّنا لسنا فئران تجارب أو دمًى خشبية، وأن الشعوب العربية ليست قاصرةً حتى تحتاج لمن يوجهها، فهي تمتلك إرادتها وتعرف طريقها جيداً، حتى وإن بدت تائهة، فما هي إلا مسألة وقت فقط وستستعيد زمام المبادرة علميًّا وعمليًّا وأخلاقيًّا، والشعوب العربية تعرف ما يصلح لها وما لها لا يفعل؛ وعلى المثقف والسياسي أن يترفع عن كونه “حْرْكي قلم”، لأن هؤلاء يدسون الأفكار الخاطئة التي لا علاقة لها بالحياة، وبالمشاعر وبمتاعب الشعوب كما يقول مالك بن نبي، [من أجل التغيير، ص: 15].
وبالجملة، فثمة ثلاثة أمور مهمة يجب التنبّه لها:
أوّلها: أن للمسلمين ذكريات سيئة مع العلمانية، ولعل الجميع يتذكر المرارة التي أذاقها الرئيس التونسي بورقيبة للمسلمين في تونس، بعد أن أنزل العلمانية الفرنسية أو اللائكية كما هي صافية؛ حيث إن لائكية فرنسا، تأثرت كثيرًا بالأوضاع الاجتماعية والسياسية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ولهذا كانت لها مواقف واضحة من الدين، فحرّم على الناس الحجاب وأغلق دور القرآن وراقب المساجد بل وأراد إلغاء الصوم، في عام 1961م دعا العمال إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج ولأسباب أخرى، وطلب من العلّامة ابن عاشور أن يفتي في الإذاعة بما يوافق ذلك، حيث ترقب النّاس ظهوره من خلال البث، فما كان من الشيخ العلّامة إلا أن قرأ آية الصيام وبيّن فرضه، ثم قال: ” صدق الله وكذب بورقيبة” [ينظر: موقع الإسلام ويب: الطاهر بن عاشور: العالم الشجاع].

الحبيب بورقيبة
وما فعله حكّام تركيا في بدء تأسيس الجمهورية هو نسخة طبق الأصل عمّا قام به بورقيبة، وكلاهما تحدثا باسم الدين ودعيا إليه ولكن بطريقة ومنهج خاص، وأباحوا للسياسي التدخل في الشأن الديني مع أنهم حرموا على الشيخ التدخل في الشأن السياسي، وهذه العقلية مستمرة إلى اليوم ولن تنتهي، فقبل رمضان هذا العام، خرج أحد دعاة العلمانية المدعو “أحمد عصيد” في المغرب في فيديو، يحذر الناس من الصوم كونه سيسبب لهم في الإصابة بفيروس كورونا، وذلك لأن الصوم يؤدي إلى تيبس الحلق وفيروس كرونا ينشط في الحلق الناشف -رغم أن الدراسات لم تتحدث عن الأمر- ولكن أهل التنوير هذا حالهم، يتهافتون على كل ما قد يعكر على المسلم صفاءه، ولو بالكذب على الطب وأهله، بل على كل علوم الدنيا، التي يستبيحون حرمتها نصرة لأفكارهم.
أما الثاني فهو أن مجموعة من أسس العلمانية مطبقة في العالم العربي والكثير من أفكار العلمانية أصبحت مسلمات لدى العديد من المسلمين، وهذا خطير للغاية، حتى أن المرء بات لا يمكنه تخيل حياته دونها، رغم تأكيد المرء تشبثه بدينه وتاريخه، وهو صادق كل الصدق وليس بإمكاننا تكذيبه، ولكننا نحذّر، كما حذرنا الشيخ سفر الحوالي في كتابه:” المسلمون والحضارة الغربية”: “يجب أن نحذر تسرب العلمانية الى مجتمعاتنا ونحن لا نشعر، العلمانية التي تعتمد المنهج التدريجي البطيء والتغيير القيمي بعيد المدى، ويراهنون على أن الجيل التالي سيكون جيلاً يضع شهواته فوق كل اعتبار”.
ولو قال القائل أن ما نتبعه جزء فقط، قلنا إن العلمانية لا يمكننا أن نفهمها انطلاقا من الجزء الصغير، وإنما انطلاقًا من شكلها الشامل والعام، والذي يختلف تمام الاختلاف عن الجزء، وفي هذا يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: “يوجد في تصورنا علمانيتان لا علمانية واحدة، الأولى جزئية ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص” [العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج1، ص: 16]
أما الثالث: فهو أن أوربا رغم دخولها عالم الغنى والرفاهية المادية والقوة السياسية والصناعية والعسكرية، ورغم أنها حلت الكثير من مشاكلها السياسية والاقتصادية، ولكنها في الوقت التي بنت فيه هذا البنيان هدمت جوهر الإنسان.
نعم، اختفت مصطلحات “الإكليروس، والسيد، والإقطاع، ودولة الكنيسة” إلا أنه ظهر مكانها مصطلحات جديدة، تشير إلى نتيجة عملية علمنة العالم الإنسي، منها:” أزمة الإنسان في العصر الحديث، وثمن التقدم، وهيمنة النماذج المادية والكمية والآلية والاغتراب وأزمة المعنى، وتفشي النسبية المعرفية والأخلاقية، وتآكل الأسرة، وتراجع المساحة الفردية والخصوصية، والتشييء والتسليع” [عبد الوهاب المسيري، عين على العلمانية، ص: 33]، وبالتالي نعيد التأكيد على أن شعار “العلمانية هي الحل” كذبة وشعار زائف، ولما أعلنت العلمانية في نهاية تشكلها –أي القرن التاسع عشر- عن اختفاء السماء، كما أشار كارل ماركس، وموت الإله، كما وصّف نيتشه رؤاه في الحالة الأوروبية، فإنها أعلنت ذلك دون أن تدرك أنها بشّرت بـ” موت الإنسان”، كما أشار إلى ذلك ميشيل فوكو بقوله: “فالإنسان اختراع يبين لنا علم الآثار بيسر وسهولة حداثة عهده ووشكان نهايته” [ميشيل فوكو، الألفاظ والأشياء، ص397 :]
لا بد من العودة للدين
يتجاهل العلمانيون العرب حقيقة ما يدور في ساحة الفكر، وأقصد دعاوى تجاوز العلمانية أو ما يسمى “ما بعد العلمانية post-secularism” والتي يتزعمها الفيلسوف الألماني هابرماس سليل مدرسة فرانكفورت، وهابرماس كما هو معروف لدى الجميع كان من المدافعين الشرسين عن العلمانية، وواحد ممن قالوا بأفول نجم الدين في زمن العلم (ماركس ونيتشه وغيرهم)، ولكنه اليوم يرى بأن القول باختفاء الدين من الحياة العامة يقف على أرجل من قصب.
وبإرادة الفيلسوف الباحث عن الحقيقة بدأ هابرماس تصحيح نظرته حول الدين وحول دور الدين في المجتمع، وهكذا تصالح الاثنين فنجد أنه في سنة 2001 يلقي محاضرة بعنوان ” الدين والمعرفة “، وبعدها بسنة واحدة يكتب كتابا بعنوان “الدين والعقلانية”، في 2005 شارك في مؤتمر دولس حول ” الفلسفة والدين “…الخ.
لم يتراجع هابرماس عن كونه شخصاً علمانيا ولكنه بات الآن يعي دور الدين وجمالية الدين ويصعب عليه التحدث تحييده كما كان يحلو سابقًا، وفي نفس الصدد يتحدث الدكتور التونسي فتحي المسكيني وهو أحد المنادين بالعلمانية عن دور الدين فيقول: “إنّ الحداثة الأخلاقية قد علمنت القيم لكنّها قامت بذلك على حساب الفضائل. وإنّ تأسيس قيم من دون فضائل هو إخفاق فلسفي لعصر إنسانوي وفردانيّ يزعم أنّه أرسى العقلانية العلمانية بوصفها منقذًا أخلاقيًّا من عصور مسحورة. فإذا بالعالم المنزوع السحر -أي الذي صار نصًّا معلمنًا من دون أيّ حاجة إلى إنقاذ- قد أخذ يعبّر أكثر فأكثر عن حاجة روحية جعلت عودة الديني ليس فقط ممكنًا، بل مطلبًا مثيرًا لأجيال ما بعد الحداثة[1].
[1] ينظر الرابط الآتي: http://www.siironline.org/alabwab/derasat(01)/076.htm
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!