كيف تدفع الفردانية لتذويب المجتمع في الفرد؟ .. تعرّف معنا إلى ظاهرة الذوبانية

image_print

الذوبانية مصطلحٌ قديمٌ متجدد، إلا أنه يتجدد بشكل متشعب في ميادين مختلفة ومتنوعة، فمن العلم التجريبي حيث الكيمياء والفيزياء، إلى المساحة النفسية بين الأم وطفلها، إلى تمثلّاته التي تظهر في الساحة الاجتماعية لكن دون أن يكشف وجهه تمامًا ويفصح عن نفسه ومسماه بشكلٍ واضح.

ظاهرة الذوبانية.. تاريخ الظهور

في محاولةٍ لتتبع الخط الفكري الذي أفضى إلى بروز تلك الظاهرة، سنلاحظ أنّ بحث أصول الفردانية أمرٌ مهم، إذ إنّ عددًا كبيرًا من المتأثرين بإشكالية الذوبانية يصنفون على أنهم فردانيون، لذا فإن بحث نشوء وتطور الفردانية ومعرفة الإرهاصات المجتمعية التي وُجدت إبان بثها في مجتمعاتنا؛ سيعيننا على إدراك السبب الذي جعل تلك الفردانية -في أغلب حالتها في مجتمعاتنا- فردانية ظاهرية، وتكمن في طياتها الذوبانية.

إنّ التأسيس لفكرة الفردانية كان رد فعل مضاد خرج من مجتمعات ترزح في النظريات الكُليانية، فـ (ريمون بودون) مؤسس الفردانية المنهجية مَقَتَ الماركسية المؤسسَة على منطق الصراع بين الطبقات الاجتماعية؛ مما دفعه إلى التوجه نحو تأصيل رؤيته المناقضة لهذا التيار، حيث أقام منهجه في دراسة الواقع الاجتماعي بناءً على الفرد وليس على الطبقة، مما سمح بإزاحة النظريات الكليانية الهاضمة للفرد من التفسير الاجتماعي.

بدأت الفردانية تتبلور وتتضح معالمها، وبات من الممكن تعريفها بأنها “توجه نظري وفلسفي يقوم على إعطاء الأسبقية للفرد على المجتمع من خلال استناد قرارات الفرد على منفعته ومتعته الشخصية باعتباره مركز كل شيء، وحوله يدور كل شيء، فمصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات الدولة وتأثيرات المجتمع والدين” [الفردانية المنهجية وتقويض أسس التصورات الشمولية – د.الفرفار العياشي]

وقد تمكَّن بودون من تقديم مقولة الفرد كأداة مهمة في فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية مُزيحًا التصورات الشمولية، واستطاع أن يُبرز البُعد الفردي عند رواد الاتجاهات الكليانية مثل كارل ماركس وإميل دوركايم، فبالرغم من تجاهلهم للفرد واعتباره نقطة عبور للأفكار الجماعية وتقديم النظام والطبقة والمجتمع عليه، إلا أنهم وجدوا أنّ التغيرات الاجتماعية لا تقع في مساحة فراغ عدميّة، بل تقع في محيط يحوي أفراد يكون لهم تأثير في تبلور الصورة النهائية للمجتمع، فالوعي الجمعي لا يلغي الوعي الفردي، لكنه يؤثر فيه.

وإذا بحثنا أكثر عن أصول الفردانية، سنجد أنّ هناك شبه “إجماع على أنّ أصول الفردانية تعود أساسًا إلى أعمال كلٍ من ماكس فيبر و فلفريدو باريتو، وهو ما يؤكده بودون في كتاباته” [الفردانية المنهجية – الفرفار العياشي]، وقد دعا إلى الفردانية رواد الليبرالية مثل هوبز، جون لوك و جون ستيوارت ملْ وغيرهم، حيث أنّ الفردانية هي الركيزة الأساسية في الفكر الليبرالي.

ارتبط الاتجاه الفرداني بمبادئ النظام الرأسمالي خصوصًا في ألمانيا وإنجلترا التي تعاملت معها من منطلق اقتصادي، ويعتبر الفيلسوف آدم سميث من المنظرين الأساسيين لهذا التوجه الفرداني، لذا اهتم مؤسسو النظريات الكليانية مثل “ماركس وإنغلز بنقد أفكار الرأسمالية التي ظهرت على يد آدم سميث وديفيد ريكاردو، وحاولا إسقاط هذا النموذج على أساس المنطق الجدلي ليقدما بدلا منه الاقتصاد السياسي الماركسي” [مقال الماركسية والشيوعية– موسوعة السبيل]، حيث إنهم اعتبروا أن منطلقات سميث الفردانية مناقضة لشمولية نظرياتهم.

وقد انتظمت هذه الأفكار في المجتمع الغربي ليصبح مجتمعًا فردانيًا يدعو إليها، وتحاول ترسانته الإعلامية بث وترسيخ هذا المصطلح بما يحمله من قيم في المجتمعات الإسلامية، حيث يقول د.محمد المجذوب “إنّ هناك اتجاها استعماريا لإكساب الإنسان المسلم في العالم العربي للقيم الفردانية الغربية، ومن ثم تغييبه من أي بعد جماعي، وهذا الاتجاه ليس عشوائياً وإنما هو تابع لثقافة الهيمنة الغربية ورغبتها في تمديد نفوذها عبر أنحاء العالم”، وبالفعل بدأت تظهر الفردانية في المجتمعات الإسلامية، ولكن لاحظنا أنّ هذه الفردانية في شرائح واسعة هي فردانية ظاهرية، لأن شريحة الأفراد المتأثرين متمركزين في مجتمعات مبنية على أسس رأسمالية، والتي تعتمد بشكل رئيس على الشكل النووي للأسر، مما يعطي انطباعًا أنّ أفراد هذا المجتمع فردانيون، لكننا إذا تمعّنّا قليلًا سنرى ظاهرة أخرى أشد فتكًا منها، يمكن أن نسميها الذوبانية.

ريمون بودون (على اليمين)، آدم سميث (على اليسار)

تطور الفردانية إلى الذوبانية

 سنجد في خضم توصيف بودون للفردانية ذكره لفكرة “التذويب”، حيث “إنّ المنهجية الفردانية حسب ريمون بودون، تستوجب أن يُنظر إلى الفرد في ظل نسق من التفاعلات، وأنه بمثابة ذرات يتطلب دراستها وفهمها قاعدة منهجية لتحليل سلوكياتها وتصرفاتها بالقطع مع المسلمات الكلاسيكية المغالية في تفسير أنساق التفاعل والتغير الاجتماعي والتي تعمل على تذويب الفرد فيها”[الفردانية المنهجية – الفرفار العياشي].

ويتضح بجلاء من سياق ورود لفظ التذويب عند بودون -في معرض حديثه عن تأثير النظريات الكليانية- أنّ مدلولها هو اعتبار الفرد عنصر ذائب في المجتمع الكلي، يتشكل بحسبه ويعيش تحت سطوته.

لكن الذوبانية المجتمعية الآنية -والتي نقصدها في هذا المقال- تحمل مدلولًا مختلفا، إذ إنها تصف ذوبان الفرد في مجتمع أو كيان جزئي (جماعي أو فردي) بغض النظر عن الشمولية الاجتماعية، وإنما هذا الذوبان يكون بمحض إرادته بدايةً تحت ضغط دوافع عدة.

عندما بحثتُ عن الفكرة الكامنة في الفردانية الظاهرية، لم أجد أنسب من هذا المصطلح -الذوبانية- في وصفها، إذ إنّ التعريف الأعم والأشمل للفردانية هو التمحور حول الذات، بينما نلاحظ سلوك آخر مُتمثِّل في أشكالٍ عدة مآلها ذوبان الذات، وتمحورها حول الغير، فإما أن تجد بعض الأفراد فاقدين ذواتهم تمامًا ذائبين في مجموعهم بشكل سلبي متباين عن الاجتماعية أو الانتماء، أو فاقدين ذواتهم محاولين تشكيلها بمقياس بعض الكيانات أو الأفراد الذين انبهروا بهم، وهذا واضحٌ في حدثاء السن وتأثرهم بمن يسمون أنفسهم “مؤثرين”، فتذوب ذواتهم ويتمحوروا حول الذات الأخرى، وهذا الأمر شديد السلبية ومآلاته لا تقل خطورة عن مآلات الفردانية، ويستحق أن يُعتنى به للحد من هذه الظاهرة الخطيرة.

التقاطع بين الفردانية والذوبانية

وبالرغم من أن الذوبانية تعتبر سلوك متباين عن الفردانية، إلا أنها من جهة أخرى يمكن أن تكون مؤدية لها، إذ إنّ الفردانية يمكن أن تنشأ عن ذوبانية الفرد حول شخص فرداني فينتقل هذا السلوك إليه، فهو تعرض إلى عمليتين:

١- أنه وقع في الذوبانية وفقد ذاته، وتأثرت أو التفّت حول ذاتٍ أخرى متبنية الفردانية.

٢- أنه تبنى هذه الذاتية الجديدة وصُبِغ بها حتى أصبح فرداني، ولكن جوهر فردانيته غير أصيل.

فهذان المصطلحان -الفردانية والذوبانية- متباينان من جهة، ويؤدي أحدهما إلى الآخر من جهة أخرى، وكلاهما جدير بتدمير المجتمع السوي، وإغراقه في تمزق أو تشوه اجتماعي.

كيف تفشّت الذوبانية في المجتمع؟

أفضى حكم النظام الرأسمالي وتفشيه في المجتمعات إلى حدوث تغيُّرات جذرية في شكلها، ومن أهم هذه التغييرات هو تكوّن ما عُرِفَ بالأسر النووية، وهي التي تتكون من الوالدين وأبنائهما فقط، وضمر وجود الأسر الممتدة خصوصا في المدن الصناعية والحواضر، فـ (بارسونز) مثلا يرى أنّ شكل الأسرة النوويّة هو الأكثر تناسبًا مع المجتمع الرأسمالي الحديث.

فالأسر باتت في صورة وحدات منعزلة عن بعضها، ويظهر السلوك الخارجي لأفراد الكثير منها على أنه فرداني متمحورٌ حول ذاته ومنعزلٌ عن الكيان الكلي للأسرة -التي بدورها منعزلة جزئيا- ولكن إذا تأملنا قليلا سنجد أنّ عددًا لا بأس به من الأفراد ليسوا فردانيين، وإنما ذائبون، سواء في كيانات أخرى مثل الأوتاكو -أي مدمني الأنمي-، أو الفرق الغنائية الكورية وغيرهما، أو حول أفراد مثل المؤثرين كما أسلفنا.

ويتضح هذا أكثر عندما نحاول تحرير سمات الشخصية الفردانية الأصيلة، حيث إننا سنجد أنّ صفات الاعتداد بالذات والاعتماد عليها والاكتفاء بها صفات أساسية، مما يعني أنه يمكن أن يعيش بعيدًا عن كيانات (حقيقة أو افتراضية) أو يعيش بينهم دون أن ينفعل كليًا معهم، ودون أن يشعر بإشكال كبير، لأن الشعور الغريزي بالانتماء عنده قد أشبعه بالانتماء لذاته.

من ناحية ثانية نلاحظ صفات أخرى في شرائح واسعة من المحسوبين على الفردانية وتتضمن: عدم تحمل البقاء بعيدًا عن تلك الكيانات (الافتراضية – حقيقية)، عدم القدرة على أخذ قرارات مصيرية، الهشاشة النفسية، عدم وضوح -وأحيانًا اضطراب- الهوية الذاتية، وهذا يعني أحد أمرين:

١- أنهم ذائبون تمامًا ولم يبق من ذواتهم ما يمكنّهم من الانفعال الواقعي؛ مما يعني أنهم ليسوا فردانيين.

٢- أنهم فردانيون فردانية غير أصيلة -الموضَحة آنفًا- فيحتاجون إلى بقاء حبل الانتماء مع من اصطُبِغوا بفردانيته، لأنها هوية ليست أصيلة عندهم، فلا يمكن أن تحافظ على ذاتيتها دون تعزيز خارجي.

ارتداء الأوتاكو لأزياء شخصيات الأنمي

ما أسباب تكوُّن الذوبانيين؟

الحقُ أنّ أسباب جنوح تلك الظاهرة الخطيرة في هذا الجيل تحديدًا كثيرة جدا ومتعددة، فجزء كبير منها يعود إلى طريقة التربية الخاطئة التي لا تعزز الثقة في نفوس النشأ، ولا تربيهم على العزة التي يجب أن يتحلى بها المسلم، ولا تعطيهم أدوات ووسائل الوصول إلى فهم الذات وتكوين الهوية الذاتية، ولا تعلمهم تحمل المسئولية وأخذ القرارات.

وكذا طريقة التعليم في المدارس الإلزامية التي تلغي شخصياتهم وتقولبهم، فيضطر أغلب الأفراد إلى الذوبان في محيطهم خصوصًا مع عدم وجود خلفية تربوية تُحصِّنهم من هذا التذويب؛ فطبيعة هذا الجيل المعروفة بـ “رقائق الثلج”، أراها نتيجة طبيعية لطريقة التربية والتعليم، وسبب أساسي لجنوح ظاهرة الذوبانية.

أنواع الذوبانية

يمكن تقسيم الذوبانية إلى: ذوبانية كليّة، وذوبانية جزئية.

أما الأولى وهي الذوبانية الكلية، وتتمثل صورتها فيما ذكر آنفًا، وهو فقدان الإنسان ذاتيته كليًّا، أما الثانية، وهي الذوبانية الجزئية فهي تأثر جانب من جوانب الإنسان بهذا الإشكال مع الحفاظ على بعض التماسكية في جوانبه الأخرى.

يمكننا القول بأن الذوبانية الجزئية موجودة على مر العصور، فكما قال ابن خلدون في مقدمته “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، فإنه بطريقة أو أخرى يشير إلى شكل من صور الذوبانية الجزئية، فشعور الهزيمة أمام الغالب يمكن أن يكون نفسيًا أو فكريًا أو ماديًا أو اجتماعيًا، وكل جانب من الجوانب الأربع يمكن أن يقع فيه انبهار وولع بالغالب -أيًا كان، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات- فيؤدي إلى الذوبان فيه وتقليد أعرافه خصوصًا لو كان الانبهار ماديا أو اجتماعيًا، ومعتقداته لو كان الانبهار فكريا أو نفسيا.

وساعد في تعزيز الذوبانية الجزئية في الجانب الفكري رواج فكرة النسبية وعدم الاكتراث، مما أدى إلى انصهار حاجزَي الفكر والهوية اللَذين يمنعان وقوع هذا النوع من التأثر.

ويمكن أن تتحول الذوبانية الجزئية إلى كلية في حال وقوع الفرد في الانبهار الكلي، وهذا يحدث عندما تذوب بقية تكويناته الذاتية المتماسكة ليفقد ذاته تمامًا.

ما المآلات الاجتماعية للذوبانية؟

إنّ مآل الذوبانية هو مجتمع عاجز تمامًا عن القيام بأي شيء أو صدور أي رد فعل عنه، لأن ردود الأفعال لا تتأتى إلا بوجود ذات تنفعل ليصدر عنها رد فعل -على الأقل-، فالذائب فاقدٌ لذاته، لذا فهو مطموس الهوية والذاتية معًا، بل إنّ الفرداني يمكن أن يصدر عنه رد فعل وإن كان قاصرًا لعدم انخراطه مع المجموع الكلي أو عدم توجيهه للمصلحة الكلية، ولكنه على الأقل لا زال محتفظًا بجزءٍ أساس من مقومات إنسانيته وهو الذات.

ختامًا

إننا نعيش في عصر متسارع في كل شيء، فالقفزات والتغيُّرات الاجتماعية باتت سريعة ومتقلبة، فملاحظة المجتمع وسلوك الأفراد ومحاولة رصد الظواهر الاجتماعية والفكرية الجديدة أو نظمها في اصطلاح يوضح مساحتها وحدودها أمرٌ مهمٌ في طريق الإصلاح لا بد أن نحرص عليه، ويجب شحذ الهمم لمعالجة هذه الإشكالات، وتوجيه الجهد الأكبر إلى أسس ومنابع الإشكال -وتتمثل هنا في التربية والتعليم – حتى يتم حله بشكلٍ صحيح ومتوازن.

أسأل الله أن يبلغ هذه الأمة رشدها.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد