قراءة في كتاب “لماذا الدين ضرورة حتمية؟”

image_print

تمحورت كثير من كتابات د. هيوستن سميث اللاهوتي الأمريكي وأستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية، حول الأزمة الروحية الحاضرة لإنسان عصر الحداثة وما بعدها، وقدم في كتب متعددة دراسات نقدية وفلسفية واجتماعية وتاريخية تشرح ملامح تلك الأزمة وما أنتجته من تصور مادي للعالم يقلص وجود الإنسان ويحرمه من كل أبعاده الروحية، وما يتبع ذلك من اختناق روحي وفقدان للأمل وسيطرة للمادية والفردية والاستهلاكية والأنظمة القانونية المتنكرة للقيم الدينية والسياسات الحكومية المجردة من المبادئ الأخلاقية مشبهاً ذلك بنفق مظلم حبس فيه إنسان الحداثة الفاقد للإيمان.

نقصد في المراجعة الآتية التعرض لأحد أهم كتبه، “لماذا الدين ضرورة حتمية”[1]، باحثين عن أهم الأفكار التي نطقت بها كتاباته المدافعة عن الدين في وجه انبعاثات الإلحاد وامتداداته.

من هو د. هيوستن سميث؟
هو أستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية وصاحب مؤلّف “أديان العالم” أحد أكثر الكتب مبيعا ورواجا في الولايات المتحدة وعدة دول أخرى، وقد دافع في كتاباته ومحاضراته عن ضرورة وجود الدّين في حياة البشرية مؤكّدًا أنه الطريق الحتمي لمواجهة طغيان المادة وانحطاط الأخلاق، وركّز على في كتابه هذا على “بيان روح وحكمة أديان العالم وفلسفتها وجوهرها المشترك، ومخاطر عصر العلم والحداثة في ابتعاده عن الإيمان وخوائه الروحي الذي أغرق الغرب في نفق المادية المظلم وسجن الفردانية والأنانية التعيس.” كما يُلخّص ذلك مترجم الكتاب.

هيوستن سميث كاتب كتاب "لماذا الدين ضرورة حتمية؟"

هيوستن سميث

أعرب المؤلّف عن رفضه الشديد لفكرة انحصار النجاة بالديانة المسيحية التي تتردّد كثيرا في أوساط البروتستانتية، معتبرا إيّاها جهلا ذريعا بحقيقة ما يتضمنه معنى الدين الحقيقي من عُمق روحيّ أصيل، فقد أكسبت دراسة الكاتب للأديان الوضعية والسماوية آفاقًا متعددة في فهم دور الدين وضرورته في مواجهة التيارات المادية في الحضارة المعاصرة

أهمّ أفكار الكتاب:
ينطلق الكتاب من مقولة عالم الأحياء البريطاني “جوليان هوكسلي”[2] حوالي منتصف القرن الماضي أنّه عما: “قريب سيصبح من المستحيل لأي رجل أو امرأة ذكيّ ومتعلّم أن يعتقد بوجود الله كما هو من المستحيل اليوم الاعتقاد بأنّ الأرض مسطّحة” ومن ثمّ يبدأ بتفكيك هذه المقولة، ويؤكّد في سياقاته المختلفة قضية “لماذا الدين ضرورة حتمية؟”.

يشير الكاتب إلى أن الفكر المادي لا يتجاوز النظر فيما هو مادي محسوس إلى ما هو معنوي مُجرّد، وأنه يشبه إلى حدّ بعيد قدرات العقل في مراحل الإنسان الأولى حيث يسهل عليه استيعاب المفاهيم المادية ويصعب عليه إدراك المجرّد والمعنوي، إضافة إلى أن مقولة “جوليان” تتضمن الأفكار الثلاثة التي تقلقه –حسب تحليل مؤلّف الكتاب- وهي: نقد النظرية الداروينية، والاستدلال على أنّ الكون تمّ تصميمه بدقة عظيمة غير متناهية، والقبول بإمكانية أن يتدخّل الله في التاريخ.[3]

في معرض حديثه عن نظرية داروين، يقول الدكتور هوستن سميث: “في الواقع هناك نقاش مشتعل بشراسة بين العلماء أنفسهم حول نظرية دارون، وتغذّي ذلك النّقاش تعليقات مثل: “فريد هويل” المشهور اليوم، الذي يقول إنّ فرصة الاصطفاء الطبيعي لإنتاج إنزيم واحد تماثل فرصة أن يؤدي إعصار يهبّ على فناء صناعة إلى إنتاج طائرة بوينغ747، فنراه وغيره من العلماء متراصّين في دعم الداروينية عندما يظهر الدّين في الصورة.

الحاجة إلى بديل
لا شكّ أننا نحتاج إلى بديل، يحدث المؤلف قارئيه عن توماس تشارلمز الذي كان يلقي خطبه في الكنيسة، فتحدث في إحداها عن حادثة جرت معه عندما كان على متن عربة خيول تسير بهم في طريق جبلي، فعندما وصلت العربة إلى طريق ضيّق على حافة منحدر شديد، بدأ الحوذيّ (سائق العربة) بضرب خيوله بالسوط بشدة، الأمر الذي بدا لـ “تشارلمز” عملا خطيرا، لكن قائد العربة أوضح له أنّه كان عليه فِعْل ذلك ليصرف انتباه الخيول عن الخطر المُحدِق بهم في ذلك الطريق. إنّ لذع السياط جعلتهم ينشغلون بشيء آخر يُفكّرون به.

ينقل هيوستن عن تشارلمز قوله: إنّ الأمر لا يختلف بالنسبة للبشر. إنّ الناس لا يتخلّون أبدا عن عاداتهم المألوفة السيّئة بقوّة العقل ولا بقوة الإرادة، إنّهم يحتاجون إلى شيء جديد يُفكّرون به ويستجيبون له”، يعقب هيوستن في معرض استدلاله عن رأيه بأنه بدلًا من تضييع الوقت في تفنيد نظريات فرويد مثلا، فإنّ في فهم روعة البديل الآخر ما يُغنينا عن ذلك تماما كما فعلت لذعات السياط بالخيول.

بين التصوّر التقليدي والتصور المادي للعالم
هنا يستفيض هيوستن في الحديث عن مساوئ فكرة البديل إذا كان أسوأ من المستعاض عنه: فـ”إذا سعى شخص ما إلى صُنع مصيدة للفئران أفضل من المصائد المتوفّرة حاليا فإنّ هدفه مفهوم ومحترم ولا نملك إلاّ أن نرجو له التوفيق. ولكن إذا سعى أحدنا إلى صُنع مصيدة للفئران أسوأ من الموجود، فإنّ مسعاه قد يحتاج إلى تفسير يُقدّمه لنا طبيب نفساني. إذا نقلنا هذه الاستعارة إلى ساحة الإيمان بالغيبيات، فإنّ المعنى هو التالي: سواء كان التصور التقليدي للعالم حقا أم باطلا فإنّه تصوّر واضح وقابل للفهم على نحو شفّاف. أمّا التصوّر العلمي للعالم فإنّه ليس كذلك، لأنّه طالما أقصى العلة الأولى والنهائية من حسابه مطلقا، فإنّه يضعنا أمام طريق مسدود بشأن أسئلة ليس لديها أي إجابة عنها.” هنا يعلّق المترجم على هذا الكلام شارحا: لدينا تصور قديم للعالم  يعطينا إجابة عن كل شيء. سواء آمن به العلميون أم لم يؤمنوا، لا يحق لهم أن يطالبونا باستبداله إلاّ إذا كانوا بصدد إعطائنا تصورا أفضل منه.

لا يخفى أنّ هدف الكتاب الرئيسي هو تبيين قُصور التفسير المادي العلمي للعالم واقتناع صاحبه أنّ التفسير التقليدي (الديني) للعالم هو التفسير الأصحّ. فقد سعى الكاتب لحشد البراهين والنماذج الشاهدة على صحّة ما ذهب إليه.

فقد شبّه النظرة العلمية المادية للعالم بهذه الصورة في الحكاية الآتية:

تصوّر نفسك في بيت شعبي من طابق واحد في شمال الهند، وأنت أمام شباك زينة يُطلّ على منظر مدهش لجبال الهمالايا؛ إنّ ما فعلته الحداثة، في الواقع، مُشابه تماما لكونك تقوم بإسدال ستارة أمام تلك النافذة حتى مقدار بوصتين فقط فوق عتبتها وأرضيّتها. عندما أُمِيلت أعيُننا نحو الأسفل أصبح كلّ ما يُمكننا أن نراه الآن من الفضاء الخارجي هو الأرض التي بُنيَ عليها البيت.

في تشبيهنا هذا تُمثّل الأرض العالم الماديّ، ولكي نُعطي الأمور حقّها عندما تستحق ذلك بجدارة، نقول: إنّ العلم قد أظهر لنا العالم رائعا جدا بشكل لا يُصدّق. ولكن مع ذلك فإنّ هذا العالم الذي يظهر لنا، ليس جبل ايفريست.

إي إف سكيوماخر (من موقع جودريدز)

في موضع آخر ينقل حكاية عن دليل الحائر للكاتب “إي إف سكيوماخر” تحدث فيها عن تيهه وضلاله الطريق بينما كان يُشاهد معالم مدينة موسكو في العهد الستاليني. وبينما كان يبحث مرتبكا محتارا في خريطته، اقترب منه مرشد سياحي وأشار بأصبعه على الخريطة ليُبيّن له المكان الذي كانا يقفان فيه، فاعترض “سكيوماخر” قائلا:

– “ولكن أين تلك الكنائس الكبيرة التي نراها حولنا؟؟”

– أجابه المرشد السياحي بكل جفاف: “إنّها ليست مبيّنة على هذه الخريطة، نحن لا نُظهر مواضع الكنائس على خرائطنا.”

– “ولكن هذا غير صحيح، إنّ الكنيسة الموجودة هناك في زاوية الشارع، نجدها مُشارا إليها في الخريطة.” أصرّ “سكيوماخر” معترضا.

– أجابه المرشد السياحي: “أوه، هذه كانت كنيسة فيما سبق، أمّا الآن فهي متحف.”

ويُواصل “سكيوماخر” قائلا: حالتنا تشابه هذه القصة تماما. إنّ أغلب الأشياء التي اعتقد بها معظم البشرية، لا تظهر على خريطة الحقيقة التي حَصَلْتُ عليها من تعليمي في جامعة أكسفورد، أو لو ظهر شيء من تلك العقائد على الخريطة فإنّه يظهر كإشارات إلى متاحف، أي إلى أشياء اعتقد بها الجنس البشري في عهد طفولته (قبل أن ينضج)، ثمّ عندما بلغت البشرية سنّ الرشد، لم يَعُد الناس يؤمنون بها (صاروا ينظرون إليها كآثار الأسلاف كما ينظرون لآثار القدماء في المتاحف)” !!

 إنّ الغرض من هذه الحكاية ومن الصورة التي سبقتها: أن نستحضر في أذهاننا حقيقة أن العلم “في عملية إمطارنا بالمنافع المادية والمعرفة الهائلة بالكون المادي الطبيعي “محا وأزال الأمور الفائقة على المادة، من خريطتنا للحقيقة”

عندما ينكر العلماء –الماديون المقتنعون بالمادية- وجود أيّ شيء سوى الأشياء التي يمكنهم أن يُشغّلوا أدواتهم العلمية عليها، يجب أن يُوضّحوا أنّهم إنّما يُعبّرون في هذا الأمر عن آرائهم الشخصية كأيّ شخص آخر، ولا يدّعون حجية العلم في رأيهم هذا. ومن جهة أخرى، يجب على المتديّنين ألاّ يتدخّلوا في العلم طالما كان علما أصيلا لم يُنمّق ويُزخرف بالآراء الفلسفية التي هي من حقّ كل شخص.

ملاحظات وتنويهات عامة
يتألف الكتاب من جزأين وخاتمة ويتضمن كل جزءٍ عدداً من الفصول، أما الفصل الأول فيقدم تمهيداً تاريخياً متبعاً فيه المراحل التاريخية الثلاث التي أوصلتنا للمرحلة الحاضرة، ملقياً الضوء على الإنجازات والإخفاقات في كل عصر، والفصل الثاني يصف الأبعاد الروحية للعالم الذي كان يعيش فيه الناس قبل أن تحولهم القراءة الخاطئة للعلم الحديث إلى النفق المظلم وهي العبارة التي استخدمها المؤلف كاستعارة رئيسة في هذا الكتاب. وصف هذا النفق المظلم وجوانبه الأربعة يحتل الجزء الأول من الكتاب.

أما الجزء الثاني من الكتاب فينظر للمستقبل الذي رمز إليه المؤلف بالنور في آخر النفق، حيث تلامس فصوله الأولى بعض التنبؤات، ثم تستقر على مهمتها الأساسية وهي وصف ميزات ومعالم الرواية الدينية الواسعة الثابتة غير المتغيرة. والاستراتيجية المتبعة هي المعالجة الواضحة والمباشرة.

لعل مما يلفت انتباه القارئ العربي في الكتاب هو كثرة استطراد الكاتب في سرد تجاربه الشخصية لأجل توضيح أفكاره ونتائجه التي يُريد الوصول إليها ممّا يجعل الفهم سهلا في بعض الأحيان و مستعصيا في أخرى.

يقوم الكتاب على منهج الاستعانة بالكتب في معظم الفصول والمباحث التي ألّفها؛ فيختار لكل فصل كتابا يدعم فكرته ومن خلال مناقشته للكتاب يُوصل رأيه بسهولة ويُسر. فهو يُضفي على النص ثراءً ويعرّف القارئ بعناوين جديدة.

تحدّث الكاتب كذلك عن مساهمة الإعلام والتعليم الجامعي والقانون في تكريس النظرة المادية للعالم، فهذه الفصول من الكتاب تُعطي فكرة مجملة عمّا وصل إليه التفكير في المجتمعات الغربية حول الدين والإيمان، وهي من بين أهم الفصول الواردة في الكتاب.

في خاتمة كتابه توجّه د. سميث بانتقادات، على شكل نداء، للعلميين الذين يعتبرهم مجرّد قلّة قليلة. ذكّرهم في ذلك بعظماء بينهم أفضل منهم يحترمون الدين ويولونه أهمية. فعليهم إذا أن يحترموا الدين كما يحترم المهتمون بالدين العلم موجهًا خطابه لهم “هذه القراءة الخاطئة للعلم هي المسؤول الأوّل والرئيس عن إدخالنا في النفق –أي نفق المادية المظلم-، لأنّها تُقلّل من شأن الفن والدين والحبّ ومعظم الحياة التي نعيشها على نحوٍ مباشر عندما تنكر قدرة تلك العناصر على أن تعطينا أية بصائر، نحتاج إليها لإكمال ما يمُدّنا به العلم. هذا الموقف يُشبه أن نقول إنّ أهمّ ما في الإنسان هيكله العظمي كما يظهر على لوحة الأشعّة السينيّة !. إنّ خروجنا من النفق يتطلّب من العلم أن يُشارك في مشروع المعرفة مع سائر المناهج والطرق المعرفيّة الأخرى بدرجة متساوية لا سيما مشاركته منهج المعرفة الذي يتّبعه “طالبو الله”.


[1]  الكتاب من ترجمة د. سعد رستم وقد ترجمه ترجمة رفيعة وأثراه بإضافة الهوامش والتعليقات الجانبية التي تسهّل على القارئ العربي عملية الاستيعاب والتعرّف على أسماء جديدة، وقد نشرت الكتاب دار الجسور الثقافية، سوريا.ط1، 2005.

[2]  جوليان هوكسلي(1887-1975) عالم أحياء بريطاني اشتهر بإيضاحه المفاهيم العلمية لعامة الناس، متخرّج من جامعة اكسفورد.

[3]   د.هوستن سميث: مصدر سابق، ص103.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد