قبساتٌ من نورِ الدعاء

image_print

يقتبسُ الإنسان المفردات والألفاظ من تفاعله مع الآخرين ومن الكتب ومن أقوالٍ سمعها من مكانٍ ما، وبذلك يستطيع صياغة الأحاديث، لكن إن كان حديثه خاصًّا مع خالقه، فما المصدر لصياغة الكلام؟
لقد أودع الله صيغاً لهذا الحديث في القرآن، وقام الأنبياء وسائر الناس باتباعها ولعلّ أبرز النماذج عن الحديث بين المؤمن وبين الله هو الدعاء، الذي أفردت له آياتٌ من القرآن توضّح لجوء الناس والأنبياء إليه، وتعلم الإنسان أسس مخاطبة الله من خلاله.

هنا ينبغي أن نعي فكرةً هامةً وهي أن صيغة الدعاء ليست مهمة بقدر أهمية السبب الذي نعتمد من خلاله على هذه الصيغة دون غيرها وما جاء فيها من معانٍ وقيم، وكيفية تحقيق الغاية منها بعيداً عن ترديدها اللفظي فقط.

افتتاح الدعاء لله
يردد المصلّون كل يوم سورة الفاتحة حوالي سبع عشرة مرة بندائهم الله تعالى (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 5]، طالبين منه أن ينور دربهم بالاستقامة والهداية، هذا الرجاء الكبير ينطوي على ما يريده الإنسان من الإرشاد والوعي والفكر النيّر على أصعدة الحياة كلها كالدراسة والعمل وتكوين الشخصية ومواجهة المشاكل ..الخ.

هنا يجب أن نقول: إنّ التعمّق بالبحث عن الصراط المستقيم يفضي إلى آفاقٍ بعيدة مركزها اتباع مسار الدين الذي لا اعوجاج فيه، إلا أننا قبل أن نصل إلى ذلك علينا أن نعلن (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 1] ثناءً وشكراً للخالق على نعمه وخيره  -وبلا شك ذلك واجبٌ على كل مؤمن-، وهنا يحلق الدعاء بعيداً عن مفهوم الرجاء المتعارف عليه ليصل إلى بحر الامتنان، حيث نجد أدعية التيسير والتوفيق التي يلفظها الناس تعبيراً على شكر بعضهم بعضاً وهذا ما يدفع المدعوّ له للاستمرار في البذل والعطاء، فكما أن الله يُحمد فيزيد النعم فإنّ الله قد غرس في الإنسان سمة البذل عندما يدعو له الآخرون، فعندما يرى دعوة من أحد كتبها الله له فقد يسارع إلى مزيدٍ من الإنجازات تدفع الحياة والإنسانية قدماً.

هنا ننوه أن كلمات الدعاء بلغت من الشأن ألا تكون كلمةً حسنةً بمثابة صدقة فقط بل إنّها تشجع على الإبداع وتقوّي الإيمان بفعل الأفضل دوماً.

الدعاء دافع للصبر والرضا
نرى في الدعاء فضيلة لا بد من الوقوف عندها، وهي قدرته على إدارة الحياة ودفعنا لالتماس فرص جديدة بعد الوقوع بالأخطاء أو تقصيرٍ في الأعمال، فالمؤمن عندما يقف متحيراً يلجأ إلى الله لعلمه أن الدعاء له يطمئن قلبه ويدفعه للابتعاد عن الحيرة، وهذا ما جاء في آخر آيةٍ من سورة البقرة (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ )، [البقرة: 286]حيث يؤول معناها إلى طلب المؤمن من الله عدم المؤاخذة في نسيان فرضٍ ما، أو عدم تأدية عملٍ مطلوب منه بوجهه الشرعي، ولا ينطوي هذا الدعاء على هذه الفكرة المهمة فحسب، بل إنّ الإنسان إذا نظر في الشيء بإمعان لأبدع في استخدامه وهكذا الدعاء ففيه “العون” والمدد، ابتداءً بالتوجيه للصواب من الأمور وانتهاء ببث الطمأنينة في القلب.

لا يقتصر التمثيل لهذا من نهاية سورة البقرة بل ينطبق على أكثر من صيغة دعاء وردت في القرآن الكريم ونشاهد هذا التداخل الفريد في استخدام نفس كلمات الدعاء بصيغها المعهودة في أكثر من دعاء ولأغراضٍ عديدة أمثال دعاء السفر والأكل وقبيل النوم وعند الصباح ودعاء الوتر وفي خطبتي الجمعة والعيد .. إلخ .

الدعاء وحياة المجتمع
من ناحيةٍ أُخرى نجد العديد من القضايا الاجتماعية عولجت في بعض صيغ الدعاء، كالآيات التي تتحدث على بر الوالدين، حيث دلّت على أن الدعاء بالرحمة للوالدين من البر إليهما، وجاءت صيغة الدعاء مزامنةً لصيغة الطلب والأمر (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، فالدعاء للوالدين جزء من برهما، والرحمة جزءٌ من رضا الله، فبرهما والدعاء لهما تحقيق للرحمة التي أمرنا الله بها.

وردت في القرآن –أيضًا- آياتٌ كثيرة تضمّنت أدعية متتابعة لأفكارٍ مختلفة وبالإمعان بالنظر نجد تأكيد الله على استجابته للدعاء أو بالمجمل أن الله سريع الاستجابة ومن أبرز تلك الآيات دعاء موسى لله حين أمره بالذهاب إلى فرعون في سورة طه [الآيات:25-36] (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) وما جاء بعد ذلك في قوله تعالى (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) [طه: 36]

الدعاء معونة للحياة والإنسان
لنتوقّف هنا أمام الهدف والمعنى السامي من الدعاء وهو كونه عوناً للإنسان، وجرعة قوية المفعول لتقوية الإيمان وترسيخه، حيثُ يكون أداةً شرعها الله وشجع عليها لتؤدي بمشيئة الله إلى تفريج الكربات أو تحقيق الآمال، وبالتالي يمكن القول إنّ العودة إلى الله ربما تبدأ باللجوء إليه والتضرع له.

يحمل الدعاء طابع الاستمرارية وهذا ما يشجع الناس على استدامة القيام به، ففي القرآن حمل دعاء سيدنا إبراهيم عندما طلب من الله جعل مكة آمنةً من الخوف وسفك الدماء معظم الاوقات وأن يمن الله على أهلها بالخيرات ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ ) فحفظها الله قبلةً للمسلمين جميعاً، وتأكدت رغبة إبراهيم عليه السلام حين جعلت مكة حرمًا آمنًا بأمر الله.

لكن الإسقاط هُنا يعبر عن دعاء نبي وأدعية الأنبياء مستجابة في العادة فماذا عن استمرارية دعاء المسلم؟

حسناً، إن المسلم حين يدعو ابتغاءً لنيل شيءٍ من نعم الله فإنّ الله لن يخيبه ويقطع نعمته إلا ليختبره أو ليثبت ايمانه أو منعاً لفساد نفس الإنسان أو امتحانًا له، لكن نظراً لتحقيق أنواعٍ محددة من الدعاء غدا الدعاء مستمراً بطريقةٍ متفاوتة بين الناس.

لقد أرشد الله عباده من خلال نبيه الكريم ﷺ والقرآن الكريم إلى الأوقات المثالية للدعاء وأهمها وأشهرها شهر رمضان المبارك تحديداً ليلة القدر منه وعند إفطار الصائم، بالإضافة إلى يوم عرفة وسائر الأيام عند السحر من الليل وعند هطول المطر ويُستحب الدعاء عند السفر وأثناء السجود لكن لم يربط الله الدعاء بوقتٍ محدد بل قال ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ ) [البقرة: 186] تأكيداً على صلاحية الدعاء في أي وقت بعيداً عن ساعةٍ معينة وتذكيراً للعباد بأن الله قريبٌ يستجيب دون تحديد نقاط زمنية حصرية، أما الأوقات السابقة فهي أوقات تفضيلية للدعاء نظرًا لما تتضمن من رحمات وبركات إلهية.

سر الدعاء
لقد جاء عن النبي ﷺ أن “الدعاء مخّ العبادة” –رواه الترمذي- وهذا يدفعنا لقراءة هذه الصلة بين الإنسان وربه على ضوء مفهوم أوسع، ألا وهو العبادة التي ينال بها الإنسان رضا الله والمواظبة على طاعته، ومن آداب الدعاء أن يكون لعامة المسلمين كما قال أبو الأنبياء إبراهيم (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم: 41] وأن لا يدعى به في الإثم كقطيعة الرحم أو ما شابه ذلك، كما ينبغي أن لا يستعجل الإنسان إجابة الدعاء، حيث إن الله مستجيبٌ حتماً ولو بعد حين، وفي التأخير حكمة، ولعل في عدم الإجابة عطاءٌ يفوق الإجابة الفورية..

إن القيمة العظيمة للدعاء بيّنها الله في القرآن، وفي حال لم يتنبه المسلم إلى أهمية الدعاء لحياته من خلال تدبر كتاب الله فعلى الأقل يجب أن يفعله اقتداء بالأنبياء والصالحين حيث كان الدعاء دأبهم ومنهجاً يستخدمونه في حياتهم وهذا يدل على فهمهم لهذا المفهوم العظيم الذي شرعه الله.

خلاصة القول إنّ الرغبة في الدعاء دليل على تعلق القلب بالله ويقينه بالاحتياج المطلق له، لكن هذا الدعاء لا ينتقل ليكون علاقةً بين الخالق والمخلوق إلا إنْ تفكر الإنسانُ بالدعاء كأداةٍ فعالة يستخدمها في حياته ويدّخر بعضاً منها لآخرته

 

 

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد