في الدعوة: آداب وأحكام

image_print

قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِۚ﴾ [آل عمران، 104] قال ابن كثير: “والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه” (تفسير القرآن العظيم، ص387)

ولكمال حكمة الله، ورحمته، وعدله فإنه شرع للمؤمنين منهجا متكاملا، وسبيلا واضحا للدعوة إليه، واستنقاذ الناس من براثن الشرك، وأدران المعاصي، وقد تراءت معالم هذا السبيل بإرشادات نيرات، ونفحات عطرات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، تناثرت كالدر في آي القرآن، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِۚ﴾ [النساء، 165]

الأصل الجامع لكل الأصول في الدعوة:
قَالَ تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل، 125]. وهذه الآية الكريمة منهج رباني متكامل،وأصل جامع لأساليب الخير وسبل الرشاد في الدعوة إلى الله،ومعظم القواعد الأخرى الواردة في القرآن الكريم إنما تعود إليها وتنبثق عنها،وللسعدي كلام نفيس في تفسير هذه الآية،يقول: “أي ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح “بالحكمة” أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده.

من الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبداءة بالأهم فالأهم وبالأقرب إلى الأذهان والفهم،وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة: وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب. إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله، وإهانة من لم يقم به، وإما بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعيه إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن: وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا. ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنه أقرب إلى حصول المقصود،وألا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها،بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق،لا المغالبة ونحوها (تفسير السعدي، ص452).

******

وتفصيلا لما سبق، وتتبعا لآيات القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي حكمه، نجد من الأساليب الدعوية ما يلي:

استنطاق الفطرة:
فلما كانت النفوس مجبولة على توحيد الله تعالى والإيمان به، وجهنا الله لمخاطبة هذه الفطرة، وندائها، ومسح غبار الشرك المتراكم عليها، حتى تستيقظ من غفوتها، وتعود بصاحبها إلى بر الأمان، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًاۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاۚ﴾ [الرّوم،30]

وفي قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف،39] نرى عفوية الخطاب، وفطريته، ومباشرته، وكأنه من المسلمات وهو كذلك.

استنطاق العقل:
فللعقل السليم مبادئ ضرورية لا يستطيع تجاوزها أو الفرار منها، لذلك وجه الله سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة البراهين العقلية الحتمية على المجادلين، إشهادا لعقولهم عليهم بالحق، ففي قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍۖ﴾ [يس،78-79]

دحض الله إنكار المشركين للمعاد، بأنه هو الذي خلقهم أول مرة بعد أن كانوا عدما، وهذا قياس بالأولى، وهو مسلك عقلي سليم. وكذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور،35] وفي هذا تقسيم وسبر، يشهد العقل بعده بفساد كل تصور إلا الإيمان بالله.

و يدخل في هذا الأسلوب: الاستدلال على العباد بالآيات الكونية، ومظاهر الربوبية، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصّلت،53] وما أكثر الآيات التي تعدد عجائب صنع الله في هذا الكون، وتبين بديع خلقه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران،190]

إظهار تناقضات المخالف وبهتان حجته:
قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران،183] فبين الله كذب أهل الكتاب، وكفرهم بتناقض دعواهم مع ما فعلوه بأنبيائهم لما أتوهم بالحجج والبراهين وبالذي قالوا.

الترغيب والترهيب:
قَالَ تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَۖ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأنعام،48-49] فالله سبحانه أمر مرسليه أن يبشروا عباده الذين استجابوا له وأطاعوه بالجنان ونعميها، وأن ينذروا من كفر وعصى من النار وسعيرها، والآيات التي تفصل في وصف الجنان وسكانها، والنار، وأهلها كثيرة في كتاب الله.

 ومما يدخل في هذا الباب، ترغيب أهل الإيمان بما يحصل لهم من نور وطمأنينة في دنياهم، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد،28] وترهيب أهل الشرك والمعاصي بما يحصل لهم من التخبط في الضلالات، والغرق في الظلمات، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِۗ﴾ [الأنعام،39]

الإنذار والوعيد بعد الحجة والبيان:
وذلك بعد أن يبين الله لعباده الحق بالحجة، ينذرهم من عذاب شديد إن هم كفروا، وأعرضوا عن الحق إلى الباطل، قَالَ تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصّلت،13]

الدعوة للاعتبار من حال الأمم السابقة:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿۞أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [غافر،21] فالإنسان قد يغشاه من الكبر ما يغشاه، فإذا سار في الأرض، ورأى ما حل بالأمم السابقة من عذاب وهلاك لما عصوا الله، فقد يعرف قدر نفسه فتنزاح غمامة الغرور عن بصيرته، فيبصر الحق، فيؤمن به. وقد قص الله في القرآن من أنباء الأقوام الظالمة كعاد وثمود وغيرهم ما فيه عبرة للبشر.

التذكير بنعم الله سبحانه على العباد:
وهذا ينفع في دعوة المسلمين خاصة، فالمسلم حين يتذكر ما أنعم الله عليه من نعم غزيرة، ويرى كيف هو يكفر هذه النعم بمعصية الله، وعدم استخدامها في طاعته، ويتخيل ما سيؤول إليه حاله لو حرم من هذه النعم، لربما يرق قلبه حينها، ويرعوي عما هو عليه من معصية الله، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَۖ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الملك،23].

******

ومن القواعد الواجب اتباعها، واللازم توافرها في الدعوة حتى تؤتي ثمارها:

الالتزام بمنهج النبي ﷺ:
فمن حاول أن يلتمس سبيلا غير سبيله، أو ينهل من غير معينه لأي سبب وفي أي زمان ومكان، فلا أحسبه إلا أخرق ترك أنهار الجنة ليغرق في مستنقعات الدنيا، قَالَ تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِۚ﴾ [الأنعام،153]

الوضوح واليقين:
أي أن يكون منهج الدعوة واضحا مستبينا مبنيا على العلم واليقين، وكذلك الهدف وهو إدخال الناس تحت مظلة التوحيد، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِيۖ﴾ [يوسف،108] 

عدم الرضوخ للأهواء:
قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَۖ﴾ [المائدة،49]

يقول الشيخ إبراهيم السكران: “ولا أشد على العامل للإسلام من تلك الفتنة التي حذر منها نبيه صلى الله عليه وسلم وهي فتنة استمالة المدعوين، والرضوخ لهوى المكلفين، والانصياع لضغوط مألوفاتهم، وتوجيه التعاليم الإلهية بالشكل الذي يرتاحون به، ويميلون إليه” (مآلات الخطاب المدني278)

التجرد لله تعالى:
وذلك بأن يعتقد الإنسان اعتقادا جازما أن الدعوة التي يقوم بها ليست لذاته، ولا لمصلحته، ويتحرك في جميع أحوال دعوته وهو يعتقد أنه يأوي إلى ركن شديد قادر على تأييده. قَالَ تعالى: ﴿۞يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِۗ﴾[المائدة،67] ويظهر التجرد لله في الآيات التي تذكر النبي ﷺ أنه مبلغ ومنذر وليس له من الأمر شيء، قَالَ تَعَالَىٰ:﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِۗ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد، 7]

ومن التجرد لله عدم الحزن، أو الشعور بالمشقة إن أعرض الناس عن دعوة الله بعد أن تقوم عليهم الحجة، فالداعية ليس حفيظا على الناس،وإنما هو مجرد مبلغ للرسالة، وأما الهدى فعلى الله وحده، قال تَعَالَىٰ: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام،35]

ومن التجرد ألا يكره الداعية الناس على الإسلام، لأن الحق بين، والهداية بيد الله وحده، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًاۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس،99]

الدعوة للجميع:
فلا ينشغل المسلم بدعاء القوي ويترك دعاء الضعيف، فالغرض من الدعوة هداية البشر إلى الحق، واستنقاذهم من النار أيا كانوا، والدين لم يأت ليستقوي بأصحاب النفوذ أو يعتز بهم، بل الدين هو الذي يبث العزة في قلوب حامليه، فيرفع بالاستقامة من وضعتهم قوانين البشر، ويذل من رفعتهم أعرافهم، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام،52].

المشورة والرفق واللين في الدعوة:
قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِۖ﴾ [آل عمران،159] قال السعدي: أي برحمة الله لك و لأصحابك، من الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك، وأحبوك، وامتثلوا أمرك. ﴿ولو كنت فظا﴾ أي: سيء الخلق، ﴿غليظ القلب﴾ أي: قاسيه، ﴿لانفضوا من حولك﴾ لأن هذا ينفرهم، ثم أمره الله تعالى أن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان. ﴿وشاورهم في الأمر﴾ أي الأمور التي تحتاج إلى استشارة، ونظر، وفكر، فإن في الاستشارة فوائد، منها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، فإن من له الأمر على الناس–إذا جمع أهل الرأي والفضل، وشاورهم في حادثة من الحوادث–اطمأنت نفوسهم، وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، فبذلوا جهدهم في طاعته لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك. (تفسير السعدي، باختصار ص154)

التنويع في أساليب الدعوة:
فإن الناس قد تختلف أحوالهم وأفكارهم، فمن الحكمة أن ينوع المسلم في الأساليب المشروعة في الدعوة إلى الله، فها هو نبيُّ الله نوح عليه السلام يدعو قومه بالسر والعلن، يرغبهم بمغفرة الله، ويحذرهم من عذابه، ويذكرهم بنعمه، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح، 8-9].

******

ومن الآداب التي يجب على الداعية أن يلتزمها في نفسه:

الإخلاص لله تعالى:
أي أن يكون الإنسان محتسبا أجره عند الله، هدفه أن يرضى الله عنه، وأن يبلغ رسالة الهداية، لا الشهرة بين الناس وثناءهم، أو جني الأموال، وغير ذلك من حطام الدنيا، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًاۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِيۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [هود،51]

الإكثار من العبادة:
قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ*قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا*نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا*أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا*إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزّمّل،1-5]. فانظر كيف أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادة الليل وقراءة القرآن ثم علل ذلك بأنه سيلقي عليه قولا ثقيلا العمل به، وفي مقدمة ذلك الدعوة إلى الله، فلا بد للعامل للإسلام من تهيئة نفسه وتربية، روحه في مدرسة العبادة قبل البدء بهذا الجهاد العظيم وخلاله.

الصدق:
قَالَ تَعَالَىٰ:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة،119] فالداعي إلى الحق لا يليق به أن يكذب في سبيل دعوته، فهذا يصد الناس عنها، بل هي ليست بحاجة لكذبه، كيف وهي تنادي بالحق وعلى الحق قامت؟!

ويجب على الداعية أن يتحرى الصدق ويتمثله في أخلاقه ومعاملاته، وليس في مجال الدعوة فحسب بل في كل مجال، حتى يكون ثقة عند الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم عاش عمرا في قريش لم يشهدوا عليه كذبا قط، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس،16]

الصبر:
فطريق الدعوة طريق محفوف بالمكاره، مفروش بالأشواك فلا بد للداعية إلى الله من الصبر على أذى الناس، وإعراضهم، وقد أرشدنا سبحانه إلى وسائل تعين على الصبر، منها:

تذكّر حفظ الله لعباده، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَاۖ ﴾ [الطور،4]

الاقتداء بسير الأنبياء-خير دعاة إلى الله، قَالَ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ…﴾ [الأحقاف،35]

الذكر والاستغفار، قَالَ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [غافر،55]

التوكل على الله:
قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود،88]، فالداعي إلى الله يتوكل عليه في كل شأنه ويسأله أن يهديه ويهدي به، فلا هادي إلا الله، ولا موفق إلا هو.

التواضع:
قرآنقَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًاۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان، 18-19] فالنفس البشرية لا تقبل التكبر عليها، ولا تستجيب لمن أهانها ولو علمت أن ما يدعو إليه حق، ومن صور التواضع :القصد في المشي، وخفض الصوت في الحديث؛ تأدبا مع الله، ثم مع الناس، ومن التواضع: ألا يسخر الداعي إلى الله من عامة المسلمين لتقصيرهم، بل عليه الاجتهاد في دعوتهم، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ [الحجرات،11].

ومن التواضع: ألا يزكي الإنسان نفسه فالله أعلم بالمتقين، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء،49]

الهمة والنشاط:
فانظر إلى سيدنا نوح عليه السلام كم قام في قومه يدعوهم إلى الله دون كلل أو ملل مع إعراضهم، وتكبرهم، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت، 14]

الصمت إلا عن الخير:
فلا يكثر من الكلام، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يكون حديثه إلا مثمرا ينير دربا، ويقوّم فعلا، قَالَ سُبْحَانَهُ:﴿۞لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِۚ) [النساء،114]

الأدب في الحديث:
فلا يليق بمن يدعو إلى الله العظيم الحكيم: أن يتلفظ بما ساء وخبث من القول، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿۞لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَۚ﴾ [النساء،148]

التمثل بما يدعو الناس إليه:
فحري بمن يدعو الناس إلى الخير أن يبتدئ بنفسه، ثم كيف يستجيب الناس له إن رأوا من أقواله وأفعاله ما يناقض دعوته، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿۞أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة،44]

الحذر من الغيبة:
فقد يزين الشيطان للعامل للإسلام ذلك الذنب العظيم، ويلونه بصبغة شرعية، وهذا منزلق عظيم يجب على المسلم الحذر منه، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًاۚ﴾ [الحجرات،12]

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد