ظاهرة التعقيد في تصميم المدن الإسلامية القديمة
في كثير من الأحيان نجد ربطًا مباشرًا بين ضياع الإنسان وتشوّش أفكاره وبين الروحانية في بعض الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية الحديثة، ويتجلّى ذلك في اعتماد تصميم مساحات معقّدة ومتداخلة التي يشار إليها بمصطلح المتاهة Maze)) وتوصف في بعض الأحيان بمصطلح ((labyrinth الأكثر توصيفًا في الفلسفة الغربية، مع وجود اختلاف في تطور أنواع المتاهة على اختلاف تأويل فكرة المتاهة والهدف منها.

توضيح لمفهوم الجذمور والفطريات. المصدر: literariness.org
أشير لهذه المصطلحات في الأدب والفلسفة الغربية الحديثة بكثرة، كما نرى عند الفيلسوف جيل دولوز وعالم النفس فيليكس غوتاري، اللذان طوّرا المفهوم الفلسفي للـ “جذمور” (تعدّد الوجوه في إطار الجذر الواحد) في مشروعهما للرأسمالية والفصام (1972-1980)، فوفقًا لدولوز وجوتاري، فإن ثقافة ما بعد الحداثة تشبه “الجذمور” [مصطلح في علم النبات يقصَد به الجذر المتفرّع] أكثر من الشجرة.
إن الجذمور أو الفطريات كائن حي من ألياف حية مترابطة ليس لها نقطة مركزية أو أصل مؤكّد، ولا شكل أو وحدة أو بنية معينة. لا يبدأ الجذمور من أي مكان أو ينتهي في أي مكان؛ بل ينمو من كل مكان، وعلى هذا النحو، فإنه لا يوجد للجذمور مركز، مما يجعل من الصعب اقتلاعه أو تدميره(1)؛ لأن “الجذور” ليس لها بداية أو نهاية؛ إنه دائمًا في الوسط، بين الأشياء، فهو اللحن الفاصل كما أنه نقطة البداية، فالحركة المستمرة من الجذمور تقاوم التسلسل الزمني والتنظيم، وبدلاً من ذلك فإن الجذمور يفضل نظام الترحّل للنمو والانتشار.
الجُذْمورُ وشتات ما بعد الحداثة
قد يكون هذا الشرح مناسبًا لمفهوم الهوية الفردية والجمعية للثقافات المختلفة في عصر ما بعد الحداثة، وقد يكون الجذمور الوجه الأمثل لتشبيه المقاومة الحاصلة لرفض التمركز الحاصل في الحداثة، وأيضاً يمكن التخمين أنه قد يكون رد فعل لمن لا يعرفون تاريخهم أو لا أصل واحد محدد لهم. فيكون جوهر وجود هؤلاء الأشخاص مبنيًّا على ربط الظواهر وتفسيرها اللحظي والتأقلم مع اللحظة الراهنة.
لقد أعطت الحداثة صورة شمولية للواقع بغض النظر عن السياق أو الظروف، إلا أنه تبيّن أن الوصف لا يغطّي جميع تجارب البشر، وهذا ما دعا بعض البشر إلى تطوير التشابُك الخاص بهم، ليكون مبنيًّا حصراً على التجارب الشخصية والتفاعلات مع البيئة، كما هو حال الجذمور، فيكون هذا التشابك مرتبطًا بشكل مباشر مع التكيّف اللحظي بالسياق الدقيق والخاص، وقد يكون من دون اعتبارٍ مباشر للنظرة الشمولية للواقع.
هل بنيت المدن الإسلامية على نظام المتاهة العشوائية؟
من الممتع حقيقة التوسّع في موضوع الجذمور والظواهر الفكرية القريبة منه، ومن الجميل فهم الواقع بناء على هذه النظرة المتشعّبة، إلا أننا قد نحتاج معرفة نتائج هذه الفلسفات قبل ربطها بأنماط محددة، فمثلاً نجد الربط الدائم ما بين مفهوم المتاهة labyrinth وبين تصميم المدن الإسلامية القديمة لدى بعض المستشرقين أو الناقدين(2)، وبالرغم من أن تصميم المدن القديمة كان معقداً ومتداخلاً بالفعل، إلا أن هذا لا يعني أن ذلك التعقيد والتداخل نابع عن العشوائية كما في حال ما بعد الحداثة أو مفهوم الجذمور، بل لأنها مصممة على نمط معيّن من المدن الإسلامية، بل إن المدن الإسلامية بريئة من ربطها بالعشوائية!
وأيضاً قد يكون هذا المنحى عند الربط بين ما هو طبيعي وعفوي وبين ما هو بدائي. فمع أن الإسلام مبني على الفطرة والطبيعة الأصلية للبشر، إلا أنه ينبغي التأكيد أن الإسلام لا يقبل أن نكون بدائيين، وبذلك فإن الواقع الإسلامي لا يكون مبنيًّا فقط على حالة البداوة بمعناها البسيط من حيث الاستجابة المباشرة للواقع دون تخطيط، بل إنه يطلب منا أن نتخذ القرار بشكل تنظيمي وغير عشوائي.
جمعت الحداثة الغربية كل ما هو غير (حديث) –بالمعنى الاصطلاحي- في خانة واحدة تحت مسمى (exotic) أي الغريب والشاذ وغير المألوف، وبهذا فإن تصميم المدن الإسلامية قد يكون متشابها مع المتاهة كما في تصميم المقابر الأوروبية القديمة، أو المتاهات الشيطانية المستوحاة من الأساطير اليونانية.(3)

مسقط رأسي لأحد أحياء المدن الإسلامية القديمة. المصدر: urbanplanningschool.blogspot.com
أين الإنصاف في هذا الادعاء؟
إلا أن التأكيد على أن المقصود بهذا التصميم هو العشوائية فإنه أمرٌ غير دقيق وبعيدٌ عن الإنصاف، وقد أفاض البروفيسور مصطفى بن حموش في الحديث عن ظاهرة عدم إنصاف المستشرقين في ربطهم المدن الإسلامية بالعشوائية وخضوعها للتصرفات الآنية للأفراد، وعدم وجود نظام هندسي تقوم عليه(4) فأكد بطلان الربط بالعشوائية، حيث إن العمران هو وعاء تتشابك فيه حقوق الأفراد والجماعات وتتدافع فيه المصالح(5).
إن الكثير من الأشكال الهندسية المعقدة يمكن تفسيرها عبر التفاعل بين الأحكام الفقهية والمعطيات المتميزة لموقعٍ ما في المدينة، وذلك مثل استقبال القبلة، والتعلّي في البنيان، ومنع التكشّف وغير ذلك مما نجده من مسائل في كتب الفقه الإسلامي والنوازل والفتاوى(6).
ومن الجدير بالاهتمام أن نرى العمران الإسلامي من منظور آخر، فيكون أخذ قرار في البناء أو الهدم أو التعديل أشبه بإصدار فتوى شرعية مناسبة لذلك السياق، حيث إن من فقه العمارة الإسلامية الاعتماد على مبدأ نفي الضرر.
لكن السؤال هو: هل المعماريون المسلمون الآن مؤهّلون لإصدار هذه الفتاوى؟
بالرجوع لمفهوم المتاهة في البناء فإننا نرى أن المتاهة نتيجة وليست منهجًا، ومن هنا فقد يكون الاطلاع على مخططات وخرائط المدن الإسلامية القديمة مرجعًا مهمًّا لحل شيفرات كثيرة، ومعرفة كيف توصلوا لهذه التصاميم المعقدة، وهذا الأمر –كما يرى مالك بن نبي (7)- إن تحقق فإنه سيعيننا في إدراك ميكانيكية الظاهرة وتصوّر المنهج.
المراجع:
- المفهوم الفلسفي للجذمور: https://cutt.ly/jvZ5rKF. تاريخ الزيارة 23/04/2021
- في كتاب للباحثة سمية فلاحات، والذي هو رسالة بحثية تجمع بين الاستشراق والاستغراب، ولعلنا نخصص لها مقالًا منفصلًا. Falahat, S. (2014). Re-imaging the City. Springer: Berlin
- مقال عن أساطير يونانية وعلاقتها بمفهوم المتاهة. https://www.worldhistory.org/Daedalus/. تاريخ الزيارة 23/04/2021
- د. مصطفى بن حموش، فقه العمران الإسلامي من خلال الأرشيف العثماني الجزائري، دبي، 2000، دار التراث وإحياء التراث، ص 7
- المصدر نفسه. ص 29
- المصدر نفسه. ص 30
- مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر، ص 62
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!