صراع العلم والدين .. بين الماضي والحاضر

image_print

تنتشر بين العامة شبهات حول تخاصُم النصوص الدينية مع حقائق العلم، وموقف الناس يتعدد بين منحاز للدين في معزل عن العلم، ومنحاز لطرف العلم متشكك في الدين، وبين موقف وسطي يسعى للتوفيق بين كليهما بما يتقبله العلم الحق والتفسير الموضوعي، إلا أن الموقف الذي يتبناه كل من له اطلاع على التاريخ الإسلامي هو موقف عدم فهم ذلك الفصل بين العلم والدين من الأساس، إذ إن العقلية الإسلامية لم تفصل بينهما يوما!

الإسلام والعلم

من المعلوم لجميع الناس أن أول أية نزلت من القرآن الكريم افتتحها الله بقوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1] فلا عجب أن تكون الحضارة العلمية في الإسلام تختلف عن أي حضارة أخرى. فالإسلام يقر أن البحث والاطلاع والتزود من العلم على ضوء ما يرضي الله هو بوابة للدين في الأساس! وامتدح الله أهل العلم بقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] وعلى الرغم من كون الحضارة العلمية في الإسلام لم تكن أول حضارة –من حيث النشأة- تاريخيًّا، إلا أن سماتها وإنجازاتها جعلتها الحضارة الأولى في التاريخ بحق، وذلك من عدة جوانب:

أولا: كانت العلوم في شتى الحضارات حكرا على فئة قليلة من الناس يشار إليهم باسم معيّن كالفلاسفة أو الكهنة، ولم تُشَع قضيّة العلم لتشمل كل الناس بهذا الشكل إلا في الحضارة الإسلامية.

ثانيا: ظهرت في الحضارة الإسلامية -ما يمكن تسميته- بـ الفرق العلمية، وهو أن يجتمع كذا عالم في غير تخصص ليتعاونوا جميعا في مشروع علمي واحد، فكُلٌّ يستفيد من تخصص غيره عبر تبادل المعارف.

ثالثا: وصل الأمر بالمسلمين إلى إنفاق الأموال سواء من قبل الولاة والحكام أو حتى التجار وأصحاب المال، بهدف نشر العلم ونقله كما جرى مع إنشاء الأوقاف لدعم المعلمين وطلبة العلم وكذلك ما جرى من ترجمة كتب اليونان في علوم الطبيعة إلى اللغة العربية، حيث ابتدأت الترجمة في أواخر الدولة الأموية في بغداد، مما أدى إلى توفر ثورة معرفية في علوم الطبيعة بين يدي العامة.

رابعا: لم يقتصر دور المسلمين على استيراد العلوم، بل إن العلماء مثل ابن الهيثم، والبيروني، والكندي وغيرهم أضافوا على الكتب اليونانية عنصر التجربة العملية وأسسوا المنهج العلمي التجريبي لأول مرة في تاريخ البشرية.

خامسا: كان لكثرة حث القرآن الكريم للنظر في الطبيعة دافعا للتبحر وتأسيس الكثير من العلوم، وبما أن المكانة التي وضعها القرآن للإنسان كانت الخلافة، فمبدأ بناء الكون وإعماره هو معتقد إسلامي بحت، وكان هو الدافع الأكبر وراء معظم الاختراعات التي ساهم بها المسلمون في الحضارة البشرية!

ولعل هذا المرور الخاطف يوضح لنا موقف الدين الإسلامي من العلوم الطبيعية، موقف فيه تواؤُم وتجانس بين الدين والعلم، ولذا فإنه لم يعرَف في تاريخ الحضارة الإسلامية الفصل بينهما.

النهضة الأوروبية

بعد قرون طويلة من احتكار الكنيسة للمعارف والعلوم وشيوع الأمية والجهل في مرحلة ما يسمى بعصور الظلام، بدأ العقل الغربي في التحرك بدءا من القرن الحادي عشر. وانطلق يتحسس خطاه في العلوم الطبيعية من مصدرين اثنين. أولهما ترجمة الكتب اليونانية والكتب الإسلامية في العلوم إلى اللغة اللاتينية. أما الثاني فبالاحتكاك المباشر مع المسلمين في بلاد الأندلس والشام ومن هاجر إليهم من العلماء المسلمين.

وعلى مدار القرون تحول الغرب من مستورد للعلوم إلى مستقل بذاته عن طريق أخذ المنهج العلمي التجريبي عن المسلمين عن طريق (روجر بيكون) و(غاليو) و(فرانسيس بيكون) و(ديكارت). وبدأ العقل الغربي يقف أمام الطبيعة بين نصوص الكتاب المقدس المحرفة بالوثنيات والأساطير، وبين العلم الرصدي القائم على البحث والتجربة. فلا عجب أن تتعارض نصوص الدين مع ما وصل إليه العلم عندهم. ونشب عن ذلك التعارض علماء يدعون أن الدين هو إقحام فكرة الإله لسد الفجوات المعرفية، وأن الدين هو الرواية الخرافية عن الطبيعة، على العكس من العلم الذي يبنى على الأدلة والبراهين، ومن هنا بدأت المخاصمة بين العلم والدين.

ونتج عن التعارض بين الكتاب المقدس والعلم فرق شتى، لكل منهم موقف ما من هذا التعارض. فهناك من أقر أن الكتاب المقدس عصمته محدودة، ولا بأس أن يخطئ في حقائق العلم والتاريخ، وهناك من أقر أنه وحيٌ عن طريق الإلهام ولكنه غير معصوم. وظهر من قرر الإيمان بالإله المحض بعيدًا عن العقيدة المسيحية مثل نيوتن وآينشتاين، وظهر اللا أدريون مثل دارون. فبين المسيحية المحرفة والعلم، كان الصراع بين أساطير الأولين والحقيقة العلمية.

وقد انتهى الصراع بين العلم والدين في أوروبا بغلبة المنطق الوضعي أو العلموي ظاهريًّا، وبدأ عصر العقل عند الغرب وهو ما يسمى بعصر الأنوار، فالدين –المسيحي– عندهم هو سبب التخلف في العصور الوسطى، والتقدم الحضاري لن يحدث إلا إذا تمردوا عليه! وكما أن الغرب استوردوا من المسلمين المنهج التجريبي لتقام لهم ثورة معرفية، استوردوا من المسلمين مبدأ تسخير الكون القرآني، {وَسَخَّرَ لَكُم مَا في السَّماواتِ ومَا في الأَرضِ} [الجاثية: 13]

وبعد تَحوُّل العقلية المسيحية من النظرة الخرافية التي تفسر كل ظواهر الطبيعة على نحو متناقض إيمانيًّا وعقليًّا وعلميًّا، إلى النظرة العلمية التجريبية التي تسعى لتسخير المادة لمصلحة الإنسان، انطلق الغرب في بناء حضارته ماديا وتكنولوجيا. وللمرء أن يقول -بكل ثقة- إن حضارات غير المسلمين وقفت –باستفادتها من علوم المسلمين- على أكتاف النظرة القرآنية للوجود، ولولا وضع القرآن الإنسان في مكانته الصحيحة من هذا الكون لما قامت لأي حضارة من تقدم!

الإسلام والعلم في العصر الحديث

أثناء التقدم الغربي الذي وازى التأخر الإسلامي -بسبب عدة عوامل أخرى كضعف دولة الخلافة العثمانية- وما تبعه من غزو فكري وثقافي من الغرب العلماني، بدأت موجات تشكيك المسلمين في الدين بإعادة إحياء صراع العلم والدين الذي حدث في الغرب منذ قرون. ولأن كثيرًا من المسلمين يجهلون التاريخ المشرق للإسلام الذي طُمِس وأخفي، ظنت الأجيال الناشئة أن هذا التخلف وليد التعاليم الإسلامية، وما هذا إلا لسيطرة الغلبة الثقافية التي أسهمت في تهوين شأن الدين في نفوس المسلمين أمام المستعمر العاتي!

لعل الإنسان لو قرأ النصوص الإسلامية وهي تلح على طلب العلم – وخاصة العلوم الطبيعية – لاستبعد كل البعد أن تكون نبرة التحدي القرانية تلك مؤدية إلى الشك! ولعل القراءة في تاريخ المسلمين والأسباب الرئيسية وراء نهضتهم العلمية تدفع لاستهجان تلك الشبهة المتهافتة، وزيادة على ذلك، قد يستزيد المسلم بمعرفة منهجية التعامل بين الدين والعلم ليكون على بصيرة إثر وقوع تعارض في ظاهر الأمر، إذ إن القاعدة العامة تنص أن الحق لا يتعارض مع الحق، فلو حدث تعارضا في ظاهر الأمر فذلك يعود لتصادف الحقيقة العلمية مع خطأ في تفسير النص، أو مصادفة خرافة علمية لنص سليم الدلالة.

أما في التفريق بين الحقيقة العلمية والخرافة العلمية فيكون بمعرفة الخط الأحمر الفاصل بينهما، وهو الرصد والتجربة، فلو أخلفت لنا المعامل نظريات مثبتة بالتجارب والأبحاث المحايدة لكان بين أيدينا قولٌ علميٌّ لا يشوبه شك، ولو كنا نتعامل مع فرضيات لم تعرف طريق التجربة خرافات العلم الزائف pseudoscience أو افتراضات نظرية على أبعد تقدير.

أما عن النص الديني، فالأمر ليس بمثابة النص الإنجيلي في الكتاب المقدس الذي يقرأه كل إنسان بشكل شخصي ويفهمه كما يشاء. كلا، فلا يمكن للمسلم أن يتجاوز علم التفسير بكل ما فيه من منهجية وتعقيد ثم يقرأ النص ويفهمه في معزل عن القواعد التي توافق عليها العلماء على مر القرون السابقة.

والتفسير العلمي للنص الديني لا يتناقض مع سلف العلماء، بل يوسع تفسيراتهم! فلو كان العلماء يفسرون القرآن على ضوء المعاني اللغوية فإن التفسير العلمي يضيف بعدًا أعمق مستفادًا من مكتشفات العلوم، بشرط أن تكون علوما يقينة لا مجرد فرضيات في مرحلة الشك والتجربة.

وبين مواقف المسلمين من دعوى تعارض العلم والدين، يقرر المسيحي الغربي موقفه من الجدال، أما المسلم، فلا يفهم طبيعة الجدال أصلا، لأنه يتعارض مع المبادئ القرآنية حول صلة الإنسان بالعلوم الطبيعية، ولأنه غريب كل الغرابة على من يحوي تاريخه على قادة العلوم الطبيعية، ولم يفهموا فصل العلم عن الدين يوما!


مراجع للتوسع:

  • العلم وحقائقه بين سلامة القرآن الكريم وأخطاء التوراة والإنجيل، د.سامي عامري
  • ماذا قدم المسلمون للعالم، د. راغب السرجاني
  • الرسول، سعيد حوى

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد