دعاوى كبيرة في قوالب جاهزة
ليس ثمة شيء أصعب من أن تعاني عمرك كله في عقدة نقصٍ تذكَر كلما ذُكِرتَ! هذا ما يمكن الإشارة إليه بشكل عابر، إلا أن المراد من ذلك التعريج على العقدة التي تلازم عامة المسلمين حتى أصبحوا يعانون ممّا يسمّى “عقدة الإسلام”، فصار لزامًا عليهم أن يعملوا على تلميع صورتهم في كل محفل ولقاء.
هذا التشكيك الذي نعيش حملاته علينا داخليًّا وخارجيًّا دفع كثيرًا من المسلمين لأن يغفلوا عن كمال الشريعة التي جاء بها الإسلام، واندفعوا يشككون بجدوى الدعوة له أو التديّن به، لقد ابتعدوا عن أن يكون أعزة بدين الله.
الطريق للتخلص من القوالب الجاهزة
لن يكون غريبًا أن نسمع بشكل شبه يومي قواعد تردُ على ألسنة الناس وقنوات الإعلام وصفحات التواصل، تختزل الدين وتعاليمه ضمن مسمّيات منفّرة، فأضحت الشرائع التي تهدف إلى حماية المرأة –مثلاً- ضغطاً وتحكماً، وكذلك صار قول الحق أو حكم الشرع بشيء معين تطرفًا أو عنفًا وشرًّا وقسرًا على شيء ما.
في حقيقة الإمر فإننا بحاجة ماسة إلى النظر في ديننا بعيون مختلفة وربما استخدام عدسات مناسبة تعزز الرؤية وتقلّص التشويش الحاصل، وكما أخبرنا رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ الحلال بيّن والحرام بيّن، وإننا مطالبون أمام الله سبحانه بتحرّي الدقة والصواب عند كل تصرّف ومع رفّة كلّ جفن، فنحاكم الأمور بما يناسب أمر الله، ونسأل أنفسنا: أهذا يرضي الله أم يغضبه؟
هذا يقودنا إلى ضرورة سؤال أهل الذكر وحتمية الحاجة إليهم في كل عصر، والطريق لذلك يكون بأن نتحرى أقوال الفقهاء وإجماعهم في المسائل وألّا نتخَطَّف الشاذ منها لمصلحة أو هدف، وألا نخشى إلا الله ربنا في ذلك، فنرمي حملنا عليهم ونتوكل على الله ونفوض إليه أمورنا كلها، فيكون أي ذنب اقترفوه أو تسبّبوا لنا فيه أوزاراً يحملونها يوم القيامة، لكننا على الأقل نحافظُ على وحدة أمرنا ونتجنب شتات الحال.
فهم الإسلام طريقٌ للدفاع عنه
علينا أن نكون على يقين بأنه لا وجود للتناقض بين واجبات المسلمين وبين التعايش مع بقية الناس فوق أرض واحدة، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب أصيل في كل وقت ومكان مهما اختلفت العصور، إلى أن نلقى الله وأحدنا قابض على دينه كالقابض على جمرة حين يكثر اللغط والخبث والفساد وتصبح معرفة الحق منوطة بصاحب الفراسة والبصيرة.
سنجد دوماً أشخاصاً –بالأمس واليوم وغداً وفي المستقبل- يفكرون بطريقة مختلفة منبثقة من حيث لا ندري، وستتسبّب أفكارهم بتشكيكنا حتى بأنفسنا ومبادئنا وتمسكنا بشريعة ربنا، وسنصل إلى وقت يكون فيه أكثر أهل الأرض متبعين لأهوائهم وأمزجتهم.
بالنسبة لي –على الأقل- فالحل السحري هو في جلسة تصالح مع نفسي، بصحبة ورقة أكتب فيها، ترى لماذا أشعر بالحرج من النقطة الفلانية أو أتجنب الاستماع إلى الشيخ الفلاني.
اتبع ذلك، ستجد بكل بساطة أنك تعاني من سيطرة فكرتين أو ثلاث على عقلك، بحيث يجعلونك في موقف عداء وتوتر مع دينك كلما ذكرت تلك النقاط، والحل في أن تتحرى كل قضية تسبب لك توتُّرًا بصدق، وأن تبحث عن الحق لتعرفه وتقف عنده، وأن تسأل وتستفتي العلماء والفقهاء للوصول إلى الحق، وأن تعاهد نفسك على قبول نتائج بحثك كما هي دون أن تسمح لنفسك بالخلط بين تقصير الدولة مثلاً أو القضاء، وبين تشريعات الله العادلة.
قد نقول مما يشتهر على اللسان بين الأوساط العامة “يضيع حق المرأة إذا طُلِّقَت أو مات زوجها”، والسبب ليس له علاقة بالدين وإنما أشياء أخرى كقصور القوانين القضائية أو تلاعب القضاة والرِّشَى.
لكن تعاليم ديننا توضّح أن المرأة تتربّع على هرم المجتمع والأسرة وهي حجر أساس في كل مشاريع الحياة، فالشريعة الربانية تحوي خلاصة قِيَم العدل؛ إلا أن فكر كثير من الناس –للأسف- قد تلوّث وتأثر بمشوشات خارجية لا حصر لها، فبتنا اذا سألنا أحدهم “ما هو مفهومك عن الحكم بالشريعة؟” ستجده يتصبب عرقاً خائفاً أو ملتهباً من شدة الغضب، وهو يصف الفكرة بأشنع الألفاظ ويصف السائل بالتخلف والرجعية!
أين الخلل والحلّ؟
مردُّ هذا التعصّب هو تبعية الفكر وقصوره، فقد أصبح مصطلح الشريعة في ذهنه مرتبطاً بالعنف واللحى الطويلة والنساء المحجبات بالإكراه فقط، وهو فكر ارتضاه له الإعلام ومكّنه فيه.
إنّ الشرع الرباني على العكس من ذلك تماماً، فهو توظيف للعدل الإلهي والوحي السامي في حياتنا اليومية.
انظروا لأوامر الله في مثل قوله {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] فكم نحتاجها اليوم ونحن نرى أشنع التصرفات التي تعاكس هذا الهدي من فتيات وفتيانٍ يفترَض بهم أنهم مسلمون، ولننظر إلى آية الدَين، إنها أطول آيات القرآن، كونها آية شاملة جامعة تحفظ الحقوق منذ 1400 سنة.
أيعقَل أننا ابتلينا بالعمى، فيمتدح أكثرنا جملة من التشريعات الغربية مرفقة بعبارة مهترئة مفادها أنهم رائعون حقا، فهم “مسلمون بدون إسلام” حسنٌ، ما دمنا معجبين “بإسلامهم” فلماذا نخاف وننفر ونشعر بالضيق إذا ما سمعنا أحدهم يقول: لنجرب تطبيق التشريعات العادلة الإسلامية كما كانت يوماً؟
لماذا ينفر كثير الناس بسرعة من مقولة: الشريعة هي الحل؟
هذا المستنكر لتلك العبارات هو نفسه المعجب منذ دقائق فقط بنفس التشريع لكن بنكهة غربية فقط، فلم يشعر بالغثيان؛ إذ لم يطلَق على تلك الممارسات اسم “شريعة” لا أكثر.
يحضرني ههنا مثال ذكره أحد الدعاة يقول فيه: إن ربنا الحكيم خلقنا وخلق “كتالوجنا” معنا، فلو أنك اشتريت جهازاً جديداً فلا بد أنك ستحوطه بعنايتك وتخاف عليه من الهلاك، ومن أجل ذلك ستقرأ كل تفصيلة مذكورة في كتيب الاستخدام، وعليه فما بالك بنفسك، حيث خلقك رب عظيم فأحسن خلقك، وأرسل لك كتيب الاستخدام والصيانة ورسلاً تأخذ بيدك إلى بر الامان بأقل الأضرار، ولكن كان الإنسان أكثر شيء جدلاً.
جور الحكام لا مفر منه في كل زمان مهما اختلف، كما أنه سيكون لعلماء الدين أو حملة همّ الدعوة بعض الأخطاء من شخص لآخر بين الحين والآخر، وسيفتح باب التشكيك المجالَ لكل شيء يمكن أن يلوث نظرتنا للدين الحق ولروائع التشريع.
الحل أمامنا، أن نصبر ونتابع مجاهدة النفس بالتوازي مع الغوص في القرآن العظيم دستور الحياة الذي لطالما كان وسيكون حياة لقلوبنا قبل أجسادنا.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!