تصميم دور العبادة والروحانية الجديدة: بين الجمال الحسي والهروب من الواقع

image_print

في الحياة العصرية السائلة، باتت التغيرات الزمانية والمكانية تحدث بسرعة غير مسبوقة، حيث يمكن للإنسان الانتقال بين قارات واسعة في بضعة ساعات، وقد أثّرت هذه الطفرة بسرعة الانتقال في طبيعة تفاعل الإنسان مع بيئته سواء أدرك ذلك أم لم يدركه.

من المهم جدًّا فهم كيفيّة تفاعل الإنسان وتأقلمه الناتج عن التعوّد على سرعة التغيرات في العالم المادي، وإن لم نكن محيطين ومتفقهين لهذا التغيّر، فإننا قد نقع فريسة الجهل وذلك بجعل البيئة قادرة على التحكم بنا، حيث نصبح أشخاصًا منهكين نفسيًّا لكثرة التغيرات الطارئة، فلا نريد سوى الانعزال والانفصال المؤقت عن العالم.

وفي هذه الحالة سنكون قد أعطينا البيئة السلطة التامة للتأثير على وعينا وفهمنا للواقع المحيط، مما يجعل ردود فعلنا -وحتى توجهاتنا ورغباتنا- متوقّعة يسهل التنبؤ بها، ويجعلنا ذلك أشبه بحال المأسور والشخص الواقع تحت تأثير التخدير، فيعطينا المسؤول جرعة تخدير للحظات قبل استيقاظنا ومواجهتنا للواقع، قبل وعينا الكامل، ونحن نتوهّم أنه يساعدنا ويهتمّ بنا لأنه على دراية بما نحتاج.

Church of the Sagrada Família مثال على الجمال الحسي

طبيعة التدين وعلاقة الإنسان ببيئته
إن دين الإسلام الذي جاء خاتمًا للأديان، جامعًا شاملًا ينتظم فيه شأن الدنيا والآخرة، سواءً حق العبد وحق الخالق، لم يأمر بالرهبنة ولم تكن من جملة تعاليمه، ولم يطلب منا لنكون عابدين مقربين أن نخلو بأنفسنا في صومعة على رأس جبل.

في الوقت ذاته فإن الإسلام لم يتم ترك أمر العبادات مفتوحًا للناس لينشؤوا أنماط عباداتهم وطقوسها بأنفسهم، حيث إن ذلك كله ينتهي باتباع الهوى وتقديس الجمال الحسي وكل ما يجلب المتعة، بحيث تصبح المتعة هي الخير، وقد أرسى الإسلام منهاجه الواضح في العبادة وهذا يتطلب منا فهمه وتطبيقه كي نعيش باستقامة وراحة.

يلجأ المعماريون -عند تصميم دور العبادة- لتصميم أشكال وزخارف مبهرة تأخذ كيان الإنسان ووعيه، بحيث يدخل حالة من الدوار والانبهار، ومما يلفت النظر انحصار هذه التصميمات ضمن اتجاهين ونمطين واضحين.

يركّز النمط الأول على الجانب الجمالي الحسي، معتمدًا على التنظيمات الهندسية المختلفة والألوان الخلابة.

أما النمط الثاني فيعتمد على التجريد، وقد لا يكون جميلًا بالمعايير المادية الحسية، إلا أنه يؤثر على إدراك الإنسان ووعيه وإحساسه، من خلال الاعتماد على عنصر المفاجأة والمباغتة، وذلك عند تغيير سياق إحساس الإنسان بالوجود، وعدم وجود نمط معين في البيئة يمكّن الإنسان من بناء وعيه.

يحدث ذلك عندما يتم التركيز في التصميم على التأثير على الحواس الذهنية والمبادئ الفكرية للإنسان. وهو ما سنشرحه وسيتم توضيحه بالأمثلة القادمة.

Nasir al-Mulk Mosque مثال على الجمال الحسي

 Liminal Space العمارة الانتقالية
تعتمد الحداثة السائلة –في كثير من صور العمارة الحديثة- على مبدأ المكان الانتقالي الفاصل غير المحدد: بحيث لا يكون للمكان هوية محددة له، وإنما يكون مرحلة انتقالية متجددة متغيرة، ويروّجون للروحانية فيه باعتباره تلك اللحظة أو الفراغ بين الأرض والسماء، المدخل أو العتبة بين العادي أو المدنّس والديني المقدّس.

Saint Andrew the Apostle Church مثال على العمارة الانتقالية

في كلتا الحالتين من أنماط التصميم، يبعث التصميم العمراني مشاعر مختلفة، إلا أن السؤال هو:

ما هي المشاعر التي تنطق بها العمارة؟ وهل يعتبر من المناسب أخلاقيا أن يتحكم معمارٌّي بمشاعر الناس ووعيهم بأكثر الأماكن أهمية في حياة الإنسان؟ وهل كل المشاعر محبذة ومرغوبة؟ هل يمكن جعل معيار النجاح المعماري متوقف على قدرته على إدراك وتحفيز المشاعر؟ بغض النظر إن كانت هذه المشاعر هي السكينة أو الخوف أو الحزن أو السعادة؟

بالرغم من أن النمط الأول -المعتمد على الجمال الحسي- سهلٌ من ناحية مراقبته وفهمه، إلا أن النمط الثاني يحتاج إلى التمهل والتمحيص، كما أن تأثيره يتخلل بشكل هادئ وغير مباشر، فتركيزه منصبٌّ على التغيير المفاجىء وإحداث بيئة غير متوقعة تجعل الإنسان في حالة توهّج بسبب كثرة التغيرات الطارئة، تنتهي بمكان فارغ وهادئ تجعل الإنسان بحالة سكون أشبه بحالة تخدير.

هذا المكان الهادىء يعرّف بمفهوم الواقع المغاير Altered Reality. حيث عندما يكون المكان غير مألوف ظاهرًا وكأن الانسان يراه لأول مرة حتى وإن اعتاد للذهاب عليه، بحيث تكون إيحاءات المكان مختلفة عن الإيحاءات المعتادة في الأماكن الأخرى.

يمكن تشبيه ذلك بمن يزور مدرسته أيام العطلة، حيث إنه يزورها بشكل معتاد وهي مكتظة ومليئة بالناس ثم يراها فارغة في وقت لاحق، إن ذلك يوحي له بمشاعر أخرى مختلفة، حيث يكون تصوّر العقل للمكان مغايرًا للواقع وهذا التحدي والتوتر يؤثر في وعي الانسان.

وهذا يدفعنا للسؤال: أليس من الإجرام الأخلاقي أن يتحكم المعماري بالبيئة الخاصة للعبادة؟ والتي تعتبر المعبّر الأسمى لعقيدة الإنسان في وجوده والغاية منه؟ أليس من الأفضل ترك المساحة محايدة يتجرد فيها الانسان للتقرب لربه؟ دون مساعدات خارجية ومحسنات يستجيب لها الإنسان؟

لأي مدىً يمكن للمعماري أن يتحكم بالبيئة المناسبة للعبادة؟ ومتى يصبح تحكمه جريمة أخلاقية تمنع الإنسان من الانفراد بربه؟

التخبط العشوائي ليس من الإسلام ولا فائدة فيه
قد يتوهم للبعض أن التخبّط والتشتّت جزء من الرحلة الروحانية، إلا أن تعاليم الإسلام ترفض التخبط وتطالب الإنسان بمجاهدة النفس أمام دعوات الاعوجاج، وشتان الفرق بين مفهومي التخبط والمجاهدة، إذ الأول مبنيٌّ على التجربة العبثيّة فلا هدف له سوى استشعار اللحظة والوسيلة الموصلة إليها، والثاني مبني على الوعي والإدراك، وغايته تطهير النفس وإلزامها الفضائل ولا يولي لذلك الوسائل المادّية كبير اهتمام.

إن التخبّط العشوائي ليس من الإسلام في شيء، وهنا يمثُل أمامنا قوله تعالى: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك: 22]. في الاستدلال على ذلك، -حيث يذكر لنا القرطبي في تفسيره- أن الله ضرب لنا فيها مثلاً للمؤمن والكافر، فيسير الكافر منكّسًا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه، فهل يكون كمن يمشي سويًّا معتدلًا ناظرًا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. نفهم من ذلك أن التجربة لا تكون غاية بحد ذاتها, ووجود مشاعر واستجابة للبيئة لا يعني بالضرورة صدق الرحلة الروحانية.

مفهوم القبلة في الإسلام
قال تعالى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). [البقرة: 144]

 

يمكننا هنا أن ندرك أهمية وجود القبلة، فهي بوصلة الاتجاه الذي يوحّد جميع المسلمين في بقاع العالم كلّها، وقد نصّ الله على ذلك في قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].

ويذكر لنا الإمام ابن كثير في تفسيره الآية الكريمة أن المراد إنما هو طاعة اللّه عزّ وجلّ، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجَّه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر اللّه وشرعه.

مفهوم المحراب في الاسلام
نتفق أن التأقلم واجب في هذا العصر المتغيّر، لكن بنفس الوقت يكون من الكياسة أن يستغل الإنسان لحظات ثباته كي يبني عليه وعيه، متى سنحت له الفرصة، وينبغي أن يوجد مكان مألوف للإنسان، بحيث لا يكون مطلوبًا منه المرونة والاستجابة للتغير طوال الوقت كي لا يهدر طاقته، وهذا ليس هروبًا من الواقع بل ترتيبًا للأولويات، حيث ليس كل تغيّر يستحق التفاعل والاستجابة، فالمقاومة والثورة واجبة مع المحيط المادي.

وكذلك فإنه ينبغي وجود مكان يستقر فيه الإنسان ويثبت, وهو المحراب، بحيث يشعر فيه بالأمان ويعلم أن المحيط لن يتغير، بحيث لا يتلاشى ولا يتشتت وعيه ويجعل تركيزه منصبًّا على شيء واحد يمكن البناء عليه، وهو العبادة.


المراجع:

https://smarthistory.org/gaudi-sagrada-familia/

https://mostlyamelie.com/iran-writing-about-the-most-beautiful-mosques-everyone-needs-to-see/

http://www.wastedevangelism.com/wasted-blog/church-building-as-liminal-space-our-worship-experience-has-a-history-and-habits-that-promote-a-dual-spirituality

https://en.wikipedia.org/wiki/Saint_Andrew_the_Apostle_Church#/media/File:SaintAndrewtheApostleChurchjf9747_04.JPG

https://www.alro7.net/ayaq.php?langg=arabic&sourid=2&aya=177

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد