تجربة مع الموت: وصايا وعبر (4)

image_print

ما مررت به من تجربة مرضية خلال الأيام الأولى[1] وما تضمّنته من اختلاط المشاعر، وتزاحم الخواطر، حيث تمنيت لو أستطيع أن أمسك بكل شعور أو خاطرة وأدوّنها، إلا أنّ شعوري الأساسي الذي تمسّكتُ به وتحدثت عنه كثيرًا هو الشعور بقوة السند الذي آوي إليه، قوة الله عز وجلّ، فقد آويت “إلى ركن شديد”، حتى صرت أنظر إلى الدنيا من قمة عالية، وأشعر بتفاهة ما فيها من لذّات ومتاعٍ زائل، كما جَسَّدَها الباري عز وجل بقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد:20] ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد:26]، ﴿وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:35] ولم تَعد الكلمات تفي وصف بؤس وفقر هذه الحياة الدنيا، خاصة إن انطلق الإنسان من شعوره تخيلوا هذا بالنظر باستخفاف إلى كل ما حوله وكأنه في قمة السماء.

إنّ العبد الذي يلوذ بجناب الله عز وجل يأوي إلى ركن عظيم ذي مَنَعة وعزة وغنىً مطلق، وبذلك فإنه يصبح عبداً ربانياً ﴿وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران:79] فإن مات أو عاش، أو شُفي أو مرض، فإنما هو في قبضة الله عز وجل ومُلْكه، بين يدي عظمته وجبروته، لم يبق ثمة دنيا وآخرة، وموت وحياة، بقي الله عز وجل وحده ﴿وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:27]، وعبده المدلل المستكين بين يديه، المستسلم لأمره، المستميت أمام عظمته، يبدو كالطفل الضائع الهائم الذي وجد حضن أمه.

الإلحاد وسؤال الموت
حين كان يأتيني الشعور بحال العبد المؤمن بالله عز جل في تلك اللحظات، كنت أتسائل بحال الملحد، ما هو حاله ولمن يلجأ ويلوذ؟ وبمن يستجير في هذه اللحظات الصعبة؟

لا يستطيع الإنسان أن يتكبر ويتنكر في هذه اللحظات، مهما كان متجبراً ومتكبراً، لا بد أن تستيقظ في داخله عبوديتُه شاء أم أبى؟ اختيارا أو اضطرارا، لا بد أن يستيقظ ضعفُه، وتستيقظ هويتُه اليائسة، وتصحو طبيعته البائسة الحزينة، ربما يستطيع أن يستمر في التجاهل والنكران، ولكن إلى متى؟  لن يستطيع الاستمرار، لا بد أن تدمعَ عيناه، وتخورَ قِواه، ويستسلمَ لضعفه، ويبدأ بالبحث عن الملجأ والملاذ، كما قال الله عز وجل: ﴿حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]

إلى من تلجأ في مثل هذه اللحظات حين يحيط بك الموت أخي الملحد؟

في الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التنبيه إلى أن الملاحدة نوعان، نوع متكبرٌ، متجبرٌ متعالٍ على قضية وجود الإله، ومتعالٍ على الحقيقة، فلا يبحث عنها ولا يهتمّ لها أصلًا، بل وضعَ بينه وبين الحقيقة سدًّا من الكبر والطغيان، فنرى بعضهم -لشدة طغيانه- يطلب من الله عز وجل أن يَرميَ به جهنم، وأنه لا يريد معرفة الحقيقة ولا تهمُّه .

ونحن إذا نظرنا في القرآن الكريم سنجد أن هذا النوع من الملاحدة والكفرة المتكبرين هم الذين يُبكِّتهم القرآن ويتوعّدهم، ويتهدّدهم بالعذاب، ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:146] وأنه سبحانه تَوعَّدَهم بالإضلال والخذلان، لأنهم يرفضون البحث عن الحقيقة والقبول بها من حيث المبدأ.

أما النوع الثاني من الملحدين فهم الملاحدة المتواضعون الباحثون عن الحقيقة، الذين يبحثون عن أجوبة شكوكهم واسئلتهم بكل صدق، فتراهم يبحثون عن الله بكل تواضع دون أن تحجزهم الأهواء والمصالح والشهوات، وهؤلاء غالبًا ما يصلون إلى الإيمان بالله عز وجل، وغالباً تنتهي حياتهم بالهداية، وعلى كل الأحوال حتى لو ماتوا وهم يبحثون عن الحقيقة بصدق فإن نرجو من الله عز وجل أن يرحمهم وأن لا يُعذبهم، فَنَكِلُ أمرهم إلى الله عز جل فإنه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:23].

هذا النوع من الملحدين هم إخواننا في الإنسانية نرجو لهم الهداية والرشاد، ونرجو من الله عز وجل أن يهديهم، ولو في آخر لحظة من حياتهم، وأن يتوبَ عليهم، ويدخلهم الجنة، فهذا يَسرُّ كل مؤمن، ولا يضيّق علينا في جنة عرضها السماوات والأرض.

لهؤلاء أتوجّه: في لحظات الموت الأخيرة التي لا يبقى فيها إلا الإنسان وهو يواجه مصيره الحتمي والنهائي، ماذا تنتظرون؟ إلى من تلجؤون؟ بمن تستجيرون؟ كل الذين كانوا يحبونكم ويحترمونكم سيقفون بعيداً عنكم، سيقولون: لروحه السلام، أو لروحه الخلود أو غير ذلك ثم ينسونكم؟!

كل الذين أشادوا بكم وبإلحادكم، وأجزلوا لكم الوصاف كلقب المفكر الكبير، والفيلسوف العظيم، والشجاع المتمرّد ضد المعتقدات البالية، أين هم الآن؟

كل هؤلاء انتهى دورهم، وأصبحتم وحدَكم في مواجهة الحقيقة، فماذا أنتم قائلون؟

إن حقيقة الموت تتسامى على كل حقائق الحياة الماديّة، وفي خوضها لا تنفع المكابرة والمغامرة، إذ إن سلطان الموت طائل كل مخلوقات الدنيا، فلا مفر منه. 

ليس العدم هو المصير، فهو نقصٌ لا يليق بمبدأ وجود الإنسان، ولا بعدل الله، وما حبانا الله عز وجل به من نعم ودلائل وبراهين، فكيف يليق العدم إذا ما انتقل العقل إلى رحابةٍ أوسع من التفكير بالكون وعظمته وتاريخه وما يحمله من دلائل وعبر وعقل وعظمة ؟!

العدل والحياة الدنيا
لم يَعِدِ اللهُ عز وجل الإنسانَ في نصوص وحيه بأن الدنيا ستكون دار العدل والخير المطلق، بل جعل ذلك للآخرة ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر:39] ولمْ يَعِدْ ربنا سبحانه بأن الحياة الدنيا ستكون هي الحياة الحقيقية النهائية بل الآخرة  ﴿ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:64] إذن فإن ربنا سبحانه وتعالى منسجم مع رسله وأنبيائه وتعاليمه التي أرسلها لكل رسله وأنبيائه بلا تفريق بينهم، على مدى كل الشعوب والأنبياء والأمم .

ومن ثمّ ندرك ههنا أهميّة وصف الدنيا بأنها دار ابتلاء واختبار وامتحان بكل ما يتضمنه ذلك من قسوة وصعوبة، إذ ربما لا تحتملها العقول والقلوب، أما الآخرة فهي دار الجزاء، دار الكمال والعدل والسعادة المطلقة.

فما يبحث عنه الملحدون ويطمحون إليه من القيم المطلقة كالعدل والسعادة هو عين ما يبحث عنه المؤمنون بالله، إلا أنّ يقيننا وإيماننا يخبرنا أن هذه الأمور سنراها في الدار الآخرة في ضيافة رب العالمين ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54- 55] هناك القضاء العدل والسعادة الأبدية، والشعور بالرضا والطمأنينة:﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر:75] وهناك الكثير من الأشياء التي لا نعلمها والتي لم تخطر لنا على بال ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17] وفي الحديث الصحيح : ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) ([2])

أخي الباحث عن الحقيقة وإن كنت ملحدًا، حتى لا تبقى وحيداً فريداً في مواجهة سلطان الموت، تتلفّت باحثًا عن النجاة والمعنى، باحثاً عن نفسك وإنسانيتك التي أهملتَها وضيَّعتَها، لا تزال هناك فرصة أمامك، فالله عز وجل يريدك، ويمدُّ إليك الخير وحبله المتين لينتشلَك من وهدة الضياع والشرود والضلال، وما عليك إلا تتَمَسَّكْ به وستجد أنك أقوى، وأنك ذلك الإنسان العظيم الذي كان ضائعًا، وأنك وُلدتَ من جديد.

وأختم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ )) ([3])   لو يعلم الملحد كم في هذا الحديث من المعاني التي ترفع من شأنه، وتُعلي من إنسانيته، وتَشُدُّه إلى ربه، لذاب خجلاً من الله عز وجل، وعاد إليه باكياً نادماً جاثياً بين يديه، حاثياً التراب على رأسه .


الهوامش

[1] كتبت هذه الخاطرة في 6/12/2020 –  – الساعة التاسعة ليلا – الأحد. مشفى مدينة كلس التركية

([2]) صحيح البخاري (4/ 118)3244، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة .

([3]) صحيح مسلم (4/ 2104)7 – (2747) ، باب: في الحض على التوبة والفرح بها .

Author

  • د. أحمد الطعان

    دكتوراه في الفلسفة الإسلامية، ومؤلف كتاب العلمانيون والقرآن الكريم، ومدرس في جامعة الشام العالمية وعضو في المجلس الإسلامي السوري.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد