العقيدة بين الحقيقة والواقع

image_print

تعود أهمية العقيدة إلى جانبين، المضمون الذي تحتويه والأثر الناتج عنها، فهي الموجّه الذي يحرّك الفرد ويحكم على توجّهاته في كثير من الأحيان، كما أنها تتحكّم بسلوكه وتحدّد هويته، وحين تتحوّل العقائد إلى مجموعة من الطقوس الشكلية والمشاعر الوجدانية التي لا صلة لها بواقع الحياة، فإنها تغدو –إلى جانب الدين- ضعيفة الأثر في حياة النّاس وواقعهم.

ومن هنا فقد حاول منظّرو الفكر الحداثي الغربي استغلال ضعف العقائد في نفوس المسلمين للتأثير على الصّلة بين الدّين والواقع، وذلك من خلال التّرويج لفكرة أنّ الواقع مُستقلّ عن العقيدة ومحكوم بأسباب وروابط أخرى لا علاقة لها بالدّين، فكانت النّتيجة أن أصبحت حياتنا خاضعة للأهواء وللشّهوات، وأصبح الفساد والانحراف أكثر انتشارًا داخل مُجتمعاتنا وتحوّل واقع حياتنا إلى تضارب في القيم باتّباع منهج الله تارة وباتّباع مناهج إنسانيّة وفكريّة متعدّدة تارة أخرى.   

إن ما نحتاجه اليوم من أجل تصحيح مسارنا هو إعادة إحياء المفهوم الصّحيح للعقيدة وربطها بواقع الحياة حتّي يسترجع الدّين مكانته الطّبيعيّة داخل مُجتمعاتنا المُسلمة.

مفهوم العقيدة، بداية تصحيح المسار
يقول الإمام محمود شلتوت: إن “العقيدة هي الجانب النّظري الذّي يُطلب الإيمان به أوّلًا وقبل كلّ شيء إيمانًا لا يرقى إليه شكّ، ولا تؤثّر فيه شبهة، ومن طبيعتها: تضافر النّصوص الواضحة على تقريرها وإجماع المُسلمين عليها من يوم ابتدأت الدّعوة مع ما حدث بينهم من اختلاف بعد ذلك فيما وراءها، وهي أوّل ما دعا إليه الرّسول، وطلب من النّاس الإيمان به في المرحلة الأولى من مراحل الدّعوة، والشّريعة هي النُّظم التي شرّعها الله أو شرّع أصولها ليأخذ الإنسان بها نفسه في علاقته بربّه، وعلاقته بأخيه المسلم، وعلاقته بأخيه الإنسان وعلاقته بالكون، وعلاقته بالحياة، وقد عبّر القرآن عن العقيدة بالإيمان وعن الشّريعة بالعمل الصّالح، والعقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل، التّي تُبنى عليه الشّريعة، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة، ومن ثمّ فلا وجود للشريعة في الإسلام إلاّ بوجود العقيدة، كما لا ازدهار للشريع إلاّ في ظلّ العقيدة، ذلك أنّ الشريعة بدون العقيدة عُلُوٌّ ليس له أساس، فهي لا تستند إلى تلك القوّة المعنويّة التّي توحي باحترام الشّريعة، ومراعاة قوانينها، والعمل بموجبها دون الحاجة إلى معونة أيّ قوّة من خارج النّفس”(1).

نفهم من ذلك كلّه أنّ العقيدة هي منهج للحياة وليست كلمة تُقال بلا التزام وبها يَبنى الفرد تصوّراته في الحياة وبها يأخذ مواقف واضحة ممّا يدور حوله من مُتغيّرات ومنها تنبثقُ سُلوكيّاته اليوميّة وبها تنتظم حياة المُجتمعات في مُختلف المجالات، وعندما تضعف العقيدة في نفوسنا أو يُصيبها الانحراف يفقِد الدّين أثره داخل المُجتمع ويُصبح في عزلة عن الواقع.

فبمُقتضي العقيدة يعلم الفرد منّا أنّ للحياة هدفًا وغاية أصلها عبادة الله وتعمير الأرض عملاً بقوله تعالى:” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”(2)، وكلّ حركة يقوم بها الإنسان تدخل في مجال العبادة إذا كان يبتغي بها رضوان الله.

ولكن حين ضعفت العقيدة في نفوسنا أصبحت سُلُوكيّاتنا في الحياة خارجة عن مسارها التّعبّدي، فقد أصبح الصّدق أمرًا محمودًا وإن لم يُوجد فلا بأس بذلك فلم يَعُد الصدق من العبادات، وأصبحت الأمانة أمرًا جميلاً وإن لم تُوجد فلا بأس فهي لم تعُد من العبادات، وأصبح الوفاء بالوعد من المواعظ الجميلة وإن لم يَلتزم بها أحد فلا بأس، وهكذا صار بناء الإسلام محض أمنيات ومواعظ عابرة بلا أخلاق أو قيم يلتزُم بها الفرد على أنّها عبادة يأمُر بها الشّرع النّابِع من العقيدة.

من المعلوم الآن أنّ مفهوم فصل العقيدة عن الواقع هو نتيجة لفِكر دخيل عن ثقافتنا الإسلامية، ولنا أن نتساءل كيف وصل الغرب إلى هذا المفهوم وما هي نظرته الحقيقيّة للعقيدة؟ 

فصل الدّين عن الحياة في الغرب
كانت المسيحيّة هي العقيدة المُنتشرة في الغرب والتّي يؤمن بها أغلب أفراد المجتمعات الغربية، ولا يخفى أن هذه العقيدة أصابها الانحراف فانعكس ذلك سلبًا على حياة النّاس ممّا أدّى –إثر أحداث وتطوّرات عديدة- إلى إبعاد سلطة الدّين وفصله عن الحياة عندهم.

كانت بداية هذا الانحراف على يد قسطنطين عندما قام بمزج المسيحيّة بالوثنيّة من أجل صبغ عقيدة ما تبقّى من الإمبراطوريّة الرّومانيّة بنمط واحد، كما يقول المُستشرق ليوبولد فايس واصفًا المسيحيّة: “لم تكن تملك أن تبسط سُلطانها على الإمبراطوريّة الكبيرة التّي تحكم بمُقتضى القانون الرّوماني، والتّي كان الدّين فيها مظهرًا خاويًا من الحقيقة. فلمّا فرض قسطنطين المسيحيّة على الإمبراطوريّة في القرن الثالث ميلادي، لم يفرضها إلاّ عقيدة وجدانيّة لا تحكم الواقع بتشريعها الرّبّاني. فقد كان حتّى في عالم العقيدة البحتة يمزج الوثنيّة بدين الله”(3).

قسطنطين ووالدته هيلانة تحولا إلى قديسين في نظر المسيحيين (Brosen)

وعندما تحوّلت فيما بعد السّلطة المُطلقة للكنيسة التّي تُمثّل الدّين الذي أصابه التّحريف وأُدخل فيه أساطير باطلة، شهدت أوروبا حربًا بين الكنيسة والعلماء والعلم ووقفت هذه السّلطة الدّينيّة في وجه كلّ حركة داعية إلى الفكر الحرّ والتطوّر خوفًا من أن يُزيل العلم سُلطانها التّقليدي القائم على الخُرافات والأكاذيب والجهل. ومن ثمّ فإن الكنيسة أعلنت معاداتها للحركة العلميّة والحضاريّة في أوروبا التّي هي بدروها كانت في كثير من مواقفها معادية لسُلطان الكنيسة والدّين، واستمرّ التّباعد بين الحياة الواقعيّة والدّين الذّي تُمثّله الكنيسة.

و لنُضف إلى ذلك الميراث اليوناني القديم القائم على خُرافة أنّ الآلهة لا يُحبّون الخير للإنسان ولا يُحبّون له المعرفة لأنّه إن اكتسبها فسوف يُصبح مُنافسًا لها، وأن المعرفة لا تؤخذ إلاّ غصبًا منها، وأنه لا يتحققّ الخير للإنسان إلاّ عن طريق الكُره والعداء لها، وبقيت هذه الفكرة في الذهن الجمعي للإنسان الأوروبي الحديث، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف البريطاني جوليان هكسلي بقوله: “الجهل والعجز فقط هما اللّذان يُخضعان الإنسان لله، فإذا زادت معرفته وقوّته فلا موجب إذن لفكرة الله، وما يرتبط بها من عبادات وليكن الإنسان هو الله”(4).

ومن هنا صار الله رويدًا رويدًا منسيًّا في قلب الإنسان الأوروبي وتلاشى سُلطان الدّين على المشاعر والسّلوك، وبدأ الفرد عندهم بعبادة الطّبيعة ومن ثمّ وصل بهم الأمر إلى جعل الإنسان مركزًا للكون وتأليهه بالفعل بدلاً من الله، وذلك بعدما اكتشف قوانين الطبيعة وأصبح مالك القوّة الصّناعية والإنتاجية والعلمية، ظنّا منه أنّه لم يعُد في حاجة إلى الله.

لقد أصبحت الفكرة السّائدة في أوروبا أنّ الإنسان المُتقدّم والمُسيطرة على الكون بعلمه ومعرفته ينبغي عليه أن يكون عقله الإنساني هو المقياس في كلّ شئ، فما وافق عليه العقل فهو الصّواب وما خالفه فباطل وخُرافات، وينبغي عليه أيضًا أن يكون هو المُشرّع لحياته لأنّه أدرى بما يحتاجه فلا يحتاج لشريك يُشرّع له كيف تكون طريقة عيشه.         

وعندما أصبح الإنسان المُشرّع والمُسيطر على كلّ شيء بدأت الصراعات تتفاقم بينه وبين الإنسان الآخر الذّي يرى أنه يجب أن يخضع له، وتفاقمت الصراعات بينه وبين الجماعة والدّولة، وبينه وبين القيم السّائدة في مُجتمعه.     

ما ذكرناه هنا هو حقيقة انفصال الدّين عن الحياة بطريقة موجزة في أوروبا، وكانت البداية بانحراف في العقيدة وفقدانها لأثرها العملي في حياة الإنسان. وما نستغربه اليوم هو مُحاولة البعض من بني جلدتنا بأن يجلبوا هذه المراحل التّي عاشتها أوروبا إلى مُجتمعاتنا والمُساهمة في ترويج الفساد العقائدي المُتمثّل اليوم في الفكر الحداثي ظنًّا منهم أنّه طريق النّهوض والتّغيير، والذّي يجعل الفرد منّا في صراع مع قيمه وثقافته الإسلاميّة ويجعل صلته بدينه تُصبح ضعيفة ويخفت نور العقيدة داخلنا، وهذا ما نُسمّيه اليوم بـ “معركة العقيدة” في واقعنا المُعاصر.

معركة العقيدة
إذا أردنا طمس هويّة مُجتمع ما والتّغيير من مبادئه وفكره وطريقة حُكمه على الأشياء، فإنّنا نحتاج إلى تهوين عقيدته وتمييع مبادئه التّي تُعتبر المنبع الأوّل لسُلوكه وأخلاقه ومنها يَرسُم لنفسه منهاجه ونظامه في الحياة. وهذا أصل الصّراع الذّي يحدُث اليوم داخل مُجتمعاتنا، سواءً عن طريق أطراف خارجيّة أو داخليّة، فهي معركة العقيدة التّي تُعتبر اللّبنة الأولى في بناء المُجتمعات المُسلمة، فإن خَفَت نورها وأصبحت انتماءً مُجرّدًا بلا عمل ولا التزام، فإنّنا سنرى مُسلمين من بنى جلدتنا يرون في الشّريعة الإسلاميّة مجرد وجهات نظر يمكن رفضها وتفضيل قوانين إنسانية أخرى مكانها، وسنرى مُسلمين مثلنا يَقبلون بالمعاصي والفواحش على اختلاف أصنافها ويضعُونها في خانة الحرّيّات الشّخصيّة. ومن أراد إحكام قبضته على أيّ مُجتمع فليُقدّم له عقيدة بلا روح ولا نور وليُحاول بعد ذلك صياغته وفق القالب الذّي يُرضي مصالحه ويخدم أهدافه.

فمثلاً اليوم في ظلّ موجة التّطبيع مع الكيان الصّهيوني المُتسارعة، فالهدف منها فرض الواقع على الشّعوب المُسلمة وجعلهم يَقبلون بالتّطبيع بعد ضمان خيانة السّلطات الحاكمة لأماناتها. ولن تصمُد هذه الشّعوب إلاّ بفضل عقيدتها التّي مازالت تتّقد في القُلوب، لأنّ فلسطين هي من صُلب الإيمان وتستمدّ شرعيّتها من الإسلام ويُعتبر الدّفاع عنها ولو بالكلمة جهاد ودين وحفاظ على كيان هذه الأمّة. فلنحذر اليوم من التخدير البطيء للشعوب ولتُحافظ على نور عقيدتها الخافتة لأنّها إن انطفئت وقُطِعت الصّلة كُليًّا بين الدّين والواقع، فإنّنا سنرى الشّعوب نفسها ترضخ للتّطبيع وتُهرولُ إليه!

ختامًا لا بد من التأكيد على أنّ انحراف العقيدة والتّهوين منها لن يقودنا إلّا إلى فساد الحياة، إذ العقيدة ليست محض صلة شعورية بين العبد وربّه مُنقطعة عن الواقع والوجود بل هي البوصلة الحقيقيّة للحياة وبها يَبنى الإنسان سُلوكه وتوجّهاته في مُختلف المجالات، وفي ظلّ التخلّف العقديّ الذّي نعيشه اليوم فإنّنا لم نعد نعتمد القرآن والسنّة كمرجعيّة في كلّ أمر من أمور حياتنا. فالقاعدة هنا تَقول بأنّنا كُلّما صلحت عقيدتُنا، فإنّنا سنقترب أكثر من الكتاب والسنّة ومن حياة الصّحابة رضي الله عنهم، وبالتّالي سينصلُحُ سُلوكياتنا وتصوّراتنا في واقع الحياة، والمطلوب منّا ههنا أن نعمل على تصحيح علاقتنا بالقرآن والسنّة النّبويّة ولننظر أين نحن منهما في واقعنا العملي!


الهوامش:

(1): الإسلام عقيدة وشريعة، الإمام محمود شلتوت، دار الشروق للنشر، الطبعة 18، 2001، ص: 11-13.

(2): سورة الذاريّات، الآية 56.

(3): جاهليّة القرن العشرين، محمد قطب، دار الشروق للنشر، 1993، ص: 64.

(4): المصدر السّابق، ص: 65.

Author

  • حمزة بلقروية

    خريج الكلية الوطنية للهندسة تخصص الهندسة الميكانيكية، ومدرس لمادة القرآن الكريم في المدرسة القرآنية بالقيروان، ومهتم بالفكر الإسلامي وقضاياه المعاصرة.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد