تجربة مع الموت: وصايا وعبر (3).. الغنى بالله عز وجل

image_print

هل مررتَ بتجربة ضياع العبارة والعجز أمام المشاعر التي تجتاح قلبك؟ وهل استشعرت يومًا حقيقة احتياجك لله وعجزك أمام ما تمرّ به من بلاء وصدق تضرعك لربك؟ وهل وقفتَ يومًا أمام جلال صفات الله عزّ وجلّ لتأخذ منها.

عجز اللغة أمام المشاعر:
مشاعر دفينة انتابتني أثناء لحظاتي الصعبة في الخوف الموت، وقد وقفت لغتي عاجزة جدًّا عن وصف ما أريد البوح به، ولعلي وجدت أن اللغة قد تُشوِّه المعاني التي أريد إيصالها للقارئ الكريم وتسيء إليها، ولكن لا بد من المحاولة.

لقد حاول بعض كبار العلماء من الصوفيّة أن يوصل مشاعره الجيّاشة مع الله عز وجل للناس، لكي يستفيدوا منها فلم يستطع، وعجزت اللغة عن ذلك، وأدّى ذلك إلى اتهام بعضهم بالضلال والزيغ، ومن ثمّ كان تخوَّف الإمام الغزالي رحمه تعالى من اللغة، وتردّد في التعبير عن تجربته الوجودية حتى لا تُفهم خطأً، وقرَّر أن يكتفي بالتصريح بما ينفع الناس ولا يختلفون حوله، ومع ذلك لم يسلم من ألسنة الناس وانتقاداتهم.

 يمرّ الإنسان في مثل هذه اللحظات بمشاعر متتابعة متناسخة ينسخ بعضها بعضًا بشكل هائل السرعة، يصبح فيها الإنسان عبارة عن كتلة من الخواطر والمشاعر، جيوشًا تتصارع في داخله، ويحاول كلٌّ منها أن يتغلب على الآخر، والموفَّق من يوفقه الله عز وجل لكي يحطَّ رحاله في أعتاب الله عز وجل، ويلقي أعباءه بين يديه، ويرتمي بين يديه لا يرتضي به بدلا.

ضرورة الاستسلام المطلق لله:
إن أهمّ شعور بدأ يسيطر عليَّ هو شعور الرضا بالله، والطمأنينة به، والغنى به عز وجل عمّا سواه، وشعرت آنذاك بأن المكتفي بالله لا يشعر بأحد بشرًا كان أو دنيا، ولا بألم أو بخوفٍ، لقد سيطر عليَّ حديث النبي ﷺ : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل لك، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليك ، رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصحف )) ([1]) .

هذا الشعور بفضل الله عز وجل جعلني أشعر أن كل من حولي هم أدوات، وأن الأمر محسوم، فإن كتب الله عز وجل لي النجاة من الموت فلن يضيرني البشر كلهم، ولو اجتمعوا، وإن كان الله عز وجل كتب لي الموت فلن ينفعني أطباء الدنيا وأدويتهم ولو اجتمعوا .

هذا الشعورُ له علاقة بلبّ العبودية، فحين يكون الإنسان بين يدي ربه وفي قبضته، فإن شعوره الصادق بالانكسار له، نعمة عظيمة يجهلها الإنسان، إذ إن العبودية لله عز وجل شرفٌ وكرامةٌ ورفعةٌ وعظمةٌ.

أصبحتُ أُردِّدُ قول الإمام الشافعي في أعماق نفسي، وأترنم به في وسط الألم والشدة:

وَمِمَّا زادني شرفَاً وتِيْها                               وَكِدْتُ بأخمصي أَطأُ الثُّرَيَّا

دخولي تحت قولكَ ياعبادي                   وأَنْ صَيَّرْتَ أحمدَ لي نَبيَّا

شعوري وانفعالي بالعبودية لله عز وجل، والغنى به والاستكانة إليه، جعلني قوياً قوةً هائلةً بقدر شعوري بعظمة الله عز وجل وجبروته وكبريائه، وكلما تحققنا بعبوديتنا لله عز وجل كنا أقوى وأعظم، وكلما تشرَّبنا ذرات هذه العبودية كنا أعز وأقوى

الاستمداد من صفات الله عز وجل
أليس الله عز وجل عظيما عظمة لا حدود لها؟ أليس حين نكون عبيداً حقيقيين له نَستمدُّ عظمتنا منه عز وجل؟ فقس إذن أيها المؤمن أيها العبد نسبة عظمتك (الدنيوية) بعظمة الله جل وعلا.  أليس الله عز وجل عزيزًا عزة لا حدود لها؟ ونحن عبيد الله عز وجل نستمد عزتنا منه سبحانه وتعالى ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [ المنافقون: 8 ]  فقس أيها المؤمن أيها العبد المؤمن نسبة عزتك (الدنيوية) على نسبة عزة الله اللامحدودة … حين ذاك ما مقدار عزتك وعظمتك؟!

وهكذا إلى كل الصفات التي نستمدها من الله عز وجل حين نكون عبيداً حقيقيين له، كم هي رائعة العبودية، كم تجعلنا عظماء بين البشر، وأقوياء بين البشر الضعفاء، وكاملًا بين البشر الناقصين، وغنياً بين الفقراء وإن كانوا ذوي مال ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15 ] إن عبودية الإنسان لله عز وجل كمالٌ على المستوى البشري والأرضي والدنيوي، ومن هنا جاء قوله سبحاني، فهو يُمجِّدُ عبوديتَه لله عز وجل، ويعتزُّ بها، ويفتخر بها، إنه تعبير مطلق عن الغنى بالله، والقوة بالله، والرضا بالله، والاعتزاز بالله جل وعلا. 

يكفي أن يفكر الإنسان قليلا في قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [ سورة الملك: 1 -2 ] . هذه الآية التي يقرؤها الكثيرون منا ربما كل يوم، فالله عز وجل مالك الملك والملكوت، وبيده العظمة والجبروت، وبيده مقاليد السماوات والأرض، وبيده الموت والحياة، وبيده النفع والضر، وبيده الدواء والمرض، والشفاء، فما بالنا نلتفت إلى غيره، ونطلب من غيره، ونلجأ إلى غيره، وهو (بيده الملك ) ( وبيده الخير ) ( إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ) فمن غفلتنا وجهلنا نلجأ إلى سوى الله عز وجل .

تخيلوا عبداً لملك من أعظم ملوك الدنيا، هذا العبد هو المـَدخل لهذا الملك، فما يقوله للملك ينفذه الملك، وهو الذي يُدبِّر للناس أمورَهم ويخدمهم، ويقضي شؤونهم وحوائجهم في كل شيء، كيف ستكون نظرة الناس إليه؟

سيكون شخصا عظيماً كبيراً عزيزا ًيتسابق الناس إلى طلب رضاه، والتقرب منه، والتزلُّف إليه، لكنه في النهاية عبدٌ لملك دنيوي يمكن أن يزول في أي لحظة، فما بالكم بعبد العظيم، عبد الجبار، عبد الحي القيوم، قيوم السماوات والأرض، جبار السماوات والأرض ؟!  وحين يكون العبد حقيقيّا لله، فإنه سكون سيَّداً مسوَّداً في الكون .

وهذا معنى قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾  [ الإسراء: 70 ] هذا هو معنى التكريم الإلهي، و التفضيل الإلهي للإنسان، وكلما اقترب الإنسان من ربه كلما كان عظيماً في الدنيا، عظيماً في عبوديته،  وهذا هو معنى الخلافة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [ البقرة: 30 ]  

خليفة لمن؟

تخيلوا ذلك جيدا بعمق قلوبكم، خليفة لله عز وجل، ولو ذهبنا نتأمّل في معنى الخلافة، وصلاحيات الخليفة، لضاق الحديث ودَقَّ إلى مضائق صعبة، قد يضل التعبير عنها ، وتعجز اللغة عن وصفها.

إن العبودية باختصار: الاستماتة بين يدي الله، والتفويض المطلق له، ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚإِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [ غافر: 44 ]، الاستكانة في أعتابه، والارتماء في أبوابه، ثم يتحول ذلك إلى: الغنى المطلق بالله عز وجل، والرضا بالله، والاعتزاز بالله  والقوة بالله، فيصبح العبد: بالله، وفي الله، ولله .

5/12/2020 .  – مشفى كلس .


[1] سنن الترمذي ت شاكر (4/ 667)2516 .

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد