بناء الأسرة بين الكمال وغسيل الأدمغة!

image_print

كتبت قبل عدة سنوات عن وهم الشريك المثالي في محاولة لتوضيح دوافع الزواج والعوائق المتعلقة بالاختيار الصحيح، وقد بيّنتُ أن شريك الحياة حريٌّ به أن يقيَّم من منظور الزواج المثالي والعيش المتوافق، فكل من الزوجين مكمِّل للآخر بطبيعة الحال، فالغاية السامية كانت وما زالت هي التوفيق بين الأزواج وتوسيع دائرة التفاهم لحياة ممتدة بالرضا والسعادة.

بالرغم من هذا فإن ذلك لا يعني بالضرورة وجوب وحتمية نجاح الزواج في أول تجربة لكي نتجنّب الانفصال، كما أنه لا يعني أن الزواج المثالي قد يغني عن تكرار التجربة، وبالطبع فإنه لا خلاف على هذا شرعًا، ولكن المشكلة هي في غسيل الأدمغة المستمر.

المبادئ المنسيّة

على العموم فإنه من الملاحظ أن مبادئنا أصبحت أشبه بالمثاليات والشعارات التي تظهر وقت الحاجة فقط لكنها تختلف عمّا حُفِر في عقلنا الباطن خصوصًا وتوافقه أفعالنا وألسنتنا على نحو واضحٍ عمومًا، وها أنا أجد في نفسي الحاجة الملحّة اليوم للخوض في هذه الأسباب وعواقبها التي حدت بالمجتمع إلى جملة من المشكلات المتلاحقة كتغيير مفهوم الزواج بما فيه من طبائع بشرية متغيرة إلى مؤسسة قائمة على الشراكة الوردية، وقل مثل ذلك عن أمور تالية كتحقير الطلاق ومؤسسة الزواج الموحد “مونوغرامي” وبغض تعدد الزوجات.

لنتساءل بداية: كيف زُرِع مفهوم الشريك “الوردي” في عقولنا؟

إن الأمر باختصار شديد، البداية كانت في صُنعِ تصوُّرٍ إعلاميٍّ -عبر الأفلام والمسلسلات القديمة- عن روعة هذا الشريك بمجرد ذكر الزواج، والتركيز على إحدى صفاته الأساسية وهي الحب والهيام والعطف المغرِق، وما دامت هذه الصفة موجودة ومطلوبة بطبيعة الحال لديمومة الزواج، فإن الجيل القديم (الناشئ حينها) لم يجد حرجًا في سماع الأشعار وقصص العشق والأغاني على مر السنين، على افتراض حسن النية طبعًا.

إلا أن الأمر تطور إلى قولبة هذا الحب على هيئة صور رمزية وتمثيله في كلا الجنسين، من حيث الحسن والجمال، ومن ثم تحرّكت الصور وتجسّد الحب في شريكين جميلين يعيشان قصة حب طاهرٍ يتكلّل دائمًا بالزواج والحياة السعيدة المديدة والكلام والخجل والغزل والنظرات وغيرها من الأفعال التي سحرت القلوب وأغوت العقل منذ الصغر بوجود قرين في الحياة من الإنس بَهِيُّ الطلعة لابد أن ترتبط به وتنتهي بعدها القصة لأن النتيجة محسومة، ثم يكون -كما في المثل الشهير- (عاشوا في سبات ونبات وخلّفوا صبيان وبنات).

بعد حين من الزمن –أي حين تشبّعت الأنفس فكرة الحب المرتبط بحسن المحبوب-، بدأت تُدَسُّ الخلافات في قصص جديدة بين الأحباب، ويتوجّس المشاهِد، هل ما يراه هو الحبيب أم الخائن، مع توجيه الوعي الداخلي نحو فكرة احتمال تعثر الارتباط الدائم في حال غاب التعارف قبل الزواج، لذلك كان لابد من الاختبارات لقطع الشك باليقين فلم نعد نسمع العبارة المستهلكة (أنا قصدي شريف). وهذا يعني أن الحياة السعيدة المديدة كما وثقها الإعلام المرئي والمسموع على حد سواء، مرتبطة بأحداث العشاق من إثباتات مادية وتضحيات عائلية وتنازلات أخلاقية وتبديل ديانات –وربما- محاولات الانتحار!

تدرُّج الغواية!

دعني أمرّ سريعًا على عدة أمثلة لتوضيح وإثبات ما ذكرته أعلاه من تحوير مقاصد الزواج وحصرها في البحث عن الشريك المثالي وتداعيات الحصول عليه:

غنَّى أحدهم في الثمانينات قائلاً:

ياريت تعرف شو بصرلي … لتطل قبالي شي طلة

ها العقدة صار بدها حل … وصار لازم روح أحكي فيها

وبعد مرور أكثر من عشرين عامًا، غنّت إحداهن قائلة:

خليني شوفك بالليل … الليلِ بعد الغروبِ

مش عيب “الملأى” بالليل … الليل بيستر العيوبي

أرأيت هذا التدرُّج؟

في الثمانينات، كانت المعضلة الرئيسية أمام زواج الأحباب في المسلسلات الدرامية هي الخلافات العائلية واختلاف الوسط الاجتماعي، وقد شاهدنا ذلك في كثير من المسلسلات مثل “الشهد والدموع”، “ليالي الحلمية”، و”المال والبنون”، أما الآن؛ فإنّ الزواج ذاته غير مهم بقدر ما هو مهم أن يكون الحبيب عاشقًا، حتى لو أحبّ المرء زوجة عمه مثلًا أو خيانة الحبيبة بمعاشرتها أخا الحبيب وهو المتزوج أصلًا إلا أنها تغويه لتستدرجه، كما عُرض ذلك في العديد من المسلسلات المدبلجة والعربية -للأسف-.

في أفلام الثمانينات: يحب الرجل ابنة رئيس العصابة إلا أنه شرطي، أو تحب الفتاة الفقيرة الابن الغني صاحب النسب والحسب ويحبها رغم الفقر والتشرّد، لتكون النهاية السعيدة في هذا النمط بالزواج.

لننظر الآن في أفلام اليوم: أزواج متنافرة لا تعدم كثرة العشيقات والعلاقات المحرّمة السرية أو العلنية، وقد تأتي هذه الأحداث على هامش الفيلم كجزء من الواقع المحيط وليست في الأصل الحبكة الفنية لقصة الفيلم.

أين الخلل؟

لعل تحديد الخلل المفصّل قد يحتاج لمؤلفات وشروح طويلة، إلا أن الخلل بمظهره العام في استساغة المجتمع للعبثية الأخلاقية الموجهة في تفكيك الأسر، -كما أشرت أعلاه من واقع العرض المؤسف- هو الطَّرْق المتواصل والمتزايد في الحدة، حتى إذا ما تأصّلت الفكرة في النفوس واعتادها المشاهد وأعادها في حياته إلى أن رآها طبيعيّة بوجهٍ ما، اختلفت المطرقة واختلف موضع الطَّرْق، إلى أن تأخذ عقولنا بعد حين من الزمن شكلاً غريبًا، لا يضع قِيم الزواج وأهدافه ومسؤولياته نصب الأعين مثلما يفعل للحب، وفي الوقت ذاته يرفض أمورًا عديدة في هذا الزواج، لعل أبرزها الطلاق والتعدد، وربما الحديث في حقوق الزوج ومفهوم الطاعة فيما أمر الله.

إن الطلاق يعارض النظرية المدسوسة للحياة المديدة السعيدة مع الحبيب الأول، كما أن التعدد يعارض النظرية الأخرى للقرين المخلوق لأجل المحب. والنتيجة المستقبلية أن مجتمعاتنا لن تختلف عن المجتمعات الغربية التي منعت قوانينها الطلاق والتعدد، وحينما اختلف الأزواج تعددت الخيانات واختلطت الأنسال.

إن المشكلة الأكبر ليست في نتائج غياب هذه القوانين، بل في تسهيل تعارف وتقارب الجنسين قبل الزواج (مثل الدراسة المختلطة) كوسيلة لتجنب النتائج السيئة السالف ذكرها، فكانت الطامة الكبرى بانحراف المراهقين وتعدد العلاقات الجنسية، والحمل المبكر خارج مؤسسة الزواج، وانتقال الأمراض الجنسية …إلخ. وما زالت الحلول تقترَح لتصبّ في الاتجاه ذاته، من خلال إقرار مواد تعليمية للجنس في مرحلة مبكرة لتثقيف النشء وتوعيته بالاحتياطات اللازمة لمنع الحمل وانتقال الأمراض الجنسية حال تعرفهم على الجنس الآخر.

سؤال لا بدَّ منه!

واليوم نسأل: كيف لمجتمع شرقي أصبح يقدس الحب قبل الارتباط الشرعي وينبذ الطلاق والتعدد بشكل عام، أن يختلف في كيانه عن المجتمع الغربي ومشاكله؟

الطلاق والتعدّد، أباحهما الشرع –بشروط- كأدوات إصلاح في ردء كيان المجتمع ودرء المفاسد عنه، وذلك تماشيًا مع ضوابط الدين في تنظيم حدود العلاقة بين الجنسين خارج مؤسسة الزواج ومحارم العائلة.

هذه الضوابط وجدت لتدعم أدوات بناء أفراد المجتمع وتهيئتهم لتأسيس زواج ناجح، كالتحلي بصفات الأدب والعفة والمروءة ومكارم الأخلاق، والاعتماد على النفس، والتراحم واحترام الآخرين وودهم ومعاونتهم وتقدير عونهم، والصدق ومهارات التواصل وغيرها. الأصل هو التركيز على أدوات البناء، فما أحسنت بناءه، قلَّت أعطاله. ولكن في حالة التقصير في بناء الأفراد وتعريفهم بمسؤوليات الأزواج، سينجم عن التطبيق الصارم لهذه الضوابط الدينية، اختلافات فردية في الزواج تتطلب تدخل أدوات الإصلاح. والعكس صحيح، في حالة الإخلال بضوابط الدين، قل تركيز الأفراد على أدوات البناء، وزادت فرص استخدام أدوات الإصلاح في الزواج. بمعنى آخر، تتضاءل احتمالية اختلاف زوجين تشاركا أدوات البناء ذاتها، وأي شذوذ عن هذه القاعدة، تتكفل دائما بتصحيحه أدوات الإصلاح، إما لخلق فرص جديدة بإعادة ربط الأفراد الصالحة أو تدعيم مؤسسة الزواج بفرد صالح جديد. هي منظومة متكاملة لتنمية مجتمع يعتمد على الزواج المثالي في تثبيته الترابط وخلق بيئة صالحة وصحية أخلاقيًّا لتربية لجيل القادم.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد