برهنة الشريعة بين الإجماع والقياس

image_print

في مقالنا السابق أشرنا إلى الأساس المتين الذي يمنحنا اليقين بالقرآن والسنة مصادر للتشريع والمعرفة، ويتفرع عن هذين المصدرين وطرق النظر إليهما آليات معرفية أخرى.

حجية الإجماع

بالنظر إلى الأدلة النقلية والعقلية استطاع العقل التوصل إلى نتيجة قطعية ألا وهي “لا يمكن للحق أن يرتفع عن المسلمين جميعا في أي عصرٍ كان لذلك فإجماعهم على حكمٍ معين يعني قطعيته بلا ريب”.

وقد فهم القارئ الكريم أن المقصود بهذا الكلام الآن هو الإجماع، ولكن المشكلة في هذا المصدر هو سوء استعمال كثير من الأفراد والجماعات له حتى أخرجوه عن مسماه وعلة صحته، ولفهم هذه النقطة الحساسة وجب علينا الرجوع قليلا بالمقدمات إلى البداية.

لو سألنا سؤالا: هل يمكن للحق أن يرتفع عن أهل الأرض جميعًا؟ فالمجيب عن السؤال إما أن يقول: نعم يمكن ارتفاعه عن الناس جميعا فيقال له “فقد لزمك أن يرتفع الحق عن مقولتك هذه أيضا إذ أنها مقولة واحدٍ من الناس الذين حكمتَ على مقولاتهم جميعا بالارتفاع فإن ارتفع الحق عن مقولتك التصق بالمقولة النقيضة لها وهي عدم ارتفاع الحق على الناس جميعا”

فإن أقررنا بعدم ارتفاع الحق عن الناس جميعا انتقلنا إلى المقدمة التي تليها فنقول: أليس الحق في المجال الديني “وحده دون بقية المجالات العلمية” يكون في الدين الصحيح؟ فإن قال المجيب “لا يكون في الدين الصحيح” قلنا فلماذا حكمت على الدين بالصحة ما دام الحق مع غيره لا معه؟ فإن قال “نعم، فالحق مع الدين الصحيح” قلنا: إن سبق للعقل أن برهن على أن الإسلام هو الدين الصحيح ألا يعني ذلك أن الحق في المسائل الدينية يكون موجودا في حملة هذا الدين وهم المسلمون؟ إذ سيكون على الأقل في واحد منهم إذ لا يمكن أن يغيب عنهم جميعا فيرتفع الحق عنهم وهم حملة الدين الصحيح الذي لا يكون الحق دينيا إلا فيه “وأريد التركيز على المجال الديني، أما المجالات العلمية الخارجة عن الدين فقد يكون الحق عند غير المسلمين ويكون المسلمون جميعا غير عالمين به أو جاهلين به أو على خطأ في تصوراتهم له وهذا جائزٌ عقلا وملاحظٌ واقعا في عددٍ من المجالات”.

فإن تبيّن ما سبق علمنا أن المسلمين لو اجتمعوا جميعا على مسألة دينية في عصرٍ معين فتلك المسألة تكون صحيحة بلا ريب، ويعضد هذا قول الله {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء: 115] وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وبناءً على ما سبق نجد أن الشرط في وصف القضية بالمجمع عليها أن تكون في مجال الدين أولا، وثانيا يكون الإجماع عليها من قِبِل المسلمين جميعا.

وهنا قد أنتقد تعريف كثيرٍ من العلماء للإجماع بأنه إجماع علماء عصرٍ ما على مسألة ما، وذلك لأن تضييق الدائرة من المسلمين جميعا إلى العلماء وحدهم ليس عليها أي دليل بل هي مناقضة للأصل الذي بُنيت عليه حجية الإجماع.

فالله قال {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] ولم يقل ويتبع غير سبيل العلماء أو غير سبيل علماء المؤمنين ومن المعلوم أن الله ليس إنسان ليسهو فلا يدقق في كلامه وإنما هو الإله التام الذي لا يقول عبارة إلا وهو يعلم معناها جيدا.

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ولم يقل (لا يجتمع علماء أمتي على ضلالة).

وأما الاستدلال العقلي الذي بنينا عليه حجية الإجماع فكان مبنيا على أساس عدم خروج الحق عن المسلمين جميعا لا عن علماء المسلمين حصرًا! وقد يقال هنا: لكن المسلمين الذين لا يملكون الأدوات الفقهية لا يحق لهم الإفتاء أصلا ليؤخذ كلامهم بعين الاعتبار في الدين؟

إلا أننا نقول: ليست المشكلة في أخذ أقوالهم وهم فرادى وإنما المصيبة أعمق من ذلك بكثير ويمكن تلخيص مشاكلها في محاور عديدة.

محاذير في الإجماع المعيّن

من جملة المحاور التي ينبغي الإشارة إليها في تعميم الإجماع هو أن قصر الإجماع على العلماء يجعل كل فريق أو حزب ديني متعصب لطائفته يحصر علماء الأمة في عدد من الشيوخ الموافقين له ثم يعتبر اتفاقهم على المسألة المعينة إجماعا وذلك بعد تعرية كل العلماء المخالفين له عن وصف العالم ما لم يُكفّرهم أساسا.

وقد فعل ذلك الجهمية والمعتزلة في زمن الإمام أحمد بن حنبل، حتى قال رحمه الله ورضي عنه: “من ادعى الإجماع فقد كذب” وذلك لأنهم كانوا يحصرون العلماء في طائفتهم ويستغلون سيف السلطان الذي سخروه لصالحهم ثم يقتلون أو يسجنون أو يُسكتون من خالفهم وبعد الانتهاء من كل ذلك يدعون الإجماع في المسألة، ويلاحظ اليوم أن عددًا من الجماعات يفعلون ذلك، فيُقصون بقية الأمة ثم يتخذون إجماع مشايخ طريقتهم وطائفتهم إجماعا ملزما لبقية الأمة.

إلى جانب ذلك فقد يسيء الناس تقدير العلم وأهله فيرفعون من لا يستحقه ويضعون من قدر أهله فيصنفون العالم الحقيقي مع من لا ينال صفة العالم أساسًا، ويصنفون غير العالم مع العلماء.

وقد يكون السبب في هذه التصنيفات جهل المصنفين أنفسهم بالعلم وأهله أو استغلال نفوذهم عند السلطان أو شهرتهم بين الناس أو حتى الخداع ببعض المظاهر كطول العمر واللحية والقميص الفاخر الذي ينزل عليه خمار الرأس والنظر إلى الأسفل لإظهار السّمت وإجابة السائل بالمختصر المخلّ لإظهار الهيبة، ناهيك عن استعانتهم بتزكية بعضهم لبعض أو الانخراط في حزب معين يحميه ويرفعه وبذلك يُصنّف مع العلماء وهو من الذين لم يتمكنوا في أي فن إسلامي.

في المقابل قد يصل الفرد لمرتبة العالم ولكن الناس لا يسمعون بوجوده إما لعدم شهرته أو لعدم وجود أصحاب المؤهلات العلمية الكافية التي تستطيع معرفة قيمته العلمية أو إقصائه وتهميشه حتى مع العلم بقوته حسدا وغيرة وخوفا على أن ينافسهم على عرشهم أو بسبب مخالفته لهم في توجهات فكرية أو سياسية أو حتى من أجل بعض الآراء الفقهية فضلا عن العقائدية.

وبناء على كل ما سبق كيف يمكن لنا عمليا أن نتأكد من أن المجمعين على المسألة في ذاك العصر المعين هم كل علماء المسلمين؟ وهل يمكن إحصاء آرائهم جميعا وقد يبلغ عددهم في العصر الواحد آلافًا؟

ثم لو حدث وأجمع كل العلماء على مسألة معينة ألا يكون إجماعهم عليها وعدم اختلافهم فيها دليلا على أنها من أوضح المسائل الشرعية كالشهادتين ووجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج وبقية المسائل التي يعرفها كل المسلمون علماء وعواما؟ فنعود للنتيجة الأولى نفسها عندئذ.

وهذه المسألة الواضحة التي يعرفها كل الناس ألا يكون مصدرها التشريعي الأول هو القرآن والسنة؟ إذ لا يمكن الاتفاق على مسألة لم يفصِل فيها القرآن والسنة لأن العقول لا تجتمع جميعا على قولٍ خفي وإنما تجتمع على القول الواضح الجلي.

مصدرية القياس

أما مصدر القياس فيمكن القول بأنه مصدر عقليٌّ محض وهو مستعملٌ في كل مجالات المعرفة سواء النقلية أم الحسية أم العقلية، لكننا لو دخلنا لمجال أصول الفقه فإننا نجد أن الأحكام الفقهية إما أن تكون أحكاما تعبدية وإما أن تكون أحكاما معللة، وببعض من التفصيل، فإن الحكم التعبدي هو الحُكم الذي لم يبين الشارِع علته في التحريم أو الكراهة أو الجواز أو الاستحباب أو الوجوب فيؤخذ كما هو، كعدد ركعات الصلاة.

أما الحكم المعلل فهو ما ذُكرت علة تحريمه في النصوص الشرعية وقال بعض الأصوليون “أو كانت علته واضحة يمكن استنباطها” وأميل إلى أن المعلل هو ما ذُكرت علته نصا لأن الإنسان قد يخطئ في استنباطه، وحتى ولو أصاب فقد يستنبط الحكمة من تحريمه لا العلة وفرقٌ بينهما فالحكمة موجودة حتى في الأحكام التعبدية سواء علمناها أم جهلناها ولا يقاس عليها أما العلة فهي منصوص عليها وترتبط بها القاعدة الفقهية “الحكم المعلل يدور مع علته وجودا وعدما”.

ولذلك كان القياس صالحا في الأحكام المعللة لا التعبدية كما أنه يكون في القضايا العامة التي يتفق عليها ولا يكون في المسائل الجزئية المختلف فيها.

أي أنه يكون في القدر المشترك لا القدر المتفرق، ومثال ذلك قياس السُكْر باستعمال البنزين على الخمر في كليّة السُّكر ولا نقيس بينهما في لون المادة أو وظائفها الأخرى من غير السُّكر، فلا نحرّم كل ما كان من عنب أو شعير قياسا على الخمر لأن علة التحريم في الخمر ليست مادة الصنع وإنما الإسكار، ولا نحرّم البنزين وقودا للسيارات لأن علة التحريم في جانب الإسكار هو الإسكار نفسه، أما في غير ذلك المجال فله أحكامه المنفصلة.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد