بحثًا عن الحكمة.. وقفة مع النفس البشرية!
إن المؤمن القابض على دينه في زماننا هذا؛ قد يعيش معزولًا عن الواقع المجتمعي الحالي، غير قادر على التأثير فيه؛ فالمجتمع قد انتشر فيه مرض انفصام الشخصية المجتمعية فأصبح لا يقبله؛ ولأنّ الخلايا السليمة لا يمكنها أن تلتئم مع خلايا المجتمع المصابة تلك؛ فالواقع المعيش يذكّر بالأنيميا المنجلية -وهو مرض ينتج فيه الجسم خلايا دم حمراء غير طبيعية الشكل مثل الهلال أو المنجل- حيث تصبح هذه الخلايا جامدة ولزجة وغير منتظمة الشكل -خلاف الخلايا السليمة- فتتخثر بالأوعية الدموية الصغيرة؛ التي يمكن من شأنها أن تبطئ أو تمنع تدفق الدم والأكسجين إلى أجزاء الجسم، وبالتالي قد تؤدي إلى السكتة الدماغية، أو متلازمة الصدر الحادة، أو إلى تلف الأعضاء الداخلية بما في ذلك الكبد والكلى والطحال وغيرها من الأمراض -عافانا والله وإياكم-.
استوقفني هنا قوله عز وجل {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] وكأن الذي يحدث داخل أجسامنا إنما هو انعكاس لما يحدث من حولنا؛ وكأن في داخلنا خارطة تمكننا من فهم واستيعاب اﻷمور، ومن ثم كان لزامًا علينا أن نتدبر ونتفكر ونبصر أنفسنا.
بين السليم والسقيم..
إذا ما قسنا أحوالنا الخلقية والداخلية بواقع المجتمع حين تختلط فيه ما يشبه الخلايا المنجلية المنحرفة عن الدين والمجتمع، وخلايا سليمة، فإن ذلك قد يؤدي به إلى خلل في القيم والأخلاق، وأعظمها فتكًا إصابتها بخلل الاعتقاد؛ ولهذا السبب نجد أن العلاج الرباني يدور على التمييز بين الخلايا السليمة هذه والمصابة تلك، ونجد ذلك بنصوص واضحة الدلالة بالقرآن والسنة، وكيف ميّز بالعقوبة الحَدِّيّة جريمتي الحرابة والزنا، من خلال إقامة العقوبة ثم نفيهم من المجتمع السليم.
نجد كذلك أن الله ميّز بين الكافر والمسلم من قبل الولادة وإلى الممات؛ إذ إن المسلم لا يجوز له الزواج من غير المسلمة إلا إن كانت كتابية، والمسلمة لا تتزوج من غير المسلم، والكافر حين يموت لا يُقبَر بمقابر المسلمين، وما بين الحياة والموت هنالك أكثر من ١٣٠ حكم شرعي، تتميز فيه الخلايا السليمة هذه عن المصابة تلك.
هنا قد يقول قائل بأن اليهود قد عاشوا في المدينة بعهد رسول الله وأن دول الإسلام المتعاقبة كان فيها نصارى يقطنون شتى البقاع الإسلامية؛ والجواب عن ذلك أن المسلمين عندما أقاموا دولتهم، فإنهم لم يقيموها ليبقى الباطل كما هو، وإنما ليسلكوا في وجهه مسلك الدعوة والحكمة والموعظة؛ بتغيير الباطل إلى حق، والظلام إلى نور، والانحراف إلى استقامة، والبدعة إلى سنة؛ ومن هنا نجد قول ربنا تبارك وتعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج: 41].

خلايا الدم الحمراء المنجلية
ضرورة التمييز بين السليم والخبيث
إن اﻵيات التي تحثنا على التمييز بين الخلايا السليمة والمصابة بالقرآن الكريم كثيرة؛ ولكننا سنكتفي بذكر آيات سورة اﻷنفال، حيث ميز الله المجتمع إلى ثلاثة أقسام:
القسم اﻷول في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 72] والمقصود المسلمون القاطنون في المجتمع المسلم، حيث يوالي بعضهم بعضًا.
أما القسم الثاني، ففي ذات الآية يقول الله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} [الأنفال: 72] أي المسلمون الموجودون في دار الكفر، فأولئك ليسوا بولاية الدولة اﻹسلامية حتى يهاجروا إليها.
في حين وصف القسم الثالث بقوله {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} أي الكفار القاطنين بديارهم فبعضهم أولياء بعض ولا شأن لنا بتلك العلاقة فيما بينهم، ومن ثم يتبع قوله بعد هذا التقسيم: {إلا تفعلوه تكن فتنة في اﻷرض وفساد كبير} أي إن لم تفعلوا هذا التمييز تكن في اﻷرض فتنة وفساد وكبير.
إن المجتمع عندما يكون فيه المسلم، والمسيحي، واليهودي، والبوذي، والمجوسي، والأقوام المستحدَثون المناقضون للفطرة، والنسويات، فلن يكون سليمًا أصلا سواءً من الناحية النفسية أو الاجتماعية، أو العقلية، أو من الناحية العقائدية.
وهنا أذكر قصة واقعية وقعت في منطقتنا، قصّها علينا معلّمي أثناء إلقائه محاضرة في التخطيط الاجتماعي وكنا نتناول معوقات التخطيط فقال: تمّ إغلاق جامعة كذا -من دون ذكر اسم الجامعة- بسبب طالب مسيحي طالب بإنشاء كنيسة له؛ ليتعبّد فيها ربه مثلما نحن لدينا مساجد نتعبد فيها!
وهنا وقفت عند نفسي، تساءلت متعجبةً: بسبب هذا الطالب المسيحي أغلِقت مؤسسة تعليمية كاملة، وشلّت حركة الوعي والتعليم.
أجر عظيم.. لمن استمسك بدينه القويم..
شاهدنا في الفترة القريبة الماضية كيف توفّي الطفل الفلسطيني “ريان” ذعرًا إثر اقتحام قوات الاحتلال لمنزلهم، ومن قبل في العراق قصة “عبير” التي ترك حادث الاعتداء عليها في نفوسنا شرخًا ما كان للزمان أن يكون كفيلًا بمحوه.
انقلوا أبصاركم أيضًا إلى التاريخ واستذكروا رعاكم الله حال المسلمين الأوائل بمكة قبل الهجرة، حين كانوا يعانون ويصبرون، وقفوا عند قوله ﷺ: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) [متفق عليه] لضمان سلامتنا العقلية والنفسية والاجتماعية لا العقائدية فقط؛ فندرك عظمة هذا الدين وشموله وتكامله من كل النواحي والجوانب؛ ولهذا السبب -بحسب فهمي البسيط المتواضع- كان أجر القابض على دينه في زماننا هذا كهجرة معه ﷺ، أو كأجر خمسين صحابي.
دور التنشئة في مواجهة أمراض المجتمع الطارئة
بالنظر إلى أسباب وعوامل اﻹصابة بمرض الخلايا المنجلية فإننا سنراه ينتقل عن طريق الوراثة، وبالنظر إلى كلام الله تعالى سبحانه، فإننا سنراه يخبرنا كثيرًا في القرآن عن أولئك المترفين المعادين للرسل واﻷنبياء -المنحرفين عن الدين والمجتمع- فجميعهم قد ورثوا دينهم عن آبائهم وأجدادهم وأسلافهم.
وهنا لا بدّ من الإشارة والتنبيه إلى دور عملية التنشئة وأهميتها في مواجهة التطبيع الاجتماعي مع الانحرافات والأمراض الطارئة، -وسوف نتحدث عنه بمقالات لاحقة إن شاء الله-.
لنتمعن ببعض اﻵيات التي تخبرنا بذلك، وتوضّح لنا حقيقة الحال:
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} [البقرة: 170]، وفي قوله تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} [المائدة: ١٠٤]، وقوله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28]، {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين* إذ قال ﻷبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} [اﻷنبياء: 51- 53] وقوله سبحانه: {قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين* إن هذا إلا خلق اﻷولين* وما نحن بمعذبين} [الشعراء: ١٣٦-١٣٨].
وقوله سبحانه: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون* وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون* قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} [الزخرف: ٢٢-٢٤]
إن سبب رفض هؤلاء ومقاومتهم ومعاداتهم للرسل واﻷنبياء؛ مرتبط بتمسكهم بالعادات والتقاليد التي توارثوها وأصروا على العيش بها ما بقوا من حياتهم، شأنهم في ذلك كشأن اﻷنيميا المنجلية تمامًا، ولعلنا نكشف بمقال لاحق إن شاء الله عن بقية اﻷسباب التي تجعل الطغاة يرفضون اﻹسلام.
إن اﻷعجب من ذلك كله؛ هو أن فترة عيش هذه الخلايا المنجلية يتراوح بين ١٠_٢٠ يومًا، والسليمة من الخلايا تصل إلى غاية ١٢٠ يومًا؛ ونلاحظ في القرآن الكريم أن الله يعجل بهلاك المفسدين ويمد بعمر المصلحين إلى أمد بعيد، وهذه قاعدة ربانية بأن اﻷرض يرثها عباده الصالحون مهما علا فيها الباطل واستعمرها من مشرقها إلى مغربها؛ ولذلك كان قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} [آل عمران: 196] ويقول أيضا: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [غافر: ٤]
ختام القول
إن المجتمع كاﻹنسان، له كيان ونظام شبيه بأجسامنا؛ فما يصيب الفرد في داخله، يصيب المجتمع من داخله؛ ولذلك كان قوله ﷺ عن النعمان بن البشير- رضي الله عنهما: (مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [متفق عليه].
والتغيير الاجتماعي شيء حتمي لا مناص منه أبدًا، وتغيير المجتمع يبدأ من داخل الفرد، وقف إن شئت عند قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11]، وإذا ما أبصرنا بأنفسنا أدركنا حقيقة التغيير، ولذلك كان قوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: ٢١].
اللهم عجّل بالشفاء لمرضى اﻷنيميا المنجلية ولجميع مرضى وجرحى المسلمين.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!