النباتية في معتقدات الإنسان الحديث

image_print

يتزايد الاهتمام بالنمط الغذائي النباتي تزايداً ملحوظاً حول العالم و يلقى رواجاً هائلاً خاصة بين فئة الشباب فيزداد أعداد متبعيه بسرعة فائقة يوماً بعد يوم، وقد بدأ انتشاره في العالم العربي والإسلامي لنسمع بمن يندد بشعيرة ذبح الأضاحي أو يشجب من يتناول اللحوم، وتختلف الدوافع لاتباع النمط النباتي اختلافاً كبيراً بين دافع الاهتمام بالصحة وبين دوافع دينية أو أخلاقية أو اقتصادية، وبحسب الدوافع تختلف المبادئ في النظام النباتي المُتّبع، فبعضهم يمتنع عن تناول المنتجات الحيوانية امتناعاً تاماً وبعضهم يحدُّ من تناولها بشكل كبير، لتنحصر هذه الاختلافات بين نمطين رئيسيين هما النباتية المعتدلة والمتشددة.

إن متبعي النباتية بدافع أخلاقي أي بدافع حماية حقوق الحيوان، هم الأكثر تأثيراً في الوسط العالمي سياسياً واقتصادياً والأكثر بروزاً كونهم يجتمعون في حركة لها مبادئ وأهداف لا تنطوي تحت التوقف عن تناول اللحوم والمنتجات الحيوانية فقط[i]، وينشطون في مظاهرات وحملات لتسليط الضوء على شناعة قتل الحيوان مثل وضع أنفسهم في علب تغليف مضرجين بالدماء للدلالة على فظاعة المشهد، وبالتالي سنحاول التركيز على بيان فلسفتهم من هذا الجانب وبالتحديد فلسفة النباتية المتشددة، وعليه سنبين الفرق أولاً بين النمطين النباتيين.

أنماط النباتيين

ثمة أنماط عديدة للنباتيين لعل أشهرها: النباتية المعتدلة أو النباتيون المعتدلين (Vegetarian)، ويندرج تحت مسماهم أصناف مختلفة من الأنماط الغذائية النباتية فهو مسمى عام وشامل، وبما أننا نتحدث من جانب الدافع الأخلاقي فإن مبدأهم هو الامتناع عن تناول المنتجات الحيوانية التي تستخلص من الحيوانات بعد ذبحها ولا يجدون مشكلة في تناول المنتجات المستخلصة منها وهي على قيد الحياة كالحليب والبيض، ولكنه نظام فردي في غالب الأمر فلا ينشطون كثيراً في الدفاع عن الحيوان وتكون غاية اهتماماتهم هي الصحة الجسدية وفريق صغير منهم من يجتمع في حركة منظمة.

النباتية

بينما النباتية المتشددة (Veganism) فهي تظهر كحركة سياسية تعتمد الحملات والمظاهرات وتحاول إثارة الرأي العام، وإضافة النهاية (,ism’) للكلمة باللغة الإنكليزية حيث تشير لمصطلح يعبر عن معتقد ومبدأ يؤمن به مجموعة من الناس، وهو أشبه بديانة تشكل هوية صاحبها مثل (Liberalism) الليبرالية و(Femenisim) النسوية، ولهم جمعية تسمى The Vegan Society تم تأسيسها عام 1944 من قبل ناشطين في الدفاع عن حقوق الحيوان، ومن مبادئهم وأهدافهم:

  • الامتناع عن تناول أي منتجات حيوانية سواء أكانت من لحوم مذبوحة أو ما يُستخرج منها وهي على قيد الحياة وما تطرح الحشرات أو يستخلص منها كالعسل والكارمين[ii].
  • عدم استخدام أي منتجات يدخل في صناعتها منتجات حيوانية أو تعود لشركات تقوم بتجاربها على الحيوانات، ومثال ذلك الأحذية والحقائب ومستحضرات التجميل، وأما الصناعات الدوائية فاستخدامها أمر اضطراري لصعوبة توفر البديل النباتي أوعدم تأديته للغرض العلاجي.
  • منع استغلال الحيوانات لأغراض التسلية والامتناع عن زيارة حدائق الحيوان وأحواض السمك وسباقات الخيول والكلاب.
  • الاهتمام بنشر ثقافتهم لجعل الأرض مكاناً آمناً للحيوانات، وقد أطلقوا مصطلح [1]carnism على من يخالفهم في فكرهم، ويُقصَدُ به الإنسان الذي يجد تناول الحيوانات أو استغلالها أمرا طبيعيا[2]، وبمعنى أدق الإنسان اللَّاحم وثقافة المجتمعات اللَّاحمة.

اعتقادات المتشددين

يحاول النباتيون إيجاد رابط قديم الجذور لفلسفة النباتية مما يسهل فرضها وقبولها بين الناس، فتشير أقوالهم إلى أن فلسفتهم تعود إلى 500 سنة قبل الميلاد وأن مؤسس فلسفة البوذية بوذا قد اهتمّ بها وأرشد إليها، ويستشهدون بنظرية تطور الإنسان من القردة والغوريللات -أي من فصيلة حيوانات عاشبة- وأن الإنسان لم يخلق آكل لحوم بل تطوّر عبر الزمن وتكيف جسده مع ذلك بسبب اضطراره لتناول اللحوم، إلا أنه في دراسة نشرت في مجلة Nature[3] افترض العلماء ما يخالف ذلك، إذ إن كان طعام الإنسان يعتمد على النباتات فقط لم يكن ليتطور لإنسانٍ بل سيتطور بشكل مغاير متحولاً لكائن آخر، وتشير الدراسات أيضا إلى أن جسد الإنسان مصمم فيزيولوجيا ليستطيع تناول اللحوم، من شكل الأسنان النابية وتصميم الجهاز الهضمي واحتياجاته من العناصر الغذائية التي تحتويها المنتجات الحيوانية، وبناء على دعواهم يعتقدون أن الإنسان المعاصر يستطيع أن يتكيف مرة أخرى عن طريق عودته لأصله بأن يقتات على النباتات تضحيةً توجبها الأخلاق من أجل الحيوانات اللطيفة.

معضلة ملك الغابة

مع محاولات النباتيين للمساواة بين الحيوانات الإنسانية -أي البشر- كما يصنفونهم واللاإنسانية -أي الحيوانات-، لما اكتشفوا لهذه المخلوقات الأخيرة من ذكاء ومشاعر، إلا أنهم يجدون مشكلة في تفسير فعل الحيوانات المفترسة فكيف نساويهم في الحق بالحياة واحترام المشاعر ولا نساويهم بالفعل، فهم لا يجدون للإنسان مبرراً في أن يشابه الأسد في أفعاله البربرية الإجرامية.

وإن كان ما يشفع للأسد غريزة البقاء التي تدفعه لتناول اللحوم لأنه لا يستطيع النجاة إلا بهذه الطريقة، فإن الإنسان على عكس الأسد يستطيع أن يحيا من تناول النباتات فقط وهذه دعوى خاطئة سيأتي بيانها، أما الدعوى الأخرى فهي بأن الإنسان لديه مفهوم الأخلاق على عكس الحيوانات، إلا أن بعض الدراسات تشير لوجود أخلاق عند الحيوانات[4]!

فهل نعتبرهم كائنات ذوي أخلاق ويجب أن ينتهوا عن تناول الحيوانات الأخرى؟ أم كائنات تكيفت مع الطبيعة فتحولت لتناول اللحوم ويجب إعادة تدريبها؟ وهل نشفع للأسد إن لم يجد ما يأكله سوى الإنسان؟ وماذا عن الإنسان الذي لم يستطع التطور إلى عاشب واضطر لأكل اللحوم حتى يبقى على قيد الحياة ألا يعتبر هذا حقاً مضموناً له؟

تطرف النباتيين

كما ذكرنا سابقا بأن النباتية المتشددة أشبه بفلسفة تحولت لمعتقد، ثم أصبحت جاذباً لمن يبحث عن هوية له وجماعة ينتمي إليها، وبالأخص لمن يعاني من أزمات نفسية وضياع للهوية ليجد في انتمائه لهم مهرباً وملجأ.

لقد تحول كثير منهم للتطرف في الدفاع عن الحيوان، وباتوا يثيرون الرعب بين الناس ويهددون القصّابين ويقومون  باعتداءات على من يشتري اللحم أو يأكله، فما أشنع من موت طفل رضيع بسبب جهل والديه واتباعهم للنمط الغذائي النباتي القاسي فمنعوا عن طفلهم المنتجات الحيوانية بأنواعها ولم يكتفوا بذلك بل كان طعامه عبارة عن خضار وفواكه نيئة فقط وبقي جائعاً مريضاً يعاني من سوء التغذية حتى لفظ أنفاسه الأخيرة لتكتشف الشرطة سوء الحالة الصحية لأخويه الآخرين، وهي ليست الحالة الأولى ففي إيطاليا سجلت ثلاث حالات أيضاً لأطفال عانوا لنفس السبب وتعرض والدي طفل منهم للمحاكمة بسبب استهتارهم وجهلهم، فكم هو محزن أن تكون حياة الحيوان أكثر قيمة من حياة الإنسان[5].

وهنا يمكن أن نسأل: كيف يعيش النباتيون من دون لحوم؟

من الثوابت العلمية أن الإنسان لا يأخذ حاجة جسده من العناصر الغذائية عن طريق تناول النباتات فقط وعند اتباعه للنظام النباتي القاسي سيحتاج مكملات غذائية بلا شك، ولنظام غذائي متكامل لا يحتمل أي نقص[6]، ولنقل أن مايساعد النباتيين في غنى مائدتهم بالطعام هو الصناعات الغذائية والطرق الزراعية الحديثة والاستيراد والتصدير، فتضمن هذه الطرق تواجد الخضروات والفواكه في الأسواق على مدار السنة وفي كل مكان تقريبا، ولتحويل العالم للنباتية سيقتضي هذا تأمين حاجة الكوكب كاملة من المكملات الغذائية والمنتجات النباتية والثمار.

فرضيات ما بعد النباتية

توجد العديد من الفرضيات لمؤيدي فلسفة النباتية عن حال الأرض بعد تحول سكان الكوكب لفلسفة النباتية كحيوانات سعيدة وبيئة متعافية وإنسان بحالة صحية أفضل وستنتهي بدورها أمراض فتكت بالبشرية، ومن منظورهم يمكن حدوث هذا عن طريق إطلاق جميع الحيوانات لتعود لمكانها في الطبيعة، وأما الحيوانات التي ستتحول فريسة للضباع فستوضع في محميات طبيعية تحت حماية البشر وبالتالي ستتوقف عجلة الصناعة الحيوانية المنهكة للبيئة وستنعم الأرض بالسلام.

ويبدو أن الإنسان لا يأخذ حيّزاً هاماً بين فرضياتهم فيتحدث العلماء عن استحالة إمكانية تحويل الأرض للنباتية، ولكن بالإمكان أن تكون نظاماً يطبق بشكل فردي أو في حالات مرضيّة معينة ولا يمكن أن يُلزم به العالم بأكمله، فتأمين احتياجات جميع سكان الأرض للالتزام بنظام غذائي نباتي هو أمر مستحيل في ظل المجاعات وعدم قابلية جميع الأراضي للزراعة أو ضعف التطور الصناعي في عدد من الدول، وبالتالي سيعاني الكثيرون من سوء التغذية وستظهر أمراض جديدة في المجتمع وستنتشر المجاعات، عدا عن صعوبة تطبيق ذلك على فئات ذات احتياجات خاصة مثل كبار السن والأطفال، علاوة على ذلك من الممكن جداً أن يؤدي عدم موت الحيوانات بالدورة الطبيعية للحياة وتأثيرات الطرق الزراعية الحديثة، التي لا تخلو من أثر سلبي على البيئة، من تلوث بالمبيدات الحشرية وتصحر وتراجع لمستوى المياه الجوفية[7]، إلى اختلال في التوازن البيئي[8].

أما عن دعوى التأثير الخطير للحوم والمنتجات الحيوانية على الصحة فالدراسات فيها دقيقة جداً ولا يوجد دراسة واحدة توصلت إلى أن المنتجات الحيوانية أو اللحوم هي المسبب الرئيسي لأمراض معينة ويجب التوقف عن تناولها، وما ينشر في هذا الباب ما هو إلا تضليل للناس[9].

النباتية من منظور شرعي

يؤسفنا رؤية انتشار مفهوم استنكار ذبح الحيوانات بين المسلمين وتحريم اللحوم والمنتجات الحيوانية على أنفسهم فهو أمر خطير فيه تحريم لما أحله الله من تناول اللحوم واستخدامها في حاجاتنا وفي أعمال خدمت البشرية جمعاء، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر:79]، وما ذاك الاستنكار إلا تقليد اعتدناه لثقافات دخيلة من دون النظر في بواعثها وادعاءاتها والأفكار التي قامت عليها والتي تقبل الخطأ والصواب، وعلينا أن نفرق بين استغلال الحيوان وإيذائه وأكل اللحوم، فنحن مأمورون بالرفق بالحيوان، فلا يجوز إيذاؤه وإلحاق الضرر به وضربه ضربا مبرحا وحبسه من دون تقديم طعام ولا شراب ولا التمثيل به ويجب الرفق به حتى في طريقة ذبحه، والاستغلال الحقيقي للحيوان الذي نشهده هو في الإسراف في الصناعات الحيوانية لكسب مزيد من الأموال وتأميناً لمتطلّبات المستهلك صاحب ثقافة “نعيش لنأكل”، وهذا أدى لممارسات شنيعة في حق الحيوانات من حبسٍ في أقفاص وضرب مبرح وحقن بالهرمونات والمضادات الحيوية وإطعامهم فوق ما يحتملون لزيادة أوزانهم وممارسات عديدة لا يسعنا ذكرها، فهذا ما يجب أن نقف أمامه موقف الرافض له فهو واجب المسلم أولاً الذي حمل راية دين الله أرحم الراحمين، الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم ورفعه فوق مخلوقاته وسخر له الأرض وما عليها من طعام وشراب ليعمر فيها ولا يفسد ولا يسرف {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].


[1] https://www.definitions.net/definition/carnism

[2] The Hidden Dangers of the Vegan Movement

[3]   NATURE رابط مقالة التايم ونشر فيها رابط الدراسة على

https://time.com/4252373/meat-eating-veganism-evolution/

[4] Ghose, T. (2012, November 15). LiveScience.

[5] https://metro.co.uk/2019/11/14/vegan-parents-starved-toddler-to-death-by-forcing-him-to-eat-raw-plant-based-diet-11147678/

[6] https://veganfoundry.com/can-you-be-vegan-without-supplements/

[7] Čirjak, A.(2020, June 16).worldatlas.

[8] Robin R.White, M.B.(2017, November 13). PNAS.: https://www.pnas.org/content/114/48/E10301.abstract

[9] Publishing, H. H. (2020, February 1).Harvard Medical school. https://www.health.harvard.edu/staying-healthy/whats-the-beef-with-red-meat

[i] (النمط الغذائي النباتي القاسي أي النباتية الصرفة)

[ii] (ملون صبغي يستخرج من الحشرة القرمزية).

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد