المسلمون والحداثة.. بين الانغلاق والانعتاق

image_print

كثيرًا ما نسمع في مُجتمعاتنا المُسلمة تكرار كلمة “الحداثة” وأصبح هنالك تصنيف للأفراد حسب إخلاصهم لمفهوم هذه الكلمة، فنجدُ الإنسان الحداثي المُتّبع للقيم الغربيّة والدّاعي إليها، ونجد في المقابل الإنسان الرّجعي والتّقليديّ المُتمسّك بالموروث الدّيني ومبادئه، ومن هنا تبدأ الجدالات والانقسامات داخل المجتمع، ويَنتج عن ذلك صراعٌ حول الهويّة والمبادئ وطريقة العيش، ممّا يجعلنا جميعًا في شتات وفي حيرة من أمرنا، وتضيع الطّاقات والجُهود والأوقات في تبادل التّهم والتّهكّم، بدلاً من التّركيز على أهمّ القضايا والمشاكل الكبرى التّي من خلالها نَستطيع النّهوض بمُجتمعاتنا، ولهذا فإنا بحاجة اليوم إلى معرفة المفهوم الصحيح للحداثة وما هي أبعادها وانعكاساتها داخل مجتمعنا وماذا قدّمت لنا باعتبارنا مسلمين.

الحداثة بين المنطلقات والغايات

عبد الوهاب المسيري

يقول الدّكتور عبد الوهّاب المسيري: “الحداثة هي تنميط للواقع (الطبيعة والإنسان)، وفرض الأحاديّة الماديّة عليه، والهدف من ذلك إدارة وتوظيف الإنسان على أحسن وجه، باعتباره مادة استعماليّة”(1)، فالحداثة إذًا قائمة على الفكر المادّي المُتحرّر من أيّ قيود أخلاقيّة أو دينيّة والهدف منها حُسن توظيف قدرات الإنسان والتّعامل معه على أنّه مادّة خاوية من الرّوح والعقل مع تكْيِيفه لقبول هذا الواقع الجديد من أجل تحقيق التقدّم المادّي في الحياة مع ضمان أريحيّة ورفاهيّة كلّ فرد عن طريق إشباع غرائزه المادّية.

 ومن خلال هذا المفهوم نستطيع أن نستنتج بديهيًّا أنّ الحداثة جزء لا يتجزّأ من الفكر الغربي، ولا غرابة في ذلك عندما نُلاحظ غياب ضرورة الأخلاق في المنظومة الغربية المعاصرة، والانطلاق المعرفي من مُقاطعة الموروث الديني والسعي لعزله عن الحياة اليوميّة، فكانت النّتيجة إباحة الشذوذ الجنسي والتعرّي بدون حدود، وتفشّي العلاقات المحرّمة خارج إطار الزّواج وغيرها من المُمارسات الذّميمة المُخالفة للفطرة الإنسانيّة.

ولنا هنا أنْ نتساءل: لماذا يسعى الغرب لنشر الفكر الحداثي عندنا ولماذا يدعم التيّارات الحداثيّة المناهضة للدين داخل أوطاننا، وهل غايته الحقيقيّة مُساعدتنا في تحقيق التحديث والتقدّم المادي داخل مُجتمعاتنا المُسلمة؟

ضمن الإجابة عن هذه التّساؤلات نقرأ للمُفكّر الفرنسي “أوليفيه روا” قوله:” إنّ أروبا لم تُوفّر جُهدًا لإعاقة الدّول الإسلاميّة من التّحديث، ابتداءً من الدّولة العُثمانيّة، ومحمّد علي إلى الإطاحة بمحمّد مصدق الإيراني، إلى التّرسيم التّعسّفي للحُدود، وكلّ ذلك كان يُعيق قيام دولة مُستقرّة في المنطقة… باختصار: كان هاجس الغرب من دزرائيلي إلى جورج بوش، مُرورًا بـكلمينص وكيسنجر لم يكن ذات يوم قد لعب دور التّحديث في الشّرق الأوسط”(2).

أوليفيه روا

إنّ غاية الغرب إبقاؤنا في حالة صراع وتمزّق وضياع وتخلّف وجمود من أجل إحكام سيطرته على العالم الإسلامي واستنزاف خيراته، لأنّه على علمٍ تامٍ أنّ الأمّة المُسلمة إذا استيقظت من سُباتها فإنّها ستكسر قيود الكُفر والظّلم والشرّ والفساد المُنتشرة في عالمنا اليوم، وعندما فشل الغزو العسكري في تنفيذ مُخطّطات، تم استبداله بالغزو الثّقافي والفكري عن طريق التّرويج للفكر الحداثي، حيث أصبح من بني جلدتنا المُنتمين للإسلام اليوم يَدعون للقطع مع تعاليم ديننا ومبادئه والسّير وراء خطوات الغرب وتقليده بطريقة عمياء في كلّ شيء ظنًّا بأن التقدّم المادي لن يكون إلاّ عن طريق إلغاء تاريخ الأمّة وإقصاء قوانين الإسلام من مُختلف مجالات الحياة.

انعكاسات فكر الحداثة
إن السّؤال هنا هو: كيف كانت انعكاسات هذا الفكر على مُجتمعاتنا وماذا قدّم لنا هذا الفكر الحداثي الغربي في واقع الحياة؟

نعيش اليوم تصدّعًا بين الهوية الإسلامية وقيمها، وبين نمط عيشنا الذي أصبح متأثّرًا بالفكر الحداثي الغربي المُناقض لديننا والدّاعي للتحرّر من تعاليمه، فكانت النّتيجة الضّياع والشّتات فلم نستطع الاستفادة من الغرب، ومن تجاربه في النّهوض بالمُجتمعات، ولم نأخذ منه ما ينفعُنا في مُختلف المجالات، ولم نستطع في المُقابل العيش وفق منهج الإسلام الذّي نؤمن به ولم نحترم شريعته، بل أصبح انتماؤنا إليه بلا روح أو عمل أو التزام، فانعكس ذلك كلّه سلبًا على حياة الأمّة، وجعلها تغرق في ظُلمات الجهل والتخلّف، وقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال لنا:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”(3)، وهذه القاعدة العامّة التّي لا تتخلّف فعندما نبتعد عن ديننا وشريعته فإنّنا سنضلّ الطّريق وما الفكر الحداثي الغربي إلاّ وسيلة لإحداث قطيعة بيننا وبين ديننا.

واليوم، بعد مرور سنوات من التّقليد الأعمى للغرب والتمسّك بمفاهيم الحداثة الغربيّة فإنّنا لم نستطع تغيير واقعنا للأفضل ولم نستطع تحقيق نهضة ثقافية وفكريّة داخل مُجتمعاتنا بل كانت في أغلبها تجارب سلبيّة، وتأكيدًا على هذا المعنى يقول د. برهان غليون –أحد أهم المنظرين الليبراليين العرب- “إنّ حداثتنا تسدّ علينا الأبواب في السياسة والثقافة والعلم والمعرفة والاجتماع والأخلاق، إنّها تنتج قهرًا وعنفًا واستبدادًا أكثر بكثير ممّا تُنتج من حرّيات فكريّة عمليّة، وهي تراكم الفقر والبطالة والبؤس أكثر ممّا تزيد من قدرة الأفراد على الإختيار في تحسين شروط حياتهم الماديّة والمعنويّة، وتُشجّع عمليّات غسيل الدّماغ وصبّ فكر الأفراد في قوالب جاهزة وجامدة أكثر ممّا تنحي العقل المُفكّر والمتأمّل والمُتسائل.”(4).

حاجتنا للحداثة بين الإطار والمهمّة
إذا كانت مظاهر الحداثة لم تنجح في تقديم الحلول عندنا فما هو البديل إذًا، وكيف يُمكننا النّجاح في تغيير واقعنا والنّهوض به؟!

إنّنا بحاجة اليوم إلى صياغة مفهوم جديد خاصّ بنا للحداثة تكون مرجعيّته الشريعة الإسلاميّة، التّي بها نُنظّم حياتنا وبها يستطيع الإنسان المُسلم تغيير نفسه إذا ما بذل جُهده من أجل ذلك، وما جُعل الإسلام ليبقي في الرّفوف بعيدًا عن الحياة ولن نجد أفضل من قوانين ربّانيّة نُقيم بها حياتنا فقد أثبت واقعنا فشل كلّ مُحاولة تحديث بعيدة عن القيم والمبادئ الإسلاميّة.

إننا مُطالبون أفرادًا ومُجتمعات بأن نُعيد إحياء روح الإسلام بيننا في تعامُلاتنا اليوميّة مع الأهل والأصدقاء والغرباء وأينما كُنّا، فالتّغيير الحقيقي يبدأ منّا نحن، ولا ننسى أيضًا ضرورة تنقية تُراثنا الإسلامي من المفاهيم الخاطئة والدّخيلة عليه التّي أصابته على مرّ العصور والعودة لمنابع الدّين الصّافية والاستقاء منها، ولا يكون ذلك إلاّ عن طريق عُلماء صادقين مُخلصين لربّهم لا يخافون في الله لومة لائم.

لا بدّ في هذا الإطار من إعادة النّظر في علاقتنا بالغرب فلنا أن نأخذ منهم ما ينفعنا من تقدّم علمي وإداري ومن تجارب ناجحة في مُختلف مجالات الحياة دون الذّوبان في ثقافتهم، ولنا في التّجربة اليابانية خير مثال حيث قامت نهضتها عن طريق التعلّم والاقتباس من الغرب بعقل واعٍ وناقد يُحافظ على الهويّة والثقافة اليابانيّة، وقد سبقهم في ذلك المُسلمون الأوائل عندما أخذوا العلوم اللازمة للتقدم، وانفتحوا على الحضارة اليونانيّة مع المُحافظة على الهويّة الإسلاميّة، وترك كلّ وافد يعود بالضّرر عليهم، ومن يظنّ بأنّ سبب تخلّفنا هو التمسّك بالموروث الدّيني فقد أخطأ التّقدير، إذ إنّ سبب فشلنا ليس في الإسلام بل في طريقة تفكيرنا وسوء تفاعُلنا مع ديننا وعدم الالتزام بمبادئه، إلى جانب هروبنا من مسؤوليّة العمل والإنجاز والتّغيير والتّضحية، وفي المُقابل اعتيادنا على الكسل والجمود والخمول والضّعف وديننا الحنيف جاء ليوقظ فينا روح العمل والمُثابرة وبذل أقصي الجهد من أجل البقاء في مُستوى الخلافة التّي كلّفنا الله بها.


الهوامش

(1): حوار حول التّراث والحداثة للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، الطبعة الأولى بتاريخ سبتمبر 2015، ص: 115.

(2): المصدر السّابق، ص: 116.

(3):المستدرك على الصحيحين،كتاب العلم، خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، الجزء الأوّل، الحديث رقم: 324، الصّفحة رقم: 284.

(4): حوار حول التّراث والحداثة للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، الطبعة الأولى بتاريخ سبتمبر 2015، ص: 106.  

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد