الديكتاتورية .. خنقٌ للإبداع أم حفاظ على الأوطان؟

هل سبق وتساءلتم عن مآلات مجتمع أو كتلة اجتماعية تخضع للهدر والقسر والتقييد، أو تفكّرتم مطوّلاً عن التّصورات التي تتشكّل عند الفرد من خلال عمليات ديكتاتورية واستبدادية ممنهجة من قتل الإبداع وهدر الطاقات والاستبداد وتقييد الحرية؟ فإذا كانت مكونات المجتمع هي العادات والتقاليد والدين وقيمه وما يقدمه من أفكار وبعض الهويات الدينية الأخرى، وعلمت أنّ كل ما تقدمه هذه النظم التي تشكل تصورات الافراد وتنشأ وعيهم، تابعةٌ بالكامل لنظام سياسي له أفكار معينة يريد فرضها على المجتمع، فما الموقف من ذلك حينها؟.

 وإذا كانت “كلّ حركة سياسية ذات إيديولوجية، وكل إيديولوجية سياسية هي طريقةٌ لرؤية المجتمع، وتقويمه والتعامل معه ” كما يقول ماريو بونجي في كتابه [العقل والمادة]، فإننا نتساءل: ما هي رؤية النظم العربية السياسية، ورؤيتها لتقويم المجتمع، أو هل تمتلك هي هكذا رؤية أصلاً.

إيديولوجيا الحكم الفاسد

إن الأيديولوجيا التي تتبناها أنظمتنا الحاكمة ليست بيّنة بما فيه الكفاية، فإن القائمين عليها يدّعون العلمانية والديمقراطية، لكن هذا الأمر بعيد عن أرض الواقع بعد المشرق والمغرب، وحتى أيديولوجياتهم فإنها غامضة بين الخداع والكذب والتلفيق، مشوّشة ومستوردة من سياقات ثقافية وحضارية مختلفة عن ديننا وعالمنا وثقافتنا، ولا تراعي خصوصية المجتمع، ولا بناء خطة طويلة المدى لتصحيح مسار الدولة، أو هل لديها برنامج اقتصادي أو اجتماعي لتطوير المجتمع بغية إعادة دوران عجلة التطور والتحديث في بلداننا أم لا؟

إن المعضلة الأساسية في معظم نظم الحكم في بلادنا هو كون الولاء للحاكم والطواف حوله وتوظيف كل شيء من مقدّرات الدولة ليبقى على كرسيه. إذ “بينما يتهيب الحاكم في البلاد المتقدمة الشعب والمجتمع، ويعبئ طاقاته كي يرتفع إلى مستوى ما يلقون عليه من مسؤوليات، ويثبت بالممارسة أنه جدير بالتفويض الذي أعطي له، نجد النقيض تماما هو الذي يحصل  في بلاد الهدر: يؤدي التحكم إلى فرض السلطة والهيبة بشكل قاطع لا يقبل أي ظلال من الشك. وبينما أن السلطة والحكم في البلاد المتقدمة هما عمليات وإجراءات وليستا مالاً. تكون السلطة العصبية والاستبدادية هي المال والمنتهي الذي يهدر من أجل الحفاظ عليه البشر والموارد، بل وحتى الكيان ذاته. في البلاد المتقدمة تستهلك الشعوب حكامها من خلال التفويض وسحب التفويض والمساءلة، هناك داوماً أشخاص جدد يحلون محل من انتهى تفويضهم بالضرورة، أو من سحب منهم هذا التفويض، أما في نظام الاستبداد العصبي، فإن الحكام هم الذي يستهلكون شعوبهم والكيان الوطني ذاته من خلال تأزيل سلطانهم”. [مصطفى حجازي، الإنسان المهدور]

يحدثنا الدكتور مصطفى حجازي في كتابه (الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية) عن شعارات الحرية والديمقراطية -التي لفرط تداولها وتكرارها تحولت إلى عمليات تجميل وتغطية وتمويه- أنه “لا بد من استبدال الحديث عن انعدام الحريات وغياب الديمقراطية بالكلام عن مثلث الحصار الفعلي والمادي  الذي يفرض على الواقع العربي وإنسانه مع تفاوت في الشدة والتعميم من حالة إلى أخرى”، والمقصود بمثلث الحصار هو: حكم المخابرات والبوليس السياسي كركن أساسي في المثلث، فإذا كان هناك من دلالة للحرية فهي تجاوز الشعارات وإدانة الحكم المخابراتي والبوليس السياسي الذي يشكل النقيض لكل تنمية، المخابرات التي تنحرف عن مسارها ووظائفها المفترضة في حماية الوطن من أعداء الخارج وتتوجه نحو الداخل وتطارد الإنسان في كل موقع وفعل أو قول بهدف حماية أشخاص استولوا على الكراسي، فإنها لا تستطيع قطعًا ولا بأي حال تسيير المجتمع والإسهام في نمائه، لأن دورها تحول من هذه الوظيفة المفترضة إلى حصار الإنسان وكبت طاقاته الحية وترويضها، من خلال التربص بالسلوك ومطاردة الفكر، ذلك هو القهر باعتباره فقدانًا لسيطرة الإنسان على حياته ومصيره وصناعة هذا المصير.

ستيفان زفايغ (على اليمين) ومصطفى حجازي (على اليسار)

هذا الرأي حول ديكتاتورية أجهزة أمن أصحاب الكراسي موافقة بشكل كبير لستيفان زفايغ في كتابه (عنف الدكتاتورية) حينما تحدث عن الحصار الخانق الذي يفرضه الدكتاتور على الأفكار، فيوظف كل المؤسسات المدنية لخدمته من محاكم ومدراس وجوامع ومؤسسات حكومية وقوة عسكرية، يجعلها كلها تابعة له، وقد حلّل ميشيل فوكو في كتابه (المراقبة والمعاقبة ولادة السجن) ليخلص إلى أن هذه المؤسسات تشارك بتقييد القيم وتشكيلها داخل أي إطار مجتمعي، فيكون تصور الإنسان أو الفرد عن الحرية مشوّهًا ومحصورا بأفكار ضخّها المستبد عبر أدواته المختلفة في المجتمع.

شمولية الاستبداد

لو أخذنا الحالة السورية -على سبيل المثال- قبل ثورة شعبها، فيمكن القول إنه تبلور حقيقي لأبشع النظم الدكتاتورية في العالم،  ولوجدنا  الشمولية في معناها الحرفي مطبقة -أي مجموعة من الأفكار يجب أن يدور عليها المجتمع- سواء من حيث أفرع الأمن التي تقيد الحرية في المجال التداولي العام، وخنق الكلمة المحكية، وغير المحكية يخاف الفرد أصلا من قولها، وحرية التعبير مقيدة، وحرية التفكير مقيدة، والدين نفسه مقصور على تنظيم بعض الفتاوى حول الطلاق والطهارات أو طقوس التصوف المشوّه، ولا يسمح لأحد من الشيوخ الخروج عن هذه الدائرة، وإلا فتهمة أنه إخواني أو عميل جاهزة، وقد يقتل عليها الانسان أو يغيّب بلا رجعة في أحد سراديب أفرع الأمن المرعبة التي تنشر الخوف داخل المجتمع بسبب ما يحصل بداخلها من فظائع .

إذن فإن الاستبداد ليس قاصرا على آلية التعامل مع الانتخاب والشورى بل يمتد أثره إلى الدين ورموزه وحتى الإعلام والجرائد والقنوات الفضائية وكل مؤسسات المجتمع المدني، فإنها ستتبع سلوك الحزب الحاكم وأفكاره، بمعنى أنه يجب تقديم الحزب القائم في سورية بوصفه محور المقاومة والممانعة في وجه إسرائيل، حتى وإن كان الحزب كاذبًا. فهناك مجالس وأنظمة وقوانين، وقضاء وسلطات تشريعية وتنفيذية، إلا أنها جميعا تعمل ضمن حدود وخطوط حمراء وتتحول في الواقع إلى مؤسسات شكلية لا حصانة ولا استقلالية لها حين يتعلق الأمر باستتباب سلطة المستبد، إنها في الواقع تظل ملغومة ومقيدة بشبكة نظام السلطة الخفي او الواضح الذي يتحكم بكل القضايا ذات الصلة بأمن نفوذ المستبد. وبهذه الطريقة يستطيع صنع هوية جديدة للأفراد، بحيث يكون ولاؤهم الأكبر للحزب الحاكم، ولو نظرنا إلى تعاطي الحزب مع أي فكرة معارضة له لرأيناه مخيفًا ومرعبًا في الوقت ذاته، فما يحصل في أفرع الأمن في سورية وغيرها من البلدان تقشعر له الأبدان، من تعذيب حتى الموت، وحرمان من الطعام والشراب، والكثير من الأمور المخيفة.

شعار حزب البعث السوري

يقول ممدوح عدوان في كتابه حيونة الإنسان: “إن أنظمة القمع والاستغلال هي التي تريد إبقاء البشر عند مرحلة الحيوانية الغريزية الأولى وحين يحاولون الخروج من هذه الشروط تثبتهم فيها أو تنزلهم إلى ما هو أحط من الحيوانات من خلال القسر” ويقول أيضا “إن المسألة هي أنني أرى أن عالم القمع، المنظم منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر، هو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته”، وهكذا فإن قراءة أدبيات الكتابات السياسية التي تحدثت عن النظم الشمولية ستريك أن إنزالها على أغلب الدول العربية أمر سهل، بل إن الأنظمة العربية هي تبلور حقيقي لهذه الكتابات.

امتلك التأثير لتنجح!

انظر حولك، هل تمتلك أي أداة تأثير في مجتمعك، ربما نعم وربما لا، لكن المؤكد أن هذه النظم مدججة بكل الوسائل، فأفكارها مبثوثة في الإعلام والفن والمسلسلات بل وحتى في روايات الأدب الاستهلاكي والرصين، وبسبب ثقافة الاستهلاك والمنع ومقص الرقيب قلما تجد كتباً ذات قيمة تستطيع زرع بذرة الوعي عند الناس، في الجامعات التي يجب أن تكون منارة للبحث العلمي وطرح الأفكار الساخنة ومناقشتها، وتكون مركزاً أصيلا لانتشار الوعي، كالمدارس، والمؤسسات الحكومية، فكلها مقيدة، والتمجيد للحزب حاضر في كل الدوائر، صور الدكتاتور في كل غرفة وفصل، وحتى تصوّرك عن رجل الأمن ذاته، بعيد عن التصور البسيط من إنسان مكلف بحفظ أمنك والدفاع عنك، إلى تصورك له رجلا مكلفا بقهرك إذا ما تحدثت خارج إطار الأفكار التي تطرحها هذه الأحزاب .

إياك أن تخطئ وتتحدث أمام المارة أو في وظيفتك الحكومية عن السياسة والفساد داخل النظام، فهناك الآلاف المتربصون بك، المستعدين لرميك بتقرير خلف الشمس فيقدك أبناؤك وأهلك، ويتم حرمانك من أبسط مقومات الحياة.

انظر إلى مجتمعك الذي ينهار يومًا بعد يوم، تضعف فيه القيم وتضيع العادات والتقاليد الحميدة، انظر إلى خطب أيام الجمعة أتراها تلامس حقيقة الدين أم أن الخطباء بعيدون عن مواجهة الواقع وتفكيكه ومحاولة إصلاحه.

“إن الظاهرة الاجتماعية تمتاز بأنها تنطوي على قوة قاهرة تفرض على أفراد المجتمع ألوانًا مختلفة من السلوك والتفكير والعاطفة، وتوجب عليهم أن يصبوا سلوكهم وتفكيرهم وعواطفهم في قوالب محددة ومرسومة” [المنطق الحديث ومناهج البحث، محمود قاسم، نقلا عن إيميل دوركهايم] وهكذا سنعرف أن تصورات الإنسان العربي الكئيب مشوهة، ومقيدة التفكير، ومقتولة الإبداع، غير قادر على البحث عن حلول لها، ولا سبيل للخروج من هذا الواقع إلا بتغيير أفكار الناس عنه وبث الوعي الأصيل فيه.