هل كان الاشتغال بالعلوم الطبيعية سببًا للخروج من الإسلام .. وقفة مع الفقه وأهله!

image_print

يتفق جل الباحثين في تاريخ الأفكار على أن علماء المسلمين على اختلاف انتماءاتهم ومدارسهم الفكرية لم يقفوا ضد تطوّر العلوم البحتة والتجريبية وأن كثيرًا منهم جمعوا بين الطب والفقه، أو الفلك والفلسفة، أو اللغة والتفسير والجغرافيا، أمثال البيروني وابن سينا وفخر الدين الرازي وغيرهم من الأئمة.

العلمانيّة .. إفرازٌ فرضته السياقات الغربية

من الجدير التأكيد على أن العلمانية إفرازٌ ثقافي فلسفي، نشأ في ظل شروط تاريخية واجتماعية ودينية غربية، ساهمت في تشكيلها وبرّرت وجودها، وجعلت من أوروبا حاضنًا رسميًّا لها، ومن جملة هذه الأسباب؛ الصراع الحاصل بين الكنيسة والعلم، ذلك أن رجال الكنيسة اعتبروا أنفسهم المصدر الوحيد للمعرفة، فتدخّلوا فيما ليس من اختصاصهم كالعلوم التجريبية البحتة، وعلوم الفلك ونحوها، فأثمر ذلك محاكمات وقع ضحيتها 30023 عالمًا، في الفترة الواقعة بين 1481م وسنة 1499م، واستتبع قرارات تحرم قراءة كتب هؤلاء العلماء وكل ما يخالف آراء الكنيسة، حتى تظل لها السيطرة الكاملة على الشعوب وحياة الناس من حيث جباية الأموال، وأخذ القرارات المصيرية.

ومن هذا المُنطلَق عمد دعاة العلمانية في الوسط العربي إلى افتعال الأسباب نفسها، لأجل إقناع الناس بضرورة تحييد الدين عن السلطة والحياة العامة، فنظرًا لانتفاء الدافع لتسويغ فرض العلمانية على الواقع الاجتماعي العربي؛ استوردوا هذا العامل التاريخي الذي كان فاعلاً في ظهور العلمانية في الغرب، في محاولة لفرضه على الواقع الإسلامي، الذي لم يشهد هذا الصراع كما سنبين.

وعمدتهم في ذلك؛ القول بأن الفقهاء كانوا أعداءً لعلماء الطبيعيات، حتى إن تكفير الفقهاء لهم كان بسبب اشتغالهم بالطب والفلك والهندسة وغيرها!

وكما قلنا؛ فإن هذا الموقف في حقيقته ليس إلا مجرد محاولة لإبراز عنصر الصراع الحاصل بين الكنيسة والعلماء، ومن ثم البناء عليه لفرض العلمانية في عالمنا.

أين برهانكم؟

أحاول الآن مناقشة هذه الدعوى من خلال الأوجه الآتية:

الوجه الأول:

استدلال هؤلاء بما حصل لعلماء الطبيعيات من تكفير وحرق لكتبهم، -واختزال سبب ذلك في ميولهم العلمي-، فيه تجنٍّ وتحكُّم، فرغم وقوع ذلك لبعض العلماء، إلا أنه لا يدل بالضرورة على صدق ادعائهم، لأن هذا كان أمرًا شائعاً في كل المجالات العلمية، فكما حورب بعض هؤلاء، حورب الفقهاء وأئمة أهل السنة كالإمام أحمد والطبري والغزالي وابن تيمية، وأرباب المذاهب الأربعة كالإمام مالك الذي جُلِد، والإمام أحمد الذي حُبِس وعُذِّب، والإمام الشافعي الذي طورد وأُتِيَ به إلى الخليفة مُصفَّدًا في الأغلال، والإمام أبي حنيفة الذي طورد أيضًا لتأييده ثورة محمد ذي النفس الزكية، وقد أُحرِقت كتب كثير من الفقهاء في ظل دولة الموحدين.

فالحال إذن أن الفقهاء أنفسهم، سُلِّطَ على بعضهم الحبس، وعلى بعضهم التهديد والوعيد بالقتل، وجُلد وعُذّب وألقي في غياهب السجون ونُفي وشُرِّد كثيرٌ منهم.

فلا يصح إذن الانطلاق من مجرد تعرض عالم بعينه لحرب كهذه؛ لإثبات هذا الزعم، بل لا بد من تقصي الملابسات الحقيقية والسياق الفعلي المتكامل لحصولها، فغالبًا ما يكون السبب في حصول هذا، دخول الإملاءات السياسية والخصومات المؤدلجة في حرب علماء معينين، بسبب مواقف تستوجب محاربتهم لتحقيق مصالح يراهن عليها من خلالهم.

الوجه الثاني:

تكفير بعض علماء الطب والفلك والرياضيات وغيرهم، لم يكن بسبب تخصصهم العلمي، بل لأجل توجُّههم العقدي، وذلك لأن اشتغالهم بالفلسفة جرهم إلى دخول باب الخلاف في مسائل عقدية حساسة، آلت إلى إنكار المعلوم من الدين بالضرورة.

وحتى أبرهن على هذا؛ أستعير هنا أنموذجًا يعد مرجع هؤلاء، في دعوى تكفير الفقهاء لعلماء الطبيعيات، وهو الامام الغزالي رحمه الله، وعنه ينقل النص المشهور الذي جاء فيه: ” مجموع ما غلطوا فيه– أي الفلاسفة- يرجع إلى عشرين أصلاً، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، ‌وتبديعهم ‌في ‌سبعة ‌عشر”([1])، وحتى نبين أن تكفير هؤلاء -القلة من الأشخاص- إنما كان بسبب مقولاتهم العقدية، لا لتخصُّصاتهم العلمية، لا بد أن نرجع لكلام الإمام الغزالي كاملاً كما في كتابه المنقذ من الضلال، وسنجد أنه في معرض حديثه عن علوم الفلاسفة، يقسمها إلى ستة أقسام وهي؛ الرياضية، والمنطقية، والطبيعية، والإلهية، والسياسية، والخلقية.

 أما النص الذي يعنينا فقد أورده في معرض حديثه عن القسم الرابع وهو؛ “علم الإلهيات”، وموجب القول بتكفيرهم لمن قرأ كلامه وأنصف؛ مخالفتهم لصريح القرآن وما عليه كافة المسلمين، لا لاشتغالهم بالطبيعات والتجريبيات، كما توهّم من دأبه النسخ واللصق، وكيف يقال ذلك والإمام الغزالي نفسه، حين حديثه عن علم الطبيعيات يشبّهه بعلم الطب ويبني على هذا القياس النتيجة الآتية، حيث قال: “وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم-أي الطبيعيات”([2]).

ثم أخذ يبين المسائل التي خالفوا فيها وكانت موجب تكفيرهم، فأجملها في قولهم:

1 – إن الأجساد لا تحشر، وإنـما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية.

2- إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات.

3 – إن العالم قديم وأزلي.

وقد لاحظ أن الفلاسفة يتكئون لإثبات صدق مقولاتهم على العلوم الحسابية والرياضية والمنطقية، فقال في معرض رده عليهم في كتابه تهافت الفلاسفة: “ويستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون به ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية؛ لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية”([3]).

فلم يكن الغزالي –إذًا- عدوًّا لهذه العلوم، بل اعتبرها –كما رأيت- علومًا متقنة البراهين نقيةً عن التخمين، حتى إنه جعل القول بتحريمها أعظم جناية على الإسلام، فقال في كتابه المنقذ من الضلال: “ولقد عظم على الدين جنايةً من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرضٌ لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرضٌ للأمور الدينية”([4]).

فكيف يقال بعد قراءة هذا الكلام؛ إن الغزالي وغيره من فقهاء الإسلام، كانوا أعداءً لهذه العلوم، وأنهم كفروا المشتغلين بها؟!

الوجه الثالث:

إن الناظر في كتب التراجم السنية سيجد أن علماء الإسلام بلغوا غاية البراعة في الطب والفلك والجغرافيا والهندسة وغيرها، حتى إن هذا الثراء توزع في مختلف الأمصار الإسلامية، بنحو يجعل القارئ ينبهر بهذا الثراء العددي الهائل، فكيف يتصور أن يصل هؤلاء إلى هذا العدد إذا تلقوا الحراب والرمي بالزندقة؟!

هذا وقد عبرت المكتبة الإسلامية عن عنايتها الفائقة بهؤلاء الرجال العظماء، فأفردوا لتراجمهم كتباً مستقلة، منها على سبيل المثال:

  • عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة.
  • روضة الألباء لابن الأكافي.
  • تراجم الأطباء والحكماء، لابن جلجل الأندلسي.
  • ذيل طبقات الأطباء، احمد عيسى.

وغيرها من المؤلفات.

 وإن مما لا تخطئه عين الناظر في كتب التراجم؛ أن هؤلاء العلماء جمعوا بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية والطبيعية، كما يظهر في ترجمة من يأتي ذكرهم هنا على سبيل المثال لا الحصر:

  • الفقيه العلامة محمد بن سفيان أبو عبد الله الهواري: كان فقيهًا ومحدثًا، ومشاركًا في علوم كثيرة، كالحساب والهندسة.

– الفقيه أبو الطيب عبد المنعم بن إبراهيم الكندي: كان فقيها ومهندسًا، وحكي أنه دَبَّر جلب مياه البحر من ساحل تونس إلى القيروان، وسوقه خليجاً من هناك، بنظر هندسي ظهر له، فاخترمته المنية قبل نفاذ ما دبره.

– العلامة النظار أبو زيد عبد الرحمن ابن الشيخ محمد الصغير الأخضري: كان نظارًا ولغويًا، وفلكيًا.

– العلامة بكر بن عيسى بن سعيد بن أحمد بن علاء أبو جعفر الكندي، الجياني: برع في الفقه والنحو، وكان عالـمًا بالطب حتى قيل عنه: “أجمع الناس على عدم نظيره في وقته –أي في علم الطب-، وانتفع به أصحابه منفعة عظيمة”. وكان يفزع إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتوى.

– الإمام القرافي المالكي: الفقيه الأصولي واللغوي الفذ، كان بارعًا في علم الطبيعيات؛ تفنن في الفيزياء والرياضيات والهندسة والفلك وأجادهم، واشتهر بصناعة التماثيل المتحركة في الآلات الفلكية، وألف في الرياضيات كتاب “المناظر” وفي فيزياء البصريات كتاب “الاستبصار”.

وغيرهم من الأعلام الذين يجسدون طبيعة الانفتاح المعرفي والتكامل العلمي الذي حظي به علماء الإسلام منذ القدم، وإن هذا التداخل والتكامل في التخصص العلمي والشرعي يبدو واضحاً لمن قرأ مقدمة كتاب الجبر للخوارزمي([5]).

والحاصل مما سبق أن قولتهم هذه لا تثبت أمام التمحيص العلمي والمراجعة التاريخية، ولا مسوغ للتسليم بصحة الربط بين التكفير والتخصص العلمي إلا لإبراز مظهر “قمع رجال الدين لرجال العلم التجريبي” الحاصل في الغرب، واستجلابه للواقع الإسلامي الذي هو منه براء.


[1]  المنقذ من الضلال، دار الكتب الحديثية، مصر، ص144.

[2]  المنقذ من الضلال، دار الكتب الحديثية، مصر، 143.

[3]  تهافت الفلاسفة، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، ص43.

[4]  تهافت الفلاسفة، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، ص40.

[5]  راجع: كتاب الجبر والمقابلة، لمحمد بن موسى الخوارزمي، مطبعة بول باربيه، ص29 وما بعدها.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد