البراءة الساذجة بين الدعاية وانتكاس الفطرة
قد تكون العيون ظاهريًّا بريئة متحلّية بملامح الطيبة كما صوّرتها أفلام هوليوود وشبكات الإنتاج الفني، وجعلت من بعض العيون أيقونة في العديد من الأفلام والقصص، مثل عيون البطلة في مسلسل سوبرمان الأشهر “سمولفيل”؛ إلا أنه من الواجب علينا التوقف عند هذا، فقد يكون خلف ذلك كله شر عظيم جرّ ويلات على الآلاف من النساء.
مضت أربعة أعوام منذ الفضيحة المدوّية للمنظّمة السرية في NXIVM ووضع الممثلة الأمريكية الشهيرة (أليسون ماك) رهن الإقامة والحجز في منزلها بكفالة 5 ملايين دولار إلى حين البت في قضية انتمائها للمنظمة التي كانت تدّعي تطوير ذات النساء ومساعدتهن على تنمية قدراتهن في التغلب على مشاكلهن.
لقد كان من الملفت أن شعار المنظمة هو (العمل من أجل عالم أفضل) إلى جانب تعريفها نفسها بأنها (جماعة تسترشد بالمبادئ الإنسانية التي تسعى إلى تمكين الناس والإجابة على أسئلة مهمة عن معنى أن تكون إنسانًا)، لكن حقيقة الأمر أظهرت أن المنظمة داخليًّا كانت أشبه بطائفة لها طقوس يحكمها القائد أو السيد على مجموعة المشتركات مع استعبادهن جنسيًّا.
ما هي منظّمة NXIVM ؟
بدأت هذه المنظمة على يد قائدها كيث رانيير في 1998 وانضمت له أليسون ماك في وقت لاحق فأصبحت أعلى نائبة له، ورأس حربة في التآمر على النساء وتصيُّدهنّ للتجارة بهن ودفعهن لممارسة أفعال مشينة ومنافية للأخلاق والإنسانية.

كيث رانيير
قبل أيام فقط صدر قرار بسجن أليسون لثلاث سنوات فقط، وذلك بعد أن اعترفت بذنبها وقدمت أدلة على تورط رانيير –حكِم عليه أيضًا بقضاء 120 عامًا في السجن- الذي فرت معه للمكسيك عندما افتضح أمرهما في 2018 من قبل إحدى الجرائد التي نشرت اعترافات ضحية من ضحايا المنظمة.
لا ينتهي الأمر ههنا فحسب، بل اعترفت ماك بمحاولتها تصيد الناشطات في الحركة النسوية وتوظيفهن من خلال التغريدات على موقع تويتر من داخل وسطها الفني وخارجه، وأبرز هؤلاء كانت بطلة هاري بوتر إيما واتسون. إن الرسائل التي شاركتها كانت تشير فيها إلى المنظمة بأنها حركة نسوية تهدف لتقديم نسخة أفضل منهن. إلا أن الأمر في واقع الحال لم يكن إلا محاولة من إليسون لتجريد النساء من إنسانيتهن، ودفعهم لارتكاب أشنع الأعمال الجنسية كالبهائم مع رانيير القائد وأشخاص آخرين لا يعلمون من هم بسبب إغلاق أعينهن أحيانًا، وفي أحيان أخرى مع رجال يتم إدخالهم على أساس أنهم زملاء في الدورة التدريبية.
الفكرة هنا أنه كان على المشتركات تقديم الكثير من التضحيات من أجل نيل ثقة القائد والتقرب له، بما في ذلك مشاركة معلومات عن أقاربهن وأصدقائهن، ولو من خلال صورهم العارية ومشاركتهم أرصدة حساباتهم. وقد كان الأسوأ من ذلك كله، الدعم الكبير لهذه المنظمة من قبل مشاهير وأثرياء كثر، مثل المليارديرة كلير برونفمان التي موّلت رانيير على مدى عدة سنين في تجارة تهريب البشر والجنس القسري مع السادية الفظيعة.
الوقوع في حبائل المنظمة
المؤسف في الموضوع كله، أن غالبية الضحايا من النساء كنّ على قناعة تامة ببرامج المنظمة التدريبية التي يمتد بعضها إلى 16 يومًا بمعدل اثنتي عشرة ساعة يوميًّا، مع كلفة اشتراك شهري قدرها 5000$، بهدف تحريرهن من الخوف والكآبة العاطفية، وتقويتهن على التعامل مع مشاكل الحياة بشكل أفضل.
لقد كان الوصول إلى العدد الكبير من النساء معتمدًا على تسويق فصول تدريبية (كورسات) في النظريات الأخلاقية والبرمجة العصبية والتنمية البشرية وغيرها من البرامج السيكولوجية في التعامل مع الألم والشفاء الذاتي وفهم الحب.
بالطبع فإن هذا ما كانت تظهره تلك الإعلانات، إلا أن الواقع خلف الكواليس كان مختلفًا، فقد كانت نساء الجماعة تابعات لأسياد متعددين يحكمهن جميعًا القائد، كما كن يموّلن بشكل خاص حفلة عيد ميلاد القائد السنوية في أفخم الأماكن ويتنافسن على ممارسة الطقوس في حضوره، وتوشم أجسادهن حرقًا بالأحرف الأولى من اسم القائد، علاوة على أنه يُفرَض عليهن تناول طعامٍ شحيح السعرات الحرارية؛ فالقائد يفضّل النحيفات!.
كل هذا -وما خفي كان أعظم- لم يفتضح أمر هذه المنظمة السرية بالرغم من كثرة الضحايا، والسبب أن الكثيرات منهم تمّ ابتزازهن فيما بعد بكثير مما أقدمن عليه، فدُمّرت حياتهن ولم يستطعن الخروج عن صمتهن، ومن ثمّ فضّلن المعاناة من دون البوح بشيء، إلى أن نشرت إحداهنّ تفاصيل تجربتها مع جريدة نيويورك تايمز، فانقلبت حياة طغاة المنظمة وسارعوا للفرار قبل أن يقبض عليهم.
اعتذرت أليسون ماك لضحايا المنظمة في رسائل خاصة عما فعلته، كما اعتذرت كلير برونفمان عن تمويلها قائلة إنها لم تقصد إيذاء أحد وطالبت بتخفيف عقوبتها كونها بعيدة عما كان يدار داخل NXIVM ، لكن أي من ذلك لن يشفع لفكرة تآمر النساء على النساء، فهو أسوأ ألف مرة من تآمر الرجال على النساء.
دعوى تمكين المرأة.. على هامش الفضيحة!
العجيب في هذه الفضيحة التي تضرب الحركة النسوية ومنظري الإنسانوية، طريقة تناول الخبر في تعميم الضحايا من المشاركين على الرجال والنساء، مع أن الغالبية كن من النساء. وأيضًا الإشارة لهذه المنظمة السرية مرارًا بأنها كمنازل طوائف العبادة الدينية المتشددة، من حيث تشابه الابتزاز والاستغلال للنساء ومعاملتهن كعبيد، إلا أنّ رانيير وماك لم ينظّرا لأيّ دين أو تقديس أي رموز دينية، بل كان الأمر على العكس من ذلك، فقد طالبا المشاركات التحرر من كل شيء يحفظ حياء المرأة وخجلها، ويأمران بالتركيز على إنفاذ الشهوات لتحريرهن من سيطرة عواطفهن المكبوتة في الوقت الذي يستعبدن لأجل نزوات الآخرين دون أن يدركن ذلك.
إن كانت هناك وسيلة واضحة بين ثنايا أوراق القضية لإقناع المشاركات بذلك فلم تكن عبر الأديان، بل كانت عبر خطاب تمكين المرأة واعتناق الإنسانوية طريقة عيش بديلة لا تحكمها التشريعات الدينية؛ وهذه نقطة خطيرة لأنها تضع الخطاب النسوي المتشدّد في نفس الميزان مع التشدد الديني، أي أن العلة لم تكن يومًا في الدين بل في التشدّد وتحريفه والتجارة به لأجل مصالح شخصية. وهو الحال ذاته في النسوية المتشدّدة من حيث الانقياد الأعمى وراء المنظرين لها. وهو ذات الأمر في التسامح الإنسانوي المبالغ من حيث مساواة الجلاد مع الضحية، وتقنين الكثير من الممارسات على أنّها حرّيّات شخصية بدعوى عدم الإضرار الظاهر بالآخرين.
إن هذه القضية تطرح تساؤلات كثيرة على الشطح الذي اتخذته الحركة النسوية سبيلًا في خطابها قبل أن تصل نتائجها لمثل هذه الفضائح الجليّة في ظاهرها دون الحاجة للخوض في مضمونها. أي أن الخطاب النسوي لو كان معتدلًا اليوم، لم يكن استدراج النساء لمثل هذه المنظمة ونزع حيائهن كاملًا بالأمر السهل. ولو صحّت هذه الفرضية، فذلك يعني أن الخطاب الديني للمرأة والمتهم في بعض تشريعاته وتفسيراته من قبل النسويات لهو خطاب معتدل منصف يراعي الحقوق ويحفظ النفس بما يتوافق مع فطرتها؛ الأمر الذي يغني عن الحاجة للحركة النسوية من الأساس.
أهمية المرجعية الثابتة
إن تبسيط جميع الأفعال على أنها حريات شخصية لا تضر الغير، يجعل المرء عرضة للتغييب العقلي في فهم طبيعة حريته أمام الجميع وكيف تصبح حريته سلسلة حول رقبته يقاد بها إلى حيث يرغب الآخرون.
وفي هذا السياق يجب القول إن كان في الدين تقييدًا لبعض الحريات الشخصية من باب دفع الضرر عمومًا، فذلك في الحقيقة يهدف لتحرير الشخص من مكامن تقييد الآخرين والإضرار به أولًا، وهو ما حدث فعليا مع الضحايا من نساء المنظمة كما اتضح في هذه الفضيحة، حيث إنه لا يمكننا إغفال مثل هذه القضايا وتناولها بمعزل عن الأسباب المؤدية لها.
وبالمثل فإنه هذه الجرائم لو كانت مرتبطة بجماعات دينية، فبالتأكيد ستنهال الاتهامات والتعليقات المستنكرة للنصوص الدينية قبل النيل من المجرمين أنفسهم. وحريٌّ بنا أن نفهم التوجهات الخفية في جميع الدعاوي الضالة، خاصة عندما تتعارض مع الدين السماوي.
إن الإنسان لن يفهم نفسه والمغزى من وجوده دون عون، وهذا العون -قطعًا- لن يأتي من إنسان آخر جل همه تلبية رغباته وأهوائه.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!