الانتماء في اللامكان
هل شعرت في مرة من المرات بعدم الانتماء للمكان الذي أنت فيه؟ ولا بد من التوضيح إلى أني لا أقصد هنا عدم الانتماء لمجتمع معين، وإنما أن يكون المكان الذي نراه ذا ملامح غير واضحة أو غريبة بحيث لا يمكن التعرف عليه أو إيجاد سبل للتواصل لفهمه واستيعابه.
يرى بعض المنظرين المعماريين أن استشعار هذه الحالة هو أحد نتاجات الرأسمالية المتأخرة، فإهمال السياق الثقافي والتاريخي لمختلف بقاع الأرض واستبداله بنموذج حداثي –شبه موحّد- يضع الأولوية للتكنولوجيا والعلوم التي وصلها الإنسان بجعل كل الأماكن في بقاع الأرض متشابهة، وبالتالي يمكن القول إن العمارة الحداثية تجمعها هوية مشتركة وهي التقدمية والكفاءة التكنولوجية، وهي في الوقت ذاته نموذج عام لا يضع خصوصية للمكان والسياق، أي لا هوية خاصة فيها.

have-i-been-here-before-an-exploration-of-liminal-spaces/
على التوازي من ذلك، قد تشعر في نفسك متآلفًا مع مكانٍ ما تصادفه أو تدخله للمرة الأولى، إن موضوع الأماكن التي تعطي الإحساس بواقع مغاير انتشرت كثيراً على مواقع التواصل الاجتماعية، وأقتبس هنا -من أحد المقالات المتخصصة- “عندما تدخل إلى مطعم أو مبنى مدرسة لم تطأ قدمك فيه من قبل، ولكنك تصاب على الفور بشعور من الألفة، وإحساس مقلق تقريبًا، تقشعرّ عظامك. يبدو الهواء كثيفًا مع الحنين إلى الماضي، والقشعريرة تتسلل إلى رقبتك وذراعيك وتشعر بالتجمد، وتحاول بشدة البحث عما كنت هنا من قبل، مثل اللحظات التي أعقبت الحلم مباشرة، عندما لا يزال المرء متمسكًا بالحلم.”(1)
هل يمكن إنشاء وبناء اللامكان كمكان للانتماء؟
نحت الأنثروبولوجي مارك أوجيه مصطلح اللا مكان non-place وقصد به الإشارة إلى الأماكن العامة مثل محطات الحافلات ومحطات القطارات والمطارات التي مهما كانت متقنة وعظيمة فإنها لا تمنح شعورًا بالمكان أو الانتماء.
عادة ما تكون هذه الأمثلة أو الأمكنة أماكن انتقالية، لا يوجد فيها وظيفة أو غاية محددة بل هي وسيلة بين حالتين مختلفتين من الوجود: المغادرة والوصول. وبالتالي فإنه من المفترض للإنسان ألّا يشعر بالانتماء فيها لأنها ليست مكانًا بحد ذاته، وإنما هي فاصل بين لحظتين أو مكانين.
إن مفارقة اللا مكان -وفقًا لأوجيه- تعني أن أي شخص يمكن أن يشعر فيها بغض النظر عن خلفيتهم الثقافية لأن هذه الأماكن تعتبر غريبة على الجميع بالتساوي. لكن ماذا إن أصبح عدم الانتماء هو الذي يجمعنا؟ وبالتالي فإننا سننتمي كلنا لهذا الشعور من عدم الانتماء؟ ماذا لو أننا –مثلاً- سافرنا إلى بلد غريب ثقافياً بالنسبة لنا، فإن المكان الأكثر ألفة في ذلك البلد سيكون عند التواجد في المصعد الكهربائي الفارغ وعند صالات المطارات وفي الفنادق، وهي أمثلة لما يعتبر “لا مكان”، والذي يبدو في هذا السياق عالميًا ومفهومًا للجميع.

By 颐园新居 – Own work, CC BY-SA 3.0, https://commons.wikimedia.org/w/index.php?curid=32598793
الفرق بين المكان واللامكان
يُعتقد أن “المكان”، تم بناؤه بشكل علائقي محمّل بالمعاني، ومن ثمّ فإن تشكيله جاءَ من خلفية تاريخية واسعة ثقافيًّا، وبذلك فإن البشر –باحتمال كبير- قد يجمعون على أن المنزل يمكن أن يكون رمزاً للمكان. أما “اللا مكان” من ناحية أخرى، يؤخذ إلى أماكن فيها تجريد من المعنى، وتكون متجانسة لا هوية محددة لها، وقابلة للتبديل إلى حد كبير.
جادل الفيلسوف الوجودي بول تيليش في كتابه (علم اللاهوت النظامي) حول حاجتنا الملحة للانتماء إلى مكان ما، فالانتماء للمكان “وسيلة للحصول على مساحة. يسعى كل كائن إلى توفير مساحة لنفسه والحفاظ عليها. وهذا يعني قبل كل شيء موقعًا ماديًا – الجسم، قطعة أرض، منزل، مدينة، بلد، العالم. وهي تعني أيضًا “الفضاء” الاجتماعي – مهنة، مجال تأثير، مجموعة، فترة تاريخية، مكان للتذكر والترقب، مكان داخل بنية من القيم والمعاني. ألا يكون لديك مساحة ومكان معناها أنك غير موجود”.(2)
كل هذا يؤكد أهمية وجود حدود للشيء، وبالتالي القدرة على تأطير المفاهيم وعدم تركها حرة دون حدود. ومن المهم جداً فهم كيفية تحديد المكان في هذا العصر لأن ذلك له آثار في فهم الوجود ويمس الجانب الغيبي غير المحسوس من الإنسان في بعض الأحيان.
بالتوازي مع ذلك، هل الوجود في مكان جغرافي محدد هو ما يعطي قيمة وانتماءً للوجود؟ إن أبناء المهاجرين وأطفال الثقافة الثالثة – وهو مصطلح يشير إلى الأشخاص الذين ولدوا أو نشأوا في سنواتهم الأولى من حياتهم في ثقافات غير ثقافاتهم الأصلية– ينتمون لفضاء أوسع وغير مرتبط بأرض معينة، أي أن انتماؤهم أوسع انتشاراً ومرونة فلا يمكن نزعه بنزع الظروف والمواقع المادية. كما أن مفهوم الارتباط للمكان أصبح أقل حدية من قبل بسبب انتشار الانترنت والفضاء الرقمي.
يجادل بعض المفكرين أن دور العبادة تم استبدالها بالمتاحف الفنية في العصر الحديث، قد يكون ذلك صحيحاً بالنسبة للأماكن المجردة والانتقالية كذلك عند الإنسان الحداثي. فمثلاً السريالية هي السمة المميزة للمساحات المجردة، حيث إن الهدف المشترك هو إعطاء المشاهدين شعورًا بالألفة والاغتراب بنفس الوقت.
أي من الممكن أن يصبح المكان الذي لا معنى له، هو المكان الأكثر تأثيراً وأكثر قيمة، وبالتالي هل يصبح اللامعنى هو المعنى الأسمى؟ هذا ليس تشاؤماً بل محاولة لفهم الواقع المتغير للإنسان في العصر الحالي، فنرى أن رؤية غرفة صماء غير مزينة أو غير مؤثثة بغرض أو وظيفة محددة بوضوح يترك المشاهد في حالة من الصمت الشعوري أو شيء أقرب لعدم اليقين.
إن ربط الأماكن المجردة والانتقالية بمفاهيم غيبية موجود في فلسفات كثيرة مرتبطة بالحياة ما بعد الموت والحالات الانتقالية للوعي في الديانات الهندية، كما هو موضح في الصورة أدناه، وهي مرحلة انتقالية بين كائنين وشكلين من الوعي.
وكما أن الأماكن الانتقالية وربطها بالوعي موجود أيضاً في الديانات المسيحية واليهودية، وهي مواضيع يجدر الاطلاع عليها لفهمها بصورة أقرب. وبما أننا غير متخصصين في هذه المواضيع، فكل ما يمكننا فعله هو بحث الروابط فيما بينها والتحذير من آثارها في فهمنا للواقع وكيفية تفاعلنا مع المكان.
الإحالات:
- مقال بعنوان هل كنت هنا من قبل؟ استكشاف المساحات “المجردة” Have I Been Here Before? an Exploration of “Liminal” spaces. https://cutt.ly/TnxSPD8
- مقتبس من الكتاب: الهجرة والتنوع والتعليم: ما وراء أطفال الثقافة الثالثة Migration, Diversity, and Education: Beyond Third Culture Kids. https://cutt.ly/KnxSdj6
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!