الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم (2 من 2)
إنَّ أشق ما يواجه الكاتب هو أن يكتب مقالاً عما كُتِبت فيه كتبٌ ومجلدات، وأن يعمد إلى أعظم كتابٍ في الكون فيتحدث عنه، وهو الكتاب الذي اعترف ببلاغته وقوة بيانه الكافر قبل المؤمن، وقد قيل: “إن الحق ما شهدت به الأعداء”.
الكتاب الذي أعجز الإنس والجن وكان وما زال حجة عليهم، متحدياّ لهم منذ قرابة أربعة عشر قرناً وإلى يومنا هذا ثم إلى يوم القيامة.
وما أدراني بأن ذلك سيستمر إلى يوم القيامة؟ إن الذي جعلني متيقناً من كلامي إنما هو نزول القرآن على العرب وتحديهم بأن يأتوا بسورةٍ من مثله وهم أهل اللغة العربية وأهل البلاغة والبيان، فعجزوا وحق لهم أن يعجزوا وهو كلام خالق الكون. فعندما يعجز أهل الشيء عن أمرٍ ما أفنتوقع من غير أهله سوى العجز؟!
تناولت في المقال السابق صورتين من صور الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، وهما: خطاب العامة وخطاب الخاصة، وإقناع العقل وإمتاع العاطفة. والآن سأتطرق إلى وجهين آخرين من وجوه بلاغة القرآن الكريم، أولهما: القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى، وثانيهما: البيان والإجمال.
القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى
تقرأ كتاباً فتصل إلى إحدى فقراته وتقول مستنكراً: هلّا أوضحها بمزيدٍ من التفصيل، بحججٍ وبراهين، أو بأرقامٍ وإحصائيات، أو بدأها بتمهيدٍ أو ختمها باستنتاجٍ ولم يجعلها مبتورةً لا تشبع عقل القارئ ولا تروي قلبه. وتصل إلى فقرةٍ أخرى فتقف عندها ضجراً متسائلاً: لم كل هذا الإسهاب والتفصيل وقد وصلتني الفكرة من السطر الأول؟ أيريد أن يزيد عدد صفحات كتابه أو كلمات مقاله؟ أم يريد أن يطلعنا على غزارة علمه وسعة ثقافته؟ أم ينظر إلينا نظرةً دونيةً فيعتقد بأننا لا نفهم إلا إذا شرح وعاد وزاد؟!
ولن تجد كتاباً يوصل إليك المعاني المرادة دون إسهابٍ في مكانٍ وبترٍ في مكانٍ آخر، ويجمع بين دفتيه كلا الغايتين -القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى- على تمامهما إلا الكتابُ الذي أنزله الله عز وجل على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام. “ضع يدك حيث شئت من المصحف وعد ما أحصته كفّك من الكلمات عدّاً، ثم أحص عدتها من أبلغ كلام تختاره خارجاً عن الدفتين وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك. ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك؟ فكتاب الله -كما يقول ابن عطية- “لو نُزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد”. بل هو كما وصفه الله {كتابٌ أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}. [هود: 1]” [النبأ العظيم، ص142 ].
البيان والإجمال
إن الناس في هذه الحياة إما أن يحددوا مقصدهم في حديثهم بدقة فلا يُفهم من كلامهم أي معنىً آخر غير الذي بيّنوه، أو يكون منهجهم بالحديث مع الناس قاعدة “إن اللبيب من الإشارة يفهم” فيتحدثون بشكلٍ مجملٍ يجعل كلامهم غامضاً عن الذي تلقاه، فلا يفهمه على وجهه الذي أرادوه.
أما أن يجتمع بيانٌ وإجمالٌ في كلامٍ واحدٍ، فهذا لا تجده إلا في القرآن الكريم، إذ تقرأ آيةً واحدةً فتجد أن معناها وصلك دون أدنى تعبٍ وتظنُّ بأن لا معنىً لها سوى ما قد وصلت إليه، فتقرأها في يومٍ ثانٍ وإذا بك تعثر على معنىً ثانٍ، وتقرأها في كتابٍ في تدبر القرآن فيطرح الكاتب معنىً ثالثاً ورابعاً وخامساً لها!
“ومثالٌ بسيطٌ على ذلك، اقرأ قوله تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} [البقرة: 212] وانظر هل ترى كلاماً أبين من هذا في عقول الناس. ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة. فإنك لو قلت في معناها:
- إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبت.
- ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت.
- ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب، أصبت.
- ولو قلت: إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت.
- ولو قلت: يرزقه رزقاً كثيراً لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت.
فعلى الأول يكون الكلام تقريراً لقاعدة الأرزاق في الدنيا، وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقاً لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.
وعلى الثاني يكون تنبيهاً على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه.
وعلى الثالث يكون تلويحاً للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسراً وفقرهم غنى من حيث لا يظنون.
وعلى الرابع والخامس يكون وعداً للصالحين: إما دخولهم الجنة بغير حساب، وإما بمضاعفة أجورهم أضعافاً كثيرةً لا يحصرها العد.
ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العجاب.” [النبأ العظيم، ص147، 148].
أخيراً اعلم أن القرآن الكريم لو لم يعجز العرب لما أحجم أبا سفيان عن تجنيد جيش من شعراء الجزيرة وأدبائها لمعارضة القرآن -رغم تحدي القرآن المستمر للكفار على الإتيان بسورةٍ من مثله- في حين جدّ في تأليف جيش من عشرة آلاف مقاتل يخاصم النبي وحزبه، كما قال العلامة هبة الدين الحسيني، وقد كانت كلفة الخيار الأول أخف عليهم مالاً وجهداً، ولكنها لمّا أعجزتهم لم يجدوا من الخيار الآخر بدُّ.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!