الإسلام إذ يحررنا من المؤثرات الدنيوية القاهرة!

image_print

يستيقظ الشاب صباحًا فيمسك بهاتفه فما يلبس حتى يظهر له إعلان لمنتج ملابس كان قد تحدث مع أصحابه عنه أمس، فإذا نزل الشارع رأى لافتة تغريه بإحدى الوجبات الجديدة في المطعم المجاور له، ثم في طريقه للعمل يبصر “لوحةً ترويجية” لفتاة فاتنة على جدران إحدى المستشفيات تستعمل منتجًا طبِّيًّا معيَّنًا، حتى إذا رجع لمنزله وفتح التلفاز رأى خبرًا يتناول خسارة أحد رجال الأعمال لمليارات الدولارات من ثروته وآخر اشترى سيارة بكذا من نوع كذا، حتى إذا أراد الترفيه عن نفسه فتح اليوتيوب وشاهد أحد صانعي المحتوى وهو يطلب كميات كبيرة من الطعام ليقدّمها في مشهد عبثي وهكذا…

استعراض موجز جدا لما نشاهده خلال يومنا العادي من مؤثرات ومدخلات أنتجها الانفتاح العالمي، تتحكم ولو بشكل ما على قراراتنا وشهواتنا وأفكارنا، فهل هذا الانفتاح أمر جديد، وما رؤية الإسلام الشامل وتعامله مع هذا الانفتاح؟

خوف النبي ﷺ علينا

ركّز النبي ﷺ مع أصحابه في بداية الدعوة على السرية؛ مراعاةً لحال الرسالة ومحافظةً على عدد الحاملين لها وتحقيقًا للبداية الطبيعية لأي دعوة جديدة، فلما هاجر النبي ﷺ وبدأ التماس مع مجتمعات جديدة وثقافات مختلفة وعادات متباينة ومع الفتوحات المجيدة ورؤية أصحابها لنعم الله على أصحاب هذه البلاد، بدأ المربي ﷺ في التعامل مع هذا الانفتاح وتصحيح المفاهيم فقال عندما اجتمع الأنصار لما علموا بأن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قادم من البحرين بمال: (فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ). [البخاري، 4015] فانظر أين وقع خوف النبي ﷺ! لا من الفقر كما هو الحال المشهور وإنما خاف عليهم من فتنة الدنيا والتنافس عليها، “فإن الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال فأعلَمَ -ﷺ- أصحابه أنه وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغنى الذي هو مطلوب الوالد لولده”. [1]

ومن هذا الباب أيضًا تحاوره مع أصحابه فيما سيكون تصرفهم عند انفتاح الدنيا عليهم، فقال لهم: (إذا فُتِحَتْ علَيْكُم فارِسُ والرُّومُ، أيُّ قَوْمٍ أنتُمْ؟ قالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كما أمَرَنا اللَّهُ، قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: أوْ غيرَ ذلكَ، تَتَنافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدابَرُونَ، ثُمَّ تَتَباغَضُونَ، أوْ نَحْوَ ذلكَ، ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ في مَساكِينِ المُهاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ علَى رِقابِ بَعْضٍ). [صحيح مسلم، 2962]

فهنا تبصير بأن انفتاح الدنيا فيه فتنة كبيرة وأن بدايتها يكون بالتنافس عليها وينتهي بالفرقة والتباغض، قارن بين هذا وبين النظام العالمي الآن الذي يعلي من المنافسة مطلقا دون حدود وما يفتح ذلك من الفرقة بين المسلمين، ومنه أيضًا قوله: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها). [صحيح مسلم، 1052] “وزهرة الدنيا يعني: بهجة الدنيا، وقيل لها زهرة؛ لأنها كالزهرة تستهوي من نظر إليها، وتجذبه وتعجبه، وهي كالزهرة أيضاً في سرعة ذبولها وتحولها وتغيرها، ولكنّ الكثيرين ينظرون إلى ما فيها من الحسن والجمال والبهجة فتأسرهم أسراً وتشدهم إليها شدًّا فيقعون في وثاقها، ثم بعد ذلك يغفلون ويلهيهم ذلك عن ذكر الله وطاعته والتقرب إليه. وإذا حصل هذا التنافس حصل التسارع إلى عرضها الزائل، وحصل بسبب ذلك أيضاً قسوة القلوب، وما يضاف إلى ذلك من الوحشة في قلوب أهل الإيمان والعداوة والبغضاء”. [2]

الاستمتاع بالدنيا وحال التشبه

عدّ الإمام ابن تيمية الاستمتاع بالشهوات دون ضابط من جملة التشبه بالكفار فألحقه بقول الحق {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]، فقال: “وأما قوله {َفاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} قال: بدينهم ويروى عن ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس: بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا” [3]، ثم بين وجه المشابهة بين الآية واتباع الشهوات: “فقوله سبحانه {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة. ثم قوله {فَاسْتَمْتَعْتُم} و {وَخُضْتُمْ} خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة” [4]، وهذا الاستدلال على ذم اتباع الشهوات من عبقريته رحمه الله، كما أنه ذَكر في هذا الموضع كثيرا من الأحاديث -منها ما تقدم ذكره– عن نهي النبي ﷺ أمته عن الاستمتاع بالخلاق.

في البحث عن الحلول..

ما قولك في غض البصر؟ إن العين لما كانت بوابة المؤثرات الخارجية ومبدأ المحركات الداخلية، فمنها تعرج المؤثرات للقلب فإما تأثير يحيي القلب ويرققه وإما تأثير يقسّي القلب ويميته، كان الأمر واضحا من الله تعالى لرسوله ﷺ وللمسلمين من بعده بتقصير البصر عن رؤية متاع الله سبحانه لغيرهم {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ} [طه: 131] قال الطنطاوي في تفسيره: “وبعد هذا الأمر بالتسبيح، جاء النهى عن الإعجاب بالدنيا وزينتها فقال – تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ…}. أي: أكثر -أيها الرسول الكريم- من الاتجاه إلى ربك، ومن تسبيحه وتنزيهه ومن المداومة على الصلاة ولا تطل نظر عينيك بقصد الرغبة والميل {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ}. أي: إلى ما متعنا به أصنافا من هؤلاء المشركين، بأن منحناهم الجاه والمال والولد. وما جعلناه لهم في هذه الدنيا بمثابة الزهرة التي سرعان ما تلمع ثم تذبل وتزول…

وقوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} بيان للحكمة من هذا التمتيع والعطاء أي متعنا هؤلاء الكافرين بالأموال والأولاد… لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم بهذا المتاع، فإذا آمنوا وشكروا زدناهم من خيرنا، وإذا استمروا في طغيانهم وجحودهم وكفرهم، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر. فالجملة الكريمة تنفر العقلاء من التطلع إلى ما بين أيدي الكفار من متاع، لأن هذا المتاع سيء العاقبة، إذا لم يستعمل في طاعة الله تعالى…

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد رسمت للمؤمن أفضل الطرق وأحكمها، لكي يحيا حياة فاضلة طيبة، حياة يعتز فيها صاحبها بالمعاني الشريفة الباقية، ويعرض عن المظاهر والزخارف الزائلة”.

حث الأهل على الصبر والصلاة

لقد أعقب الحق سبحانه هذه الآية بالأمر بحض الأهل على الصلاة والصبر على ذلك {وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡـَٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ} [طه: 132] وقد وضّح ابن كثير العلاقة بين النهي عن مد العين لمتع الدنيا في الآية الأولى وبين الآية الثانية بأثر عن ابن أبي حاتم فقال: “قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن هشام، عن أبيه؛ أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفًا فإذا رجع إلى أهله، فدخل الدار قرأ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} إلى قوله : {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} ثم يقول: الصلاة الصلاة، رحمكم الله”.

فهذا رأى طرفا فقط فوقع في قلبه موقع التمني والتشهي فسارع لمحو ذلك بالصلاة، فكيف بمن يطلق بصره لزخرف الدنيا ويتعمد التلذذ برؤية زينتها؟ فيَعْلق قلبه وتذل قدمه ويتخبط فكره وتكتئب نفسيته ويحسد غيره ولا يرى نعم الله عليه فضلا على شكرها والرضا بها.

الصبر مع الفئة المؤمنة

ومما أمر الله به نبيه ﷺ أن يصبر مع الفئة المؤمنة ولا يجاوز نظره عنهم {وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} [الكهف: 28]

قال ابن كثير في معنى الصبر: “أي: اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء”.

وقال صاحب الظلال في تفسيره في معنى لا تعد عيناك: “ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة (الدنيا) لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه”.

فتأمل خطورة العين وما تزينه، فلو أن الإنسان أطلق بصره متجاوزًا للفئة المؤمنة الذاكرة، رأى هذا يأكل ويشرب ويتمتع وذاك يلعب ويلهو وآخر جميل فتان وهكذا فتُحدّثه نفسه بهذه الزينة وإن كانت نفسه لم ترد هذا الأمر منذ قليل لكنها النظرة تتحول لشهوة، فإن استطاع الظفر بها فعلها إرضاء لشهواته وإن كانت غير مستطاعة فالحزن والاكتئاب والشعور بالنقص.

بهرج الدنيا ليس لنا

من أكثر ما أكده القرآن والسنة أن الحياة الدنيا ما هي إلا دار فناء وأن الآخرة هي دار القرار والشواهد في هذا كثيرة ولعلنا نذكر حديثا واضح الدلالة شديد اللهجة في هذا، وهو الحديث المشهور في حادثة اعتزال النبي ﷺ نساءه وفيه وصف سيدنا عمر لحجرة النبي فقال: (وإنَّه لَعَلَى حَصِيرٍ ما بيْنَهُ وبيْنَهُ شَيءٌ، وتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ! فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ). [صحيح البخاري، 4913]

يا الله!! أي صراحة تلك؟! لا تورية فيها ولا تجميل “لهم الدنيا ولنا الآخرة”، وقليلا ما نجد هذه الصراحة لدى الدعاة اليوم تحت غطاء خطاب التمكين والنصر وغيرها مع تناسي لهذا أو تجميل له.

فلعلك أخي تبصر موضع قدميك من هذه المؤثرات فتحاول حفظ قلبك وعقلك من الافتنان بها مع تذكير نفسك بأن ترضى بما قسمه الله لك وتضع عينيك على الآخرة.


المصادر:

[1] الحافظ ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 249

[2] الدكتور خالد السبت، شرح رياض الصالحين، موقع الدكتور على الشبكة

https://cutt.us/z0jDB

[3] ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، دار إشبيليا، 115

[4] المصدر السابق، 121

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد